الفصل الثالث

ثروة أضعتها

عند العرافة

تناولت التذكرة التي «عليها العين»، وقبل الموعد المحدد كنت بين يدي الرجل وجلست المدام تقرأ كفي. ويا للغرابة والدهشة!

إنني لم أتعود في حياتي أن ألقي القول جزافا، كما أنني لست ممن يصورون من الحبة قبة، بل ولا أميل إلى التهويل والمبالغة في الوصف … فهل تصدقني — أيها القارئ — إذا قلت لك: إن هذه السيدة أخبرتني بأشياء حدثت لي في الماضي، كما لو كانت معي، وأنها قصت علي ظروفا خاصة اجتزتها بنفس النمط الذي ذكرته؟ حقا لقد خبلت عقلي بما ألقت إلي من تاريخ حياتي الماضية، وتركتني ذاهلا أفكر كيف يمكن لامرئ مهما بلغ عمله أن يقف على مثل هذه التفاصيل الدقيقة المدهشة؟!!

وبعد ذلك تنبأت لي بما سيكون عليه مستقبلي!

كان ذلك عام ١٩١٣، وأقسم بالله غير حانث أنني ما زلت طيلة هذه الأعوام التالية حتى الآن أجتاز من أدوار حياتي مراحل سبق أن تنبأت لي بها هذه السيدة!

كنت أيامها موظفا بسيطا في شركة السكر أتقاضى مرتبا لا يزيد على أربعة عشر جنيها، ولم يكن أمامي ما يبشر بصلاح الأحوال أو تبدل الأيام، ومع ذلك فقد قالت لي إن حياتي عبارة عن ضجة صاخبة، وأن أموالا كثيرة ستتداولها يدي، وأنني سأنتقل من فقر إلى غنى ومن غنى إلى فقر، ثم يعود الغنى، ثم … وهنا خانتني الذاكرة بكل أسف، إذ لست أعي تماما ما انتهى إليه تنبؤها، وهل أوصلتني في أخرياتي إلى هضاب الفقر المدقع، أم إلى وديان الثراء الممتع؟!

على أنني رحت أجول بالذاكرة في تأويل هذه التنبؤات فأما الفقر … فهذا شيء متوفر والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وأما الغنى، فمن أين يأتيني يا ترى؟

فتشت عن قريب لي من ذوي الثراء، ورحت أبحث عن شجرة العائلة، وأدرس أصولها وفروعها، لعلي أعثر على واحد بينهم لا وريث له قائلا: «يمكن يا واد يشوفك في وصيته بحسبة كام ألف مصري يبحبحوك» … أمال بس منين رايح يجيني الغنى يا اخواتي إن ما جاش بالطريقة دي، هل يأتي من التمثيل؟ اسم الله … ده اخوانا باسم الله ما شاء الله مكانش يلف الشهر إلا والجعيص فيهم يستلف قد ماهيته مرتين!!

نهايته لم يفدني التفكير شيئا، ولم يسعفني قاموس الأسرة ولا شجرتها المباركة، بما يروي غليلي، فتركت الأمور تجري في أعنتها ونمت بعد ذلك خالي البال هادئ البلبال!

طيب البال عرفناه، ولكن البلبال إيه كمان؟ والله ما أنا عارف. لم يقتصر ما أفضت به إلي هذه العرافة على موضوع الفقر والغنى، بل باحت لي بأشياء سرية في حياتي الخاصة. وأصارحكم يا سادتي أن هذه الأشياء وقعت بحذافيرها بعد سنوات منذ ذلك التاريخ!

أخاف السيارات

هذا ولعل أحدا يتساءل عن السر في عدم اقتنائي السيارة.

السبب أن هذه العرافة المدهشة تنبأت بأن هناك تصادما سيحدث لسيارة أكون فيها! ومع أنها ذكرت لي. أن «ربنا إن شاء الله، حايجيب العواقب «سليمة»، إلا أنني خشيت من ذلك اليوم، فامتنعت بتاتا عن اقتناء سيارة لنفسي. كما أنني إذا دعيت لركوب إحدى سيارات الغير، أو حتى سيارة «تاكسي»، أتوسل إلى السائق بكل عزيز لديه أن يرحم شباب العبد لله، وأن يسير على أقل من مهله، لأني مش مستعجل أبدا …!

ومش مستعجل هذه … أقولها دائما كلما ركبت سيارة، حتى ولو كان باقي على القطار الذي سأسافر فيه دقيقة واحدة. وكلمة في أذنك أيها القارئ الحبيب لم أقلها لغيرك والله إلى اليوم. تلك هي أنني أفضل دائما ركوب عربات الخيل، لا رفقا بالعربجية بل حرصا على حياتي الغالية! والحنطور فوقك يا أتومبيل!

خطاب مستعجل

وغادرتنا العرافة. ثم مضت بعد ذلك فترة زاد فيها اعتقادي بصحة نبوءاتها لأن الكثير منها كان قد تحقق في خلال تلك الفترة.

وفي صباح أحد الأيام — وكنا في عام ١٩١٤ — تسلمت وأنا في مكتبي بإدارة شركة السكر في نجع حمادي إشعارا بوصول خطاب مسجل (مسوكر) باسمي، فوقعت بإمضائي هذا الإشعار وقلبي يرقص فرحا، لأنني ذكرت ما قالته لي قارئة الكف من أنه سيأتي علي وقت ألعب فيه «بالفلوس» لعب. وهنا أتعبت فكري في البحث عن مصدر هذا الخطاب «المسوكر» وإذا كانت فيه أموال فمن أين أتت يا ترى؟

أقول إن أفكارا كثيرة دارت في رأسي دون أن أهتدي إلى حل هذا اللغز. وأخيرا قلت في نفسي، اصبر يا واد حبتين. ويكون الجواب في إيدك، ويا خبر بفلوس بكره يبقى بلاش!

وصبرت على نار إلى أن أشرقت أنوار ساعي البريد، فخطفت منه الخطاب خطفا وفضضته استعدادا لإخراج الشيكات التي احتواها المظروف!! ولكن … آه … قاتل الله «لكن» هذه التي تقلب الأوضاع وتعكس القصد على القاصد!

أتدرون يا سادتي … من أين صدر هذا الخطاب المسجل؟

من المكتب المجاور لمكتبي!! من مدير الشركة! وهل تعلمون ماذا جرى؟

رفت من خدمة الشركة بسبب كيت وكيت وكيت. وهذه «الكيتات» ليس فيها بحمد الله ما يخل بالنزاهة والأمانة ولكن فيها … بكل أسف … ما فيها والسلام!

وأبصرت أمامي فإذا ساعي البريد واقف ينتظر البقشيش!

وما فيش لزوم لشرح ما جرى له بالتمام والكمال!

نهايته. نقدتني الشركة ماهية ثلاثة أشهر كمكافأة، وقد بلغت قيمتها بعد خصم الوفورات التي كنت أقتصدها من الماهية الشهرية مبلغ سبعين جنيها. كانت كل زادي وعتادي الذي عدت به من نجع حمادي إلى القاهرة. وهو كما ترى مبلغ لا بأس به إذا قيس بما عاد به زميلي الطيب الذكر حنين من خفين!

عودة إلى القاهرة

وصلت إلى القاهرة أحمل هذا المبلغ. فكان أول ما اتجه إليه فكري هو البحث عن الزملاء الأقدمين والصحب الأولين.

وكانت ثروتي هذه … وما لازمني من «الوجاهة» إياها سببا في أن يلتف حولي رهط منهم. آل يعني الواد وارث! وهات يا بعزقة، وهات يا صرف إلى أن صحوت فجأة فإذا ما بقي بعد الأسبوعين الأولين مبلغ وقدره ستة وعشرون جنيها فقط لا غير! وبعدين إذا صرفتهم أعمل إيه وأسوي إيه؟ وآكل منين؟ وأنا يا مولاي كما خلقتني. ولا فيه شغلة ولا مشغلة! وبناء عليه أصدرت فيما بيني وبين نفسي قرارا صممت على تنفيذه. وهذا القرار هو أن ألايمها بالتي هي أحسن وألم إيدي شوية. وأنقذ ما يمكن إنقاذه من القرشين اللي فاضلين. وكفاية علي ريال في اليوم أكل وشرب ومصاريف نثرية. وبهذه الطريقة آمن شر الدهر الخئون لغاية ما يحلها من لا يغفل ولا ينام!

وبعد إصدار هذا القرار بساعة وعشرين دقيقة تماما قصدت إلى حيث كانت تعمل فرقة الأستاذ جورج أبيض (على فكرة) كان مصرحا لي بالدخول مجانا كأرتست. فدخلت الصالة وجلست أشاهد رواية (أوديب الملك) وبينا أنا أذرف الدمع ثخينا على هذا الملك المنكوب إذ وفد الأستاذ سليم أبيض (شقيق أوديب) ومدير إدارة الفرقة وجلس بجانبي. وحين رآني متأثرا، فاتحني بحقيقة مرة كان أثرها في نفسي أبلغ من أثر الفكرة التي حلت بأوديب المسكين!

هذه الحقيقة هي أن إيراد الفرقة خسع خالص، والليلة لازم الممثلين يقبضوا القسط، والإدارة مش لاقيه تقبضهم. وعلشان كده قصدتك يا نجيب في حسبة خمسة وعشرين جنيها بس، ندفع منهم قسط الممثلين وتاخدهم بعد يومين اثنين. يومين بالعدد. وأخويا جورج ضامن يا نجيب!

وهنا أسقط في يدي، ولعنت الظروف التي قادت قدمي إلى المسرح في تلك الليلة الليلاء التي قررت فيها بدء حياة جديدة للتدبير والاقتصاد. ولم يكن هناك بد من الاعتذار، فاعتذرت بالطبع وكلما تكرر الرجاء تمسكت بالاعتذار. ولكن قوة الأستاذ سليم أبيض في الإقناع، وبراعته في وصف الحالة الراهنة من جهة، ومحبتي للفن من جهة أخرى، هذه العوامل لم تدع لي سبيلا كي أرفض فقلت له: «اسمع يا خواجه سليم … مفيش في جيبي غير ٢٦ جنيها، فإذا كنتم عاوزين ٢٥ جنيها على شرط أنكم ترجعوهم بعد يومين صحيح فأنا مستعد … وأهو الجنيه الفاضل يكفيني اليومين دول».

واقع من السماء

وظهر أن «سليم أبيض» كان في هذه اللحظة واقعا من السما، وأنا الذي تلقفته. لأنني أحسست أن ماء الحياة قد عاد إلى وجهه، فوعد ووعد، بينما قلت في نفسي: «يا واد الفلوس رايحين رايحين فخليهم يروحوا بالجملة أحسن من سلسلتهم بالقطاعي!».

وتناول الخواجة سليم مبلغ الخمسة والعشرين جنيها في التو واللحظة، وترك في جيبي جنيها يقضي الليالي وحيدا بعدهم!

فلما أحسست بالنكبة التي حلت بي إذ ذاك رحت أضرب أخماسا في أسداس. وأندم على ما فعلت، ولات ساعة مندم.

وانقضى الموعد المضروب فذهبت إلى الخواجة سليم أرجو وأتضرع شاكيا مرارة الزمن وشدة الحاجة، لكن أخوك «تقيل» فلا جواب غير: «الصبر طيب يا أخي. هو احنا حناكلهم عليك والا إيه؟» فأقول له: «لا يا سيدي أنا عارف إنكم مش رايحين تاكلوهم علي. لكن أنا شخصيا عاوز آكل بهم، والا يعني عاوزني آكل طوب!».

ولم تفد الالتماسات. بل لم يرق الخواجة سليم لحالي. إلى أن أتيت على آخر مليم من الجنيه (اليتيم) الذي أبقاه لي سليم أبيض. وكنت أسكن في مصر الجديدة، فاضطررت والحالة هذه إلى اقتراض نصف فرنك قيمة أجرة المترو، ولولا ذلك لافترشت الغبراء والتحفت السماء كما يقول الشعراء!

على الحساب

نهايته. بعد عشرين يوم كاملة، بدأ الأستاذ سليم يشعر نحوي بعاطفة الشفقة والرحمة، فكان يعطيني بين يوم وآخر شلنا، أو نصف ريال (على الحساب). وأذكر أن أكبر دفعة تناولتها على الحساب كانت ثلاثة عشر قرشا عملة صاغ ميري. فتصور يا سيدي القارئ كم من الأعوام يجب أن تمر لاستهلاك ديني إذا سار السداد على هذه الوتيرة؟

شغل فكرك واستعن باللوغارتمات وحساب المثلثات، ثم نبئني بالنتيجة ….

وبعد أن أقرضت فرقة الأستاذ جورج أبيض ٢٥ جنيها مصريا ولم يبق معي من المبلغ الذي عدت به من نجع حمادي غير جنيه واحد، وبعد أن قبلت الدفعات التي كان الأستاذ سليم أبيض يحن بها علي، من شلن لنصف ريال إلخ … بعد ذلك تألفت فرقة (أبيض وحجازي)، وكان على رأسها بالطبع الأستاذان جورج أبيض وسلامة حجازي. ولم يكن يدفع للممثلين إذ ذاك أجر معلوم، بل نص الاتفاق على أن يكون العمل بالمساهمة، أي يربط للممثل عدد من الأسهم ثم يوزع الإيراد على الأسهم، وكل واحد وبخته بقى.

عرض علي الأستاذ جورج أن انضم إلى الفرقة ممثلا ويمكن يفرجها ربك وتفوز بحقك!

وقبلت هذا العرض، وكل أملي أن أفوز بجزء من مالي الضائع، الذي سبق أن اقترضه مني سليم أبيض لدفع أجور ممثلي فرقة أخيه. لكن كانت النتيجة ويا للأسف، هي نفس النتيجة التي فاز بها إبليس حين طمع في الجنة.

رأيت بين أفراد الفرقة السيدات روز اليوسف وسرينا إبراهيم ونظلي مزارحي وغيرهن، ثم الأستاذ عمر وصفي ومحمود رحمي وفؤاد سليم وعبد العزيز خليل وعبد المجيد شكري، و«شلة» من قدماء «المنشدين»، مثل الشيخ حامد المغربي وغيرهم. وجدت نفسي «تقليعة» بين هؤلاء السادة النجب، إذ ظهر لي أنهم كانوا يئنون من مصيبة الأسهم والإيراد، فما بالك إذا زادوا واحدا يعتقدون أنه سيقتطع جزءا من الإيراد، تنقص به حصة الجميع بمقدار ما ستنال أسهمي من نصيبه؟ ولاسيما أن إيراد الواحد منهم، أو حصة أسهمه جميعا، لم تكن لتصل في كثير من الأوقات إلى أكثر من ٣٥ قرشا صاغا أميريا لا غير؟

القصد، بدأ زملائي الأعزاء في توضيب «المقالب النضيفة» للعبد لله. ولم أكن في ذلك الوقت أعرف عنها كثيرا ولا قليلا، إذ كان الوسط جديدا علي كما كنت أنا جديدا عليه.

وكان بطل «شك المقالب» وانتقاء النكات «المستوية» في مادة «التأليس» على محسوبكم الفقير إليه تعالى، هو والدنا الأستاذ الأفخم عمر وصفي.

لقد كان يهون علي والله كل شيء، وكل شقاء، اللهم إلا ذلك النوع من «التأويز» و«المسمسة» و«التهزئ» اللي ما فيش منه.

أنا ملك النمسا

وكان علينا في إحدى الليالي أن نمثل رواية (صلاح الدين الأيوبي)، وكان الأستاذ جورج يضطلع فيها بدور (قلب الأسد) بينما اختاروا لي دورا صغيرا حقيرا، هو دور (ملك النمسا). وكل ما يفعله هو أن يقف من جورج أبيض موقف المبارز، ويتكلم اللي فيه القسمة. كده، كلمتين قول تلاتة، وكان الله يحب المحسنين.

كانت الحرب الكبرى قد أعلنت في هذه الآونة، وكانت الصحف والمجلات المصرية والأجنبية تنشر صورا لملوك الدول المتحاربة، ومن بينها صورة الإمبراطور (فرنسوا جوزيف) إمبراطور النمسا في ذلك الحين.

وقد تراءى لي أن أتقمص شخصية هذا الإمبراطور، مادام دوري هو (ملك النمسا)، فأقفلت على نفسي باب حجرتي بالمسرح، وجلست أمام المرآة ورحت ألتمس في عقاقير الميكياج ومعداته، ما جعلني الإمبراطور جوزيف بعينه وبلحيته المتدلية على جانبي وجنتيه إلى أسفل ذقنه، وكأنها «معرفة» الأسد.

وحين جاء وقت ظهوري على المسرح لم يتمالك الناس أنفسهم من الضحك، حتى أن الأستاذ جورج أبيض لما دخل المسرح ثائرا في دوره (قلب الأسد) وفوجئ بمظهري هذا، تبخرت حماسته وانطفأت شعلته وأحسست أنه يغالب عاصفة من الضحك تكاد تنفجر على شفتيه وبين أسارير وجهه!! كل ذلك وأنا واقف في مكاني لا أبتسم ولا أخالف طبيعة الموقف … آل يعني الفن واخد حده قوي … مع ملك النمسا!!

أقول إن جورج دخل ثائرا وهو يصرخ مرددا كلمة (قلب الأسد) المأثورة: «ويل لملك النمسا من قلب الأسد» ولكن ويل إيه وبتاع إيه … ما خلاص جورج ما بقاش جورج والمسرح بقى عيضة، والحابل اختلط بالنابل زي ما بيقولوا.

نهايته. انتهت هذه الليلة ولا أدري كيف انتهت، ولكن الذي أدريه هو، موال الدوكا «والتقريق» الطازة الذي أنصب علي من شيخ طائفة المطفشين الأستاذ عمر وصفي.

سب وتقريظ

ولنترك هذا جانبا وأعرج على مناقشة ظريفة جرت في تلك الليلة.

كنت أقطن في مصر الجديدة، ولذلك كنت أستقل ترام المترو عقب التمثيل. وكان لي صديق قديم كان زميلا منذ أيام البنك الزراعي، وكان هو الآخر يسكن بجواري في مصر الجديدة، وكثيرا ما كنا نتلاقى في قطار المترو في ذهابه وفي إيابه.

أذكر في تلك الليلة، ليلة (صلاح الدين الأيوبي)، أن لقيني هذا الصديق في «المترو» بعد انتهاء التمثيل، وبعد التحيات المعتادة سألته: «أين قضيت سهرتك هذا المساء؟» فأجابني بأنه كان يشاهد رواية (صلاح الدين) وتبرع فقص على نبأ عن واد … ممثل ابن كلب … يا فندم … طلع في دور ملك النمسا … إنما كان حتة واحد زي (الإمبراطور فرنسوا جوزيف) بحيث الناس كلهم ماتوا م الضحك على شكله … و…. إلخ من أنواع الشتائم! لذلك رأيت أن أقطع سلسلة شتائم إعجابه، فقلت له: «تعرف ابن الكلب دا … يبقى مين؟».

فقال: «أبدا».

فقلت له: «هو محسوبكم يافندم … هو العبد لله يا أخينا!!»

نهايته. لم يرتح زملائي في الفرقة ولم يطب خاطرهم إلا بعد أن صدر الأمر برفتي والاستغناء عني. بحجة عدم لياقتي للتمثيل بتاتا. وتفضلت الإدارة المحترمة فنصت في ميثاق «الرفتية» على أنني لن أفلح في التمثيل، ولن أكون في يوم من الأيام ممثلا، حتى ولو كان ثانويا!!!

بعد هذه الوثيقة القيمة والشهادة البينة، سدت في وجهي الأبواب وضاقت السبل حتى لم أجد طريقا أسلكه لكسب العيش.

تحريض

قيل في الأمثال إن (من جاور الحداد انحرق بناره).

وأنا قد جاورت أستاذنا عمر وصفي وزملاءه مدة من الزمن، فقد حق علي أن أقتبس بعض تعاليمه وأدرس طائفة من خططه.

الغاية. لا أريد أن أطيل عليك، فقد رأيت أن أسلم خطة هي تحريض ممثلي الفرقة على رفع راية العصيان على الإدارة، وشق عصا الطاعة على المديرين، والانسحاب أفرادا وجماعات وقد نجحت خطتي مع الكثيرين الذين أسرعوا في هجر فرقة أبيض وحجازي، والمناداة بالاستقلال التام … والجوع الزؤام!

وكان على رأس العصاة الأستاذ عزيز عيد والسيدة روز اليوسف، وقد انضم إلينا بعد ذلك من غير أعضاء الفرقة الأستاذ أمين عطا الله، وكان في ذلك الحين، ولا حياء في الواقع كان زي حالتنا مش لاقي ياكل، كما كان الأستاذ أمين صدقي هو الآخر «سارحا» بكام رواية من مؤلفاته ومقتبساته.

وبالاختصار اجتمع كل متعوس على خايب الرجا، كاستيفان روستي، وحسن فايق، وعبد اللطيف جمجوم، وسبعة ثمانية من العواطلية إياهم. وقررنا أن نؤلف فرقة تضرب فرقة أبيض وحجازي على حبابي عينيها.

لعل واحدا من القراء الأعزاء لم ينس قصة جحا حين رغب في الزواج من ابنة السلطان: فقد راح جحا ينشر في الناس أن الأمر سوي نهائيا، وأنه لم يبق على زفافه من ابنة السلطان إلا أن يجمع المهر اللازم، وأن يرضى السلطان بالمصاهرة!! اسم الله … أمال إيه اللي تم يا سي جحا؟

كذلك نحن. اجتمع الممثلون، ولم يبق على تأليف الفرقة إلا … وجود رأس المال.

ظللنا نتناقش في الموضوع، وانتهى الأمر باقتباس نظام المساهمة الذي كانت تجري عليه فرقة الأستاذ أبيض وحجازي.

محلنا المختار

وكان السائر في شارع عماد الدين يشاهد على يساره، بعد أن يجتاز شارع فؤاد الأول، مقهى كان يديره أحد النزلاء اليونانيين (ومن غيرهم يا ترى يفتح في مصر المقاهي). وكان اسم هذه المقهى (متروبول).

وأرجع بالقارئ العزيز إلى ذلك العهد الذي أتحدث عنه، فأقول إن إخواننا «المنشقين» عن فرقة أبيض وحجازي، جعلوا من مقهى «المتروبول» هذا محلا مختارا يأوون إليه إذا ما ارتفع قرن الغزالة (هذا خيال بديع، أرجو أن يسامحنا السادة البلغاء في استعارته)، ومعناه بالعربي الذي أفهمه أنا ويفهمه رعايا كشكش بك من سكان عمدية كفر البلاص وضواحيه، معناه عند طلوع الشمس، فعند طلوع الشمس كان «جرسونات» قهوة متروبول يستقبلون وفودنا و«يصطحبون» بوجوهنا. وكنا إذا جلسنا لا نغادر المكان إلا ساعة التشطيب بعد منتصف الليل بساعتين على الأقل. أمال إيه … حانروح فين … لا وظيفة ولا يحزنون!

كانت هذه القهوة دارا للندوة، أو برلمانا يعقده الممثلون، فيتناقشون في أقرب السبل للحصول على المال الذي يستطيعون به أن يؤلفوا فرقتهم المشتهاة.

حصانة جرسونية

وقد رأى — الله يرضى عنهم — الجرسونات أننا أصبحنا (بمضي المدة) أصحاب محل، وبذلك ينطبق علين قانون الأعضاء. وهذا القانون ينص على أنه إذا جلس واحد منا، فلا لزوم لأن يتقدم الجرسون، «متمسحا» لمسح الطاولة، أو «تطويقها» في حركة الانتظار التقليدية إياها … لعل الزبون «يحس» من نفسه، فيطلب «اللكوم» أو السكر زيادة أو واحد مضبوط على الريحة!

أقول كنا نجلس في هذه القهوة متمتعين بحصانة «جرسونية» وكنا نبني في مناقشاتنا مستقبلا من الآمال. وأذكر أن أحد زبائن القهوة الذين كانوا يترددون عليها كثيرا دون أن تكون لديهم مثل «حصانتنا» واسمه السيد «بحري»!

أذكر أن شيئا من الصداقة تولد بينه وبيننا. فكان بين وقت وآخر، يعطف على بعضنا بسيجارة، أو يحتم أن يطلب لنا طلبا، «واحد قهوة مثلا أو فنجان شاي!».

وقد رأى صاحب القهوة (اليوناني) أن يستفتي السيد بحري في أمرنا، فسأله عنا وعن أحوالنا، وما السبب في معيشة «العواطلية» التي نحياها دون أن نشق لنا طريقا في عباب هذه الحياة؟ فلما عرف منه أننا طائفة من الممثلين، وأنه لا ينقصنا إلا الحصول على مبلغ ضئيل لا يتعدى العشرة جنيهات، أقول لما وقف الرجل على مطلبنا هذا، أظهر منتهى الاستعداد للدفع! فكان ذلك مفاجأة عجيبة لم نكن ننتظرها. وقد أنعم كل منا فكره في تأويل هذه الأريحية التي نبتت مرة واحدة، كما يتفجر الينبوع العذب من الصخر الجدب.

اصرف ما في الجيب

قال أحدنا: «إن هذا العمل من الخواجة بشير بالنجاح، لأنه رجل يعرف من أين تؤكل الكتف، ويستحيل أن يغامر بدفع رأس المال، إذا لم يكن واثقا من استرداد مبلغه هذا أضعافا مضاعفة». أما أنا فقد ذهبت في التفسير مذهبا خالفت به الجميع، فمع اغتباطي بتساهيل الله، على يدي الخواجة صاحب قهوة متروبول، قلت لإخواني بأنني لا أرى دافعا لتصرف الخواجة إلا أنه «طهق» من «خلقتنا». فأراد أن يتخلص منا بأي طريقة، مهما كان فيها من تضحية مالية، وسواء أكان هذا هو السبب أم ذاك، فقد وصلنا إلى بغيتنا وحصلنا على مبلغ الجنيهات العشرة. وكم كان ظريفا من بعض إخواننا أن يقترحوا «توزيع» المبلغ علينا، وبلا فرقة، بلا دياولو، وليحيا «اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب!».

ودون أن أطيل عليك أقول إن هذا المذهب لم يجد أنصارا كثيرين. فتقرر أن نستعمله في الغرض الذي دفع من أجله، وبدأنا نؤلف فرقتنا من العبد لله، والأساتذة عزيز عيد، وأمين عطا الله، وأمين صدقي، واستيفان روستي، وحسن فايق، وعبد اللطيف جمجوم، والسيدة روز اليوسف وغيرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤