القصة الثامنة: المستثمرون

يبلغ تَعْداد سكان لندن الكبرى سبعةَ ملايين نسَمة، والجميع مِن حيث النظريةُ والتطبيقُ مُتساوون تحت مِظلة القانون، ويتمتَّعون بحقوقٍ اجتماعية متساوية. وبذلك، إذا ظُلِم فردٌ عمدًا، فلا بدَّ من مُعاقبة ظالمِه؛ وإذا مات فردٌ بسبب أذًى مُتعمَّد، فلا بدَّ أن يموت قاتله شنقًا.

يصعُب على أعين القانون مهما بلغَت حدَّتها أن تُراقِب سبعة ملايين فرد؛ إذ من بينهم مليون فرد على الأقل لا يبقَوْن في أماكنهم، وليس لهم مأوًى خاصٌّ بهم بشكلٍ عام. يصعب أيضًا ضبطُ ما يقرُب من عشرين ألفًا ممَّن لهم مأوًى ولكن لا تربِطُهم روابطُ إنسانية. يندرِج ضمن ما سبق المُومِساتُ والعجائز المُوسِرات العازبات والمُشرَّدون في عالم الإجرام، وغيرُهم ممن ليس لديهم أصدقاء.

في بعض الأحيان، ترِدُ تحقيقاتٌ صعبة إلى مقرات الشرطة. وترِدُ في كثيرٍ من الأحيان على استحياء بغية مُراعاة الآخرين. لم يرَ السيد إكس جاره السيد واي منذ أسبوع. كلَّا، إنه لا يعرف السيد واي، ولا أحد يعرفه. رجلٌ عجوز نَحيلُ الجسم ليس له أصدقاء ويقضي أيامه ذات الجوِّ المعتدل يتمشَّى في الحديقة التي يُطِلُّ عليها منزلُ جاره الاجتماعي أكثرَ منه. الآن، لم يَعُد السيد واي يتمشى. ولم يُدخِل حليبه إلى المنزل؛ والستائر مُنسدِلة. أتى رقيبٌ من الشرطة وشرطيٌّ اقتحَم إحدى النوافذ ودخَل منها، فوجد السيد واي ميتًا في مكانٍ ما … مات من الجوع، أو بسبب نوبة، أو بالانتحار. إذا كان الوضع كذلك، فكلُّ شيءٍ سهل. ولكن افترِض أن المنزل ليس به أحد، وأن السيد واي اختفى. بات الأمر صعبًا ومعقدًا.

سافرَت الآنسة إلفر إلى سويسرا. إنها عانس في منتصف العمر، ويبدو على مظهرها يُسْر الحال. سافرت وأغلقَت المنزل ولم تَعُد إليه مُطلقًا. أُجري البحث عنها في سويسرا؛ بحثَت عنها حكومة موسوليني في شمال إيطاليا من دومودوسولا إلى مونتيكاتيني. ولم يُسفِر البحثُ عن العثور على سيدة ذات وجهٍ رفيع وتُعاني حوَلًا طفيفًا.

غادر السيد تشارلز بويسون ميدلكيرك هو الآخر؛ كان رجلًا عجوزًا غريب الأطوار يتشاجر مع جيرانه بسبب صخب أطفالهم. لم يُخبر أحدًا إلى أين ذهب. وكان يعيش وحيدًا مع ثلاثة قطط ولم يكن يتحدَّث بوُدٍّ مع أي أحدٍ آخَر. ولم يَعُد مطلقًا إلى منزله الكئيب.

هو أيضًا كان ميسورَ الحال ويُقال إنه بخيل. كذلك كانت السيدة أثبل مارتنج، أرملةً قاسية تعيش مع ابنة أختها الكادحة. اعتادت هذه السيدة أن تختفيَ من دون إعلان مُسبق عن نيَّتها. سمحت لبنت أُختها أن تطلُب الطعامَ من التجار المَحليِّين بالقدْر الذي يُبقي على حياتها، وعندما تعود السيدة مارلينج (إذ كانت تعود دائمًا)، كانت الفواتير تُسدَّد بقدرٍ كبير من التذمُّر من جانب دافعها، وهكذا كان الأمر. يُعتقَد أن السيدة مارتنج سافرَت إلى بولوني أو إلى باريس أو حتى إلى بروكسل. ولكنْ يومًا ما، خرَجَت ولم تَعُد مُطلقًا. بعد ستة أشهُر، أعلنت بنتُ أختها عن اختفائها، واختارت أرخصَ الجرائد؛ إذ كانت تُبقي عينها على يوم الحساب.

قال النائب العام: «يا لها من أحداثٍ غريبة!» وكان أمامه ملفاتُ أربعةِ أشخاص (ثلاث نساءٍ ورجُل) اختفَوا في ثلاثة أشهر.

عبَس النائب العامُّ وضغط على الجرس ودخل السيد ريدر. جلس السيد ريدر على الكرسيِّ المُشار إليه ونظر من فوق نظارته بعينَين مُتَّسِعتَين وهزَّ رأسه وكأنه فهم سببَ استدعائه ويُنكر فَهمه مُقدمًا. سأل النائب العام: «ما الذي تقوله في قضايا الاختفاء تلك؟»

قال السيد ريدر حذرًا: «لا يُمكنك قولُ شيءٍ إيجابي في الحدث السلبي. لندن مدينة كبيرة تعجُّ بالأشخاص غريبي الأطوار، المجانين الذين يعيشون … اممم … حياةً مألوفة، لدرجة أن العجيب هو أنَّ الكثير منهم لا يختفون للقيام بشيء مُختلِف عمَّا اعتادوا فِعلَه.»

«هل اطلعتَ على هذه التفاصيل؟»

أومأ السيد ريدر.

وقال: «لديَّ نُسَخ منها. السيد سولتر مُتعطفًا …»

حكَّ النائب العام رأسه حائرًا.

«لا أرى شيئًا في هذه القضايا؛ أعني لا شيء مُشتركًا. أربعة معدَّل مُنخفِض بالنسبة إلى مدينة كبيرة …»

قاطعه المُحقِّق مُعتذرًا: «سبعٌ وعشرون حالةً في اثني عشرَ شهرًا.»

«سبع وعشرون؛ هل أنت متأكد؟» فوجئ المسئول الكبير.

أومأ السيد ريدر مرةً أخرى.

«جميعهم يُنفِقون قدرًا قليلًا من المال على الرغم من أنهم يحصلون على دخلٍ كبير نسبيًّا، ويتحصَّلون على الدخل نقدًا في الأول من كل شهر … تسعة عشر منهم على أيِّ حال. ينبغي لي التحقُّق من الثمانية الباقين … وجميعهم يتكتَّمون على مصادرِ عائداتهم. ليس لدى أحدٍ منهم أصدقاء شخصيون أو أقاربُ تجمعهم بهم علاقةٌ وُدية؛ باستثناء السيدة مارتنج. خارج نِقاط التشابُه هذه، لم يكن هناك ما يربط أحدَهم بالآخر.»

رمَقه النائب العامُّ بنظرةٍ حادة، ولكن السيد ريدر لم يكن يسخر على الإطلاق. على الأقل، لم يُظهر ذلك على الإطلاق.

أردف قائلًا: «هناك نقطة أخرى نسِيتُ أن أذكُرها. بعد اختفائهم، لم يَرِد إليهم المزيدُ من المال. ورَدَت الأموالُ إلى السيدة مارتنج عندما كانت تسافر في رحلاتها ولكنها توقفَت عندما سافرت في رحلتها الأخيرة.»

«ولكنْ سبعٌ وعشرون … هل أنت متأكد؟»

قرأ السيد ريدر القائمة، وأخذ يذكُر الاسمَ والعُنوان وتاريخ الاختفاء.

«ما الذي تعتقد أنه حدث لهم؟»

فكر السيد ريدر للحظاتٍ وأخذ يُحملِق في السجادة مُتجهمًا.

ثم قال بمرحٍ تقريبًا: «لا أتخيَّل إلا أنهم قُتلوا.» وكاد أن ينهض النائب العام من على مقعده.

وقال ساخرًا: «أنت في أسعد أمزِجَتك هذا الصباحَ يا سيد ريدر. ما الدافع وراء قتلهم بحق السماء؟»

لم يشرح السيد ريدر. وقعت المقابلة في وقتٍ متأخِّر من بعد الظهر، وأمسى حريصًا على الرحيل لأن لديه موعدًا ضمنيًّا مع شابَّةٍ ذات جمال أخَّاذ ستنتظِر بعد خمس دقائق من الساعة الخامسة على ناصية جسر وستمينستر، والجسر على نهر التايمز للَّحاق بالسيارة المُتَّجِهة إلى لي.

لم يُعرَف عن السيد ريدر أنه صاحبُ خِصال عاطفية. هناك مَن يقول إنه يتصنَّع الحزن على مَن جلَبَهم القدَرُ والحظ السيئ تحت يدِه التي لا تُفلِت العقاب. وهناك من يقول إنه يتألَّم حقيقةً عندما يرى شخصًا خلف القضبان بسبب جهوده والإدلاء بشهادته.

مدبرة شئون منزله — التي اعتقدَت أنه يكرهُ النساء — أخبرت صديقاتها سرًّا بأنه لا يعرف المشاعرَ الرقيقة التي تُنير الإنسانية وتُمجِّدها. في مدة عشر سنوات قضَتْها في خدمته، لم يُظهِر أيَّ مشاعر أو رقَّة باستثناء السؤال عما إذا كان ألَمُ عِرق النَّسا لديها خفَّ أو لا، أو للتعبير عن رغبته في أن تأخذ عطلة تقضيها على البحر. كانت امرأةً تجاوزَت منتصف العمر، ولكن لا تُوجَد فترة في الحياة تتوقَّف فيها المرأة عن الأمل في شيءٍ أفضل. على الرغم من أنها أفضل الخدَم على الإطلاق، فإنها كانت تحتقِره سرًّا وتدعوه بالحرفوش أمام صديقاتها، وتشكُّ في أنه يعيش منفصلًا عن زوجته التي يُسيء مُعاملتَها. كانت هذه المرأة أرملةً (حسبما أخبرته وقتَما وظَّفها) ورأت أيامًا أفضل، بل أفضلَ بكثير.

يتَّسِم موقفها الظاهريُّ تجاه السيد ريدر بالاحترام والرهبة. تغاضت عن زائريه غريبي الأطوار ومعارفِه التافِهين. تغاضَت عن حذائه المُربع من عند الأصابع وقُبعته الطويلة ذات التاج المسطح، حتى إنها أُعجِبَت بربطةِ عُنقه الجاهزة التي يرتديها، المُثبَّتةِ خلف الياقة بإبزيمٍ صغير، يقرص على أصابعه دومًا عندما يُثبِّت ربطة العنق. ولكنْ هناك حدٌّ لكل هذا الإعجاب، وعندما اكتشفت أن السيد ريدر اعتاد الانتظارَ كي يُرافق فتاةً إلى المدينة كلَّ يوم، وأنه كثيرًا ما راقه مُصاحبتُها إلى منزلها، عندها بلَغ السيلُ الزُّبى.

أخبرَت السيدة هامبلتون صديقاتها — وهنَّ وافقْنَها الرأي — أنها لم ترَ أحمقَ مثل هذا العجوز، وأنه دائمًا ما ينتهي الزواجُ بين عجوزٍ وفتاة صغيرة في محاكم الأسرة (ديسمبر في مقابل مايو ويوليو). اعتادت أن تترك نسخًا من جريدة الأحد المُفضلة على الطاولة حيث يرى العناوينَ الرئيسية المتوهِّجة:

زواج فتاة رومانسية من عجوزٍ ينتهي بصاحب الشَّعْر الرمادي إلى المحكمة.

لم تعرف هل اطَّلع السيد ريدر على هذه المقالات الإنسانية أو لا. لم يُشِر أبدًا إلى مآسي العلاقات غيرِ المُتَّزنة، واستمر في مقابلة الآنسة بيلمان كلَّ يوم؛ الساعة التاسعة صباحًا والساعة الخامسة وخمس دقائق مساءً كلَّما سمَح عملُه بذلك.

نادرًا ما كان يُناقش أعماله الخاصة أو يطرح موضوعًا يشغل عقله، لدرجةِ أنه كان أمرًا استثنائيًّا أن يُشير إلى عمله ولو بطريقةٍ غيرِ مباشرة. ربما لم يكن ليفعلَ ذلك لولا أن الآنسة مارجريت بيلمان فتحَت (دون قصد) باب الحديث الذي سرى بطريقةٍ غير مباشرة إلى عمليات الاختفاء.

كانا يتحدَّثان عن العطلات؛ نوَت مارجريت الذَّهاب إلى كرومر لمدة أسبوعَين.

«سأُغادر في الثاني من الشهر. سوف أحصل على حصَّتي من الأرباح الشهرية (ألا يبدو هذا عظيمًا؟) في الأول من الشهر …»

«حقًّا؟»

استدار ريدر. تُدفَع حصة الأرباح في معظم الشركات كلَّ نصف عام.

«حصة الأرباح يا آنسة مارجريت؟»

تورَّدَت وجْنتاها قليلًا من دهشته ثم ضحكت.

مازحته قائلة: «ألم تعرِف أني امرأةٌ من ذوات الأملاك؟ أحصل على عشرة جنيهات في الشهر؛ ترك لي والدي منزلًا صغيرًا عندما مات. بِعت المنزل منذ عامَين مقابل ألف جنيه ووجدتُ استثمارًا رائعًا.»

أجرى السيد ريدر عملية حسابية سريعة.

قال: «تبلغ نسبةُ الأرباح اثنَي عشَر ونصفًا بالمئة. هذا استثمار رائع حقًّا. ما اسم الشركة؟»

ترددَت.

«أخشى أنني لا أستطيع إخبارك. كما ترى … حسنًا، إنه سِر. يتعلق الأمر بوكالةٍ من أمريكا الجنوبية تُزوِّد مَن تُسميهم المُتمرِّدين بالسلاح! أعلم أنه أمرٌ مُخيف جَنيُ المال بتلك الطريقة … أعني من السلاح وما إلى ذلك، ولكنهم يدفعون أرباحًا جيدة لدرجة أنه لا ينبغي لي أن أرفض فرصةً كتلك.»

عبَس ريدر.

وسأل: «ولكن لماذا الأمر سرِّي إلى هذه الدرجة؟ عدد كبير من الأشخاص المُحترمين يربَحون أموالًا من تجارة السلاح.»

مرة أخرى تردَّدَت في أن تشرح ما تقصده.

قالت: «تعهَّدنا بذلك؛ المساهمون، أعني … تعهدنا بعدم الإفصاح عن علاقتنا بالشركة. هذا واحدٌ من الاتفاقيات التي وقَّعْتُ عليها. والمال يأتي بانتظام. حصلتُ بالفعل على ما يقرُب من ثلاثمائة جنيهٍ إسترلينيٍّ من الأرباح على مبلغ ألف جنيه.»

قال السيد ريدر: «هممممم!» وتحلَّى بالحكمة بعدَم الإلحاح في سؤاله. لا يزال هناك يومٌ آخرُ غدًا.

ولكنه حُرِم الفرصةَ التي تطلَّع إليها في الصباح التالي. شخصٌ ما لعب عليه «مزحة» مَقيتة؛ ذلك النوع من المزاح الذي اعتاد عليه إذ كان هناك رجالٌ لديهم سبب وجيهٌ لكراهيته، ولا يمرُّ عام إلا ويُحاول واحدٌ أو أكثرُ أن يجعله يدفع ثمنَ اهتمامه المنحوس به.

«اسمك ريدر، أليس كذلك؟»

أمسك السيد ريدر مظلته بيدَيه كِلتَيهما بإحكام، ونظر من فوق نظارته إلى الرجل ذي الحال الرثَّة الذي يقف عند بداية السُّلَّم. كان على وشك مغادرة منزله الكائن في شارع بروكلي لينطلِق إلى مكتبه في وايتهول، وبما أنه شخصٌ منهجي ويعمل وفق جدولٍ زمني، استاء بأسلوبه الرقيق من تلك المقاطعة التي كلفَته بالفعل خمسَ عشْرةَ ثانيةً من وقته الثمين.

«أنت الشخص الذي أخبر الشرطةَ عن أيك ووكر، أليس كذلك؟»

السيد ريدر «أخبر الشرطة» عن الكثيرين. كان «مُخبرًا» بحُكم مهنته وهي كلمةٌ مأخوذة من اللغة الدارجة، وتعني الرجل الذي يسعى إلى القبض على مُرتكبي الجرائم. في الحقيقة إنه يعرف أيك ووكر حقَّ المعرفة. إنه ماهر — بل ماهر للغاية — في تزوير الكمبيالات وكان في ذلك الوقت بالتحديد مُنِح وظيفةً دائمة، وأصبح مساعدَ مُمرضٍ في سجن دارتمور، وقد يَعتبر نفسَه محظوظًا إذا تولَّى هذه الوظيفة السهلة لبقية مدة الحُكم التي تبلُغ اثنتَي عشْرة سنة.

كان السائل رجلًا جامدَ الوجه ويرتدي بذَّةً من الواضح أنها حِيكت في الأساس من أجلِ رجلٍ أضخمَ وأطول. البنطلون مرفوع بشكل ملحوظ، والصدرية مليئة بالثَّنيات والطيَّات التي لا تدلُّ إلا على أنها حِيكت لدى هاوٍ، ملابسُ لا يرتديها إلا من لا يأبهُ بانتقادات من يراه. لم تنزل عيناه المُتصلِّبتان اللامعتان عن السيد ريدر، ولكنهما لم تحمِلا تهديدًا حسبما رأى المُحقِّق.

قال السيد ريدر بشيءٍ من اللطف: «نعم، كنتُ سببًا في إلقاء القبض على أيك ووكر.»

أدخل الرجل يدَه في جيبه وأخرج عبوةً مُجعَّدة مغلَّفة في الحرير الأخضر الزيتي. أزال السيد ريدر الغلاف ووجد مظروفًا مُتَّسخًا ومجعدًا.

قال الرجل: «هذا مِن أيك. أرسله مِن السجن مع رجلٍ خرج منه أمس.»

لم يُصدَم السيد ريدر بهذا الخبر. إنه يعلم أن قوانين السجن عُرضة للانتهاك، وأن أشياءَ أسوأَ من مجرد رسالةٍ مُهرَّبة وقعَت في أشد السجون انضباطًا. فتح الظرف ولم يُنزل عينه عن وجه الرجل وأخرج الورقة المُجعَّدة وقرأ الرسالة المُكوَّنة من خمسة أو ستة أسطر.

عزيزي ريدر، أكتب إليك أُحْجية

ما يُصيب الآخرين، يُمكن أن يُصيبَك. لم يُصِبني، ولكنه في الطريق إليك. إنه حارٌّ مُلتهِب عندما يُصيبك، ولكنك تُصبِح باردًا عندما يزول عنك.

صديقُك المحب
أيك ووكر (الذي حُكم عليه باثنتَي عشرة سنةً لأنك صعدتَ على منصة الشهود وذكرتَ العديد من الأكاذيب.)

رفع السيد ريدر نظرَه وتلاقتْ عيناه بعينَي الرجل. ثم سأل بتأدُّب: «صديقك مجنون قليلًا، أليس كذلك؟»

قال الرسول: «إنه ليس صديقي. طلب منِّي رجلٌ أن آتيَك بها.»

قال السيد ريدر مُبتهجًا: «بالعكس، أعطاها لك في سجن دارتمور بالأمس. اسمك ميلز؛ أُدِنتَ ثمانيَ مراتٍ بالسطو وستُدان للمرة التاسعة قبل نهاية العام. خرجتَ من السجن منذ يومَين؛ رأيتُك وأنت ذاهبٌ إلى شرطة سكوتلاند يارد.»

انزعج الرجل للحظةٍ ولم يستطع أن يُقرِّر هل يهرُب أم لا. نظر السيد ريدر بطول شارع بروكلي ورأى شخصيةً ممشوقة القوام تقِف على الناصية وعبَرَت الطريق لتركبَ عربة الترام المُنتظِرة، ولمَّا رأى أن فرصته تتبخَّر في الهواء، أعاد ترتيب جدوله الزمني.

«ادخل يا سيد ميلز.»

قال السيد ميلز بعدما اضطربَ للغاية: «لا أُريد الدخول. طلب منِّي أن أُعطيك هذه الرسالة وأنا أعطيتُها لك. ليس لدي شيء آخر …»

عقَف السيد ريدر إصبعه.

وقال بلطفٍ كبير: «تعال يا عزيزي! وأرجو ألا تُضايقني! باستطاعتي أن أُعيدك مرةً أخرى إلى صديقك السيد ووكر. ففي الحقيقة أنا بغيض جدًّا عندما أنزعِج.»

تبعه الرسول بخنوع ومسَح حذاءه بعصبية في مِمْسحة الباب، ومشى على أطراف أصابعه على السُّلَّم المفروش بالسجاد حتى وصلا إلى غرفة المكتب التي يقضي فيها السيد ريدر مُعظمَ أوقات تفكيره.

«اجلس يا ميلز.»

وضع السيد ريدر بنفسه كرسيًّا لزائره المُضطرِب، ثم سحب كرسيًّا آخرَ إلى طاولة الكتابة، وبسطَ الخطاب أمامه وعدل نظارته، وقرأ وهو يُحرك شفتَيه ثم اضطجع على الكرسي.

قال: «استسلمت. اقرأ عليَّ هذا اللُّغز.»

قال الرجل: «لا أعرف المكتوب في الخطاب …»

«اقرأ عليَّ هذا اللغز.»

لمَّا ناول الرجل الخطابَ عبر الطاولة، فضح الرجلُ نفسه لمَّا نهض ودفع كرسيَّه إلى الخلف وظهر على وجهه تعبيرُ الرُّعب والخوف ممَّا أخبر السيد ريدر الكثير. وضع الخطابَ على مكتبه وأخذ قدحًا كبيرًا من الخِوان وقلبه وغطَّى الورقة المكتوبة على عجل.

ثم قال: «انتظِر ولا تتحرَّكْ حتى أعود.»

شعر الزائر بحقدٍ غير مُعتاد في نبرته مما جعله يرتعِد.

خرج ريدر من الغرفة إلى الحمَّام وشمَّر عن ساعدَيه بسرعة ولفَّ الصنبور وترك المياه الساخنة تجري فوق يدَيه قبل أن يصِل إلى زجاجةٍ صغيرة على الرف، وسكب جزءًا كبيرًا في المياه وغطَّس يدَيه فيها. انتهى بعدما ظلَّ يفرك أصابعَه بفرشاة الأظفار لمدة ثلاث دقائق ثم جفَّفها وخلع معطفه وصدريته بحرصٍ وعلَّقَهما على شماعة الحمَّام. عاد إلى ضيفه المُضطرب مُرتديًا القميصَ من دون المِعطف.

قال مُقررًا حقيقةً، لا سائلًا: «صديقنا ووكر يعمل في المستشفى؟ ما الذي أُصبتَ به هناك؛ حُمَّى قرمزية أم مرَضٌ أخطر؟»

نظر إلى الخطاب من تحت النظارة.

وقال: «بالطبع حمَّى قُرمزية، والخطاب ناقلٌ للعدوى بطريقةٍ مدروسة. ووكر ذكيٌّ نوعًا ما.»

كان خشبُ المدفأة موضوعًا على الشبكة. فحمل الخطاب والورق النشَّاف إلى المدفأة وأشعل النيران وألقى الورق والخطاب في اللهب.

قال مُتأمِّلًا: «ذكي نوعًا ما. بالطبع، فهو أحدُ مساعدي التمريض في المستشفى. حُمَّى قرمزية، أليس هذا ما قلتَه؟»

أومأ الرجل فاغرًا فاه.

«من نوعٍ خبيث بالطبع. يا للروعة!»

أدخلَ يدَه في جيبه ونظر مُتلطفًا إلى المبعوث البائس من ووكر المُنتقِم.

وقال بلُطف: «يُمكنك الذَّهابُ الآن يا ميلز. لا أشك في أنك أُصِبتَ بالعدوى. هذه القطعة من الحرير المُزيَّت غيرُ كافية على الإطلاق — وهذا يعني أنها «غيرُ مجدية على الإطلاق» — كي تَحميَ من الجراثيم المُتجوِّلة. ستُصاب بالحُمَّى القرمزية في غضون ثلاثة أيام، وغالبًا ستموت في نهاية الأسبوع. سأُرسِل لك إكليلًا.»

فتح البابَ وأشار إلى السُّلَّم وتسلَّل الرجلُ إلى الخارج.

راقبه السيد ريدر من النافذة ورآه وهو يعبُر الشارعَ ويختفي بعدما انعطف إلى طريق لويشام السريع، وصعد السيد ريدر بعد ذلك إلى غرفة نومِه وارتدى معطفًا مَشقوق الذيل جديدًا وصدريةً، وارتدى قُفازَين من القماش وانطلق إلى عمله.

لم يتوقَّع أن يرى السيد ميلز مرةً أخرى، ولم يخطر ببالِه أنَّ رجلَ دارتمور كان يُخطط «للإطاحة به» وهذا ما سيجعلُهما يتقابلان مرةً أخرى. بالنسبة إلى السيد ريدر، كانت الواقعة قد انتهت.

في ذلك اليوم، وردَت أخبارٌ من مركز الشرطة عن حالة اختفاءٍ أُخرى؛ وفي الساعة الخامسة إلا عشر دقائق، كان السيد ريدر ينتظِر في المكان الذي يلتقي فيه بالفتاة التي يمكن أن يُمسك منها طرَفَ خيطٍ حسبما أنبأَته غريزتُه. أصرَّ في هذه المرة أن يخرج بأي نتيجةٍ من أسئلته؛ ولكنه لم يخرج بشيءٍ حتى وصلا إلى نهاية شارع بروكلي وكان يمشي ببطءٍ نحو النزل الذي تُقيم فيه الفتاة، وعندئذٍ أعطَته تلميحًا.

سألت وكاد صبرُها أن ينفَد: «ما سبب إلحاحك هذا يا سيد ريدر؟ هل تريد استثمار الأموال؟ لأنه لو كان الأمر كذلك، فلا أستطيع مساعدتك للأسف. هذه اتفاقيةٌ أخرى وقَّعْنا عليها تنصُّ على عدم إدخال مُساهمين آخَرين من جانبنا.»

توقف السيد ريدر وخلع قُبعته وفرك مُؤخِّرةَ رأسه (ظلت مُدبرة شئون المنزل تُراقبه من نافذة عُلوية وباتت متأكدةً تمامًا أنه عرض الزواجَ على الفتاة وهي رفضت).

«سأُخبركِ شيئًا. يا آنسة بيلمان، وأرجو … اممم … ألَّا أُخيفَك.»

اقتضب وهو يقصُّ عليها حالات الاختفاء والمُصادفة العجيبة التي تُرافق كلَّ حالة؛ وهي استلامُ عائد الأرباح في الأول من كل شهر. لمَّا حكى لها، شحب وجهُ الفتاة.

قالت بنبرةٍ جادة تمامًا: «أنت جادٌّ فيما تقول، أليس كذلك؟ ما كنتَ لتُخبرني هذا لولا … اسم الشركة «اتحاد الاستثمارات بمكسيكو سيتي». ولديهم فروعٌ في شارع برتغال.»

سأل السيد ريدر: «كيف تعرفتِ عليهم؟»

«تلقيتُ خطابًا من المدير وهو السيد دي سيلفو. أخبرَني أن صديقًا ذكَرَني عنده وأعطاني التفاصيلَ الخاصة بالاستثمار كافَّة.»

«هل الخطاب معكِ؟»

هزَّت رأسها.

«كلَّا، طلبَ منِّي خِصِّيصى أن أُحضر الخطاب معي عندما أذهب لأراه. ولكنني لم أرَه في الحقيقة.» وابتسمت الفتاة. «راسلتُ المُحامين لديهم؛ هلا انتظرت؟ لديَّ الخطاب الذي أرسلوه.»

انتظر السيد ريدر عند البوابة ريثما دخلَتِ الفتاة إلى المنزل وعادت على الفور ومعها محفظةٌ صغيرة، وأخرجت منها ورقةً صغيرة. كانت الورقة مُعَنونةً باسم شركة قانونية وهو براشر آند براشر، وهو النوع الرسميُّ المُعتاد من الخطابات التي يتوقَّعها المرء من محامٍ.

ورد في الخطاب: «سيدتي العزيزة». رد: «اتحاد الاستثمارات بمكسيكو سيتي»: إننا نعمل مُحامِين لدى الاتحاد، وعلى حدِّ ما لدينا من معلومات، فهو حسَنُ السمعة. نشعر أنه من واجبنا أن نقول إننا لا ننصحُ بالاستثمارات في أي شركةٍ تُقدِّم مثلَ هذه الأرباح الكبيرة، لأنه عادةً تأتي المخاطر بقدْرِ الأرباح. ومع ذلك، فنحن نعرف أن هذا الاتحادَ يدفع نسبةَ أرباحٍ تبلُغ اثنَي عشر ونصفًا بالمائة وأحيانًا تبلُغ عشرين بالمائة، ولم تَرِدنا أيُّ شكاوى بشأنهم. وبصفتنا مُحامِين، فبالطبع لا نضمنُ سلامة الوضع المالي لدى أيٍّ من عُملائنا ولا يسَعُنا إلا أن نُؤكد حسبما لدينا من معلومات أن الاتحاد يقوم بعملٍ حقيقي ويتمتَّع بدعمٍ مالي جيد للغاية.

مع خالص التحية
براشر آند براشر

«هل قلتِ إنك لم ترَيْ دي سيلفو مطلقًا؟»

هزَّت رأسها.

«كلَّا، رأيتُ السيد براشر، ولكن عندما ذهبتُ إلى فرع الاتحاد الذي يقع في المبنى ذاتِه، لم أجد سِوى مُوظفٍ في المكتب. استُدعي السيد دي سيلفو إلى خارج المدينة. واضطُرِرت إلى أن أترك الخطاب؛ لأن الجزء السُّفليَّ عبارةٌ عن طلب تقديمٍ لشراء الأسهم في الاتحاد. يمكن سحبُ رأس المال بمُوجَب إخطارٍ يُرسَل قبْل السحب بثلاثة أيام، ويجب القولُ بأن هذا البند الأخير دفعَني إلى اتخاذ قراري؛ ولمَّا ورَدَني خطابٌ من السيد دي سيلفو بقَبوله استثماري، أرسلتُ إليه الأموال.»

أومأ السيد ريدر.

قال: «وأنت تتسلَّمين عائدَ الأرباح بانتظامٍ منذ ذلك الوقت؟»

قالت الفتاة مُنتشية: «كلَّ شهر. وفي الحقيقة أعتقدُ أنك مُخطئ في ربط الشركة بحالات الاختفاء تلك.»

لم يرُدَّ السيد ريدر. بعد الظهيرة في ذلك اليوم، قصد المبنى رقم ١٧٩ في شارع برتغال. يتكوَّن المبنى من طابقَين من طرازٍ قديم. تدْخُل المبنى عبر مدخلٍ واسع مرصوف، ومجموعة سلالم قديمة الطراز تُؤدي إلى «الطابق العلوي» الذي يشغَلُه تاجرٌ صيني؛ وتُوجَد ثلاثة أبواب في المدخل. الباب على اليسار، يُوجَد عليه لوحة تحمل اسم «براشر آند براشر للمُحاماة» وفي مواجهته تمامًا مكتب «الاتحاد المكسيكي». في نهاية المَمر، يُوجَد بابٌ عليه لوحة تحمل اسم «جون باستون»، ولكن لا تُوجَد إشارةٌ إلى طبيعة عمل السيد باستون.

طرَق السيد ريدر باب الاتحاد برِفْقٍ وأتاه صوتٌ يسمح له بالدخول. وجد شابًّا يرتدي نظَّارة ويجلس على طاولة الآلة الكاتبة، وفي أُذنيه زوجان من أجهزة استقبال الدكتافون، ويكتب بسرعة.

قال المُوظَّف: «لا يا سيدي، السيد دي سيلفو ليس هنا؛ فهو لا يأتي سوى مرَّتَين تقريبًا في الأسبوع. هل ستُعطيني اسمك؟»

قال ريدر بلُطف: «لا داعيَ لذلك.» ثم خرج وأغلق الباب خلفَه.

حالفه حظٌّ كبير في زيارته إلى شركة براشر آند براشر؛ لأن السيد جوزيف براشر كان في مكتبه، وهو رجلٌ طويل أحمرُ الوجه، ويضع وردةً كبيرة في فتحة الزِّر. من الواضح أن شركة براشر آند براشر شركة ناجحة لأنه يُوجَد ستةُ موظفين في المكتب الخارجي، والأثاث في مكتب السيد براشر — ومنه المكتب الكبير — مُريح، غير أنه ذو طرازٍ قديم.

قال المُحامي وهو ينظُر في البطاقة: «تفضَّل بالجلوس يا سيد ريدر.»

ذكر السيد ريدر عملَه في بِضع كلمات، وابتسم السيد براشر.

قال: «من حُسن الحظ أنك أتيتَ اليوم. ولو أتيت غدًا، لَمَا استطَعْنا أن نُعطيَك أيَّ معلومات. الحقيقة اضطُرِرنا إلى أن نطلُب من السيد دي سيلفو أن يعثُر على مُحامين غيرنا. لا، لا، لا يُوجَد أيُّ خطأ غير أنهم دائمًا ما يُحيلون عُملاءهم إلينا، ونشعُر وكأننا راعون لعُملائهم وهذا بالطبع غيرُ مُحبَّب للغاية.»

«هل لديك سِجِلٌّ بالأشخاص الذين راسلوك من وقتٍ إلى آخر يطلبون مَشورتك؟»

هزَّ السيد براشر رأسه.

قال: «مِن الغريب أن أعترف ولكن ليس لدينا سِجل، وهذا من الأسباب التي قرَّرنا من أجلها أن نتركَ هذا العميل. منذ ثلاثة أسابيع، ولأسبابٍ مجهولة، اختفى دفتر الرسائل الذي نحتفظ فيه بنُسَخٍ من جميع الرسائل المُرسَلة إلى الأشخاص الذين تقدَّموا بطلبٍ للحصول على تَزْكية. كان في الخِزانة طَوال الليل، ولكنه اختفى في الصباح، على الرغم من أننا لم نرَ علامةً تدلُّ على كسر القفل. المُلابَسات غامضة للغاية، وقلقتُ أنا وأخي للغاية، وطلبْنا من الاتحاد أن يُعطيَنا قائمةً بعملائهم، ولم تتم الاستجابة لهذا الطلب مُطلقًا.»

نظر السيد ريدر إلى السقف مُتأمِّلًا.

سأل: «من هو جون باستون؟» ومِن ثَم ضحك المُحامي.

«هذا أيضًا لا أعرفه. أظنُّ أنه مُموِّل فاحشُ الثراء، ولكن على حدِّ علمي، فإنه لا يأتي إلى مكتبه سِوى ثلاثةِ أشهر في العام، ولم أرَه مُطلقًا.»

صافح السيد ريدر الرجل بيدِه الليِّنة وعاد بطول شارع برتغال مُطأطئًا رأسَه، ويدُه خلف ظهره تجرُّ مِظلته؛ ومِن ثَم كان هناك تشابهٌ مُثير للسخرية مع حيوان غريبٍ ذي ذيل.

في تلك الليلة، انتظر الفتاة مرةً أخرى ولكنها لم تظهر؛ وعلى الرغم من أنه بقِيَ في مكان اللقاء حتى الساعةِ الخامسة والنصف، إلا أنه لم يرَها. لم يكن هذا الأمرُ مُثيرًا للشكوك لأنها تعمل حتى وقتٍ متأخِّر في بعض الأحيان، ومِن ثَم ذهب إلى المنزل من دون أن يشعر بأيِّ قلق. انتهى من عَشائه الخفيف ثم مشى إلى مسكنها. أخبرتْه صاحبةُ السكن أن الآنسة بيلمان لم تصل، ثم عاد إلى غرفة مكتبه واتَّصَل أولًا بالمكتب الذي تعمل لديه، ثم بالعُنوان الخاص بصاحب العمل.

ورَدَته أخبارٌ مفاجئة: «لقد غادرت منذ الرابعة والنصف. اتصل شخصٌ عليها وسألَتني إنْ كان بإمكانها المغادرة مُبكرًا أم لا.»

قال السيد ريدر مشدوهًا: «يا إلهي!».

لم يذهب إلى فِراشه في تلك الليلة، وإنما ظلَّ مُستيقظًا في غرفةٍ صغيرة في مقر شرطة سكوتلاند يارد، وأخذ يطَّلِع على التقارير التي وردَت من مُختلِف الأقسام. ومع إشراق الصباح، أصبح مُكرَهًا على إدراك ضرورة إضافة اسم مارجريت بيلمان إلى قائمة حالات الاختفاء في تلك الظروف الغريبة.

غلبه النُّعاس على مقعدٍ خشبي كبير. وفي الساعة الثامنة، عاد إلى منزله وحلَق واغتسل، ولمَّا وصل النائبُ العام إلى مكتبه، وجد السيد ريدر مُنتظرًا في الردهة. لم يرَ السيد ريدر الذي يعرفه، ولم يكن هذا التغيُّر ناتجًا بالكلية عن قِلة النوم. أصبح صوته أكثرَ حدة، وافتقد بعضًا من نبرة الأسف التي عادةً ما تكتنِفُ كلامه.

وفي بضع كلمات، أبلغَه عن اختفاء مارجريت بيلمان.

سأل رئيسُه: «هل تربط ما حدثَ بدي سيلفو؟»

قال الآخرُ بهدوء: «نعم، أربط بينهما؛ ليس هناك سوى أملٍ واحد، وهذا الأمل ضعيفٌ للغاية؛ أمل ضعيف للغاية حقًّا!»

لم يُخبِر النائبَ العامَّ أين يكمُن هذا الأمل، ولكنه ذهب إلى مكتب الاتحاد المكسيكي.

لم يكن السيد دي سيلفو في المكتب. كان سيُفاجَأ كثيرًا لو كان هناك. عبَرَ القاعة كي يرى المُحاميَ، وفي هذه المرة وجد السيد إرنست براشر ومعه أخوه.

عندما تحدَّث ريدر عن الموضوع، دخل في صُلب الموضوع مباشرةً.

قال: «سأترك ضابط شرطة في شارع برتغال كي يُلقيَ القبض على دي سيلفو فورَ أن يراه. وأظن أنكما يجب أن تعرفا ذلك، بحُكم أنكما مُحامِياه.»

بدأ السيد براشر بنبرةٍ تنمُّ عن مفاجأته: «ولكن لماذا بحقِّ السماء …؟»

قال ريدر: «لا أعرف التهمة التي سأُوجِّهها له، ولكنها ستكون تهمةً خطيرة بالتأكيد. حتى الآن لم أُدْلِ بمسوِّغات شكوكي إلى شرطة سكوتلاند يارد، ولكن على عميلك أن يَرويَ قصةً وجيهة ويُقدِّم دليلًا لا جدالَ فيه على براءته؛ حتى يكونَ لديه أيُّ أملٍ في الهروب.»

قال المُحامي مُتحيرًا: «لا أعلم شيئًا على الإطلاق. ما الذي كان يفعله؟ هل الاتحاد عملية احتيال؟»

قال الآخرُ باقتضاب: «لا أعرف شيئًا أكثرَ احتيالًا. سأحصل على الإذن اللازِم غدًا من أجل التفتيش في أوراقه وتفتيش مكتب السيد جون باستون وأوراقه. أعتقد أنني سأعثُر على شيءٍ بالغِ الأهمية بالنسبة إليَّ.»

دقت الساعة الثامنة قبل أن يُغادِر إلى شرطة سكوتلاند يارد، وكان يلتف حول الناصية التي يعرفها عندما رأى سيارةً آتية من جسر وستمينستر باتجاه مقرِّ شرطة سكوتلاند يارد. أخرج شخصٌ ما رأسَه من النافذة وأشار إليه، ثم استدارت السيارة. كانت سيارة كوبيه بمِقعَدَين، وكان السائق هو السيد جوزيف براشر.

بعدما أوقف السيارة عند الرصيف وقفز منها، قال لاهثًا: «وجدْنا دي سيلفو.»

كان مُضطربًا للغاية وكان وجهُه شاحبًا. كاد السيد ريدر يُقسِم أن أسنان الرجل كانت يصطكُّ بعضها ببعض.

أردف قائلًا: «هناك أمرٌ خطير، بالغُ الخطورة. بات أخي يحاول سحب الحقيقة من فمِ الرجل؛ يا إلهي! لو أنه فعل هذه الأشياء المُرعبة، فلن أُسامح نفسي مُطلقًا.»

سأل السيد ريدر: «أين هو؟»

«أتى قبل العشاء مباشرةً إلى منزلنا في دولويتش. لم أتزوَّج أنا أو أخي، ونعيش وحدَنا الآن، وسبقَ أن زارنا وقتَ العشاء. استجوبه أخي وأخذ منه اعترافاتٍ مؤكَّدة لا تكاد تُصدَّق. لا بدَّ أن الرجل مجنون.»

«ماذا قال؟»

«لا أستطيع أن أُخبرك. إرنست يحتجزه حتى تأتي.»

صعد السيد ريدر إلى السيارة وفي غضون دقائق انطلقت السيارة مُسرعةً على جسر وستمينستر باتجاه كامبرويل. وصلوا إلى لين هاوس، إنه سكنٌ على الطِّراز الجورجي القديم يقع في نهاية طريقٍ ريفي، وجده السيد ريدر طريقًا مُغلقًا. لاحظ أن المنزل مُقامٌ على مساحةٍ كبيرة أثناء مرورهم بالطريق وتَوَقفِهم أمام الرِّواق. ترجَّل السيد براشر من السيارة وفتح البابَ ودخل ريدر إلى صالةٍ ذات أثاثٍ مُريح. وكان هناك بابٌ مفتوح.

«أهذا أنت يا سيد ريدر؟» تعرَّف على صوت إرنست براشر، ومن ثم دخل إلى الغرفة.

كان الأخ براشر الأصغر يقف وظهرُه إلى المدفأة الفارغة، ولم يكن ثمَّة أحدٌ آخر في الغرفة.

شرح المحامي: «صعد دي سيلفو إلى الطابق العلوي كي يَستلقيَ على الفراش. هذا عملٌ مُروِّع يا سيد ريدر.»

مدَّ يده مصافحًا وعبَر السيد ريدر الغرفة كي يُبادِله المصافحة. بمجرد أن وضع قدَمَه على السجادة الفارسية المُربعة أمام المدفأة، أدرك الخطر الذي وقع فيه وحاول أن يقفز إلى الخلف ولكنه فقد توازنه. شعر أنه يسقط في حفرةٍ مخفيَّة تحت السجادة، ومن ثَم اندفع وأمسك في حرف الفخ لدقيقةٍ ولكن المحاميَ دار حول الحفرة ورفع قدمه وضغط على الأصابع المُمسِكة في الحافة ومن ثَم أفلت ريدر يدَه وسقط.

انقطعت أنفاسه من صدمة السقوط وتمدَّد للحظاتٍ ما بين مُستلقٍ وجالس على أرضية القبو الذي سقط فيه. نظر إلى الأعلى ورأى الأخَ الأكبر وهو ينظر من أعلى الحفرة. أخذ حجمُ الفتحة المُربعة يتضاءل. من الواضح أن الفخ مُزوَّد بلوحٍ مُنزلق يُغطي الفتحة في الأوقات العادية.

قال جوزيف براشر مُبتسمًا: «سنتعامل معك لاحقًا يا ريدر. دخل إلى هذا المكان الكثيرُ من الأذكياء …»

انطلق صوتٌ في القبو. ولفحت رصاصةٌ وَجْنة المحامي وحطمَت ثُريَّا زجاجية إلى شظايا، ومِن ثَم تراجع إلى الخلف وصرخ خوفًا. أُغلِق الفخُّ في ثوانٍ وبقِيَ ريدر بمُفرده في القبو المُبطَّن بالطوب. لم يكن بمُفرده تمامًا، فالمُسدَّس الأوتوماتيكي الذي يحمِله في يده كان رفيقًا مُبهجًا في تلك الأزمة.

أخذ من جيب بنطاله مصباحًا كهربيًّا مُسطحًا وشغَّل التيار وتفقد السجن الذي وقع فيه. كانت الحوائطُ والأرضية رطبة؛ هذا أول ما لاحظه. يُوجَد في أحد الأركان سُلَّم صغير درجاته من الطوب يؤدي إلى بابٍ فولاذي مُقفل، ثم سمع:

«السيد ريدر.»

التفت وسلَّط مصباحه على مصدر الصوت. إنها مارجريت بيلمان إذ نهضت مِن فوق كومة أكياس كانت تنامُ عليها.

قالت: «أخشى أنني أوقعتُك في مشكلة عويصة.» ولكنه تعجَّب من هدوئها.

«منذ متى وأنت هنا؟»

أجابت: «منذ البارحة. السيد براشر اتصل بي وطلب مني مُقابلتَه وأخذني في سيارته. احتجزوني في الغرفة الأخرى حتى الليلة، ولكنهم أحضروني إلى هنا منذ ساعة.»

«أيَّ غرفة تقصدين؟»

أشارت إلى الباب الفولاذي. لم تذكر تفاصيلَ أُخرى عن مغادرتها، ولم يكن الوقت مناسبًا لمناقشة تعثُّرها في تلك المشكلة. صعد ريدر الدَّرَج وحاول فتح الباب؛ واكتشف أنه مُقفل من الجانب الآخر ويفتح إلى الداخل. لا تُوجَد أيُّ علامة على فتحةِ مِفتاح. سألها إلى أين يُؤدي الباب وأخبرَته أنه يُؤدي إلى مطبخٍ تحت الأرض وقبوٍ لتخزين الفحم. أملَت في الهروب؛ لأنه لم يكن يَحُول بينها وبين حُريتها سوى قضبانِ النافذة في الغرفة الصغيرة التي احتُجِزَت فيها.

قالت: «لكن النافذة كانت سميكةً للغاية، وبالطبع لم أستطع أن أفعل شيئًا حيالَ تلك القضبان.»

تفحَّص ريدر القبو مرةً أخرى، ثم سلَّط ضوء مصباحه إلى أعلى في القبو. لم يرَ سوى بكَرةٍ فولاذية مُثبَّتة في عارضةٍ بعَرْض القبو بالكامل.

سأل مفكرًا: «ما الذي سيفعله بحقِّ السماء؟» وكأنَّ أعداءه سمعوا السؤال وقرَّروا ألا يتركوه في حيرةٍ بشأن خُططهم، ومن ثَم أتى صوتُ خرير الماء وفي لحظاتٍ بلغ عمقُ المياه إلى الكاحل.

سلَّط الضوءَ على مصدر خروج الماء. وجد ثلاثةَ ثقوبٍ دائرية في الحائط، ويتدفَّق من كل ثقبٍ تيارُ مياهٍ مُستمرٌّ.

سألَتْ بصوتٍ هامس مرعوب: «ما هذا؟»

أصدر أمرًا قاطعًا: «اصعدي على السُّلَّم وابقَي هناك.» وظل يتفحَّص كي يرى هل بإمكانه وقفُ تدفُّق المياه أم لا. علم على الفور أنَّ هذا مُستحيل. والآن، لم يَعُد لغزُ حالات الاختفاء لغزًا.

ارتفعت المياهُ بسرعةٍ رهيبة إلى الركبتَين أولًا، ثم إلى الفخذ ثم لَحِق بها على السُّلَّم.

لم يكن الهروب مُمكنًا لهما. خمَّن أن المياه سترتفع إلى مستوًى يستحيل معه أن يصِلا إلى العارضة في السقف أو إلى البكرة؛ التي استطاع أن يُخمِّن الغرَض المُروِّع منها. لا بدَّ مِن أن هناك طريقةً لإخراج الموتى من هذا القبر. كان سبَّاحًا قويًّا، ومع ذلك علِم أنه لن يستطيع البقاء طافيًا بعد ساعات.

خلع مِعطفه وصدريته وفك زرَّ الياقة.

قال بنبرةٍ جادة: «من الأفضل أن تخلعي تنُّورتك. هل تستطيعين السباحة؟»

أجابت بصوتٍ منخفض: «نعم.»

لم يسألها السؤالَ الحقيقي الذي يدور في ذهنه وهو: كم المدة التي تستطيع فيها السباحة؟

خيَّم الصمتُ لفترةٍ طويلة، وارتفع منسوبُ المياه، ثم قال: «هل أنتِ خائفة جدًّا؟» ثم أخذ يدَها في يده.

قالت: «لا، لا أظن أنني خائفة. يا له من أمرٍ رائع أن تكون معي … لماذا يرتكبون هذه الأفعال؟»

لم يتلفَّظ بشيء، بل أخذ اليد الناعمة إلى شفتَيه وقبَّلها.

بدأت المياه تصِل إلى درجة السُّلَّم العلوية. وقف ريدر مُنتظرًا ووَلَّى ظهره للباب الحديدي. ثم شعر أن شيئًا يلمس الباب من الجهة الأخرى. سمع نقرًا خفيفًا، وكأنَّ مِزلاجًا رجع إلى الخلف. نحَّاها جانبًا بلُطفٍ ووضع كفَّه على الباب. لم يكن هناك شكٌّ الآن: شخصٌ آخرُ يتحسَّس الجانب الآخر. نزل درجةً وشعر أن الباب يُفتَح إلى الداخل ويقترب منه، ثم سطع ضوء مُفاجئ. في اللحظة التالية، فتح الباب على مِصراعَيه واندفع عبره.

«ارفع يدَيك!»

أيًّا كان الشخص، فقد أوقع المصباح، وركَّز السيد ريدر ضوءَ مصباحه عليه وكاد يفغر فاهُ من الدهشة.

كان الرجل في المَمرِّ هو ميلز، صاحب السوابق الذي أحضر الرسالةَ الموبوءة من سجن دارتمور!

قال الرجل مُتذمرًا: «حسنًا، رفعتُ يدَيَّ.»

بدَر إلى ذهن المُحقِّق شرحُ الأمر كاملًا. وعلى الفور أمسك الفتاة من يدِها وسحبَها عبر المَمر الضيق الذي لا يزال الماء يتدفَّق إليه.

سأل بنبرةٍ آمِرة: «كيف دخلتَ إلى هنا يا ميلز؟»

«من النافذة.»

«أرِني إيَّاها؛ بسرعة!»

أراه السجينُ السابق الطريقَ إلى النافذة التي يبدو أنها النافذة نفسُها التي كانت الفتاة تتطلَّع إليها مُتلهِّفة. كانت القضبانُ قد أُزيلت؛ وإطار النافذة نفسُه أُزيل من المفصلات الصَّدِئة؛ وفي غضون ثوانٍ كان الثلاثة يقِفون على الحشائش والنجوم تتلألأُ فوقهم.

قال السيد ريدر بصوتٍ مهزوز: «يا ميلز، أتيتَ إلى هنا من أجل «تدمير» هذا المنزل.»

ميلز مُتذمرًا: «هذا صحيح. أقول لك إنه مُجرِم. لن أتسبَّب لك في أي مشكلة.»

همس السيد ريدر: «اهرُب! اهرُب بسرعة! والآن أيتها الفتاة، سنتمشَّى قليلًا.»

بعد بضع ثوان، فوجئ شرطيٌّ في دورية بظهور رجل في منتصف العمر يرتدي قميصًا وبِنطالًا وسيدة لا ترتدي ملابسها كاملةً وترتدي تنورة داخلية من الحرير.

•••

شرح ريدر لرئيسه: «الشركة المكسيكية هي براشر آند براشر. جون باستون شخصٌ لا وجودَ له. غرفته كانت مَمرًّا يمرُّ منه الأخَوان براشر من غرفةٍ إلى أخرى. الموظف في مكتب الاتحاد المكسيكي بالطبع مكفوف؛ عرَفتُ ذلك فورَ رؤيته. يُوجَد عدد كبير من الكتَبة المكفوفين في مدينة لندن. الموظف المكفوف ضروريٌّ لإبقاء هُوية دي سيلفو والأخَوَين براشر طيَّ السرية.

ترتكب شركة براشر آند براشر الجرائمَ منذ سنوات. في الغالب سيُكتَشَف أنهم استولَوا على أموال العملاء؛ ووضَعوا هذا المُخطَّط لإغراء المُستثمرين الحَمْقى لوضع أموالهم لدى اتِّحادهم على وعدٍ بمنح أرباح كبيرة. اختاروا ضحاياهم بعنايةٍ وجوزيف — العقل المدبر في المؤسَّسة — أجرى تحقيقاتٍ دقيقةً للتأكد من أن هؤلاء الأشخاصَ ليس لديهم أصدقاء مُقرَّبون. وإذا ساورَتْهم أيُّ شكوكٍ بشأن مُقدِّمِ طلبٍ، يكتب الأخَوان براشر خطابًا ينتقِصان فيه من فكرة الاستثمار ويقترحان على هذا الشخص الفَطِن أن يجدَ طريقةً أخرى آمنة أكثرَ من عرض الاتحاد المكسيكي.

بعد دفع أرباح عامٍ أو عامَين، يُجذَب المستثمر البائس إلى المنزل في دولويتش ويُقتَل هناك بطريقةٍ عِلمية. من المُحتمل أن تجد مقبرةً غيرَ رسميَّةٍ في أراضيهم. وعلى حدِّ ما فهمت، فقد سرَقوا ما يَزيد على مائةٍ وعشرين ألفَ جنيهٍ إسترليني في العامَين الماضيَين بتلك الطريقة.»

قال النائب: «هذا لا يُصدَّق، لا يُصدَّق!»

هزَّ السيد ريدر كتفَيه.

«هل هناك ما لا يُصدَّق أكثرُ من جرائم القتل التي ارتكبَها بيرك وهير؟ بيرك وهير موجودان في كلِّ ربوع المجتمع وفي كل حقبةٍ من التاريخ.»

«لماذا أخَّروا تخلُّصَهم من الآنسة بيلمان؟»

سعل السيد ريدر.

«أرادوا القيامَ بعمليةِ قتلٍ نظيفة، ولكنهم لم يرغَبوا في قتلها حتى أقعَ بأيديهم. أشُك …» وسعل مرة أخرى، ثم أستأنف حديثه: «في أنهم اعتقدوا بأنني أُولي الفتاة اهتمامًا خاصًّا.»

سأل النائب العام: «وهل تهتمُّ بها اهتمامًا خاصًّا بالفعل؟»

لم يردَّ السيد ريدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤