الفصل الخامس

كشكش بك

خيال …!

في إحدى الليالي، استلقيت على الفراش واستعرضت أمام مخيلتي كل ما مر بي من تجارب حلوها ومرها، ووقفت أمام الكثير منها استخلص ما تبعها من خير أو شر، فإذا بي أجد مواضيع هي الترجمان الصادق لتلك الحياة التي نقضيها في هذا العالم المضطرب.

وفي فجر هذه الليلة، ولست أدري أكنت في تلك اللحظة نائما أم مستيقظا، وإنما الذي أؤكده أنني رأيت بعيني رأسي خيالا كالشبح، يرتدي الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقلت في نفسي. ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد رواياتنا.

ولم أتوان في نفس الدقيقة، وكانت الساعة الخامسة صباحا، فقمت من فراشي وأيقظت أخي الأصغر، وكان لي خير عون وساعد، ورحلت أملي عليه هيكل الموضوع الذي صممت على إخراجه، وكان عبارة عن أن عمدة من الريف وفد إلى مصر، يحمل الكثير من المال فالتف حوله فيها فريق من الحسان أضعن ماله وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته يعض بنان الندم، ويقسم أغلظ الإيمان أن يثوب إلى رشده، وألا يعود إلى ارتكاب ما فعل.

ولما أشرف الخواجة روزاتي صاحب ملهى «الأبيه دي روز» على الإفلاس وكاد يقفل «الملهى»، تقدمت إليه أرجو تأجيل «النطق بالحكم» بضعة أيام، حتى أضع رواية قد تكون الداء الشافي لداء الكساد!!

وقبل الرجل ما اقترحت عليه، فكان أن وضعت أولى روايات كشكش بك، وكانت عبارة عن اسكتش فكاهي، يستغرق عشرين دقيقة، موضوعه كما ذكرت، وجعلنا اسم الرواية «تعالي لي يا بطه».

كشكش بك لأول مرة!

وفي ظهر يوم الافتتاح كنا نجري البروفة النهائية، وقد أحسست حينذاك أن روايتي هذه تعتبر مثلا أعلى في السخافة، وأنني لو كنت بين الجمهور أثناء تمثيلها لما وسعني إلا أن ألعن خاش المؤلف، والمؤلف، بالطبع، هو أنا والمخرج برضه أنا، والملحن … أنا أيضا! فقلت: آه يا وقعتي يا أنا، وقبضت على قلبي بيدي من هذه اللحظة إلى مساء اليوم المذكور، حيث قصدت إلى المسرح أسير هائما وساقاي لا تستطيعان حملي.

وجلست أمام المرآة أصنع لنفسي «مكياجا»، وأضع للمرة الأولى «ذقن كشكش بك». وانتهيت من مهمتي ونظرت إلى شكلي في المرآة، ولا أنكر عليك يا سيدي القارئ أنني شاهدت وجها «فنيا» يطابق الشخصية التي رسمتها في مخيلتي … شخصية العمدة الريفي الساذج الذي أشاب الزمان قرنيه، وما تزال أشعة السحر تبدو في عينيه.

وتوكلنا على الله ورفعنا الستار، واقتحمت المسرح بجبتي وقفطاني، ويا قاتل يا مقتول!! كنت مضطربا بالطبع، وكان يلوح في خيالي سوء المصير إذا ما قدر لنا السقوط والفشل. إذ أين أذهب؟ ومن أين لي الأربعون قرشا التي أتقاضاها عن كل ليلة، والتي تدفع عني هموم الزمان وغوائل الحدثان؟

في الزوغان السلامة

وانتهى التمثيل، وما أدري والله العظيم على أي حال انتهى؟ وهل نجحت الرواية أم سقطت؟ وهل نالت القبول من مديرنا العزيز الخواجة روزاتي، أما سببت له امتعاضا فوق ما كان يشعر به من «اشمئناط»؟!

القصد. رأيت أن أرجئ الاستفسار عن ذلك كله إلى اليوم التالي، فلبست معطفي ورفعت «ياقته» أخفي بها أطراف وجهي عن الأعين، وتسللت على مهل متخذا طريقي إلى الخارج دون المرور على الخزينة … على غير العادة طبعا، لقبض الأربعين صاغا اليومية.

وفي اللحظة التي كدت أسلم فيها ساقي للريح عند الباب الخارجي، لمحتني وكيلة الملهى — وكانت صديقة للخواجة — فصرخت تناديني، وكبل الوهم قدمي فوقفت في مكاني دون حراك، وقلت: آخ … جالك الموت يا تارك … التياترو!!

وجاءت إلي الفتاة تهنئني بحرارة، وتحدثني أعذب حديث، وهي تبتسم ابتسامة الحبور والانشراح!! ولكنني مع ذلك كنت أشك في الأمر، وأخشى أن تكون المسألة «تأليس في تأليس»، وأن هذه التهنئة التي غمرتني بها ربما كانت تخفي وراءها «التهزيء التام والطرد الزؤام»!

إلا أنها جذبتني من يدي، فمشيت خلفها متثاقلا إلى أن وجدتني وجها لوجه أمام الخواجة «روزاتي»، الذي استقبلني متهللا هاشا باشا وصافحني قائلا: «أنا ما كنتش أظن أبدا أنك ممثل عظيم بالشكل ده!! أنت هايل قوي، مبروك مبروك!!».

فقلت له: «العفو … يا خواجتنا بس إيدك على جيبك بقى واتحفني، بالريالين الفينو!! الله يطمنك».

ووضع الرجل يده في جيبه وأخرج ستين قرشا ناولني إياها وهو يقول: «أنت ماهيتك من النهارده كده!!».

ووضعت المبلغ في جيبي وقابلت استيفان روستي خصيصا لأقول له: «ما حدش أحسن من حد. والروس ساوت بعضها يا قفا!!».

رواية جديدة كل أسبوع

ولما اقترب الأسبوع الأول من نهايته، كنت قد أعددت رواية جديدة بالريالات الثلاثة التي ارتفعت إليها ماهيتي اليومية!!

وفي هذه الرواية ارتقى كشكش بك عمدة كفر البلاص، وصار يستصحب في تنقلاته أمينا خاصا — هو «ادلعدي» زعرب (شيخ الغفر)، وقد أسندت هذه الشخصية إلى السيد عبد اللطيف المصري.

ونجحت هذه الرواية كما نجحت سابقتها، ورأى صاحب الملهى بعد ما شاهد من ازدياد الإقبال، أن يرتقي بالنظام بعض الشيء، فجعل رسم الدخول خمسين مليما بعد أن كان الدخول بلا رسوم. وكتب الله لنا «الفتوح» فلم يقف مرتبي عند القروش الستين. إذ اتفق معي صاحب الملهى على أن يكون لي إلى جانب الماهية، حصة تعادل خمسة في المائة من الدخل، نظير التأليف والإخراج، فأقبلت الدنيا ترفرف بجناحيها، وبدأت «أحمر» عيني للبؤس القديم الخالي وأضربه بالشلوت كمان!

وأخرجت روايتي الثالثة باسم «بكره في المشمش»، وبعدها وقفت كل أوقاتي على العمل وحده، أخرج من المسرح ليلا إلى المنزل توا، ومن المنزل صباحا إلى المسرح، لا أعرف للراحة طعما، ولا لمباذل الحياة معنى، وأصبحت الرجل الكامل الذي يعرف قيمة الوقت. فلا يفرط في دقيقة منه دون عمل يؤديه فيه.

خصصت حياتي للفن!

وفي ذلك الحين كان التمثيل في نظر الخاصة وباء يهربون منه ويبتعدون عنه، ولكني شاهدت ظاهرة غريبة قوت من عزيمتي وشدت أزري فيما عولت عليه! هذه الظاهرة أنني كنت في أحد الأيام جالسا في محل (جروبي) القديم، وتصادف أن كان يجلس إلى الطاولة المجاورة لي اثنان تبدو عليهما الوجاهة التامة، ويخيل للرائي أنهما من طبقة الباشاوات، أرباب المعاشات. وكان أحدهما قد راقت له الخلوة فراح يقص على صاحبه نبأ سهرته بالأمس، ويروي له ما شاهده قائلا: «… وبعدين يافندم راح على المسرح عمك كشكش بك ده … وهات يا ضحك».

وفي يوم آخر كنت أسير في حي الأزبكية، الله يرحم أيامه، فلقد كان في ذلك الحين باسم الله ما شاء الله!!

أقول كنت أسير، فإذا بي أسمع رهطا من النسوة ترتفع أصواتهن بإنشاد لحن من روايتي «بلاش أونطه»، وشعرت بعد ذلك أنني كلما مررت في طريقي، أرى الأصابع تمتد بإشارة نحوي، بينما الأفواه تردد: «هذا كشكش بك»!

في دار القرعة العسكرية

كنت قد بلغت سن الاقتراع قبل ذلك الحين بثمانية أعوام، فدفعت البدلية وعوفيت من الخدمة العسكرية. وبعد الأعوام الثمانية وقع شيء من الجفاء بيني وبين أحد الجيران، فما كان منه إلا أن أبلغ إدارة القرعة أنني هارب من التجنيد، فاستدعيت في يوم الفرز العام، وذهبت لأثبت سوء نية هذا الجار، وأقدم البرهان القاطع على دفعي للبدلية.

فلما بلغت المكان ورأيت الزحام، انتحيت جانبا ووقفت أنتظر دوري. فسمعت أحد الجنود يهتف باسم (نجيب الريحان)، فأجبت النداء على اعتبار أنه ربما نسي الياء الأخيرة في (الريحاني).

وقادني الجندي إلى إحدى الغرف، وقد كنت على يقين أنني واجد فيها مجلس القرعة المؤلف من فريق من الضباط، ولكن شد ما كانت دهشتي حين ألفيت الجلوس رهطا من المشايخ المعممين، وليس بينهم حتى ضابط واحد يخزي العين، سلام عليكم … عليكم السلام.

وتفرس في أحد المشايخ، وأشار لي بالجلوس فلما جلست قال لي: «اقرأ الربع الأخير من سورة الأعراف!».

أعراف … وأنا منين أعرف سورة الأعراف يا سي الشيخ؟

قال: «أمال طالب المعافاة من القرعة العسكرية وبتدعي أنك حافظ القرآن ليه؟».

وحقق المشايخ ودققوا، فاتضح أن هناك فقيها اسمه (الشيخ بخيت الريحان)، وأنه حين طلب للقرعة التمس المعافاة لأنه من حملة القرآن الكريم، فجيء به للامتحان. وقد اختلط الأمر على الجندي وقت النداء فنطق بكلمة (نجيب) بدل بخيت.

وانتهى هذا الموقف الحرب والحمد لله بسلام، بعد أن قدمت الدليل القاطع والبرهان الساطع على أنني سبق أن دفعت البدلية بالكمال والتمام منذ ثمانية أعوام.

٣٠ جنيها في اليوم

ولما رأى الخواجة «روزاتي» صاحب الملهى ذلك الإقبال المتزايد، والتهافت المتوالي، والرقي في «صنف المتفرجين» رأى أن يتبع قاعدة العرض والطلب التي يفهمها «المدردحون» من مهرة التجار، فبعد أن كان رسم الدخول خمسين مليما للعموم، أصبح على درجتين أولى بخمسة عشر قرشا وثانية بعشرة قروش.

ولقد أثبت هذا الارتفاع بعد نظر روزاتي، فإن الإقبال كان كما هو مع تضاعف الإيراد بطبيعة الحال.

وهناك ظاهرة لطيفة بدت للعيان، ذلك أن موعد افتتاح الملهى كان الساعة التاسعة من كل مساء، وكان البرنامج يشمل أشياء غير روايتنا، لذلك لم يكن الستار يرفع للتمثيل قبل الساعة الحادية عشرة، وفي هذا الموعد بالذات كانت المقاعد تمتلئ حتى آخرها، أما قبل ذلك فكنا نشاهد المكان شبه «القاع الصفصف» زي أسيادنا البلغاء ما بيقولوا!!

فهذه الظاهرة السارة، أثبتت لصاحب رأس المال، أن العبد لله كان بمثابة البيضة الذهبية، أو المنجم الذي يدر الربح الحلال، فلقد كان الإيراد اليومي لمسرحه يتراوح بين الثلاثين والأربعين جنيها بعد مصروفاته جميعها وهو مبلغ لم يكن أحد يحلم به!!

هذا من جهة مدير المحل، أما من ناحيتي أنا فقد كنت قانعا بما قسم لي، أنظر بعين الرضا إلى ذلك الربح الذي يدخل خزينة الرجل، معترفا بما طوقني به من جميل لست أنساه، وفضل وجب علي أن أرعاه. ذلك أنني على مسرحه ظهرت، وبين جدرانه اشتهرت. وقد أحس مني هذه العاطفة فتوثقت بيننا صلة الود وتمكنت عرى الصداقة، مما كان سببا في مواصلة النجاح.

اجتماع البائسين سابقا

قلت إننا عودنا الجمهور أن نخرج له في كل أسبوع رواية جديدة، وقد كان في ذلك العمل إرهاق لي فلم يكن في طاقتي أن أمثل وأجري البروفات اليومية، ثم أضيف إلى ذلك مهمة وضع الروايات وتأليفها، فلما شعر الخواجة روزاتي بذلك، بادرني برغبته في أن أنتقي مساعدا يعاونني في التأليف، كي أوقف جهودي على التمثيل … فنثرت بين يدي كنانة الأصدقاء القدماء، الذين قاسوا معي العناء، وشربوا وإياي كئوس البؤس والشقاء. فكان أن اخترت من بينهم الأستاذ أمين صدقي. وبانضمامه إلينا أصبحت الفرقة تضم من السادة البائسين السابقين أربعة هم محسوب السيادة وأمين، واستيفان روستي، والواد زعرب الذي هو عبد اللطيف المصري على سن ورمح!!

ولما كانت لكلمتي عند روزاتي قيمتها، فقد رأيت أن أبذل «نفوذي» خي يا خي … في أن أحصل للزملاء الأكرمين على ماهيات ذات شأن يستعينون بها على «قضاء حقوق للعلا قبلهم»!! كما كان يقول الشعراء ويطردون بها كابوس الشقاء القديم. وإنه ليسرني أن أقول بأن مسعاي قد نجح والحمد لله. وإن الأعزاء — بما فيهم استيفان — قد نالوا ما كانوا يشتهون من مرتب مرتفع. وبعدما كان استيفان هو الذي يتوسط لأجلي، انعكست الآية فرددت له جميله يا أفندم وأهي دنيا قلابة …. يوم كده ويوم كده!!

من أجل كشكش بك

ارتفع مرتبي إلى سبعة وعشرين جنيها في الشهر، وقد كان هذا المبلغ رقما قياسيا لم تعهده المسارح من قبل، ولم يصل إليه ممثل في ذلك الحين، الذي كان الجنيه فيه يسوى الشيء الفلاني والشيء العلاني!

ولقد كان الجميع يتحدثون بهذه القيمة ويتنادرون بها في مجتمعاتهم، مما كان محلا للاستغراب من زملائي الأقدمين … أولئك الزملاء الذين أصدروا علي منذ سنوات سابقة لهذا التاريخ حكما — مشمولا بالنفاذ — يقضي بطردي من فرقة أبيض وحجازي!! ليه؟ لأنني لا أصلح للتمثيل بتاتا، ولا أليق للظهور على المسرح … بل ولعل القارئ العزيز يذكر أنني قلت فيما سبق بأن أولئك الإخوان تنبئوا — الله يصبحهم بالخير — بأنني لن أكون في يوم من الأيام ممثلا ناجحا، وأنه خير لي أن أبحث عن مهنة أخرى آكل منها عيش، بدل ضياع وقتي فيما لا فايدة منه ولا عايدة!!

قلت إن مرتبي كان موضع استغرابهم، ولم أقل حسدهم لأنهم بدءوا في ذلك الوقت، وفي ذلك الوقت فقط، يكتشفون مواهبي الرائعة! وفني البديع! وتمثيلي المدهش! بل ويتنبئون لي بمستقبل زاهر وعهد باهر. عيني يا عيني على التنبؤات، التي كانت على طرفي نقيض مع ما سبق أن شرفوني به من تنبؤات … برضه!!

كشكش بك والجنس اللطيف

لم يقتصر نجاح أعمالي على الوجهة العامة، بل كان له أثر شخصي خاص، فقد كنت شابا في مقتبل العمر، قيافة، على سنجة عشرة، أعيش في وسط تغمره الروح الأجنبية. وكل هذه ميزات ترفع من شأن المرء في نظر الكل، ولا سيما الجنس اللطيف. لهذا أصبحت في ذلك الوقت، مطمح الكثيرات من الزميلات وغير الزميلات، ولكنني في هذا الحين قد طرحت الأفكار القديمة ظهريا، وانتويت أن أخلص لعملي وحده، وأن أدع لغيري مداعبات «المعلم» كيوبيد ومناوراته. ذلك ما عاهدت نفسي على انتهاجه إذ ذاك.

وأرجو أن يسمح لي القارئ العزيز أن أشير إلى أنني ما ذكرت هذه الناحية الدقيقة، وهي أنني كنت هدفا لسهام الكثيرات من أعضاء الجنس اللطيف. أقول إنني لم آت على هذه الناحية الدقيقة، إلا لأنبه الأذهان إلى حادثة خاصة لم يئن أوان سردها بعد. وقد كانت سببا مباشر في تغيير مجرى حياتي، وفي إيجاد اتجاه جديد حملني تياره بقوة جارفة. ولست أريد التبسط في شرحها حتى يجيء دورها. فمهلا وإن غدا لناظره قريب!!

وأعود فأقول إن أعمالنا في ملهى الأبيه دي روز نجحت نجاحا متواصلا. وإن الإيراد الصافي الذي كان يتقاضاه المسيو روزاتي كان يتراوح بين الثلاثين والأربعين جنيها في اليوم الواحد. وقد كان هذا النجاح الفذ داعيا أصحاب الملاهي الأخرى إلى أن يحذوا حذو «الأبيه دي روز» وينسجوا على منواله، فراحوا يتلمسون السبل إلى ذلك، ويجهدون أنفسهم في الوصول إلى ما وصل إليه مسرحنا. وكان في مقدمة تلك الملاهي (كازينو دي باري) الذي كانت تديره إذ ذاك مدام مارسيل لانجلو «مكان سينما استديو مصر (ريتس الآن)».

وجاءت مدام مارسيل بالزميل القديم الأستاذ عزيز عيد، وجعلته على رأس فرقة ظلت تواليها بالعناية والاهتمام، ولكن للأسف لم تسفر هذه التجربة عن شيء من النجاح قل أو كثر!! ولأسباب مجهولة باء مسرح الكازينو بالخسران المبين.

ظهور الكسار

وراحت مدام مارسيل تفتق ذهنها في ابتكار الأساليب المتنوعة، فتناولت أشخاص الممثلين بالتغيير والتبديل، وفعلت مثل ذلك مع المديرين أيضا، إلى أن هداها التوفيق إلى الأستاذين مصطفى أمين وعلي الكسار. وهنا فقط بدأت فرقة (كازينو دي باري) تحتل مكانا هاما في عماد الدين، كما بدأ نجم الأستاذ الكسار يتلألأ في ذلك الحين إلى جانب نجمي، وأوجدت الظروف من الفرقة — التي كان على رأسها — منافسا قويا لفرقتنا الناجحة.

ونترك ذلك جانبا فنقول إننا أخرجنا مع الأستاذ أمين صدقي روايات «خليك تقيل» و«هز يا وز» و«اديله جامد».

وأظن القراء الأعزاء يذكرون ما سبق أن قلته، من أن معدل الرواية كان أسبوعا واحدا نخرج بعده الرواية الجديدة.

ولكن النجاح الكبير الذي واجهناه أغرانا بمدها إلى أسبوعين لكل رواية، ومع ذلك فقد كان الجمهور يوالينا بإقباله وتشجيعه، اللذين تعودناهما منه منذ البداية. وبينما كنا على وشك إخراج روايتنا الرابعة، انضم إلينا زميلنا العزيز الأستاذ عزيز.

وقد ذكرت فيما قبل أن هناك حادثا كان سببا في تغيير مجرى مستقبلي، وقد مررت به مرورا ووعدت بالعودة إليه هذا الحادث هو كما يلي:

لم يكن النجاح الذي بلغناه يروق في أعين الكثيرين من حسادنا، هؤلاء وجدوا مرتعا خصيبا فيما كان بيني وبين مسيو روزاتي من صداقة، نبتت على أثر ارتباط مصالحنا المشتركة. ولذلك بدأ أولئك الحساد يعكرون الجو بيننا ويتلمسون أسباب الشحناء، باذلين في ذلك جهودا غير محمودة، إلى أن وقفوا على ناحية الضعف في الرجل، فضربوا على وتر حساس استطاعوا بواسطته أن يتغلغلوا إلى دخيلة الرجل، ويوهموه أنني أناوئه فيما استطاب من صداقة خاصة للبعض، ويعلم الله أنني بريء من هذا الفعل، وأنني كنت أعرف للرجل جميله علي، فلم تحدثني نفسي يوما بنكرانه.

وأحسست أن العلائق بيننا بدأت تتراخى من ناحيته، وأن الدسائس وجدت طريقا إلى قلبه، فلم أتوان في مفاتحته في الأمر، ولكنه أنكر وجود شيء من سوء التفاهم … ولاح لي من هذا الإنكار أنه كان إلى الإثبات أقرب. فقلت له مادام الصفاء بيننا على حاله فأريد كبرهان قطعي أن ترتفع ماهيتي إلى ثلاثين جنيها في الشهر، أي أن أحصل على ثلاثة جنيهات فقط كعلاوة شهرية، وهو مبلغ ضئيل بالطبع بالنسبة لما كان يربحه، ولكنني ما كدت أتقدم إليه بهذا الطلب حتى رفضه بشكل أثارني، وزاد على رفضه تأنيبا لم أتحمله، وتعريضا لم أجد معه بدا من إنذاره بترك العمل بعد مهلة أسبوع آخر.

ويظهر أنه فهم إنذاري هذا على غير حقيقته، ظنا منه أنها مناورة أطالعه بها، وأنني لن أجد مع غيره عملا كالذي كنت أباشره وإياه، لذلك أجابني بأن الباب مفتوح واللي مش عاجبه … مع السلامة!!

لم تكن مدة التعاقد بيننا قد انتهت بعد، وكانت الشروط تقضي بدفع مائة جنيه غرامة لكل من يخل بما ورد في العقد، ومع ذلك قررت الإخلال بعد مهلة الأسبوع الذي ضربته له، كي يجد في أثنائه من يحل محلي في مسرحه، ومادام الباب مفتوحا كما يقول فلأعمل أنا على قفله بالضبة والمفتاح؟!

نغنغة

ولقد شجعني على إتيان ما فعلت، أن مفاوضة كانت تجري في ذلك الحين بيني وبين المرحوم الخواجة «ديموكنجس» على أن أتفق معه على العمل في مسرح جديد اسمه «الرينسانس» في شارع بولاق «فؤاد الأول» (٢٦ يوليو الآن)، وموقعه في المكان الذي يشغله اليوم محل (إخوان شملا).

وانتهى الاتفاق بيني وبين مسيو كنجس على أن أتناول مرتبا شهريا قدره مائة وعشرون جنيها. وقبضت منه بالفعل عربونا يعادل ماهية نصف شهر، أي ستين جنيها، فكانت هذه المرة الأولى التي أقبض فيها من عملي مثل هذا المبلغ الضخم دفعة واحدة!!

وبعد نهاية المهلة المعطاة إلى الخواجة روزاتي، انتقلت بحول الله وقوته إلى تياترو «الرينسانس»، وبدأت مع الفرقة نجري بروفات فيه لا نلوي على شيء.

وبدأ مديرنا القديم يشعر بالخسارة التي حلت به، وراح يعض بنان الندم على ما جره إليه دس الدساسين، وأكاذيب المنافقين. فماذا هو فاعل إذ ذاك؟

وما الطرق الذي يسلكه؟

تسجيل اسم كشكش بك

راح يجرنا إلى المحكمة المختلطة مطالبا إيانا بتعويض قدره ألف جنيه مصري، وبعدم استعمال اسم «كشكش بك» باعتباره صاحب المحل الذي ابتكر هذا الاسم. وبعد مرافعات ومداولات أخذت دورا كبيرا في ساحة المحكمة، صدر الحكم، فإذا هو يقضي برفض طلبات المدعي مع إلزامه بدفع مبلغ المائة جنيه المنصوص عليها في العقد المحرر بيني وبين المسيو روزاتي. وزاد هذا الحكم أن سجل لي في حيثياته اسم «كشكش بك» بصفتي أول مبتكر له، وأول مؤلف استعمله. وأسقط في يد الرجل، وكان ذلك نهاية ملهى «أبيه دي روز».

وتألفت فرقتنا الجديدة في «الرينسانس» من السادة إياهم الذين كانوا دعامة أبيه دي روز، وهم الأربعة الكرام «أمين صدقي واستيفان روستي وعبد اللطيف المصري والعبد الفقير، وانضم إلينا لأول مرة عبد اللطيف جمجوم.

وبدأنا عملنا فتبعنا جمهورنا الذي تكون في الملهى السابق، وتضاعف الإقبال عن ذي قبل وكتب الله لنا ما كنا نرجو من نجاح وتوفيق.

وحين كنا نعد روايتنا الأولى، تناقشنا في اختيار الاسم الذي نطلقه عليها وانتهينا إلى قبول اقتراح أحدنا، وهو أن نجعل الاسم أداة لإغاظة خصمنا الذي رفع علينا الدعوة في المحكمة، ولم يكن الحكم قد صدر إذ ذاك — وهذا الاسم هو «إبقى قابلني!!».

ولعله من المناسب هنا أن نقول إن تلك التسمية كانت بداية لاكتشاف جديد في عالم التمثيل، وهو مراعاة «التأويز والتريقة» على الغير، باستعمال اصطلاحات وأمثال يذهب الخصوم في تفسيرها مذاهب شتى: ويطبقونها على ما يكونون فيه من حالة نفسية. ولقد انتشر هذا (الاكتشاف) انتشارا سريعا حتى صار قاعدة، أو تقليدا أو دستورا للفرق، حين اختيار أسماء رواياتها. إذ كانت كل واحدة تراعي في هذه التسمية أن ترد ردا محكما على الاسم الذي تكون الفرقة الأخرى قد اختارته لرواياتها الجديدة … وهلم جرا.

واستمرت رواية «إبقى قابلني» تمثل شهرا كاملا دون أن يقل إقبال الجمهور أو ينقص إيراد الشباك، مما حمل «المسيو ديموكنجس مؤجر الملهى» على تمام الثقة بأننا نسير إلى الأمام، وبأنه كان على حق حين رغب في الاتفاق معنا.

وبعد شهر أخرجنا رواية «كشكش بك في باريس»، فكان نصيبها من النجاح نصيب سابقتها. وأخذ اسم كشكش بك ينتشر بين الطبقات، ويسري فيها مسرى الكهرباء، حتى جرى على كل لسان في الدور والقصور والميادين والأزقة. ولم يعد أحد في مصر كلها قاصيها ودانيها لم يردد هذا الاسم، بل ويبتسم حين يطرق سمعه.

وكانت ثالثة رواياتنا «وصية كشكش» فلم تقل من حيث النجاح والفوز عن سابقتها.

عطلة إجبارية

وفي شهر مايو سنة ١٩١٧ انتهت مدة التعاقد بين الخواجة ديموكنجس وصاحب الملك فلم يشأ ديمو أن يجدده، بل رأى بثاقب بصره أن يستقل بمسرح جديد يكون ملكا خاصا به، ففاتحني في الأمر، ووافقته على وجهة نظره، لأن قيمة الإيجار الذي يدفعه كانت كبيرة جدا. وراح ديمو يبحث عن المكان الجديد فوقع اختياره على «قهوة» في شارع عماد الدين، مقامة على قطعة من الأرض يمتلكها البنك العقاري المصري، وبعد المعاينة اللازمة اتفقنا على احتلالها وإقامة مسرح مكانها.

وتقرر أن يبدأ العمل فورا في الهدم والبناء وقدرت المدة اللازمة لذلك بأربعة أشهر قضيناها معطلين عن العمل.

ولكن كانت جيوبنا والحمد لله تحوي ما يكفينا ألم الفاقة وشظف العيش الذي قاسيناه في أيامنا الخالية … الله لا يرجعها ولا يورينا وشها!

وانتهت المدة المقررة فإذا نحن أمام مسرح كامل البناء وإن كان من غير سقف، ومع ذلك تقرر استئناف العمل، ولنكتفي بتغطية الصالة بالقماش حتى يحلها الحلال، ثم ننظر في موضوع وضع السقف اللازم!!

وجاء دور اختيار الاسم الذي نطلقه على مسرحنا هذا، ففكرت في اختياره على أن يكون معروفا للمصريين والأجانب على حد سواء، لأني لاحظت أن أولئك الأخيرين بدءوا يتهافتون (كزبائن) مستديمين لفرقتنا، بحيث أصبح الإقبال موزعا بين الفريقين (المصريين والأجانب) على حد سواء. ووقع اختياري على اسم الأجبسيانة فأطلقناه على مسرحنا هذا، وقد كان افتتاحه مبدأ في التاريخ الجديد لشارع عماد الدين. وبعد قليل من الزمن كان اسم مسرحنا يطغي على اسم الشارع لامتداد سمعته واتساع نطاق شهرته.

وهنا أرى أن أعود قليلا إلى موضوع بناء مسرح الأجبسيانة فأقول إن المال الذي كان المسيو كنجس يملكه قد نضب قبل أن ينتهي العمل، فاضطررت أن أمده بما بقي لي من «شقا العمر كله» حتى أصبحت على الحديدة «وعدنا إلى ما كنا فيه من البؤس إياه».

ومن فات قديمه تاه!!

ذكريات الماضي القريب

في هذه الأيام ساقت لي الأقدار فتاة فرنسية ما تزال ذكراها إلى اليوم عالقة في ذهني لا ينسيني إياها كر الغداة ومر العشي. هذه الذكرى الجميلة، أستميح القراء في أن أقف وإياهم إزاءها برهة.

كانت «لوسي دي فرناي» — وهذا هو اسمها — صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، وساعدا يشد أزري ويشدد عزمي. ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها وعهد صداقتها.

ولأذكر لك أيها السيد القارئ مثلا من أمثلة الحياة التي كنت أحياها مع «لوسي».

وصلت إلى القاهرة إحدى الفرق الإفرنجية، وكانت تعمل في مسرح الكورسال، (الذي بنيت في موضعه عمارة عدس بشارع عماد الدين الآن). وكنت شغوفا بمشاهدة تمثيل تلك الفرق، وقد كان في مكنتي كممثل — أن أطلب تصريحا مجانيا للدخول، يعني «بون» بلغة الفن!! ولكنني كنت أرى في ذلك ما يخجل، وكنت أفضل أن أدفع ثمن التذكرة مهما كلفني ذلك.

وفي إحدى الليالي أعلنت الفرقة عن تمثيل رواية كنت شغوفا — أنا ولوسي — بمشاهدتها، ولم أكن أمتلك في هذه الليلة غير اثني عشر قرشا، فاتفقت وفتاتي على أن نحتل مقعدين في أعلى التياترو، وكان ثمن التذكرة خمسة قروش، فدفعت نصف الريال ولم يبق إلا نصف فرنك. وكان الجوع قد أخذ من لوسي كل مأخذ، وهداها تفكيرها إلى خطة قررت تنفيذها. فقادتني إلى قهوة قريبة، وهناك طلبت (واحد شاي). فلما جاء الجرسون بالطلب، شربت الشاي من غير سكر، ثم فتحت حقيبتها ووضعت فيها جميع قطع السكر التي أحضرها الجرسون!

أما الحكمة في ذلك فهي أن الفتاة كانت قد دبرت في المنزل بعض الخبز وقليلا من الشاي، ولم ينقصها إلا السكر!

فلما انتهى التمثيل وقصدنا إلى منزلنا، أعدت الشاي مع ما تهيأ لها من السكر الذي ملأت به حقيبة يدها في أول الليل، وجلسنا نتناول عشاءنا «عيش وشاي وبس!».

فاتحة سعيدة لعهد سعيد

ونعود إلى العمل فأقول إن مسرح «الإجبسيانة» أعد بالفعل، بس من غير سقف … فجمعت الفرقة بعد أن أعددت مع الأستاذ أمين صدقي أولى الروايات التي أزمعنا إخراجها وهي رواية «أم أحمد».

وقد انضم إلى الفرقة في هذه الأثناء الأستاذ حسين رياض وفي يوم ١٧ سبتمبر سنة ١٩١٧، افتتحنا مسرح الإجبسيانة، وبدأنا عملنا فيه بنجاح كان فاتحة سعيدة.

وإن شئت أن أحدثك عن الإقبال الذي كانت تتمتع به فرقتنا من الجمهور، فيكفي أن أقول لك إن شباك التذاكر كان يقفل قبل موعد التمثيل بأكثر من ساعة لنفاد التذاكر.

وفي أواخر عام ١٩١٧ استأثرت رحمة الله بالفقيد الكريم الشيخ سلامة حجازي، فامتلأت قلوبنا حزنا عليه، ورأيت أن الواجب يدعونا جميعا إلى إعلان الحداد العام، وتعطل العمل في المسرح ليلة بهذه المناسبة. ولكن المسيو كنجس رفض أن يجيبنا إلى تلك الرغبة قائلا إنه يكفي لإعلان الحداد وقف التمثيل بضع دقائق!!

وانتهى هذا التضارب في الرأي إلى انسحابي من الفرقة نهائيا، وتصميمي على التضحية بعملي مهما كانت النتيجة.

وأسند صاحب التياترو دوري في رواية «دقة بدقة» إلى الأستاذ حسين رياض، وسار العمل في (الإجبسيانة) بعد انسحابي بضعة أيام لا تتجاوز الأسبوع، ثم تدهورت الفرقة وانفض الناس من حولها، واضطر المسيو كنجس إلى إقفال مسرحه، والعودة إلى الدخول معي في مفاوضات جديدة.

لم تكن تعجبني خطة كنجس في إدارة الفرقة، ولذلك عرضت عليه اقتراحا يتضمن كف يده عن الإدارة، بل وعن كل شيء في نظير أن يتقاضى ٣٠٪ من الإيراد يوميا! فقبل، ومن تلك اللحظة بدأ تاريخي في إدارة الفرقة التمثيلية.

موازنة الميزانية في شهرين

جردت ما في جعبتي من متاع، فإذا الخزينة لا تحوي غير خمسين جنيها فقط لا غير!! ومع ذلك ألفت الفرقة وقبل الممثلون بارتياح كبير أن يعملوا تحت إدارتي، فأعددنا رواية «حماتك تحبك» من وضع الأستاذ أمين صدقي. وبعدها رواية «حلق حوش». وبعد شهرين هما — نوفمبر وديسمبر — عدت إلى جرد الخزينة للاطمئنان على حالة الاحتياطي، ولكنني رأيت رأس المال كما كان … خمسين جنيها بلا زيادة ولا نقصان! أي أنني استطعت «موازنة» الميزانية بأن جعلت الإيرادات مساوية للمصروفات، وكان الله يحب المحسنين!

لكن ده مش الغرض يا محترم! إحنا عاوزين غير كده.

نهايته. فكرت كثيرا في طرق الإصلاح. فرأيت أن «كازينو دي باري» المجاور لنا، والذي تديره مدام مارسيل، «لانجلو»، ويعمل به الأستاذ علي الكسار، أقول رأيت بعد البحث الدقيق أن هذا الكازينو قد احتكر إقبال الجمهور، الذي كان يقصده زرافات ووحدانا ويملأ مقاعده ومقاصيره. ما العمل إذن؟

فلأوقف التمثيل في مسرحي ليلة أمضيها بهذا الكازينو لأدرس عن كثب علة هذا الإقبال وسببه.

لم أتوان لحظة في تنفيذ تلك الخطبة، فقصدت في الحال إلى دي باري وقضيت به ليلة كاملة (كمتفرج)، فأدهشني أن أرى أن كل ما هناك عبارة عن (استعراض) يغلب فيه العنصر الإفرنجي، وتتخلله بضع مواقف فكاهية يظهر فيها الأستاذ علي الكسار.

لم تكن تلك الاستعراضات تحوي موضوعا ما. ولا معاني خاصة، ولكن كانت فخامة المناظر وعظمتها، و«تابلوهات» الرقص … هي كل ما يشتمل عليه البرنامج! يا لله!! مادام الأمر كذلك، فلماذا أتعب نفسي «وأشغل مخي» في الإتيان بالموضوعات، والبحث عن الروايات ذات المغزى. وما دام الجمهور يستريح ويقبل على النوع الاستعراضي فماذا يمنع أن نقدم له ما يشتهيه؟

أولى رواياتنا الاستعراضية

صممت بعد هذه السهرة على عمل رواية استعراضية، على شرط أن يكون العنصر المصري فيها غالبا على الإفرنجي، وأطلعت زميلي الأستاذ أمين صدقي على هذه النية. وفي الحال وضعنا «هيكل» رواية «حمار وحلاوة»، وبدأ الأستاذ أمين يضع أناشيدها على أوزان موسيقية مطروقة، بينما جعلت كل همي في ترتيب المناظر، و«توضيب» الستائر وإمداد الفرقة بما ينقصها من عناصر الرقص والإنشاد.

انتهت الرواية وأجرينا بروفاتها اللازمة، ورفعنا الستار عنها في أول ليلة، بعد أن «خرشمت» صحة الاحتياطي، وتلفت أمله وأنزلته من رقم الخمسين إلى الصفر، وأصبحت قبل رفع الستار … إيد ورا … وإيد قدام! فإما إلى الصدر، وإما إلى القبر. وأهي تخريمه يا صابت يا اتنين عور!!

كان إيراد الليلة الأولى ٣٥ جنيها فقط. إنما الذي شعرنا به هو الاستحسان العام الذي قوبلت به الروايات من الجمهور وقد كان هذا الاستحسان أقوم إعلان لنجاحنا. فقد كان الإقبال يتزايد يوما عن آخر. ويكفي أن أقول لك بأن الخزينة عمرت في نهاية الشهر الأول، وقفز رقم الصفر الذي كان يحتلها إلى ٤٠٠ جنيه.

لم يكن النجاح مقتصرا على الناحية المادية، بل هناك نجاح أدبي آخر، ملأ نفسي سرورا وقلبي انشراحا، ذلك أنه في إحدى الليالي طرق باب المسرح طارق، وجيء به إليّ، فإذا هو أستاذي القديم (الشيخ بحر) مدرس اللغة العربية، الذي سبق أن قلت إن الفضل يعود إليه في تدريبي على إلقاء المحفوظات العربية في المدرسة بطريقة خطابية مقبولة.

جاء أستاذي الشيخ بحر يهنئني بعد مشاهدته الرواية، ويفاتحني بما شمله من سرور بنجاح تلميذه. وأقسم أيها السادة أن تهنئة الشيخ كانت عندي أكبر من مبلغ الأربعمائة جنيه التي عمرت بها خزانتي إذ ذاك.

أمين صدقي يترك الفرقة

كان الأستاذ أمين صدقي يتقاضى مرتبا شهريا قدره ستون جنيها، ولكنه بعد أن شاهد ذلك الإقبال المنقطع النظير وهذا الإيراد الضخم، رأى أن يملي علي شروطا جديدة فجاءني مطالبا بالاشتراك معي في الإيراد مناصفة بدل أن يتناول مني أجرا! دهشت لذلك طبعا وأجبته بأنني أعارض في ذلك، وإن كنت لا أمانع في رفع مرتبه إلى الدرجة المناسبة.

وتمسك كل منا بوجهة نظره. فأضرب الأستاذ أمين عن الكتابة، حينما طلبت إليه أن يبدأ في وضع الرواية الثانية على غرار «حمار وحلاوة» ….

واضطررت إذ ذاك أن أبحث عن شخص آخر يقوم بمهمة وضع الأزجال. وأعلنت فعلا عن حاجتي هذه إلى كثيرين ممن حولي، فتقدم البعض لأداء هذا العمل. وأذكر من بينهم الأساتذة حسني رحمي المحامي والأستاذ إميل عصاعيصو، وقد كان ذلك أول عهدي به. وكذلك جاءني زميل قديم ممن كانوا معي في البنك الزراعي هو المسيو جورج. ش.

فقلت للأخير إنني أرغب في وضع أنشودة تلقيها طائفة من المرابين «الفايظجية» وقانا الله وإياكم شرورهم!!

وفي اليوم التالي حضر السيد (جورج) وأطلعني على زجل ظريف وقع مني موقع الاستحسان. فسألته: «أنت حقا مؤلف هذا الزجل؟». وأجاب بالإيجاب. فقلت: «إذا كان هذا صحيحا فأنا أعينك في الحال …».

إلا أنه لم يكد يغادر غرفتي حتى دخل صديق لي أكتفي بأن أرمز لاسمه بحرفي (ت. م)، وقال إن واضع الزجل ليس جورج. ش، ولكن صديق له اسمه (بديع خيري)، وكل ما هناك أن اتفاقا عقد بين الاثنين (بديع وجورج) مضمونه أن يتخصص الطرف الأول في التأليف، ويقوم الطرف الثاني بعملية البيع. وزاد الصديق على ذلك أن في استطاعته أن يعمل على فض هذه الشركة الوهمية، وأن يتصل بالمؤلف مباشرة.

أول اتصال بصديقي بديع

واهتممت بما أبداه الصديق (ت. م) وطلبت إليه المبادرة بتنفيذ قوله، فلم يتوان صاحبنا — كتر خيره — بل جاءني في مساء اليوم التالي يجر خلفه فتى ممشوقا.

ولم يشأ صديق الطرفين (ت. م) أن يترك المسألة تمر طبيعية، بل ضحك وقال لي ما نصه: «ما تتغرش في نفخته دي. دا خجول لدرجة ما تتصورهاش، بس العبارة إنه شرب دلوقت ثلاث كاسات نبيت، علشان يتشجع!».

وتناقشنا بعض الوقت مناقشة دلتني على أن الفتى جد مهذب، وأنه حقا خجول، حسن التربية، جم الأدب. ولعله من الظريف أن أقول إنه بعد فترة قصيرة انكمش صدره العريض وتقلص قوامه الممشوق، وحل به اضطراب غريب. فأومأ لي الصديق (ت. م) قائلا: «اتفرج صاحبنا فاق من الثلاثة نبيت وبقت حالته عبر!».

وقد سألت «بديعا» أهو حقا صاحب زجل «الفايظجية» الذي سبق أن جاءني به المسيو جورج، من يومين، فتردد في الإجابة، وتغلب عليه الخجل والكسوف، وراوغ كي يغير مجرى الحديث، ولكنني أقفلت في وجهه كل أبواب التخلص حتى اعترف.

قلت له إنني أريد منك زجلا جديدا تلقيه طائفة من الأعجام وفدت لزيارة كشكش بك عمدة كفر البلاص، فمتى تتم هذا الزجل؟ فلم يتوان في التأكيد لي بأن في استطاعته الفراغ منه في صباح اليوم التالي. وقد كان عند وعده، إذ جاءني في نفس الموعد يحمل الزجل المطلوب ومطلعه!

هاي هاي أعجام إخوانا … كفر البلاص قدامنا.

ياللا مافيش استنى

أعجبت بالزجل وبخفة الروح التي تمشت في ثناياه، فلم يغادر بديع المسرح قبل التوقيع على عقد اتفاق بالعمل معي بمرتب شهري قدره ستة عشر جنيها مصريا.

ولعل القارئ يذكر ما قلته من أن المال الاحتياطي بلغ في خزينتي في نهاية الشهر الأول من تمثيل رواية «حمار وحلاوة» أربعمائة جنيه. والآن أقول بأن هذا المبلغ تضاعف دون زيادة أو نقصان عند ختام الشهر الثاني، أي أني وجدت بين يدي إذ ذاك ثمانمائة جنيه مصري … جنيه ينطح جنيه!

عدت بذاكرتي في هذه الحالة إلى حالة البؤس والشقاء، وجبت في عالم الخيال لحظات أفكر في السعادة وأسبح في بحار الآمال قائلا: «أتكون السعادة يا ترى في الحياة أو العظمة أو المال …؟».

وحين دارت برأسي هذه الأفكار ذكرت حادثا وقع لي حين كنت أعمل في شركة السكر بنجع حمادي. ذلك أنه وصل إلى المدينة في أحد الأيام فيلسوف فرنسي كان قد نزل عن ثروته للأعمال الخيرية مكتفيا بالكفاف، وجعل همه في إلقاء محاضرات شبه صوفية.

وذهبت مع الذاهبين لسماع محاضرة هذا الفيلسوف، لا حبا في السماع ولا رغبة في العلم، بل لمآرب أخرى! ولئن تسألني عن هذه المآرب … الأخرى، فلا تنتظر مني جوابا شافيا، وكفاني أن أصرح لك بأن هذه المحاضرات كان يقصد إلى سماعها أناس كثيرون من الجنسين اللطيف والخشن ….

أعود إلى الموضوع فأقول بأن الذي استرعى سمعي في محاضرة هذا الفيلسوف الجملة الآتية: «أيها السادة … لقد أجهدت نفسي في البحث عن السعادة، فعرفت أنها ليست في هذه الحياة الدنيا إلا لفظا بلا معنى وكلمة بلا مغزى!

كنت غنيا واسع الثراء … ولكن ذلك لم يجلب لي السعادة … فتشت عنها في مملكة الحب، فكان لدي أجمل من وددت، ومع ذلك كان هذا الحب أمامي سرابا خلف لي حسرة وتعاسة.

جربت الجاه والترف، جلت في ميادين الصداقة، وأقسم أنني لم أعثر على المسمى الجميل الذي يطلقون عليه اسم السعادة، ولذلك رجحت … لا بل آمنت بأن هذا العالم خلو من السعادة. وأننا إن افتقدناها فلن نجدها إلا في عالم آخر غير هذا العالم، وفي حياة أخرى باقية غير هذه الحياة الفانية!».

انتهى بتصرف!!

أقول إنني حين وجدت بين يدي ثمانمائة جنيه ترددت في أذني كلمات هذا الفيلسوف العجر، فضحكت ملء شدقي وقلت في نفسي: أين هذا العاجز الغبي، كي أقوده إلى عالم السعادة التي ضل سبيلها وفقد طريقها؟

نهايته … لست أريد التوسع في هذه الناحية فقد لمست السعادة وقطفت إذ ذاك ثمارها وضربت عرض الحائط بالفيلسوف الفرنسي وبنظرياته البائدة.

مع الشيخ سيد درويش

نجاح متواصل

بعد أن انفصل عنا الأستاذ أمين صدقي، أعددت رواية سميتها «على كيفك» وهي التي وضع أزجالها الصديق الجديد بديع.

وقد كنت في أثناء تمثيلها أدرس حالات الجمهور النفسية، وأرقب مقدار الأثر الذي تحدثه تلك الأزجال الجديدة في نفسه. وقد سرني أنه كان يتقبلها قبولا حسنا، بل وأحسست فوق ذلك أن جميع الطبقات كانت تستريح لسماعها وتقبل عليها أحسن إقبال.

وقد رأيت إزاء ذلك أن أشجع هذا الفتى الجديد «وأفتح نفسه» للعمل، فرفعت مرتبه من ١٦ جنيها شهريا إلى ثلاثين جنيها دفعة واحدة. ولقد تغير الحال تغيرا مدهشا، واتسعت دائرة الأعمال وأضحى مسرح الأجبسيانة مقصد الرواد من كل حدب وصوب. حتى في الأيام التي كان يعبر عنها بالأيام «الميتة» وهي الاثنين والثلاثاء والأربعاء.

قضينا شهرين في تمثيل رواية «على كيفك» كان الرصيد بعدهما قد بلغ ثلاثة آلاف جنيه، وقد كان قبل تمثيلها ثمانمائة فقط. وبعد أن رأيت هذا النجاح المطرد عولت على أن أجتهد في إرضاء جمهوري، وأن أبادله تلك الثقة التي أولاني إياها. ففكرت في الاستعانة بمؤلف ثالث للاشتراك في بناء هيكل الروايات، وفي استنباط موضوعاتها وابتكار نكاتها، وقد وقع اختياري على الكاتب الأديب الأستاذ حسين شفيق المصري، فاتفقت وإياه توا.

ووضعنا إذ ذاك رواية (سنة ١٩١٨–١٩٢٠) وقد نسيت أن أذكر أن ملحن أناشيد هذه الروايات الثلاث (حمار وحلاوة وعلى كيفك وسنة ١٩١٨–١٩٢٠) كان المرحوم كاميل شامبير.

في هذا الوقت كان النوع الذي نخرجه قد طغى على كل ما عداه في مصر، حتى كاد الدرام والتراجيدي يندثران فلم تقم لهما قائمة، وأصبحت الفرقة المخصصة لهما «تنش طير».

فلما ساءت الحال أمامها وأعرض الناس عن تمثيلها، تقدم بعضهم إلى الأستاذ جورج أبيض ينصح له أن يحاربنا في نوعنا، وأن يختط لفرقته خطة جديدة، ما دام الناس يقبلون علينا هذا الإقبال العظيم.

وانقاد جورج لنصيحة أصدقائه. وكان في هذا الوقت قد عثر على الفتى الصغير حامد مرسي، فجاء به ينشد بعض القصائد القديمة بين فصول رواياته.

وكلف الأستاذ جورج المرحوم عبد الحليم دولار المصري أن يضع له رواية تماثل رواياتنا، فكان أن قدم له رواية «فيروز شاه»!

ولم تحدث هذه المنافسة الجديدة أي أثر من ناحية عملنا، بل ولم نحس نحن بأن هناك منافسا جديدا نزل السوق أمامنا! ولكن كانت هناك ظاهرة جديدة كان لها شأنها من وجهة نظري أنا، أقصها عليك فيما يلي!

لم يكن لدي الوقت بالطبع لأذهب إلى تياترو جورج أبيض كي أشاهد روايته، ولكن بعض ممثلي فرقتي كانوا ينتهزون فرص خلوهم من العمل فيذهبون لمشاهدتها، حتى إذا ما عادوا سمعتهم ينشدون أناشيدها البديعة، ويرددون ألحانها القوية، التي لمحت فيها اتجاها جديدا، وروحا جديدا … بل فنا جديدا يسمو على كل ما عداه مما سبق أن قدمناه.

الشيخ سيد درويش

سألت عن الملحن؟ فقيل لي إنه شاب إسكندري لم يكن له سابق عهد بالتلحين المسرحي، وإن ألحانه هذه هي الأولى له في هذا المضمار. أما اسمه … فسيد درويش. عجبت لذلك، وفكرت طويلا في اجتذابه، ولكنني — وقد عهدني القراء صريحا في كل ما خططت في هذه المذكرات — لا أرى ما يحول دون إبداء ما اعتراني في هذه اللحظة من أفكار.

أقول إنني وجدت نفسي بين عالمين متناقضين.

هل يحسن بي أن أتفق مع هذا الملحن؟ أم الأجدر أن أغضي عن ذلك؟ وإذا اتفقت، فماذا تكون النتيجة لو عمل معي شهرا أو شهرين حتى إذا ما تمكنت ألحانه من أفئدة جمهوري، و«خدوا عليها» تركني أعض بنان الندم، أو أملي علي شروطها قاسية، كتلك التي كانت سببا في انفصال زميلي السابق أمين صدقي!!

وهل الأولى أن أسير في خطتي مع الجمهور الذي رضي من ألحاني بما قسم أو أقفز بهذه الألحان إلى العلا … دفعة واحدة؟!

وأخيرا تغلبت على محبتي للفن، فقررت الاتفاق مع سيد درويش مهما كان وراء ذلك من تضحية، إذ أنني وجدت من الإجرام حرمان الفن من شخص كسيد درويش.

كان المرحوم الشيخ سيد يتقاضى ثمانية عشر جنيها في الشهر من الأستاذ جورج أبيض، فرفعت هذه القيمة إلى أربعين دفعة واحدة، وتعاقدت مع الرجل، وكان مرتب الأستاذ بديع خيري قد وصل في هذا الحين إلى الخمسين.

أعددنا رواية أطلقنا عليها اسم «ولو»، ووضع بديع أول زجل منها وهو عبارة عن شكوى يتقدم بها جماعة من «السقايين» يشرحون للجمهور آلامهم في الحياة، ومطلع هذا الزجل هو «يعوض الله … يهون الله، ع السقايين، دول غلبانين، متبهدلين م الكبانية، خواجاتها جونا، دول بيرازونا في صنعة أبونا، ما تعبرونا يا خلايق».

سلمنا الزجل للشيخ سيد درويش، وقد كانت ميزته رحمه الله أن يضع لكل لحن ما يوافقه من موسيقى، وأقصد بهذه الموافقة التعبير الصادق للمعنى العام، بل ولكل لفظ من ألفاظ الكلام، حتى كان المرء يدرك من أول وهلة ما يرمي إليه هذا الكلام عند سماع الأنغام.

تسلم الشيخ سيد لحن السقايين، ولكنه لم يعد إلينا في الموعد المضروب، بل ولا في اليوم التالي!! حتى إذا كان اليوم الثالث قصد إليه أحد أصدقائنا فسهر معه الليل بطوله. وكانت شكواه أن قريحته اليوم متحجرة وأنه قضى الأيام الثلاثة الماضية يقدح زناد الفكر عله يصل إلى النغم الموافق دون جدوى!!

وفيما هما يتحدثان، وقد كانت أضواء النهار في تلك اللحظة تطارد جيوش الظلام!! صادفهما أحد «السقايين» وكان يحمل قربة الماء على ظهره ويجوب الحواري، وكان يسير إذ ذاك في حي المنشية بالقلعة — وسمعاه ينادي بأعلى صوته وبنغمته التقليدية الخاصة قائلا: «يعوض الله» فتنبه الشيخ سيد، وأمسك بذراع صديقه وهتف كما هتف أرشميدس (الفيلسوف اليوناني) من قبل حين وفق إلى نظرية الثقل النوعي في أثناء استحمامه فخرج عاريا يجري في الشوارع ويصيح (أوريكا. أوريكا) أي وجدتها. وجدتها!!

نعم لقد هتف سيد درويش حين سمع نداء السقا فقال لصديقه: «خلاص خلاص يا فلان، لقيت اللحن اللي أنا عاوزه!».

وفي المساء حضر رحمه الله وأسمعني اللحن فكدت أطير به فرحا، وفي الوقت نفسه حضر الأستاذ بديع فأسمعني زجلا رائعا مطلعه: «نبين زين ونخط الودع وندق لكم ونطاهر … ونحبل اللي ما تحبلش ونفك كمان اللي تشاهر».

وفي اليوم التالي كان الشيخ سيد قد وضع له اللحن المناسب، ثم لحن عقب ذلك زجل استقبال كشكش «ألفين حمد الله على سلامتك … يا أبو كشكش فرفش أدي وقتك» … فكان اللحن كذلك بدعة.

وهكذا ظل بديع يتحفني بأزجال من النوع الممتاز فيلحنها سيد تلحينا شائقا، ومن ثم ظهرت رواية «ولو» للجمهور في ثوب قشيب من بديع البيان، وصفاء الألحان، وقد أحسست أن المتفرج كان يسبح في أثناء التمثيل في عالم علوي تهزه نشوة السرور والإعجاب، فيقابل كل كلمة أو نغمة بالتصفيق والترحيب. ولست أجد وصفا وجيزا لنجاح «ولو» غير أن أقول إنها جاءت آية وكفى ….

وفي هذا الحين كانت شهرتي قد امتدت وصيتي قد بعد، وأرى ألا يقف التواضع في سبيلي إذ صرحت بأنني أصبحت موضع أحاديث الناس في كل مكان … حتى لم يعد يتردد على ألسنتهم غير تلغراف الحرب العالمية، وروايات نجيب الريحاني. وهنا يحلو لي أن أعود إلى ذكرى حلوة، ذلك أن والدتي كانت إلى هذا الحين تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل وقد سبق أن رويت الكثير في هذا الشأن.

أسعد أيام حياتي

حدث إذ ذاك أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد في أثنائها اسمي، فأرهفت دون أن تشعرهم، وما أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي وامتداح عملي والإشادة بمجهودي!!

أتدري يا سيدي القارئ ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة المترو، واتجهت إلى أولئك المتحدثين وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتكلموا عنه ده يبقى ابني! أنا والدة نجيب الريحاني الممثل!»، وخلي بالك من الممثل دي!

«الممثل» هذه الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، أضحت موضع زهوها وفخارها! فاللهم سبحانك ربي ما أعمق حكمتك؟!

وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجبسيانة، خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها، ويمتدحونه؟! فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد أيام حياتي.

ومما زاد في اغتباطي إلى جانب ذلك ما لمسته من رقي الطبقات التي كانت تقصد إلى مسرحنا، وفي مقدمتهم شباب الهاي لايف وفتياته، وأكرم الأسر في مصر، وأعلاها مكانة، وقد كان صاحب السمو الأمير إسماعيل داود في مقدمة الذين أعجبوا بي، فتفضل وأبرز هذا الإعجاب في إطار من التكريم لست أنساه، إذ كان يتفضل بدعوة الفرقة بجميع أفرادها إلى مسكنه العامر حيث تحيي حفلات خاصة ما كان أحلاها وأبهاها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤