مقدمة «الدفاع»

لسنا نستطيع أن نقطع برأي في مقدار صحة هذا الدفاع صحةً تاريخية، فلا ندري أأراد أفلاطون أن يسجل فيه أقوال سقراط في دفاعه عن نفسه أمام قضاته، أم أراد أن يكتب ما كان يجب أن يقوله سقراط في ذلك الدفاع. أعني بعبارة أخرى أنه أراد أن يدافع عن سقراط أمام الأجيال المقبلة؟ ولكن أرجح الظن أن يكون أفلاطون قد صور سقراط، وعنيَ بإخراج الصورة كاملة من حيث الفن، دون أن يلتزم النقل الحرفي لما قاله سقراط. والحق أنه استطاع أن يصور سقراط في دقة بالغة وجمال رائع، حتى ليحس القارئ شخصية سقراط في كل جزء من أجزاء الحوار؛ فهذا التحدي للقضاة سقراطي بغير شك، وهذا الأسلوب المفكك هو أسلوب سقراط الذي كان يستخدمه في نقاشه مع الأثينيين في الطرقات والأسواق، وهذه السخرية المرة وذلك الجأش الرابط والخلق القوي المتين والاستخفاف بالموت، كلها نواحٍ سقراطية وُفِّقَ أفلاطون في إخراجها وتصويرها أكمل ما يكون توفيق الفنان البارع. ولقد تعمَّدَ أفلاطون أن يسرد كثيرًا من الحقائق التاريخية في حياة سقراط. وأجراها في الحديث مجرى المصادفة كأنها جاءت عفوًا وبغير تدبير سابق ليسجل على صفحة الدهر تاريخ أستاذه إلى جانب صورة شخصيته.

ومع ذلك فقد يكون سقراط تحدَّثَ فعلًا بما رواه أفلاطون في هذا «الدفاع»، بل قد يكون استخدم كثيرًا من العبارات التي أوردها أفلاطون بنصها، ولكنَّا رغم ذلك ينبغي أن نذكر أن أفلاطون قد أعمل فيها قلمه وفنه قبل كل شيء؛ لأنه لم يكن مؤرِّخًا حرفيًّا للحقائق، فلم يُرِد قطُّ أن يكون حوار «الدفاع» سجلًّا يردد فيه عبارة سقراط بنصها، ولكنها إنشاء محض وتأليف خالص، شأنها في ذلك شأن كل محاوراته. ولكنا نعود فنقول إن ذلك لا يمنع أن تكون بعض عبارات سقراط قد رسخت في ذهن أفلاطون — وقد كان أفلاطون يشهد المحاكمة — فرددها دون قصد منه، ومن يدري؟ فلعل دفاع سقراط عن نفسه كان أمتن وأروع من هذا الدفاع الأفلاطوني؛ وإذن فنحن نريد بذلك أن نخلص إلى نتيجة، وهي أن محاورة «الدفاع» تصوير صادق لشخصية سقراط، ولكننا لا نستطيع أن نقطع في الرأي بأن هذه العبارة أو تلك قد نطق بها سقراط كما هي، أو أن هذه الحادثة أو تلك قد وقعت فعلًا بغير تحوير أو تحريف.

وينقسم «الدفاع» إلى ثلاثة أقسام:

  • الأوَّل: الاتهام وإنكار التهمة.
  • الثاني: خطاب قصير يطلب فيه تخفيف العقوبة.
  • الثالث: عتاب وتقريع.

ويبدأ الجزء الأوَّل بطلب المعذرة من القضاة عن أسلوبه العامي الذي لا زخرف فيه ولا طلاء؛ إذ كان دائمًا عدوًّا للبلاغة ولا يعرف بلاغة غير الحق؛ وإذن فلن يستر شخصيته بشيء من الزيف والخداع بما ينمق من عبارة الخطاب … ثم يبدأ الدفاع فيقسم متهميه طائفتين: أولاهما متهم لا اسم له — أعني الرأي العام — فقد سمع الناس جميعًا خلال السنوات الأخيرة أنه يفسد الشباب بتعاليمه، كما شهدوا كيف مثَّله أرستوفان في رواية «السحاب» تمثيلًا شائنًا. وأمَّا الطائفة الثانية من المتهمين فرجال نابهون أرادوا باتهامهم إياه أن يعبروا عما يختلج في صدور سائر الناس … وأمَّا التهم التي وجهها الفريقان فيمكن تلخيصها فيما يلي:

يقول الفريق الأوَّل: «إن سقراط فاعل للشر، وهو رجل طُلَعةٌ يبحث فيما تحت الأرض وما فوق السماء، ويُلبس الباطل ثوب الحق، ثم هو يعلم هذا كله للناس.» وأمَّا الفريق الثاني فيقول: «إن سقراط فاعل للشر ويفسد الشباب، وهو لا يعترف بالآلهة التي اعترفت بها الدولة، ويستبدل بها معبودات جديدة.» ويظهر أن هذه العبارة الأخيرة كانت نص الدعوى التي توجه بها المتهمون إلى القضاة.

ويبدأ سقراط في الإجابة عن هذه التهم بتوضيح بعض الجوانب الغامضة؛ فقد فرض الشعراء الهازلون وظن غمار الشعب أنه يذهب في الرأي مذهب الفلاسفة الطبيعيين والسفسطائيين، ولكن ذلك خطأ كله؛ فهو مع احترامه لكلتا الطائفتين احترامًا أعلنه صراحةً أمام المحكمة (مع أنه في سائر المحاورات يسخر منهما) إلا أنه ليس واحدًا من هؤلاء ولا أولئك؛ فهو من ناحية لا يدري شيئًا عن الفلسفة الطبيعية، لا احتقارًا لأبحاثها، ولكن الواقع أنه يجهلها فبدهي أنه لم يقل كلمة فيها، ومن ناحية أخرى لم يكن من السفسطائيين لأنه لم يؤجَر على تعليمه؛ وذلك لأنه في الحقيقة لم يعلم شيئًا حتى يعلِّمه. وهنا يمتدح أحد السفسطائيين (أفينوس Evenus) لأنه يُعلِّم الفضيلة بأجر معقول، فلا يتقاضى أكثر من خمسة دراهم. وفي ذلك ترى سخرية سقراط التي لم ينسَها حتى وهو في موقف المحاكمة وأمام جمع غفير من السوقة.

ويستطرد سقراط في شرح السبب الذي دعا الناس أن يقذفوه بهذه التهمة المرذولة، فيقول إن علة ذلك هي رسالته التي أخذ على نفسه أن يؤديها على أكمل وجوه الأداء؛ فلقد ذهب «شريفون» إلى دلفي وسأل الراعية إن كان بين الناس من هو أحكم من سقراط فكان جوابها أن ليس فيهم من ترجح حكمته على حكمة هذا الرجل، فليت شعري ماذا تريد الراعية بقولها؟ كيف تعلن الراعية أن الرجل الذي لا يدري شيئًا والذي يدري تمام الدراية أنه لا يدري شيئًا هو أحكم الناس؟ فكر سقراط فيما يمكن أن يعنيه جواب الراعية فصمم أن يقيم البرهان على خطئه بأن يلتمس في الناس من هو أحكم منه فيبطل بذلك قول الراعية بطلانًا حاسمًا، فقصد أول ما قصد إلى الساسة ثم إلى الشعراء ثم إلى أرباب الصناعة، ولكن لشد ما أدهشه أن يجد هؤلاء جميعًا لا يعلمون شيئًا، أو لا يكادون يعلمون شيئًا أكثر مما يعلم هو، فإن امتازوا بعلمهم أحيانًا أذهب الغرور حسنة امتيازهم. إنه لا يعلم شيئًا ولكنه يعلم عن نفسه ذلك الجهل، أمَّا هم فإن علموا فلا يعلمون إلا أقل العلم وأضأله، ومع ذلك يتوهمون أنهم أحاطوا بعلمهم كل شيء. لهذا كان حقيقًا بسقراط أن ينفق حياته كلها يؤدي رسالته، وهي أن يكشف عن حقيقة ما يزعم الناس لأنفسهم من حكمة. وهذه المحاولة قد استنفدت كل ما وسعه من جهد حتى اضطُرَّ اضطرارًا ألا ينغمس في أمور الدولة العامة بل أن يهمل شئون حياته الخاصة نفسها. ولقد حلا لأثرياء الشبان أن يقلدوه؛ فأخذوا يزجون فراغهم الطويل في امتحان أدعياء الحكمة واختبارهم؛ مما كان يدعو إلى العجب حقًّا، فنشأت من أجل ذلك عداوة مرة في نفوس العلماء لسقراط؛ إذ صور لهم ظنهم أنه يحرض هؤلاء الشبان ويدفعهم إلى ما يصنعون دفعًا؛ فأرادوا أن يثأروا لأنفسهم فأطلقوا عليه هذا الاسم الخبيث؛ أعني مفسد الشباب، ثم زادوا في النكاية فأخذوا يوهمون الناس أنه القائل بالآراء الطبيعية القديمة، وأنه مادي ملحد وأنه سفسطائي المذهب، وذلك لعمري هو الاتهام بعينه الذي ما يفتأ الناس في كل عهد يرمون به الفلاسفة لكي يسيئوا إليهم عند عامة الناس.

أمَّا التهمة الثانية، فيبدأ ردها بأن يلقي سؤالًا عن «مليتس» «إذا كنت أنا المفسد فمن ذا يصلح أبناء الوطن؟» فيرد «مليتس» بأن كل الناس مصلحون، ولكن أي قول أكثر تناقُضًا من هذه العبارة؛ فهل يعقل عاقل أن يُسيء سقراط إلى أبناء الوطن مع أنه يعيش بين ظَهْرانَيْهم؟ اللهم إنه إذا أساء فإساءة غير مقصودة ولا متعمدة، وإن كانت كذلك فما كان أحرى «مليتس» أن يرشده إلى طريق الهدى بدل أن يسارع فيقدمه إلى المحاكمة.

ولكن متهميه لم يقتصروا على اتهامه بإفساد الشباب، بل زعموا أنه يحثُّ الناس على أن يكفروا بآلهة المدينة وأن يعبدوا آلهة جديدة ابتدعها هو ابتداعًا، بل إنهم ليذهبون إلى أنه أنكر الآلهة إنكارًا تامًّا، وحتى الشمس والقمر ظن فيهما أنهما من صخور وتراب، فيعجب لذلك سقراط ويبين لقضاته أن ذلك خلط واضح بين آرائه وبين ما كان يقوله «أناكسجوراس» من قبله، فلا يمكن أن يكون الشعب الأثيني من الجهالة بحيث تجوز عليه هذه المغالطة فينسب إلى سقراط ما قاله سواه.

ثم يختم سقراط استجوابه لمليتس، ويوجه عنايته إلى التهمة الأساسية. فقد يُسأل سائل: لماذا يصر سقراط على أداء رسالته إذا كانت تلك الرسالة تؤدي به إلى الموت؟ فيجيب سقراط بأن ذلك واجب حتم عليه؛ فما ينبغي أن يتخلى عن مكانه الذي اختاره له الله، كما لم يُجِزْ لنفسه أثناء الحروب أن يزول عن موقفه الذي اختاره له القواد، هذا فضلًا عن أنه لم يبلغ من الحكمة مبلغًا يمكنه من العلم إن كان الموت خيرًا أم شرًّا، في حين أن تركه لواجبه شر محقق، فكيف يقدم على شر لا شك فيه خلاصًا من الموت الذي لا يدري إن كان خيرًا أم شرًّا. كلا! إن ذلك لا يجوز، فلن ينثني عن أداء واجبه، وسيؤثر لنفسه طاعة الله على طاعة الإنسان. وسيظل يعلم الناس جميعًا في مختلف أسنانهم وجوب الفضيلة وضرورة الإصلاح، فإن أعرضوا عنه وأبوا أن يعيروه آذانًا مصغية فسيعمد إلى تأنيبهم ولومهم. ذلك هو إفساده للشباب الذي لن يتردد في فعله صدوعًا بأمر الله، وإن تهدده في هذا السبيل ألف موت لا موت واحد.

إن سقراط حين يرغب إلى المحكمة أن تُنجيه من عقوبة الموت لا يفعل ذلك من أجل نفسه ولكن من أجل قومه؛ لأنه صديقهم الذي قيضته السماء لإصلاحهم. ومن يدري؟ لعلهم إن أماتوه لا يوفَّقون إلى خَلَف له يقوم لهم بما كان يقوم به. وهنا قد يعترض معترض قائلًا إن كان سقراط بحق يسعى إلى صالح قومه فلماذا لم يحاول قطُّ أن يساهم في الشئون العامة بنصيب؟ فيجيب سقراط بأنه إن فعل ذلك وحارب من أجل الحق لما قدر له أن يمتدَّ أجله فيفعل ما فعل من خير. هذا إلى أنه قد خاطر فعلًا بحياته مرتين بأن اشترك في شئون الدولة من أجل العدالة: الأولى في محاكمة القواد، والثانية في مقاومة استبداد حكومة الطغاة الثلاثين.

ولكنه إن لم يقُم بقسط وافر من شئون الدولة فقد أنفق أيامه في تعليم مواطنيه تعليمًا لم يؤجَر عليه … تلك كانت رسالته، فسواء انقلب تلاميذه أخيارًا أم أشرارًا فليس من العدل في شيء أن يُتَّهَم بجريرتهم؛ لأنه لم يَعِدْهم قطُّ بأن يُعلِّمهم شيئًا؛ فكان لهم أن يقبلوا عليه إن شاءوا وأن ينفضوا من حوله إن أرادوا، ولكنهم شاءوا لأنفسهم أن يلتفوا حوله لأنهم أحسُّوا لذة عظيمة في الاستماع إلى أدعياء الحكمة يُمتحَنون فيُفتَضح أمرهم. فلو كان سقراط قد أفسد هؤلاء الشبان لقضى الواجب على ذويهم من الشيوخ — إن لم يكن واجبهم هم — أن يتقدموا إلى المحكمة بالشهادة ضده. وهنا يقول سقراط في شيء من التحدي إن الفرصة لا تزال سانحة لكائن من كان منهم أن يتقدم إلى القضاة بشهادته، ولكن العجب أن آباء أولئك الشبان وأقرباءهم جاءوا إلى المحكمة ليبرئوا ساحة سقراط من تهمة الإفساد. وإذن فهؤلاء جميعًا ألسنة ناطقة بأن سقراط إنما يقول الحق؛ إذن مليتس مفترٍ كذاب.

ذلك كل ما أراد أن يقوله سقراط تقريبًا، وهو بعد هذا الخطاب يأبى أن يسترحم القضاة ليخلوا سبيله، كما يرفض قطعًا أن يأتي بأطفاله باكين معولين ليؤثروا في قلوب القضاة ببكائهم، فتلك كانت عادة الأثينيين إذا حُكم على أحدهم، بل إن سقراط ليزعم أن القضاة أنفسهم لم يكونوا يتعففون عن مثل هذا في ظرف كظرفه ذاك، ولكنه يقرر أنه على ثقة بأن القضاة لن يحنقوا أنْ لم يلجأ سقراط إلى ما تواضع الأثينيون أن يلجئوا إليه فرارًا من العقاب؛ لأنه على يقين أن ذلك السلوك مجلبة للعار لأثينا بأسرها. ويُضيف سقراط إلى هذا أن القضاة قد أقسموا ألا يتهاونوا في تطبيق العدالة، فكيف إذن يُبيح لنفسه أن يسترحمهم لكي يحملهم على الحنث في أيمانهم، إنه لو فعل لعُدَّ ذلك فجورًا منه في الوقت الذي يقف متهَمًا بالفجور.

figure
معبد دلفي حيث أجابت الراعية بأن سقراط أحكم الأثينيين.

وصدر الحكم بإدانته كما توقع، فترى سقراط بعد هذه الإدانة لا يرق ولا يضعف ولا يلين، بل إنه على النقيض ليسمو وتأخذه نزعة قوية من الكبرياء … إن «أنيتَس» قد اقترح أن تنزل بالجاني عقوبة الإعدام؛ فماذا يقترح سقراط من جانبه؟ (إذ كانت هذه عادة الأثينيين في محاكمتهم). يجيب سقراط بأنه قد كان محسنًا للشعب الأثيني؛ فأنفق حياته كلها في تقديم الخير له؛ ولذا فهو يرى نفسه جديرًا على الأقل بمثل ما يُجزى به الظافرون في الألعاب الأوليمبية؛ أعني أن يعيش على حساب الدولة؛ فليس من الحكمة أن يقترح لنفسه عقوبة أخرى؛ لأنه لا يدري إن كان الموت الذي اقترحه «أنيتس» خيرًا أم شرًّا، وماذا عساه يقترح؟ أيقترح السجن أو النفي، وكلاهما شر محقق؟ نعم قد لا تكون خسارة المال شرًّا، ولو كان يملك من المال شيئًا لاقترح أن يُقضى عليه بغرامة مالية، وهنا يتعهد أصدقاؤه أن يدفعوا له الغُرم إن قُضي به …

يصدر الحكم بالإعدام.

يقول سقراط لقضاته بعد أن أجروا فيه حكم الإعدام، إنه قد اكتهل، وإن الأثينيين لن يفيدوا شيئًا حين يسلبوه السنوات القلائل الباقية له من حياته، ولكنهم سيجلبون على أنفسهم العار بقتله. وقد كان يستطيع أن يلجأ إلى الفرار من أثينا، ولكن فيمَ الفرار وهو لا يرجو إطالة الحياة؟ بل إنه ليؤثِر أن يموت كما يشتهي، فذلك خير من أن يعيش كما يريد له الناس أن يعيش. نعم إنه قُضي عليه بالموت، ولكن هذا القضاء بغير شك دنَّس قضاته بخطيئة الزيغ والفجور، وإنهم في ذلك لأفدح منه مُصابًا؛ لأن الفجور أسرع لحاقًا بصاحبه من الموت، فإن كان هو سيلقى عقوبته بعد حين؛ فقد لقي متهِموه عقابهم بالفعل.

أمَّا وهو الآن على وشك الموت، فإنه يتنبأ لهم بنبوءة، إنهم يحكمون عليه بالموت ليتخلصوا ممن ينغص عليهم العيش، ولكن موته سيكون نواة تُنتج عددًا وفيرًا من الأتباع الذين قد يكونون في محاسبتهم أشد منه عنفًا وقسوةً؛ لأنهم أصغر منه سنًّا، وأكثر جرأة.

وما دامت أمامه فسحة من الوقت، فإنه يودُّ أن يقول كلمة قصيرة لهؤلاء الذين حاولوا أن يبرئوه؛ فهو ينبئهم أن شارته الإلهية لم تعترضه قطُّ في دفاعه. ولعل معنى ذلك أن الموت الذي يُقبل عليه خير لا شرَّ فيه؛ وذلك لأن الموت إما أن يكون نومًا طويلًا، وبذلك يكون أحلى ضروب النعاس، وإمَّا أن يكون سياحة إلى العالم الآخر حيث تحتشد أرواح الموتى في صعيد واحد؛ وعندئذٍ تسنح له الفرصة الجميلة بأن يلتقيَ بفحول الأبطال الذين تولَّوْا قبله، ومما يحبب في تلك الحياة أنها خالدة، فلن يكون ثمة موت يجزع منه الناس فيكتمون آراءهم في نفوسهم.

إنه يستحيل أن يصيب الرجل الطيب شر لا في حياته ولا بعد مماته، ولقد رضيت الآلهة لسقراط أن يرحل؛ فهو إذن يعفو عن قضاته لأنهم لم يؤذوه بقضائهم فيه، بل هم على عكس ذلك ساقوه إلى الخير، وإن يكن خيرًا لم يقصدوا إليه قط.

ويعقب سقراط على هذا القول بطلب أخير: فهو يرجو الناس أن يُرهقوا أبناءه من بعده، كما أرهقهم هو (أي أرهق الناس)، وذلك إن بدا منهم أنهم يؤثِرون المال على الفضيلة، أو ظنوا في أنفسهم العلم وهم جاهلون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤