الفصل الثامن

في أمريكا الجنوبية

في عواصم أمريكا الجنوبية كشكش مغنواتي …!

عملت الباخرة بأصلها، وأوصلتنا إلى بلاد القارة الجديدة، بعد أن قطعنا الأمل من هذا الوصول، معتقدين أن الله سبحانه وتعالى قد اختارنا طعاما طيبا لأسماك المحيط الجائعة …!

مررنا أولا بمضيق رائع المنظر عند بلدة «سانتوس»، فأنسانا جماله وفتنته ما لاقينا من عذاب غريبالدي «صبحا ومسا» على رأي ليلى بنت الصحراء …!

وفي الميناء، عقب أن رست الباخرة، وأقصد القارب الذي حملنا، شاهدت «شحطا»، (والشحط على ما يتراءى لي من غير الرجوع إلى معاجم اللغة هو المارد الطويل العريض) واقفا تماما كما وقف ديلسبس على مدخل القنال، وقد ظننته لأول وهلة تمثالا رخاميا، إلا أنه راعني أن أجد سلاسل من ذهب تحلي صدره، وتتدلى إلى جيوب صديريته. وأخيرا عرفت أنه من إخواننا السوريين الذين يقابلون الرواد والسائحين، ليقودوهم إلى فندق المدينة. فتقدمت إليه وحييته، ثم أفهمته من أنا!! ولكنه هز كتفيه من غير مبالاة وقال: «شو بيكون كشكش هيك … مغنواتي؟».

وأخذتها في عظمي، وقلت … بشرة خير، والله اطمأنينا على الشغل. نهايته. وذهبت ورفاقي (بديعة وابنتها جوجو والتوني وفريد صبري) إلى الفندق، وهناك استودعتهم الله، وقلت فلأذهب لارتياد المدينة، لعلي آتيكم منها بنبأ. أو لعلي أستطيع تهيئة فرصة لإحياء حفلة أو حفلتين، وصحبني محمود التوني ورحنا نجوب سانتوس شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.

سانتوس!! إنها قرية أو ضيعة، أو قل ما شئت. نظرت إلى التوني متسائلا! «أنحن في أمريكا؟ أمال المغربلين تبقى إيه يا وله؟ نهايته لقينا في تجوالنا في أحد الشوارع رجلا ذا مهابة، قدمه إلينا دليلنا، فعرفنا أنه يدير أكبر فندق في المدينة. وأنه هو الآخر سوري من علية القوم هناك.

وحين قدمني إليه باسم «كشكش بك»، لاحت على الرجل دلائل الشك والريبة … ثم ما لبث أن أخذته نعرة الصراحة ففاجأني قائلا: «شو ها الحكي!! أنت ما لك كشكش. لأني أنا شفت كشكش السنة الماضية بمدينة حمص في الشام … وكان إله لحيه، وحضرتك هلا حليق» …! على أنني لم أحتج إلى وقت طويل لإقناعه بأنني كشكش صحيح، وبأن اللحية التي رآني بها جاهزة.

أول حفلة

سر الرجل بذلك ووعدني بالعون، وقال إنه سيهيئ للفرقة فرصة العمل في فندقه في نفس المساء، والغريب أن عادتهم جرت على تناول الغداء في الساعة الحادية عشرة صباحا، والعشاء في السادسة والنصف. وكان علينا بالطبع أن نجاري القوم فيما درجوا عليه. فبعد أن مضت ساعة أو ما يزيد دعينا إلى ردهة الفندق، فإذا بها ملأى بالسيدات والرجال من أرقى الطبقات، وإذا النبأ قد سرى بينهم متضمنا أن فرقة (غنائية) …! غنائية وحياتك!! قد وصلت من مصر، وأنها ستطرب الحضور بأصواتها الرخيمة!! الرخيمة! يا دي الليلة اللي زي بعضها يا أولاد … والرخيمة دي نجيبها منين؟

ثم إذا فرضنا أنني مطرب … وخستكت حبتين، فماذا أقول عن صوت التوني وزميله فريد صبري؟ هل امتدت إليهما الخستكة مني عن طريق العدوى مثلا؟!!

وأخيرا طرأت فكرة!! فلتكن بديعة هي المطربة، ولنكن نحن جميعا مذهبجية التخت!!

ولم نتوان لحظة في تنفيذ هذه الفكرة السديدة، فتوسطت بديعة أريكة الطرب وجلسنا حولها، نخزي العين، وفشر تخت الشيخ سيد الصفتي في زمانه!!

وألقت بديعة قطعا وطنية حماسية من ألحان روايتنا، بينما كنا نحن نردد كالمذهبجية بحق وحقيق. وانتهت الحفلة بنجاح ما بعده نجاح. و«هاص بنا جمهورنا العزيز، فنلنا من إعجابهم وتقديرهم ما نؤكد أننا غير جديرين به إطلاقا!!».

وأخيرا نصح لنا بعض الراسخين أن نولي وجوهنا شطر مدينة سان باولو (على بعد ساعتين في القطار من سانتوس)، وأفهمنا الناصحون أنها مدينة عامرة بمحبي الفن الذين يعشقون التمثيل، ويودون أن نتيح لهم فرصة مشاهدته. وكان ذلك في شهر نوفمبر من عام ١٩٢٤، فعقدنا العزم على الرحيل إلى سان باولو، وامتطينا القطار، وكم كانت دهشتنا بالغة حين أطللنا من النوافذ، وشاهدنا المناظر التي تجل عن وصفها الألسن، وتتضاءل إلى جانبها أشهر المناظر السويسرية وأبدعها.

في «سان باولو»

وفي هذه المدينة عرفنا حقا أننا اجتزنا البحر إلى أمريكا، فهي مدينة كبيرة عامرة وبها جالية سورية تتحكم في أغلب المرافق، بين تجارة وصناعة وأعمال مجدية مثمرة. نزلنا في فندق كبير يديره نزيل سوري، وكان خبر قدومنا قد سرى مسرى الكهرباء، فكان في استقبالنا جمهور يربو على الخمسمائة شخص، أكرموا وفادتنا وأنزلونا منهم على الرحب والسعة.

ومنذ اليوم الأول أظهروا لنا رغبتهم في مشاهدة بعض رواياتنا: فأفهمتهم بأن رحلتنا لم تكن فنية، وأننا ما قصدنا بها إلا الاستجمام والراحة، ولذلك لم نصحب فرقة من الممثلين الذين يمكن أن نعمل معهم. فطمأنونا من هذه الناحية، وأبلغونا أن في المدينة جمعية من الهواة، ما لبث أعضاؤها أن وافونا حيث نزلنا، فإذا على رأسها الشاب جورج أستاتي. نجل المرحومة السيدة ألمظ أستاتي (وقد كانت من مشهورات ممثلات فرقة الأستاذ جورج أبيض قبل ذلك وهي شقيقة السيدة إبريز أستأتى قرينة الأستاذ أمين عطا الله). والظريف أن جورج أستاتي كان يمثل رواياتي هناك، ويطلق على نفسه اسم (كشكش البرازيلي)، كما كان زوج خالته (الأستاذ أمين عطا الله) يفعل في سوريا ولبنان!! ووجدت من أفراد هذه الجمعية البرازيلية شابا اسمه جبران طرابلسي، وقد قرأت في جريدة الأهرام أنه يعمل الآن على رأس فرقة في الأرجنتين متخذا لنفسه (شكشك بك). آل يعني تصرف في اسم كشكش، فقلب كيانه!!

ألفت الفرقة إذن مستعينا بأولئك الهواة، وكنت — من قبيل الاحتياط — قد حملت معي طائفة من أهم رواياتي. ورأيت أن أبدأ بزيارة إدارات الصحف كلها قبل أن أبدأ عملي، وقد قابل أصحابها تأليف الفرقة مقابلة مستحبة! إلا أنني شعرت بأن هناك بونا كبيرا بين ما قوبلنا به من صحافة الجالية السورية، وما قابلتنا به الصحافة الوطنية (البرازيلية). ذلك لأنني أحسست في كتابات الأخيرة شيئا من روح التهكم وعدم المبالاة بما يمكن أن تفعله فرقة «شرقية».

وقد علمت أخيرا أن سبب هذا الفتور إنما يرجع إلى الجفاء بين أهل البلاد الأصليين وبين ضيوفها النازحين، لتمكن الأخيرين من امتلاك أعنة البلاد الاقتصادية.

وجدت نفسي في موقف هو الحرج بعينه، ولكنني مع ذلك أقدمت مستعينا بالله على تذليل ما يعتورني من صعاب.

في جو مكهرب

استأجرت المسرح أربع ليالي بإيجار يعادل خمسين جنيها عن الليلة الواحدة، وعدت إلى الفرقة أجاهد معها في إعداد روايات ريا وسكينة، والبرنسيس، وأيام العز، التي أطلقنا عليها اسم (حلاق بغداد)، وأجهدت نفسي في البروفات، خصوصا بعد أن تكهرب الجو، ورأيت أمامي أعينا مفتحة تريد أن تنتهز فرصة تنال فيها من الشرق والشرقيين. وأقول لك الحق إنني ذكرت ما كان يجب أن أذكره في هذه الآونة! وهو أنني كنت بعملي هذا سائرا في أحد طريقين، فإما للصدر وإما للقبر. ومضت أيام اقتربنا بعدها من الموعد المحدد للتمثيل، فتساءلت عن حركة بيع التذاكر، وهالني أن أعرف بأن المبلغ الذي جمع إذ ذاك وصل إلى ألفي جنيه!!

راعني ما شهدت فعدت إلى نفسي أحاسبهم. ترى ماذا تكون الحال لو قدر الفشل لنا؟ ثم ماذا أكون أنا في نظر أولئك الناس الذين أحسنوا بنا الظن …؟

ونظرت من خلال ثقب في الستار قبيل التمثيل فما أروع ما شهدت!

طوائف من أرقى الطبقات رجالا وسيدات تشع من نحورهن وأصابعهن أنوار الحلي البراقة والماسات ذات اللون الأصفر الفاقع الذي لم أر له مثيلا في غير البرازيل. وقد خيل إلي وأنا أنظر إلى السيدات إذ ذاك بأن هنالك قطعة متماسكة من الجواهر أو صفوفا متراصة من اللآلئ. ورفع الستار فمثلنا رواية (ريا وسكينة) وهي من فصل واحد انتهى دون أن أتبين له في نفوس الجمهور نتيجة … ثم جاء أوان البدء في رواية (البرنسيس).

وهي تبدأ بظهور بديعة على المسرح أولا، وبعد فترة طويلة أظهر أنا … فعكفت في غرفتي أعالج تهيئة وجهي بالميكياج وأنا أرتجف لوعة، وتملكني خوف أحسست معه كأني مبتدئ لم يعهد أضواء المسرح، ولم يبد أمام الجمهور من قبل. ثم أرهفت أذني منصتا لأقوال بديعة، أستشف أثرها في أفئدة الناس. وقد سرني أن وجدتها تمثل في إقدام وشجاعة، وكأننا على مسرحنا المعتاد في مصر. وكان أن ظهرت أنا أيضا متشجعا حتى أتممنا الفصل الأول بين عاصفة من التصفيق والهتاف، وامتلأ المسرح بالصحفيين والمهنئين، وغرقنا في لجة من القوم الذين أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم. وقد كان فخر أفراد الجالية السورية بإخوانهم المصريين لا يقدر. وانتهت الليلة ونحن نحمد الله كل الحمد، على ما أنعم علينا من توفيق حمل البرازيليين أنفسهم على تقديرنا ورفع شأننا.

فيفا ريحاني!

ارتفع شأننا بعد النجاح الذي لقيناه في (سان باولو)، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة في نادي (سبورتنج كلوب)، الذي أنشأته الجالية السورية في تلك المدينة. ذلك أن النادي دعانا إلى مشاهدة مباراة في كرة القدم، بين فريقه وفريق البرازيل … وكان المتفرجون يزيدون على العشرين ألف متفرج امتلأت بهم جوانب الملعب. فما كدت وبديعة نظهر أمام هذا الجمع الحافل، لنأخذ أماكننا، حتى سمعنا هتافهم صاعدا إلى أجواء الفضاء (فيفا ريحاني) وفيفا معناها يحيا … وأنت فاهم طبعا …!

وقد قلت إن أسباب النزاع كانت متوافرة بين النزلاء السوريين وبين أهالي البلاد الأصليين، لتمكن الأولين من القبض على ناصية الحركة الاقتصادية والمالية دون الآخرين. ولذلك شاهدنا في ملعب الكرة قوة كبيرة من الجند كاملة السلاح، استعدادا لما عساه يحدث من احتكاك بين أفراد فريقي المتفرجين الذين عزل أحدهما عن الآخر، فجلس السوريون في ناحية والبرازيليون في الناحية الأخرى، ووضع بينهما فاصل من الجند المدجج بالسلاح حتى لا يغير أحدهما على الآخر، إذا ما توترت الأعصاب عقب هدف من الأهداف، أو إصابة لاعب من لاعب. على أن المعجزة التي تمت هي أنني كنت والحمد لله بمنجى من الأذى المتوقع، لأنني شملت برضاء الخصمين. وكنت بمثابة الضيف المرموق بعطف الفريقين.

ومن أمثلة الرضا التي حبانا بها الوطنيون في البرازيل، أن صحافتهم بعد أن شاهدت رواياتنا، عادت فأثنت على التمثيل بمستطاب الثناء، بعد أن كانت مقابلتها لنا قبل ذلك فاترة غير مطمئنة.

وفي فترة الاستراحة بين نصفي اللعب، أي (الهافتايم) بلغة الرياضيين، أو (الانتراكت) بلغتنا احنا يا ممثلين، عاد الهتاف يدوي (فيفا ريحاني)، وقد اشترك فيه الجميع حتى خلت نفسي رئيسا لجمهوريتهم، أو فاتحا لمالطة. أو على الأقل جبت الديب من ديله!!

واستؤنف اللعب، فهطل المطر مدرارا كأفواه القرب. أقول لك الحق دي فلسفة مني. لأن المطر كان مدرارا صحيح … لكن مش كأفواه القرب. لكن نعمل إيه في فلاسفة اللغة، الذين يأتوننا بتشبيهات مش معقولة أولا ومستحيل تحصل ثانيا.

القصد يا سيدي نزل المطر كأفواه القرب وأمرنا لله، ومع ذلك ظل اللاعبون في تنافسهم دون أن يتوقفوا، مع أن الكرة كانت تعوم في بحر خضم.

وانتهى اللعب بفوز السوريين، ثم ابتدأت المعركة التي كان البوليس يخشاها. ومحسوبك وبديعة ومن معنا … «فككان».

إلى ريو دي جانيرو

وبعد أن أحيينا ليالينا الأربعة في سان باولو، ألح الأهلون علينا في البقاء مدة أخرى. فحاولنا أن نجد ليالي خالية في أحد المسارح الهامة، واستطعنا بعد جهد أن «نربط» أربع حفلات أخرى، نالت من النجاح حظا لا يقل عن سابقتها.

وهنا كان الطمع قد فعل مفعوله في أحد أفراد الفرقة وهو (فريد صبري)، وقد كنت أمنحه في رحلتنا هذه مرتبا شهريا قدره ثلاثون جنيها مصريا، في حين كان يتقاضى في مصر حسبة «خمسة ستة جنيه».

رفع فريد راية العصيان، فجاء يملي شروطه قائلا إن مرتبه إذا لم يرفع إلى تسعين جنيها كما يرفع مرتب التوني إلى سبعين فإنهما سيضربان عن العمل!!

طيب واشمعنى يعني الفرق ده بينك وبين التوني؟ ولم لا تتساويان في المرتب؟

القصد؟ لم أجد مشقة في استمالة التوني إلى صفي، إذ كان من قدماء ممثلي فرقتي، وكان لين العريكة سهل القيادة. أما زميله الثائر فقد فضلت أن أقطع الصلة به، وأن أعيده إلى مصر قبل أن ينفث أفكاره في بقية الصحب الذين جمعتهم من بين هواة (سان باولو)، وسلمت فريد صبري حسابه، وفوقه حق «الشبرقة» كمان، وقطعت له تذكرة السفر إلى مصر، وودعته، واحنا من هنا وأنت يا بن الناس من هنا.

وقصدنا بعد ذلك إلى العاصمة (ريو دي جانيرو). وكانت الشهرة والصيت قد سبقانا إليها، ولذلك استقبلنا فيها استقبالا حافلا، ونجحنا في حفلاتنا الثمان التي أحييناها بتلك المدينة، وكان متوسط إيراد الحفلة الواحدة ٥٠٠ جنيه.

وما كدنا ننتهي من هذه الحفلات حتى استدعينا ثانية إلى سان باولو، وهناك أقمنا حفلتين.

أنا سندباد بري إلى الأرجنتين

بعد أن انتهت حفلاتنا الناجحة في سان باولو، بدت لنا فكرة الرحيل إلى الأرجنتين، أي الجمهورية الفضية، ولكن وجدت مشكلة عويصة، هي التشديد المتناهي في الكشف الطبي على العيون قبل اجتياز الحدود، ولن يدخل البلاد شخص يثبت الطبيب وجود التراخوما في عينيه!

تتوسط جمهورية أرجواي جمهوريتي البرازيل والأرجنتين، وقد نصح لنا بعض الصحب ألا نقصد إلى هاتين الجمهوريتين رأسا، بل نمر بأرجواي أولا، وهناك نعمل على الاتصال بسوري كبير يشتغل في تجارة الحرير، وله في جمهوريات أمريكا الوسطى كلمة مسموعة ونفوذ طائل، وركبنا البحر إلى (مونتيفديو) في أرجواي، وفي المحطة التي رست فيها السفينة على الميناء كنت جالسا في صالون الدرجة الأولى بها، فسمعت أشخاصا يخترقون صفوف الركاب وينادون بأعلى أصواتهم: «سنيور ريحاني سنيور ريحاني». وما كدت أسمع النداء حتى اعتقدت أن هناك مكيدة دبرت لنا، وأنهم لا شك آخذونا من الدار إلى النار.

وجاءت بديعة وقد كسا وجهها الاصفرار، وكاد يغمى عليها.

وتقدمت من هذا المنادي متصنعا الشجاعة، (قال الشجاعة قال وأنا ركبي عاملة زي الشخشيخة!) وقلت: «هاأنذا». فابتسم الرجل وقدم نفسه إلي فإذا به صحفي عرف بمجيئنا فوصل ومعه المصورون لالتقاط صور لنا، وعمل أحاديث معنا! الله يغمك يا حضرة الزميل الفاضل (باعتباري الآن صحفيا ولو خارج الهيئة)، وأنت كركبت مصارين السنيور ريحاني!

نهايته كان عدد أفراد الفرقة ثمانية أشخاص بما فيهم أنا وبديعة، ولما كان كلانا في الدرجة الأولى فإننا لم نشعر بصعوبة كبيرة في إجراء الكشف، وأما ركاب «السكندو» فقد كانت الدقة رائد الطبيب عند توقيع الكشف. وكان من سوء الحظ أن تكون عينا محمود التوني موئلا بل مخزنا لحبوب «التراخوما»، فمنع من النزول إلى البر بتاتا. وبعد جهاد ومشاوير من هنا لهنا، صرح له على شرط السفر فورا إلى الأرجنتين دون تمضية وقت طويل في أرجواي.

لغاية هنا كويس، لكن إيه اللي رايح يوصله الأرجنتين يا نضري؟ ذهبنا لقطع تذاكر السفر بحرا إلى «بونس أيرس» فطلب منا مبلغ ثمانمائة جنيه كتأمين بمعدل مائة جنيه لكل شخص، حتى إذا ظهر أن شخصا واحدا مصابا بالتراخوما ضاع علينا المبلغ جميعه.

يادي الحوسه! ما هو ظهر معنا شخص واحد عنده تراخوما توزع على أورطه بحالها!

عملية تهريب

وعقدنا مؤتمرا منا ومن التاجر السوري الكريم، الله يمسيه بالخير، وفي هذا المؤتمر تفتقت الأفكار عن حيلة لطيفة هي أن تسافر بديعة بحرا مع الخمسة السليمين وبذلك نطمئن على استرداد التأمين، وهو في هذه الحالة ستمائة جنيه. أما أنا ومحمود فلنجتز الحدود سرا ولنغامر بالهرب على أن يعاوننا ذلك الشهم السوري وأعوانه.

وأقلعت السفينة ببديعة وبقية الفرقة. أما أنا والتوني فقد صحبنا رجل من قبل تاجرنا الكبير يحمل معه خطابا إلى رجل آخر في مدينة أخرى. وامتطينا قطار السكة الحديد، ومكثنا فيه ثلاثة أيام بلياليها نجوب مجاهل أمريكا، مجاهلها والله العظيم. وبلد تشيلنا وبلد تحطنا، وفي كل منها يسلمنا شخص إلى آخر وهذا يسلمنا إلى غيره. وفي كل مرة يصحبنا خطاب من محطة التصدير، إلى محطة التوريد! وكأننا بضاعة مهربة: كوكايين، هيرويين، حشيش، إلى آخر اللستة إياها.

وفي المرحلة الأخيرة، وبعد الليالي الثلاث، وصلنا محطة صغيرة على شاطئ نهر، وفيها نزلنا وأشار دليلنا بإصبعه إلى الشاطئ الآخر من النهر قائلا: «شايفين الكشك اللي هناك ده. أهو إذا نفدتم منه بقيتم في أرض الأرجنتين. ويبقى في إمكانكم تحطوا صوابعكم في عينين الجعيص، حتى لو ظهرت التراخوما في دمائكم مش بس في عنيكم!».

كلام طيب … لكن ننفد من الكشك إزاي يا أخينا؟

اتكلوا على الله!

واتكلنا على الله. أمال حانتكل على مين؟ واجتزنا النهر في رفقة الدليل العزيز بعد أن نصح لنا بالجلد وتصنع الشجاعة حتى لا يبدو علينا خوف مريب. فقلت للتوني. «تشجع» فأجاب: «ما تخافش أنا قلبي جامد» وأبصرت فإذا هذا القلب «الجامد» وقد وصل في سقوطه جنوبا إلى كعب صاحبه. ومال دليلنا على حارس الحدود فتسارَّا قليلا ثم أفهمه أنني وزميلي صديقان له وأننا حضرنا لمشاهدة حفلات الكرنفال المقامة إذ ذاك في بلاد الجمهورية الفضية. وتنفسنا الصعداء أنا والتوني، وتملكنا في هذا الحين مرح كمرح الأطفال، فعدونا بأخف ما حملتنا أقدامنا إلى القرية كي نأخذ القطار إلى بونس أيرس، وتقدمت متلهفا إلى عامل الشباك أطالبه بتذكرتين إلى المدينة التي نقصدها، فنظر إلينا وهز كتفيه بابتسامة لم نفهم لها معنى وأخيرا قال: «متأسف جدا. لقد تأخرتم لأن القطار مر صباح أمس!».

صباح أمس! وما هو موعد القطار التالي إذن؟ …

قال: «بعد أسبوع؟!».

أسبوع!؟ وتقولون إنكم في بلاد متمدنة؟ أسبوع يا بني آدم في قارة اسمها أمريكا؟!

دي أفريقيا على كده رايتها لبن يا أولاد العم سام! القصد. أصبحنا أمام الأمر الواقع. وما باليد حيلة. ولكن أين نقضي هذا الأسبوع. ونحن في قرية لا تزيد مساكنها عن مائة بيت؟

ولكن إذا نسيت كل شيء فلن أنسى اسم هذه القرية التي أرتني الويل وسواد الليل، اسمها يا عزيزي الفاضل، «سان جوزيه» وينطقون هذا الاسم في الأرجنتين «سان خوسيه».

بشرة خير

التفت إلي التوني وقلت له: «أين نمضي الأسبوع ده يا وله؟» ثم غادرنا المحطة، واجتزنا البلد كلها بيتا بيتا في حسبة خمس دقائق، وهنا أشير إلى ظاهرة غريبة، وهي أن السوريين في أمريكا الجنوبية كاليونانيين تماما في مصر. وأني لأذكر أن اللورد كرومر كتب في أحد تقاريره السنوية، حين كان عميدا لبريطانيا في مصر، جملة مأثورة ترجمتها «إنك لو رفعت حجرا في إحدى قرى الصعيد «الجواني» لابد واجد تحته بقالا يونانيا». ولو أن كرومر كان معنا لكتب جملته هذه عن إخواننا السوريين في البرازيل والأرجنتين.

وفي أثناء اجتيازنا للشارع الوحيد في «سان خوسيه» هذه قابلنا رجل تفرس في وجوهنا. وكلمة من هنا وكلمة من هنا، حصل التعارف. إنه سوري يسكن في سان خوسيه، بشرة خير. قادنا إلى فندق البلدة، آل فندق آل، إنه بيت به حجرة أرضية هي اللوكاندة! وفي هذه اللوكاندة، أو الحجرة بمعنى أصح سرير واحد وكنبة! وبس والله العظيم، أما الأرضية فطبقات من التراب بعضها فوق بعض، وكذلك الحال في السرير حتى لقد ظننت أنهم في كل يوم «يتربونه» لا ينظفونه!

كنت أحمل في هذه الأثناء مبلغا يربو على الألف وخمسمائة جنيه! جلست فوق السرير المترب العالي والتفت خلفي فإذا نافذة خشبية يستطيع الواقف في الخارج أن يمد يده منها ويخطف الفلوس. وإذا ساقه الشر، فيمكن أن «يخطف» روحي كمان من غير إحم ولا دستور، إذ لا يكلفه الأمر سوى تناول زمارة رقبتي وضغطها بإحدى يديه. ويا لوكاندة ما دخلك شر!

لعب الفار في عبي، فجمعت مجلس شورى القوانين، المكون مني أنا رئيسا، ومن محمود التوني سكرتيرا وأمينا للصندوق وأعضاء كمان. وتباحثنا في الأمر واستقر رأينا على أن نقتسم النوم بيننا، فأنام ليلة يسهرها هو كنوبتجي يحمل النقود بين يديه بينما ينام هو في الليلة الثانية واحتل أنا مكانه … وهكذا دواليك!

دواليك دي مش على مزاجي أبدا، لكن استحملها مني الله لا يسيئك! القصد أمضينا ليالي هذا الأسبوع الذي طال وكأنه عام، أمضيناه زي ما أمضيناه والسلام. وجاء القطار بعد ذلك يتمخطر، فركبنا إلى بونس أيرس حيث تنتظرنا بديعة مع بقية «الشلة».

إلى بونس أيرس

ويغادر هذا القطار محطة «سان خوسيه» في الساعة الثانية بعد الظهر ويصل إلى بونس أيرس في الثامنة من صباح اليوم التالي. جلسنا في أحد صالونات القطار. وحين أرخى الليل سدوله — شايف إزاي بنعرف نتفلسف ونقول سدوله — حين أرخى الليل سدوله جعلنا الصالون عربة نوم. لأن المقاعد تحول أسرة حسب النظام المتبع في هذه القطارات.

وأستطيع أن أقول إننا هنئنا حقا بالنوم في القطار، بعد أن استرحنا من نظام النوبتجية الذي لازمنا ست ليال سويا. إلا أن شيئا غريبا وغريبا جدا لاحظته!

حوالي الساعة الثالثة صباحا — في دغششة الفجر يعني — صحوت من النوم فلم أسمع صوت القاطرة. فظننت أن القطار وصل إلى إحدى المحطات، ونظرت من النافذة فإذا المياه تغمرنا من الناحيتين! …

أيقظت التوني وسألته: «إحنا يا وله وقت ما نمنا كنا راكبين وابور بحر والا وابور بر؟» فدهش لهذا السؤال وأطل هو الآخر من النافذة قائلا: يا خبر أبيض نكونش غرقنا. والا متنا وجم الملايكة يحاسبونا؟! تملكتنا الحيرة حقا. ورحنا نسعى بالسؤال إلى أن عرفنا السبب فبطل العجب. هناك نهر كبير يجتازه القطار، لا بواسطة كبرى كما هو الحال عندنا وعند غيرنا من عباد الله في جميع بلاد الدنيا، بل بواسطة صنادل يضعون عربات القطار فوقها بالقطاعي، وتسير الصنادل فتنقل العربات من شاطئ إلى شاطئ، دون أن يشعر الركاب بهذه العملية على الإطلاق! والله عشنا وشفنا!

خلصنا على كده ونقلت شحنة القطار إلى البر الثاني، وواصل سيره إلى بونس أيرس. وقبل أن نصل إليها بساعتين أو يزيد خرج بسلامته سي محمود التوني يتمشى في ردهة القطار، ويتعاجب اسم الله بشبابه وسحنته الرمادي إياها. أنا عيني بترف يا أخواتي … لازم الواد الملعون ده مش راجع إلا لما يجيب لي مصيبه وياه!

في هذه الأيام كانت هناك خلافات ومشاحنات سياسية بين البرازيل والأرجنتين. وكانت هذه المشاحنات قد كهربت الجو بين أهالي البلدين، وكثرت العيون والأرصاد في قطارات السكة الحديدية، إذ جندت الأرجنتين كثيرين من المخبرين وخصصتهم للخدمة في القطارات.

قابل التوني في طريقه أحد جرسونات القطار فجرى بينهما حديث. والتوني الله لا يكسبه يعرف له كلمتين ثلاثة إسبانيولي: سأله الجرسون: «حضرتك برازيلي؟» وأجاب التوني متعنطزا: «لا فشر أنا شمالي!» آل يعني أمريكاني أصلي من الولايات المتحدة. ولم يدر العبيط أنه زاد الطين بلة.

عاد إلي حضرته شامخا يقص حديثه مع الجرسون، فقلت: «بس والله وديتنا في شربة ميه يا سي التوني. يعني مش كفايه ان التراخوما بتعتك تشحططنا الشحططة دي وتلففنا في المجاهل اللي ما قدرش خريستوف كولومب يوصل لها. وفي الآخر كمان تسلط علينا فلسفتك تخرب بيوتنا!؟».

لم أكمل هذا الحديث حتى فتح باب الصالون «خواجة» طويل عريض وطلب منا أوراقنا!

مشكلة!

أوراقنا!! والله جالك الموت يا توني أنت ونجيب!! هو احنا يا حسرة معانا أوراق؟ … داحنا تفليتة، وهربونا أولاد الحلال. ونظر إلي التوني وأراد أن يمدني بشعاع من عبقريته. فوضع يده في جيبه وقال لي بالعربية: «طلع الباسبورت وحطه في عينه كمان». وسارعت لاعنا أبا خاشه قائلا له: إوعى تعملها يا ابن الفرطوس، أحسن نروح في داهية. هي الباسبورتات بتوعنا عليها تأشيرة بدخول الأرجنتين يا مفش، واقتنع التوني بقولي فأخرج يده من جيبه من غير باسبورت ولا دياولو وتشجعت ثم قلت لهذا الخواجة: «ليست معنا أوراق باسبورت لأننا لسنا آتين من الخارج، بل كنا نزور صديقا لنا في «سان خوسيه» ونحن عائدون الآن إلى بونس أيرس، وإذا شئت برهانا على قولي فانتظر حتى نصل إلى العاصمة، وهناك ترى زوجتي وابنتي ينتظراني على الرصيف. وظللت أتلطف مع صاحبنا هذا وأداري سوأة التوني إلى أن وصلنا بالسلامة، دون أن يفارقنا مخبر الهنا. وكانت دهشتنا عظيمة حين رأيت بديعة وجوجو والبقية المحترمة، وقد أحضروا معهم جوقة موسيقية، تقول لجوقة حسب الله قومي وأنا أقعد أزمر مطرحك وهات يا طبل وهات يا عزف. وكان استقبالا فخما لم يستطع معه مخبر الأنس أن يقول لي تلت التلاتة كام. وكانت بديعة قد أعدت معدات العمل، واستأجرت المسرح الذي نعمل به، فلما حان موعد التمثيل، لم يتملكنا شيء من الاضطراب الذي شعرنا به في أول مرة بسان باولو، بل ظهرنا بقلب جامد، ونجحنا نجاحا «جامدا» كذلك. وطنطنت الصحف هناك بالفرقة وأفرادها ومقدرتهم التمثيلية، وخلعت علي لقب «برافتشيني دلاكايرو» أي برافتشيني بتاع القاهرة. وبرافتشيني هذا، هو ممثل من أساطين الفن في تلك البلاد.

العودة إلى مصر

كانت محبة إخواننا السوريين لي وللفرقة طوال المدة التي تنقلنا فيها بأمريكا الجنوبية مما يجل عن الوصف. أحيينا أربع ليال في بونس أيرس كان النجاح فيها حديث الجميع، ثم زرنا مدن روساريو وقرطبة وتوكومان. وهناك كنت أنشر الخريطة بين يدي، وأضع إصبعي عند المكان الذي نحن فيه ثم أنقله إلى موقع مصرنا المحبوبة، فأقول … إحنا فين وأنت فين يا حبيبتي يا مصر؟ وهل يكتب الله لنا أن نعود إليك في سلام وخير؟ بعد اجتياز هذه المجاهل التي ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف؟!

وبعد ذلك عدنا إلى بونس أيرس مرة أخرى، ومثلنا بعض الروايات. والغريب أن الجمهور كان لا يكاد يسمع صوتي من بين الكواليس قبل الظهور على المسرح، حتى يصرخ مصفقا، وكأننا نمثل بين جمهورنا المحبوب في مصرنا العزيزة.

رحلات مختلفة

بعد أن أنهينا عملنا في بلاد الجمهورية الفضية (الأرجنتين)، عولنا على العودة من نفس الطريق، ولنأخذ الخط إيابا كما قطعناه ذهابا، فنزلنا أولا في أرجواي، وهناك أحيينا حفلتين في (مونتفيديو)، ثم قصدنا إلى البرازيل، فلما حططنا الرحال في عاصمتها (ريودي جانيرو)، وجدنا ترحيبا لا داعي لوصفه، ووجدنا كذلك رغبة من الجمهور في معاودة التمثيل، فوافقت هذه الرغبة هوى في نفوسنا، ولم نتردد في القبول، وفي مدينة ريودي جانيرو تياترو اسمه المسرح الإمبراطوري، لم أجد له مثيلا في أية ناحية من نواحي العالم، لا سيما في اتساعه وكثرة مقاصيره ومقاعده، ذلك الاتساع الذي تأكدنا لأول وهلة أن الجماهير مهما احتشدت فلن يمتلئ بها أبدا.

استأجرنا هذا التياترو، وقلنا إننا نحسد إذا استطعنا أن نجد متفرجين يملئون ربع مقاعده. فلما جاء يوم الشباك، وذهبت في الساعة الثامنة صباحا لأسلم التذاكر لعامل الشباك، راعني أن أجد زحاما لم يسبق لي عهد به، لا في تلك المدينة حين نزلناها أول مرة، ولا في غيرها من المدن التي ارتدناها.

مفاجأة!

وقبل الغروب قصدت إلى التياترو فآلمني أن أجد ساحته أفرغ من فؤاد أم موسى. يا لله أين ذهب القوم الذين احتشدوا صباحا؟ وهل كانت مجرد مظاهرة قاموا بها ثم «افرنقعوا بعد أن تكأكئوا على المسرح كتكأكئهم على ذي جنة»!!

شايفين الجملة يا خلق؟ أهو كل يوم من ده. أما أشوف بقى أنا والا المجمع بتاعكم!! القصد نرجع إلى لغتنا العربية المفهومة، فأقول إنني أخذت بحالة الهدوء السائد حول المسرح، وقلت والله باين ختامه قرف وليس مسكا! فلما وصلت إلى شباك التذاكر للاطمئنان على الحالة، لم أجد العامل في مكانه، بل وفوق ذلك وجدت الشباك مقفلا!!

يا دي الوقعة اللي زي بعضها يا عالم!! إيه الحكاية؟ وما التدبير وما العمل؟ على رأي المرحوم الشيخ سلامة حجازي!؟ أخيرا عثرت بعامل الشباك في مقهى مجاور للتياترو!! أنت فين يا بني؟ وهل ده وقت قعدة القهوة؟ وكيف تقفل الشباك في مثل هذا الوقت، ثم تأتي للسرمحة والقنزحة والمش عارف إيه؟؟ وبكل ثبات أجابني العامل: «لقد أقفلت الشباك بعد أن انتهت مأموريتي، لأن جميع التذاكر قد نفدت!!».

نفدت … نفدت؟ وأظن يا إخواني لو جمعنا سكان البرازيل، واستلفنا عليهم كبشتين تلاته من سكان الأرجنتين وأرجواي، يمكن ما يملوش التياترو!! القصد. جاء أوان التمثيل فنظرت من خلال فجوة صغيرة في الستار، فرأيت الجماهير كالنمل الزاحف، والمقاعد ليس بينها واحد خلا من صاحبه. ونجحنا بحمد الله، ثم اتخذنا طريقنا إلى سان باولو، حيث حالفنا النجاح كذلك، وواصلنا طريق العودة إلى أوربا، بعد أن مكثنا عاما بأكمله في ربوع أمريكا الجنوبية والسفر منها وإليها.

في باريس

وعرجنا على باريس، وأخذت معي كذلك محمود التوني، على سبيل أن نتفرج ع الدنيا!! إلا أن الدنيا التي قصدناها كانت أبعد شيء عنا، إذ أمضينا في باريس خمسة عشر يوما، لم نزر خلالها متحفا ولا رأينا مسرحا، بل كان همنا كله البقاء في جاليري لافاييت. فقد كنا نقصد إلى هذا المحل يوميا من التاسعة صباحا إلى الثامنة مساء، لنشتري كل ما طاب لنا من ملابس، وما راق لنا من أدوات وكماليات. وكم مرة اتفقنا على قضاء السهرة في دار السينما أو في مسرح معين، حتى إذا حان الحين كان التعب قد تملكنا، ولا نجد إلا أن نتخذ سبيلنا إلى الفندق لننام، كي نستأنف في اليوم التالي زيارتنا المعتادة لجاليري لافاييت.

عدنا من أمريكا بمبلغ يزيد على ألف جنيه. وقد تسألني كيف يقف الإيراد عند هذا الحد الضئيل، إذا ما قيس بالنجاح المتواصل الذي نجحناه، فأجيبك بأن العام الذي قضيناه في أمريكا لم تتح لنا الظروف أن نعمل فيه أكثر من نيف وثلاثين ليلة، وما ذلك إلا لمصادفة عدم خلو المسارح أثناء وجودنا في بعض المدن التي حللنا بها. ولولا ذلك لبلغت مكاسبنا أضعاف أضعاف ما عدنا به. قلت إننا تركنا أمريكا وفي حوزتنا ألف وبعض ألف من الجنيهات. وقد كانت الأيام الخمسة عشرة التي قضيناها في باريس، بل قل في جاليري لافاييت، كفيلة بالتهام هذا المبلغ إلى آخره. بحيث لم يبق معنا أجر العودة إلى مصر، مما اضطرنا إلى أن نرسل إليها في طلب ذلك الأجر تلغرافيا. وقد كان فوصلنا بطريق البرق مبلغ مائة جنيه.

نقول إن جاليري لافاييت التهم كل ما كان معنا، فقد انفتحت أنفسنا لشراء كل ما وقعت عليه أنظارنا سواء من الملابس أو الموبيليا، حتى لكأننا كنا نلم في آخر زادنا.

وأخيرا … في مصر

فلما وصلنا ثغر الإسكندرية وجدنا الأستاذ أمين صدقي ويظهر أنه كان على نار في انتظارنا … إذ عرفنا منه أن خلافا دب بينه وبين شريكه الأستاذ علي الكسار، وأنهما فضا الشركة التي كانت قائمة بينهما، ولذلك فإنه يرى أن أتفق وإياه في عمل متحد. ولم أمانع في تلبية هذه الرغبة، فألفنا فرقة للعمل في دار التمثيل العربي. وكان لواء البطولة النسائية فيها معقودا على هامة بديعة مصابني والمطربة فتحية أحمد، أخرجنا رواية «قنصل الوز» وعقبها رواية «مراتي في الجهادية»، وهنا دب شقاق بيني وبين بديعة، وإنني وإن كنت لا أجد معنى للتوسيع في تبيان ما وراء هذا الشقاق، إلا أن ذلك لا يحول دون ذكر منشئه … ولو من باب تسجيل الواقع إن لم يكن من باب التفكه، فقد كان سبب غضب بديعة مضحكا حقا!!

في أثناء رحلتنا الأمريكية، كنت أنتهز فرصة الخلو من العمل في ساعة الظهيرة مثلا، أو بعد التمثيل مساء، فألعب «برتيتة» بلياردو. إلا أن ذلك لم يكن يرضي بديعة، فكانت تغضب وتكثر من الشكوى وترميني بالإهمال الشنيع. ولا تنسى وهي تشكو للأصدقاء وغير الأصدقاء أن تقول لهم كبرهان على إهمالي … جملتها المأثورة: «دا مهمل خالص يا اخواني …! دا بيلعب بلياردو يا عالم» … تقولشي يعني البلياردو ده منكر!! أو حرمه ربنا … وغضبت عليه الملايكة؟ وأنا خلقت عنيدا وإن كنت في دخيلة نفسي أكره هذا الخلق … ولكن ما حيلتي وقد تكونت هذه الخليقة معي؟ نهايته امتلأ رأس بديعة بفكرة واحدة … وهي أنني مدمن إهمال!! طبعا إذا كنت بالعب بلياردو … لأ ومش بس كده، وباشرب سجاير كمان. ما علينا. بعد أن أخرجنا روايتي «قنصل الوز» و«مراتي في الجهادية» تركت الفرقة تعمل لحساب أمين صدقي في دار التمثيل العربي بعد أن أمضيت في العمل فيها شهرين.

برنتانيا أيضا

في هذه الأثناء كان زميلي الأستاذ بديع خيري يؤلف لفرقة الأستاذ علي الكسار، فعدنا إلى الاتفاق من جديد، ثم جاءني الحاج مصطفى حفني وألح في أن أستأجر مسرحه (برنتانيا).

ولما كنت أعتقد أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فقد تشددت في أن ينص في عقد الاتفاق على غرامة مائتي جنيه، يدفعها الطرف الذي يقف دون تنفيذ أي شرط من شروط التعاقد. ومع ذلك فإنه لم تمض على إمضاء هذا العقد عدة أيام حتى جاءني الحاج مصطفى يتدثر بثوب من الخجل، يحمل في إحدى يديه العربون الذي تقاضاه مني وفي اليد الأخرى الغرامة المتفق عليها وهو يرجو ويسرف في الرجاء.

الله إيه الحكاية يا حاج مصطفى؟

الحكاية أن الست منيرة عاوزه التياترو وجابت لي ناس جامدين فاضطررت أن أكتب معها كنتراتو!!

شيء جميل قوي يا سي الحاج!!!

أخيرا أشفقت عليه، ولم أر أن أعامله بأفعاله، فأحللته من العقد، وتناولت العربون والغرامة التي اعتبرتها حصة من بضاعتنا ردت إلينا.

ولعل القارئ العزيز لم ينس بعد حكاية الملابس والمناظر التي استولى عليها الحاج مصطفى، بحجة سداد ديون ما أنزل الله بها من سلطان. وفي هذا الحين وقع ما كان يخشى من سوء التفاهم الذي استحكمت حلقاته بين بديعة وبيني فافترقنا.

وبحثت عن مسرح آخر غير مسرح برنتانيا. فلما أعياني ذلك فكرت في إنشاء مسرح خاص.

كانت تقع في ملتقى شارعي عماد الدين وقنطرة الدكة قهوة اسمها «راديوم». وكان إلى جانبها صالة تحمل الاسم نفسه، وكانت ملاصقة لتياترو «رمسيس»، فاستوليت على هذه الصالة وأنشأت في مكانها «مسرح الريحاني». وبينما أنا أفكر في تأليف فرقتي، هبط علي الزميل القديم علي يوسف، وأفهمني أن ممثلي فرقة الأستاذ يوسف وهبي متذمرون، وأنهم جميعا راغبون عن العمل معه، ولذا اعتزموا الاستقلال دونه بفرقة شرعوا في تأليفها بعيدا عنه. ثم اقترح أن أضم شملهم لأظهر في الدرام بدل الكوميدي.

وأخيرا — وبعد تردد وتفكير — اقتنعت باقتراح السيد علي يوسف وشرعت في التنفيذ، ولاسيما أنني بعد الخلاف مع بديعة هبط اعتمادي على نفسي، وشعرت أنني في حاجة إلى عون قوي أستند إليه في ملاقاة الجمهور. وكانت بديعة في هذا الحين قد استأجرت صالتها المعروفة في عماد الدين.

فرقة دراماتيكية

ألفت فرقتي الجديدة من السيدات: روز اليوسف، وعزيزة أمير، وزينب صدقي، وسرينا إبراهيم، وماري منصور، وغيرهن، والأساتذة: حسين رياض، ومنسي فهمي، وحسن فايق، وأحمد علام، ومصطفى سامي، وجبران نعوم، ومحمود التوني، وغيرهم. وقبل أن أدخل في شرح ما انتابني في هذا المشروع من نكبات ومصائب أقول إنني بدأت في بناء التياترو في أغسطس من عام ١٩٢٦، وفي الوقت نفسه ألفت الفرقة ولم نبدأ التمثيل إلا في شهر نوفمبر، أي بعد ثلاثة أشهر، كنت أدفع فيها أجور الممثلين، وغير ذلك من مصاريف البناء والتأثيث، وأثمان المناظر والستائر والملابس وما إلى ذلك مما أوقعني في ضائقة مالية.

وأوجدت إلى جانب الفرقة قلما خاصا لانتقاء طائفة من أهم الروايات العالمية، ونقلها إلى اللغة العربية. وقد أدى قلم الترجمة هذا واجبه، وترجم حوالي الاثنتي عشرة قصة من روائع الأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني والروسي. كما أن الأستاذ جورج مطران شقيق شاعر الأقطار العربية خليل مطران، قدم إلي ترجمة للرواية الخالدة (النسر الصغير)، تحملت في مدى الأشهر الثلاثة التي أجرينا فيها البروفات الكثير من دلع السادة الممثلين والممثلات، وأرهقتني طلباتهم التي لا مبرر لها، ورأيت من فعالهم وتعنتهم ومرمطتهم لي الشيء الكثير. ومع ذلك سايرتهم، ولم أتردد في إرضائهم، ورجلي على رقبتي!!

يا خسارة

ولم أكن أدري ما بيتوا لي من غدر وسوء. إذ أنه حين اقترب يوم البدء في العمل، وبعد أن أعددنا ست روايات للظهور، تسلل الممثلون واحد إثر الآخر من الفرقة، وعادوا إلى فرقة رمسيس دون إنذار سابق، ودون أن يتركوا لي مهلة البحث عن غيرهم. في حين أنني كنت قد أسندت إليهم أهم الأدوار في الروايات الست التي أعدت للعرض على الجمهور وبذلك راحت البروفات «هدر» ويا خسارة يا مال الناس!!

جاهدت بكل ما لدي من قوة، وما وصل إلى يدي من مال. فبدأنا عملنا في نوفمبر برواية «المتمردة»، وأعقبناها برواية «مونا فانا»، ثم مثلنا روايتي «اللصوص» و«الجنة».

وهنا خارت عزيمتي وانهدت قوتي، ولم أعد أحتمل آثار الأسلحة الدنيئة التي حوربت بها. وكنت أظن أن سوء الحظ وحده هو الذي ساقني إلى ما وصلت إليه من هبوط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤