مقدمة «فيدون»

مات سُقراط، ثم انقضت بعد موته شهور أو سنين، فطُلب إلى فيدون وهو التِّلميذ المحبب إلى أستاذه أنْ يقصَّ على أهل «فليوس» كيف قَضَى سقراط، وكيف أنفق أخريات ساعاته، فاستجاب فيدون، وقص هذا الحوار الذي نُقدِّم له؛ وإذن فالمحاورة قد صيغت بالضرورة في أسلوب القصة؛ لأنَّه كان لا بدَّ لفيدون أن يصف سُقراط في حديثه وحركاته، فلم يَفُته فيما روى أدق التفصيلات، وكان السامعون يتابعون الحديث في شغف لا يقل عن شغف راويه.

حُكِمَ على سقراط بالموت، وكان لا بدَّ له أن ينتظر في سجنه حتى تعود السفينة المُقدَّسة من «ديلوس»، وهي رحلة تستغرق ثلاثين يومًا، اتخذها الأثينيون شهرًا حرامًا لا يجوز القتل خلاله؛ فأنفق سقراط هذه الأيام يتحدث إلى صفوة مختارة من تلاميذه، فلمَّا انتهى الشهر المحرم، أقبل التلاميذُ في ساعة باكرة لكي يحاوروا سقراط الحوار الأخير، وكان بين الحاضرين «سمياس» و«سيبيس» و«أقريطون» وحارس السجن الذي اختاره أفلاطون ليصور به تأثير سقراط في عامة الناس.

لم يكد يدخل هؤلاء التلاميذ والأصدقاء غرفة سقراط حتى همَّ هذا بإرسال زوجته وأبنائه — وكانوا في زيارته — إلى الدار لكي يتفرغَ إلى محادثة أصدقائه، وكان ساعتئذٍ قد حُلَّت عنه القيود لتوه، فانتهز هذه الفرصة، وبدأ الحديث بأن لاحظ أنَّ اللَّذة تعقب الألم (وهنا ينبغي أن نلاحظ أنَّ أفلاطون يُمِّهد بذلك إلى نظريته التي سيبسطها فيما بعد عن تعاقب الأضداد)، فيقول عن اللذة والألم: إنَّهما كانا جديرين أن يمثلهما «إيسوب» في قصة، فيصورهما مخلوقًا ذا رأسين، فاستدعى ذكر «إيسوب» سؤالًا ألقاه «سيبيس» يسأل سقراط عن العلة التي دفعته إلى قرض الشعر في السجن — إذ كان يحاول أن ينظم قصص «إيسوب» شعرًا — مع أنَّه لم يكن شاعرًا، فأجاب سقراط بأنه إنما لجأ إلى ذلك؛ لأنه أُنذر مرات عدة في أحلامه بوجوب ممارسته الموسيقى، ولما كان حينئذٍ يدنو من الموت أراد أن يتحوط لنفسه فينفذ إرادة النذير الذي أهاب به في رؤاه تنفيذًا حرفيًّا من ناحية، وروحيًّا من ناحية أخرى، بنظمه للشعر وبتعلمه للفلسفة، ويستطرد سقراط في الحديث فيذكر الموت والرغبة فيه مع تحريم الانتحار لعدم شرعيته، فيسأل «سيبيس» لماذا يكون الانتحار في رأي الناس خطيئة إذا كان الموت خيرًا؟ فيجيبه سقراط: بأن الإنسان سجين لا يجوز له شرعًا أن يفتح باب سجنه بنفسه ليفرَّ هاربًا، وثانيًا لأن الإنسان ليس مِلكًا لنفسه، ولكنه مِلك للآلهة؛ فليس له الحق إذن في أن يتصرف فيما ليس ملكًا له. فيسأل «سيبيس» قائلًا: لماذا يرغب الإنسان في الموت ما دام ملكًا للآلهة مع أنَّه بذلك سيغادر أصدقاءه (هو هنا يعرِّض بسقراط) فيقول سقراط: إنَّ الإنسان يرغب في الموت؛ لأنه سيكون في حماية الآلهة، وهو من غير شك لا يستطيع أن يُعنَى بنفسه كما تُعنَى به الآلهة … ثم يستطرد سقراط فيقول: إنَّ الفيلسوف يُريد الموت، ولكن ليس معنى الموت الذي يريده الفيلسوف هو ما يفهمه الناس؛ فما معناه إذن؟ الموت هو انفصال الروح عن الجسد، والفيلسوف يريد هذا النوع من الانفصال؛ لأنه يودُّ أن يتحرر من عالم اللذة الجسدية ومن الحواس التي تشوش التفكير العقلي. إنَّ الفيلسوف يُريد أن يتخلص من عينيه وأذنيه؛ ليشهد الحقيقة بضوء العقل وحده؛ فكل ما يصيب الناس من شر، وكل ما ينغمسون فيه من أسباب الفجور وألوان الرغبة إنَّما مصدره الجسد، والموت هو الذي ينجيه من تلك المفاسد التي يستطيع وهو حي أن يتخلص منها، فإذا كان الفيلسوف يريد هذا الانفصال ويتمناه فهل يندم إذا حانت ساعته؟ إذا كان ميِّتًا في حياته، فلماذا يخشى هذا النوع الثاني من الموت مع أنه وحده السبيل إلى مشاهدة الحكمة في صفائها؟

هذا إلى أنَّ سقراط يخالف سائر الناس في رأيه عن الخير والشر؛ فالناس شجعان حين يخشون خطرًا أعظم مما يقبلون عليه بشجاعتهم، وهم معتدلون حين ينشدون باعتدالهم لذة أعظم من اللذة التي يصيبونها في إسرافهم؛ فأما الفيلسوف فيزدري هذه الموازنة بين اللذة والألم؛ لأنَّها موازنة تصلح لتبادل السلع في التجارة، ولكنها لا تصلح لتبادل الفضائل بحال من الأحوال، فالفيلسوف لا يعتبر الفضائل جميعًا بكل ما فيها من حكمة إلا وسائل تطهير للروح، وفي سبيل هذا التطهير الروحي يُقبل سقراط على الموت راضيًا.

ولكن لا يُخشى أن تفنى الروح إذا ما فارقت جسدها كما يتلاشى الدخان أو كما يتبعثر الهواء؟ فيجيب سقراط على هذا الاعتراض أوَّلًا بأن يحتجَّ قبل كلِّ شيء بما ذهب إليه رجال المذهب الأورفي منذ القدم من أن أرواح الموتى كائنةٌ في العالم الأدنى، وأنَّ الأحياء إنما يستمدون أرواحهم منها، وهنا يحاول سقراط أن يؤيد هذا المذهب برأي فلسفي وهو أن الأضداد كلها — كالأصغر والأكبر، والأضعف والأقوى، والنائم والمستيقظ، والحياة والموت — يتولد أحدهما من الآخر، ويستحيل أن تكون عملية التوليد هذه مجرد انتقال من ضد إلى ضده وكفى؛ أعني مثلًا أن تنتقل الحياة إلى الموت ثم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ لو صح ذلك لانتهى كل شيء إلى الموت، ولما أمكن لدورة الطبيعة أن تتم إلا إذا انتقل الموت بدوره إلى الحياة، فيصدر الأحياء عن الأموات كما يعود هؤلاء الأحياء أنفسهم فيمضون إلى عالم الأموات.

وهنا يسوق أفلاطون نظريته في التذكر؛ ليؤيد بها وجود الروح قبل حلولها بالجسد، وهو يُقيم البراهين على هذه النظرية، وأوَّل برهان يُساق لذلك أنك تستطيع أن تستنتج من الجاهل بعض النتائج الرياضية الصحيحة بأن ترسم له شكلًا هندسيًّا وتأخذ في سؤاله فيجيبك بالعلم الصحيح، ولا يكون ذلك إلا أن يكون العلم الرياضي كامنًا في الروح، والبرهان الثاني ما للروح من مقدرة على ترابط المعاني، أي استثارة بعضها ببعض، فترى سمياس مثلًا فيذكرك ذلك بسيبيس، أو ترى صورة سمياس فتذكر بذلك سمياس نفسه، كذلك قد ترى القيثارة فتذكرك بالعازف عليها، وقد ترى القطع المتساوية من الخشب أو الحجر فيستدعي ذلك في نفسك فكرة سامية هي فكرة المساواة المُطلقة. وجديرٌ بنا في هذا الموضع أن نلاحظ أنَّ الأشياء المادية المتساوية لا يبلغ تساويها مبلغ فكرة المساواة المطلقة التي نقارن بها تلك الأشياء ونتخذها مقياسًا لها، ولما كان المقياس لا بدَّ أنْ يكونَ سابقًا للشيء المقيس، وجب أن تكون فكرة المساواة أسبق من المتساويات المادية، وإذا كانت سابقة لها فهي كذلك أسبق من الحواس التي أدركتها؛ وإذن فقد أوتيناها قبل الميلاد، أو ساعة الميلاد نفسها، ولكن الناس جميعًا لا يعرفون شيئًا إلا إذا استذكروه، فمتى أُنسوا العلم إن كانوا قد أوتوه ساعة الميلاد؟ هل يُعقَل أن يوهبوه ويُسلَبوه في لحظة بعينها؟ وإذن فلم يبقَ إلا أن يكون العلم مفطورًا في الروح قبل الميلاد أي قبل حلولها بالجسد، وهذا دليل على وجود الروح قبل اتصالها بالجسد، وأنَّها كانت حينئذٍ على شيءٍ من الذكاء والإدراك، وإذا صح ذلك فقد صدقت نظرية المُثُل كلها.

فيعترض سمياس وسيبيس بأن هذه الأدلة إنَّما تبرهن على وجود الروح قبل اتصالها بالجسد، ولكنها لا تدل على خلودها بعد انفصالها عنه، فيرد سقراط عليهما بأن يذكرهما بما اتفقوا عليه جميعًا منذ حين بشأن الأضداد وما يتبع ذلك من اشتقاق الأحياء من الأموات، أمَّا أن نخشى على الروح أن يبددها الهواء عند رحيلها، لا سيَّما إن كانت الريح عاصفة فتفنى بذلك وتزول، فخوفٌ لا يعتمد على أساس صحيح. ولنسائل أنفسنا: أي الأشياء يجوز عليه التحلل والفساد، أهو البسيط أم المركب؟ الثابت أم المتغير؟ الفكرة الخفية أم المرئي المحسوس؟ لا شك في أنَّ المركب المتغير المرئي هو ما يجوز عليه الفساد، وذلك هو الجسم، أمَّا الروح — وهي فكرة خالصة لا تعرف التغير والتبدل — فلا يعتريها الفساد. هذا إلى أنَّ الروح تأمر والجسم يطيع؛ وإذن فالروح شبيهة بالإلهي الخالد، وأمَّا الجسد فقريب من الزائل الفاني. وهكذا مهما قلبت وجهة النظر رأيت الروح تصوِّر القداسة والخلود، والجسد يصور الخصائص البشرية الفانية، فبينا ترى الجسد يتعرض للتحلل السريع ترى الروح تستعصي على الفساد، أو تكاد تستعصي عليه، ومع ذلك فقد يُمكن للجسد أن يُصان بالتحنيط حينًا طويلًا من الدهر؛ فهل نحتمل للروح بعد ذلك أن تفنى وتتبعثر في الهواء وهي في طريقها إلى الله الخيِّر الحكيم؟ إنَّ الروح بعد الموت تتجمع في نفسها، وترتفع عن الجسد، وتتخلص من أدران الناس وسخفهم لتعيش مع الآلهة إلى الأبد.

أمَّا الروح التي دنستها الصفات الجسدية وأثقلتها، والتي لا تبصر إلا بأعين الحواس والتي انغمست في الشهوات الجسدية فيتعذر عليها بعدئذٍ أن تتجرد. مثل هذه الروح تخاف الدنو من العالم الأدنى فتتلكأ وتتثاقل حول المقابر، مشفقةً أن تُفارق الجسد الذي أحبته، فتراها تدور حول الرموس في صورة الجن، ويمكن للعين البشرية أن تراها؛ لأنَّها تكونُ مشبعة بالمادة حتى تنقلب شيئًا محسوسًا، وينتهي بها الأمر أن تتقمص حيوانًا تتفق طبيعته مع حياتها الأولى، حياة الحس والمادة، فتتقمص حمارًا أو ذئبًا أو حدأة. وأسعد هذه الأرواح الأرضية ما مارسَ منها الفضيلة بغير فلسفة، ويؤذن لهذا الضرب من الأرواح أنْ يتقمص حيوانًا وديع الطبائع ذا نظم اجتماعية كالنمل والنحل … والفيلسوف وحده هو الذي يرحل نقيًّا طاهرًا، وهو وحده الذي يؤذَن له أن يُضاف إلى عشيرة الآلهة؛ وذلك ما يدعو إلى الترفع عن شهوات الجسد؛ فهو لا يمتنع عن تلك الشهوات خشية الخسارة والعار كما يفعل سائر الناس، بل لأنه يريد ألا يمتزج بالمادة حتى لا تثقله في رحلته الروحية بعد الموت. لقد كان الفيلسوف في حياته مكبَّلًا بما يُكبَّل سائر الناس من أغلال الجسد، ولكن الفلسفة تحدثت إليه فأصغى إلى حديثها، فكانت خلاصًا له من هذا العنصر الجسدي الدنيء، وأزجت عن بصيرته غمائم العواعف وخداع الحواس؛ وبذلك استطاعت روحه أن تنجو من تأثير اللذائذ والآلام، التي من خصائصها أن تربط الروح بالجسد كأنها المسامير، لا رغبةً منه في أن يظفر بلذة أعظم، ولكن لأنه يعلم أنه لا يستطيع أن يشهد ضوء الحقيقة إلا إذا هدأ وتحرر من قيود الجسد.

ولكن ذلك لا يزيل الشَّك عند سمياس وسيبيس، ومع ذلك فلم يعترضا، فيستطرد سقراط متعجبًا كيف يحاول أصدقاؤه أن يصرفوه عن رغبة الموت، ولماذا لا يكون كالتم Swan الذي يُنفق حياته كلها في الإنشاد حتى إذا ما جاءه الموت ازداد إنشادًا بل كان أشجى في غنائه منه في أي وقت مضى؟ … وهنا يقول سمياس: إنَّ الحقيقة وإن تكن مستحيلة الإدراك في صورتها الإلهية، غير أنَّه من الضعف ألا يحاول الإنسان أن يدرك منها أقوم ما يستطيع البشر إدراكه، وإن ذلك ليكفيه ليتخذ منه فلكًا يسبح عليه في خضم الحياة، ويمضي في بسط إشكاله قائلًا: لقد أقمنا الدليل على أنَّ الروح خفية لا تُرى، وأنَّها غير مجسدة، وأنَّها لذلك خالدة بعد انفصالها عن الجسد وموجودة قبل اتصالها به، ولكن ألسنا نزعم أنها عبارة عن انسجام، وإذن فيكون ما يربطها بالجسد هو ما يربط النغمة بالقيثارة؟ فما القول إذا كانت النغمة لا تبقى بعد فناء القيثارة؟ وهنا يتقدم سيبيس أيضًا باعتراض يسوقه في تشبيه كما فعل سمياس باعتراضه، فسلَّم أنَّ الروح أطول بقاءً من الجسد، غير أنَّه اعترض بأن طول بقاء الروح بالنسبة لبقاء الجسد لا ينهض دليلًا على خلودها؛ لأننا لو فرضنا أنَّ الروح ستبقى وستحل في جسد آخر ثم في ثالث ورابع وهكذا؛ فماذا يمنع أن يصيبها الفناء بعد هذا كله؟ أليس من الجائز أن تفنى الروح في إحدى هذه المرات ويبقى آخر جسد حلت فيه مدة بعد فناء الروح، كما يُقال في العِطَاف الذي يبقى بعد فناء ناسجه مع أن الناسج أطول بقاءً من عِطَافه الذي ينسجه، فإن من يريد البرهنة على خلود الروح لا يكفي أن يقصر برهانه على أنَّ الروح أطول بقاءً من الجسد، أو أنها أطول بقاءً من أجساد عدة، بل لا بُدَّ من إقامة الدليل على أنَّها دائمة بعد أن تُفني كلَّ ما تحل فيه من أجساد.

إنَّ النَّاس يميلون إلى مخادعة بعضهم بعضًا، ويكره الخدوع منهم أن يثق بأحد؛ إذ يُخيَّل إليه أنَّه ما دام قد نصبت له شراك الخداع فانخدع فليس بين الناس إطلاقًا من يركن إليه ويثق به. وإنَّه لمما يؤسف له أن ينظر بعضنا إلى الأدلة نظرته إلى النَّاس، فلا يؤمنون بكل ما يُقام لهم من البراهين؛ لأنَّ أحدًا قد ألبس لهم الباطل بالحق، ولكنَّا لا ينبغي بحال أن نُعادي الناس جميعًا لأننا نكره واحدًا أو جماعةً من الناس، ولا أن نمقت الأدلة كلها؛ لأننا نمقت طائفة معينة من الأدلة؛ فليس المسئول عن النقص والخطأ هو الأدلة نفسها بل نحن أنفسنا، ولما كان سقراط على حافة الموت فهو يخشى أن يكون ظرفه الخاص داعيًا لتحيزه وميله إلى تصديق برهان الخلود، وهو لذلك يستحث أصدقاءه أن يختبروا قوله ويفندوه ما وسعهم التفنيد.

فلا يلبث سمياس وسيبيس أن يعيدا اعتراضيهما، فيقول سمياس: إنه لا ينكر أزلية الروح، ولكنه في الوقت نفسه يرى الروح عبارة عن انسجام الجسد، غير أنه يجد في التسليم بأزلية الروح نقضًا لكونها انسجامًا للجسد؛ وذلك لأن الانسجام معلول في حين أنَّ الروح علة وليست بمعلول، الانسجام يتبع وجود القيثارة، أمَّا الروح فتستتبع وجود الجسد، والانسجام تتفاوت درجاته، وليس للروح درجات؛ إذ لا مبرر أن تكون روح أفضل من روح، وإلا فما معنى هذا التفاضل؟ أيكون معناه تفاوتًا في درجة انسجامها؟ ولكن الروح لا تقبل التدرج؛ وإذن فيستحيل أن يكون روح أكثر أو أقل انسجامًا من روح أخرى. هذا إلى أن الروح لا تنفك تقاوم ميول الجسد ورغباته، وهذه المقاومة لا تتفق مع قولنا: إنها انسجام الجسد.

وهنا يلاحظ سقراط أنَّ اعتراض سيبيس هذا يتناول مشكلة السببية كلها، ويرجو سامعيه أن يأذنوا له أن يقصَّ عليهم تجربته في هذا الموضوع؛ فقد كان يدرس علم الطبيعة أيام صباه وأخذ حينئذٍ يبحث في كون الحيوان وفساده وفي أصل الفكر، حتى انتهى به الأمر إلى الشك في صحة البديهية القائلة بأن النمو نتيجة الأكل والشرب، فلم يتردد في أن يعرض عن هذا الموضوع موقنًا أنه لم يُخلَق لمثل هذه البحوث. كذلك أربكته المقارنة بين الأشياء كما حيرته فكرة العدد؛ فقد خُيِّلَ إليه في أوَّل الأمر أنَّه يفهم الفرق بين الأكبر والأصغر، وأنَّ العشرة أكبر من الثمانية باثنين وما إلى ذلك، أمَّا الآن فهو يرى في هذه الآراء شيئًا من التناقض: فكيف تمكن قسمة الواحد إلى اثنين أو تكوين الواحد من اثنين؟ لم يستطع سقراط أن يُفسِّر هذا الإشكال.

ولقد سمع سقراط مصادفةً قارئًا يقرأ كتابًا لأناكسجوراس يقول فيه: إنَّ العقل سبب كل شيء. فسأل نفسه: إذا كان العقل سبب كل شيء؛ فهو من غير شك يسيطر على كل شيء، ويسير به نحو الأفضل. ورجا سقراط أن يجد عند هذا المُعلِّم الجديد أناكسجوراس ما يوضح له هذا «الأفضل» في الإنسان والطبيعة. ولكن سرعان ما خاب رجاؤه؛ إذ ألفى صديقه الجديد مخطئًا غير منسجم الفكر باتخاذه العقل سببًا للأشياء، فقوله هذا مساوٍ لقولك: إن سقراط جالس في المكان المعين؛ لأنه مصنوع من عظام وعضلات. وبديهي أن ليس ذلك هو السبب؛ فالسبب الحقيقي هو أن الأثينيين قد رأوا من الخير أن يحكموا عليه بالإعدام، وأنه رأى من الخير أن يجيء إلى حيث هو لينتظر تنفيذ الإعدام، فلو أنه سمح لعظامه وعضلاته أن تفعل ما تشاء وما تراه واجبًا، لنفرت من ذلك المكان منذ زمن بعيد؛ وإذن فلا ريب في أنَّ في هذا القول خلطًا كثيرًا بين السبب والحالة، ويؤدي هذا الخلط بالناس إلى نظريات خاطئة في وضع الأرض وحركاتها.

فليس بين الناس من يعلم ما هو «الأفضل» الذي تسعى إليه الدنيا، والذي هو علة تحركها.

ويقول سقراط: إنَّ التَّأمل في طبائع الأشياء تأمُّلًا مباشرًا قد يضر ويؤذي كما يؤذي العين أن تنظر إلى الشمس أثناء كسوفها، فإذا أردت أن ترى الشمس في هذه الحالة وجب أن تأخذ لنفسك الحيطة اتِّقاءً للأذى، فتكتفي بالنظر إلى صورة الشمس المنعكسة على سطح الماء أو على سطح المرآة، وكذلك إذا أردت أن تنظر في طبائع الأشياء فلا ينبغي أن تتجه بروحك إلى الأشياء نفسها، وإلا أُصيبت روحك بالأذى، وحسبك أن تتأمل في المُثُل لترى الوجود خلالها.

ويعتقد سقراط أنك إذا سلَّمت بوجود المُثُل هانت عليك البرهنة على خلود الروح، ثم يطلب إلى مناقشيه أن يسلِّموا معه بشيء آخر، وذلك أنَّ الجمال سبب الجميل، والعظمة سبب العظيم، والصغر سبب الصغير، وهكذا قُل عن سائر الأشياء. ثم يمضي يشرح لتلاميذه كيف تتعاون المُثُل المتناقضة على الوجود ولكنها لا توجد معًا في شيءٍ واحدٍ بعينه؛ فقد يُقال مثلًا: إنَّ سمياس له كبر وصغر في آنٍ واحد؛ لأنه أكبر من سقراط وأصغر من فيدون، ولكن سمياس ليس في حقيقة الأمر كبيرًا وصغيرًا في وقت واحد، إنما يكون كذلك إذا قورن بفيدون وسقراط؛ لأنَّ الأضداد يطرد أحدها الآخر، فإن كان الشخص صغيرًا لزم ألا يكون كبيرًا؛ إذ الصغر الكائن فيه يطرد عنه الكبر.

وهنا يلاحظ أحد الحضور أنَّ هذا القول يناقض ما سلَّموا به من قبل، وهو: أنَّ الأضداد تولد أضدادها، فيجيب سقراط بأن ذلك يصدق على الأضداد الحسية فقط، ولا ينصبُّ على الأضداد المثالية؛ أعني أنه صادق بالنسبة للأحياء والأموات، ولكنه لا يصح في الحياة والموت … ويستطرد سقراط في الكلام عن مطاردة الأضداد بعضها لبعض فيقول: إن تلك المطاردة لا تقع في الأضداد نفسها فقط بل في الأشياء المتصلة بها أيضًا على أن يكون اتصالها بها قويًّا ودائمًا، مثال ذلك أنَّ البرودة والحرارة ضدان، وكذلك النار التي لا تنفصل عن الحرارة ضد للبرودة، ولا يمكن أن توجد معها جنبًا إلى جنب، والثلج الذي لا ينفصل عن البرودة ضد للحرارة، ويستحيل أن يوجد معها، كذلك العدد ثلاثة يطرد العدد أربعة؛ لأن الأوَّل عدد فردي والثاني عدد زوجي، والفردي ضد الزوجي؛ وبذلك نستطيع أن نخطو خطوة إلى الأمام، فنقول إنَّ الفردي لا يتضمن الزوجي، وليس هذا فحسب، ولكن العدد ثلاثة الذي يساهم في الفردية لا يتضمن الزوجي. وعلى هذا القياس يمكنك أن تقول إنَّ الحياة لا تتضمن الموت، ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن الروح الذي من صفاته اللازمة الحياة يستحيل أن يتضمن الموت، وإن ما تكون الحياة صفته اللازمة لا يكون قابلًا للفناء بحكم مدلول اللفظ نفسه، إنه إذا كان مبدأ الفردية غير قابل للزوال؛ فالعدد ثلاثة إذن لن يفنى، ولكنه يتوارى فقط إذا اقترب منه مبدأ الزوجية، وكذلك الخالد لا يقبل الفناء، والروح عند اقتراب الموت لا تفنى، ولكنها تتوارى فحسب.

هكذا أجاب سقراط عن اعتراضات محاوريه، ثم انتقل إلى التطبيق فقال: إذا كانت الروح خالدة، فكيف ينبغي لنا أن نكون، إذا لم يكن الإنسان محدودًا بعمره، وكان أبديًّا خالدًا، فلن يتخلص الشرير من شره بالموت؛ لأنَّ الموت ليس نهاية وجوده؛ فكل إنسان يحمل معه إلى العالم الأدنى ماهيته؛ وذلك لأن الروح تتقدم بعد الموت إلى المحاكمة، فإن كانت روحًا حكيمةً اهتدت في طريقها إلى العالم الآخر، بمَلَكٍ أمين، فلا تضل طريقها، أمَّا الروح الدنسة فتتخبط هنا وهنالك دون أن تجد لها رفيقًا يؤنسها أو دليلًا يهديها.

وينتقل سقراط بعدئذٍ إلى وصف الأرض، ووصف العالم الأدنى، وكيف يلاقي الأشرار عذابهم، والأبرار جزاءهم وثوابهم. ويستدرك سقراط بعد وصف مطنب، فيؤكد أنَّ هذا الوصف الذي قدمه لا يتحتم أن يكون دقيقًا مضبوطًا، بل إنه يصوِّر به شيئًا كالحقيقة لا أكثر.

وأزفت ساعة الموت فسأله سائل كيف يريد أن يُدفَن بعد موته؛ فأبى أن يجيب عن ذلك قائلًا إنَّهم لن يدفنوه هو بل سيدفنون جسده الميت وحده، ثم يجرع بعد ذلك كأس السم، وإذ هو يلفظ أنفاسه الأخيرة تقدم إلى أصدقائه بطلب أخير لم تستطع الأجيال المقبلة أن تفسره؛ فقد قال في شيءٍ من التهكم إنَّ عليه واجبًا دينيًّا صغيرًا لم يؤدِّه بعد، ورجا أصدقاءه أن يؤدوه نيابةً عنه، ولعله كان يريد أنه بموته إنما يستقبل السعادة والعافية، فعليه أن يقدم للآلهة آية شكره وولائه، أو لعله أراد ألَّا يرحل وفي ضميره لذعة من التقصير الديني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤