الفصل الحادي عشر

ذلك هو الشرق الأقصى الموحد للوجود بكل ما فيه ومَن فيه، توحيدًا اهتدى إليه بلمسة وِجْدانية مباشِرة غمسَتْ كلَّ شيء في خِضَمٍّ واحد، تطفو عليه الأفراد آنًا ثم تختفي، وقد تُعاوِد الظهورَ لتختفي مرة أخرى، وهكذا دواليك. ولا تسأل فيلسوفَ الشرق الأقصى: ما برهانُك على ذلك، وأين الحجة والدليل؟ لأنه لا برهانَ عنده ولا حجَّةَ ولا دليل؛ إذ ليست هذه الوسائلُ وسائلَه في الإدراك، وهل تسأل المفتونَ بجمال البحر وروعة الشَّفَق ولَأْلَاء النجوم: أين برهانك على فتنتك؟ كلا، فالإدراكُ الجمالي للأشياء أمرٌ ذاتي مباشِر، وإمَّا أن تكون لك العينُ التي ترى أو لا تكون، وتلك هي بدايةُ المطاف ونهايتُه على السواء.

ولهذا قال القائلون: إن اليونان هم أول مَن عَرَف التاريخُ مِن قومٍ لهم عقلُ الفيلسوف المنطقي بالمعنى الدقيق، فلقد يقول فيلسوفهم شيئًا يُشبِه في توحيد الوجود ما يقوله مُتصوِّفُ الشرق الأقصى، لكنه يعطيك ما يظنُّه الدليلَ والبرهان على هيئةِ مقدماتِ المنطق ونتائجه؛ وهكذا ترى الطرفَيْن المتطرِّفَيْن: فتأمُّلٌ حَدْسي في طرف، وتدليلٌ عقلي في طرفٍ آخَر، وهما الطرفان اللذان يَشْطُران الحضارةَ البشرية — فيما يتوهَّم بعضهم — شطرين: فحضارةٌ شرقية في ناحيةٍ، وحضارةٌ غربية في ناحية أخرى، حتى لقد قِيل عن هذين الطرفين المتباعدين إنهما لا يَلْتقِيان ولن يَلْتقِيا في أمَّة واحدة، أو في رجلٍ واحد.

لكنَّ الطرفين قد اجتمعا في «هذا الشرق الأوسط» العبقري العجيب؛ ففي شخصه اجتمَعَ تأمُّلُ المتصوِّف وتحليلُ العالِم وصناعةُ العامل، حتى لقد قال «وايتهد» إن حضارة الغرب كلها ترتدُّ إلى أصولٍ ثلاثة: اليونان وفلسطين ومصر؛ فمن اليونان فلسفة، ومن فلسطين دين، ومن مصر عِلْم وصناعة.

ولقد اجتمع كثيرٌ من هذه العناصر دفعةً واحدة في شوارع الإسكندرية القديمة — كما يقول «إنج» — إذ التقى رجالُ العِلم بأصحابِ النظرة الصوفية وأصحابِ المهارة العملية في آنٍ معًا، وحين انتقل مركزُ الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية لم تكن النَّقْلةُ تغييرًا في المكان وكفى، بل كانت تغييرًا في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرِّخي الفِكْر أن يفرِّقوا بين مرحلتين يُطلِقون عليهما اسمين مختلفين وإنْ يكونا قريبين، هما «الهلينية» و«الهلنستية»؛ فالكلمة الأولى اسمٌ لفلسفة اليونان الخالصة، والكلمة الثانية اسمٌ لتلك الفلسفة نفسها حين امتزجَتْ في الإسكندرية — كما يقول «وايتهد» أيضًا — بالتراث الديني والتراث العِلمي والتراث الصناعي العملي؛ فقد أدَّى هذا المزيج إلى ضربٍ من الثقافة، فيه تأمُّلُ المتأمِّلِ وتحليلُ العالِم؛ فهي إذن ثقافةٌ لها عبقريةُ الشرق وعبقريةُ الغرب مجتمعين.

جاءت الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فانطبعت بالطابع الشرقي الصوفي على يدَيْ «أفلوطين» (وُلِد سنة ٢٠٥ ميلادية)، وهو من أبناء أسيوط وتعلَّمَ في الإسكندرية؛ فنشأ ما يُسمَّى في تاريخ الفلسفة بالأفلاطونية الجديدة، وقد كان لها بالغُ الأثر فيما بعدُ على فلاسفة المسلمين الذين أطلقوا عليها أحيانًا اسمَ مذهب الإسكندرانيين.

تقول الأفلاطونية الجديدة إن هذا العالَم كثيرُ الظواهر دائمُ التغيُّر، وهو لم يوجد بنفسه بل لا بد له من عِلَّة سابقة هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالَمُ «واحدٌ» غير متعدِّد، لا تُدرِكه العقول، وهو أزليٌّ أبديٌّ قائمٌ بنفسه ولا تَحُدُّه الحدودُ، خلَقَ الخلْقَ ولم يَحُلَّ فيما خَلَق، بل ظلَّ قائمًا بنفسه على خلقه، ليس هو ذاتًا ولا صفة، هو الإرادةُ المطلقة لا يخرج شيءٌ عن إرادته، هو عِلَّة العِلَل ولا عِلَّةَ له، وهو في كل مكانٍ ولا مكانَ له، ولمَّا كان الشَّبَه منقطعًا بينه وبين الأشياء، لم نستطِعْ أن نَصِفه إلا بصفات سلبية؛ فهو ليس مادة، وهو ليس حركة، وليس سكونًا، وليس هو في زمان ولا مكان، وليس هو صفة لأنه سابق لكل الصفات، ولو أُضِيفت إليه صفةٌ ما لَكان ذلك تشبيهًا له بشيء من مخلوقاته، وبعبارةٍ أخرى لَكان ذلك تحديدًا له؛ وهو لا متناهٍ وغير محدود، فلسنا نعلم عن طبيعة هذا «الواحد» شيئًا إلا أنه يخالف كلَّ شيء ويسمو على كل شيء. ولأنه فوق العالَم ولأنه غير مُقيَّد بحدود، لم يتم خلقه للعالَم عن طريقِ اتصاله المباشر بمخلوقاته؛ لأنه لو اتصل بخلقه اتصالًا مباشِرًا لَاقتضى ذلك أن يَمَسَّه وأن ينزل إلى مستواه. وكذلك هو «واحد» ومخلوقاته متعددة كثيرة، وخروجُ الكثرة من هذه الوَحْدة تحتاج إلى تفسير؛ فلكي يفسِّر «أفلوطين» عمليةَ الخلق دون أن يَنزِل بالله الخالق إلى مستوى خَلْقه، ودون أن يجعل الكثرة قد خرجَتْ من وَحْدته، ودون أن يجعل تغيُّرَ الأشياء وتبايُنها قد صدر عن حقيقته الواحدة التي لا تغيُّرَ فيها ولا تبايُن؛ قال: إنَّ تفكير الله في ذاته وفي كماله قد نشأ عنه فَيْض، وهذا الفَيْض هو العالَمُ المخلوق، فكما ينبعث من الشمس ضوءُها فكذلك انبعث من الله خَلْقُه إشراقًا وفَيْضًا.

ولما كانت الكائنات قد انبثقت على هذا النحو من طبيعة الله دون أن يتحرَّك هو لها أو يتغيَّر، كانت هذه الكائنات تميل بفطرتها إلى العودة إلى أصلها ومَبْعَثها الذي كانت صدرَتْ عنه؛ ومِن ثَمَّ فكلُّ كائن يحاول الوصولَ إليه، أمَّا ذلك المصدرُ نفسه فمُستقرٌّ في نفسه مُكتفٍ بذاته، على أن هذه الكائنات التي صدرت عن الله تكون سُلَّمًا نازلًا من دَرَجات الكمال؛ فكلُّ شيء أقلُّ كمالًا مما فوقه، ويستمرُّ التناقُصُ في الكمال حتى ينعدم الكمال في آخِر دَرَجات السُّلَّم انعدامًا تامًّا، حيث يتلاشى النور في الظلام؛ فأقربُ شيء إلى الله هو العقل، وأقربُ شيء إلى العقل هو النَّفْس، ولهذه النَّفْس دَرَجاتٌ تتناقص كمالًا حتى تنتهي آخِرَ الأمر إلى الطبيعة المادية؛ فالأمرُ كله شبيهٌ — كما قلنا — بانبثاقِ الضوء من مصدره، كلَّما بَعُدَ عن المصدر ضَعُفَ حتى يصير ظلامًا، وهذا الظلامُ في ترتيب الكائنات هو المادة.

فالمادة هي بمثابة الضوء السلبي إذا صحَّ هذا التعبير؛ فهي مصدرُ التعدُّد، وهي عِلَّة الشر كله لأنها عَدَم (انعدام الضوء)، والعَدَمُ هو أشدُّ دَرَجات النقص، والنقصُ هو الشر بعينه، وغايةُ الحياة هي أن تتحرَّرَ من رِبْقة المادة، وأولُ خطوة لذلك هي التحرُّر من سلطان الجسم المادي بما فيه من حواس، وبما لهذه الحواسِّ من شهوات، لكن هذه الخطوة الأولى لا تؤدي بصاحبها إلا إلى أدنى مَراتِب الفضيلة والخير، وتَلِيها خطوةٌ ثانية هي أن يفكِّر الإنسان ويتأمل، ثم خطوةٌ ثالثة هي أن يسمو الإنسان بنفسه فوق مَرْتبة التفكير والتأمُّل ليصل إلى مَنزِلة العِلم اللَّدُنِّي أو العِلم الذاتي المباشِر، وما هذه الخطواتُ كلها إلا إعدادٌ للدرجة الأخيرة، وهي أن يَذُوب في الله بالهيام والذهول والغيبوبة والوَجْد؛ عندئذٍ تتَّحِد النَّفْس بالله الواحد، فلا يُقال عن الإنسان في هذه الدرجة إنه يفكِّر في الله، أو إنه ينظر إلى الله؛ لأن كل هذه العبارات تدل على الانفصال أو على وجود شيئين، إنما يتَّحِد بالله اتحادًا تامًّا، ويَفْنى في ذاته فناءً كاملًا، وهي الحالة التي عبَّرَ عنها «الحلَّاج» — المتصوِّف المسلم — بقوله:

أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحنُ رُوحانِ حَلَلْنا بَدَنا
فإذا أبصَرْتَني أبصَرْتَه
وإذا أبصَرْتَه أبصَرْتَنا

وهل بنا حاجة إلى القول بأن هذا الشرق الأوسط في رُوحانيته، منذ أقدم عصوره، هو الذي اختاره الله ليكون مَهْبط وَحْيه إلى موسى وعيسى ومحمد ؟ فَلَئِن كان عُرْف الكتَّاب في الغرب قد جرى على تسمية الحضارة الغربية باسم الحضارة المسيحية آنًا، والحضارة المسيحية اليهودية آنًا آخَر، فمِن أين جاءَتْهم الدِّيانتان؟ إنهما جاءتا من مَهْدهما ومَهْبط وَحْيهما؛ الشرق الأوسط. وأقل ما يقال في ذلك هو أنه إن كان من خصائص العقيدتين أن تَطْبَعا العقلَ بطابعٍ معيَّن في الفكر والعمل، فيستحيل أن يكون ذلك الطابعُ غريبًا على أهل الشرق الأوسط الذين تَلقَّوْهما وآمنوا بهما قبل أن ينقلوهما إلى بلاد الغرب.

لقد كانت الإسكندرية حاميةً للمسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوتُ المسيحي لأول مرة يُنسِّق بين العقيدةِ من جهةٍ والعقلِ الفلسفي من جهةٍ أخرى؛ ممَّا رَسَم الطريقَ أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك طوالَ العصور الوسطى، وذلك دليلٌ على اجتماعِ أمرَيْن لأهل هذه البلاد كما زعمنا: القلب والعقل معًا، الإيمان والعلم، اللمسة المباشِرة ومعها عملية التحليل العقلي، وإنَّا لَنَذكُر من آباء الكنيسة الإسكندريين رجلًا واحدًا هو حَسْبُنا دليلًا على هذا الذي نقوله، هو «أوريجن» (١٨٥–٢٥٤)، وهو معاصرٌ ﻟ «أفلوطين» الذي أسلفنا لك ذِكْره منذ حين، وقد بذل «أوريجن» جهدًا في تثبيت العقيدة المسيحية عندما كانت لا تزال تتعرَّض لهجماتِ المنكرين، ومن أهم ما قاله وأيَّده بالأدلة هو أن الفلسفةَ اليونانية القائمة على العقل المنطقي الصِّرْف، والأناجيلَ القائمة على الإلهام والوحي الصِّرْف، إنما يتطابقان ولا يتعارضان، مما يبيِّن أن العقل والنقل يسيران معًا ولا يتناقضان، ولا يَخْفى أن هذا هو الأساسُ الذي قامت عليه فلسفةُ العصور الوسطى كلها في الشرق الأوسط الإسلامي وفي الغرب المسيحي على السواء؛ إذ أخذ الفلاسفة في كلٍّ منهما يحاولون البرهانَ على أن الوحْيَ الديني ونِتاجَ العقل الفلسفي اليوناني ينتهيان آخِرَ الأمر إلى نتيجة واحدة.

على أن «أوريجن» حين قال ذلك عن الأناجيل، لم يَفُتْه أن يؤكد بأن صحةَ ما قد ورد فيها ليس مُترتِّبًا على صدق الفلسفة اليونانية، بل «الإنجيل يحمل برهانَ نفسه بنفسه، وهو أقدسُ منِ أيِّ برهان أقامَه فنُّ الجدل اليوناني»؛ وهكذا يتمثَّل في الرجل الواحد إيمانُه بعقيدته واهتداؤه بعقله في آنٍ واحد، وذلك هو ما أقول عنه إنه رُوح الشرق الأوسط في شتَّى عصوره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤