واستهلت سنة أربع وتلاتين ومايتين وألف (١٨١٨م)

واستهل المحرم بيوم السبت، وسلطان الإسلام السلطان محمود شاه بن عبد الحميد بدار سلطنته إسلامبول، ووالي مصر وحاكمها محمد علي باشا القوللي وكتخداه، وباقي أرباب المناصب على حالهم وما هم عليه في العام الماضي.

ووردت الأخبار من شرق الحجاز والبشاير بنصرة حضرة إبراهيم باشا على الوهابية قبل استهلال السنة بأربعة أيام، فعند ذلك نودي بزينة المدينة سبعة أيام؛ أولها الأربع سابع عشرين الحجة، ونصبت الصواوين خارج باب النصر عند الهمايل، وكذلك صيوان الباشا وباقي الأمرا والأعيان خرجوا بأسرهم لعمل الشنك والحرايق.

وأخرجوا من المدافع ماية مدفع وعشرة وتماثيل وقلاعًا وسواقي وسواريخ وصورًا من بارود، وبدوا في عمل الشنك من يوم الأربع فيضربون بالمدافع مع رماحة الخيالة من أول النهار مقدار ساعة زمانية وربع قريبًا من عشرين درجة ضربًا متتابعًا لا يتخلله سكون على طريقة الإفرنج في الحروب، بحيث إنهم يضربون المدفع الواحد اثنتي عشرة مرة، وقيل أربع عشرة مرة في دقيقة واحدة، فعلى هذا الحساب يزيد ضرب المدافع في تلك المدة على ثمانين ألف مدفع، بحيث يتخيل الإنسان أصواتها مع أصوات بنادق الخيالة المترامحين رعودًا هايلة، ورتبوا المدافع أربع صفوف، ورسم الباشا أن الخيالة ينقسمون كذلك طوابير ويكمنون في الأعالي، ثم ينزلون مترامحين وهم يضربون بالبنادق، ويهجمون على المدافع في حال اندفاعها بالرمي، فمن خطف شيًّا من أدوات الطبجية الرماة يأتي به إلى الباشا ويعطيه البقشيش والإنعام، فمات بسبب ذلك أشخاص وسواس.

ويكون مبادي نهاية وقوف الخيالة نهاية محط جلة المدفع، فإنهم عند طلوع الفجر يضربون مدافع معمورة بالجلل بعدد الطوابير، فتستعد الخيالة ويقف كل طابور عند مرمى جلته ويأخذون أهبتهم من ذلك الوقت إلى بعد شروق الشمس، ويبتدون في الرمي والرماحة الحصة المذكورة، وبعد العشا الأخير يعمل كذلك الشنك برمي المدافع المتتالية المختلطة أصواتها بدون الرماحة، ومع المدافع الحراقة والنفوط والسواريخ التي تصعد في الهوا، وفيها من خشب الزان بدل القصب وكرنجة بارودها أعظم من تلك، بحيث إنها تصعد من الأسفل إلى العلو مثل عامود النار، وأشياء أخرى لم يسبق نظايرها تفنن في عملها الإفرنج وغيرهم.

وحول محل الحراقة حلقة دايرة متسعة حولها ألوف من المشاعل الموقدة، وطلبوا لعمل أكياس بارود المدافع مايتي ألف ذراع من القماش البز، وكان راتب الأرز الذي يطبخ في القزانات ويفرق في عراضي العساكر في كل يوم أربعماية أردب وما يتبعها من السمن، وهذا خلاف مطابخ الأعيان وما يأتيهم من بيوتهم من تعابي الأطعمة وغيرها.

واستمر هذا الضرب والشنك إلى يوم التلات رابع المحرم، وأهل البلد ملازمون للسهر والزينة على الحوانيت والدور ليلًا ونهارًا وتكرار المناداة عليهم في كل يوم، وركب حضرة الباشا وتوجَّه إلى داره بالأزبكية، وهدمت الصواوين والخيام، وبطل الرمي ودخلت العساكر والبينبات بمتاعهم وعازقهم أفواجًا إلى المدينة وذهبوا إلى دروهم.

ورفع الناس الزينة، وكان معظمها حيث مساكن الإفرنج والأرمن، فإنهم تفننوا في عمل التصاوير والتماثيل وأشكال السرج والفنيارات الزجاج والبلور وأشكال النجف، ومعظمها في جهات المسلمين بخان الخليلي والغورية والجمالية، وببعض الأماكن والخانات ملاهي وأغاني وسماعات وقيان وجنك رقاصات.

هذا والتهيؤ والأشغال والاستعداد لعمل الدونانمة على بحر النيل ببولاق، فصنعوا صورة قلعة بأبراج وقباب وزوايا وأنصاف ودواير وخورنقات وطيقان للمدافع، وطلوها وبيضوها ونقشوها بالألوان والأصباغ، وصورة باب مالطة، وكذلك صورة بستان على سفاين وفيه الطين ومغروس به الأشجار ومحيط به درابزين مصبغ، وبه دوالي العنب وأشجار الموز والفاكهة والنخيل والرياحين في قصاري لطيفة على حافاته، وصورة عربة يجرها أفراس وبها تماثيل وصور جالسين وقايمين، وتمثال مجلس وبه جنك رقاصات من تماثيل مصورة تتحرك بآلات ابتكار بعض المبتكرين؛ لأن كل من تخيل بفكره شيًّا ملعوبًا أو تصويرًا ذهب إلى الترسخانه، حيث الأخشاب والصناع فيعمله على طرف الميري حتى يبرزه في الخارج ويأخذ على ابتكاره البقشيش، وأكثرها لخصوص الحراقات والنفوط والبارود والسواريخ وغير ذلك.

وبعد انقضاء السبعة أيام المذكورة حصل السكون من يوم التلات المذكور إلى يوم الأحد التالي له من الجمعة الأخرى مدة خمسة أيام، في أثناها اجتهد الناس من الأعيان وكل من له اسم من أكابر الناس وأهل الدايرة والأفندية الكتبة، حتى الفقها أرباب المناصب والمظاهر ومشايخ الإفتا والنواب والمتفرجين في نصب الخيام بحافتي النيل، واستأجروا الأماكن المطلة على البحر ولو من البعد، وتنافسوا واشتط أربابها في الأجرة حتى بلغ أجرة أحقر طبقة بمثل وكالة الفسيخ إلى خمسماية قرش وزيادة، وكان الباشا أمر بإنشا قصر لخصوص جلوسه بالجزيرة تجاه بولاق قبلي قصر ابنه إسماعيل باشا، وتمموا بياضه ونظامه في هذه المدة القليلة.

فلما كان ليلة الاثنين، وهو يوم عاشورا، خرج الباشا من ليلته وعدى إلى القصر المذكور، وخرج أهل الدايرة والأعيان إلى الأماكن التي استأجروها، وكذلك العامة أفواجًا.

وأصبح يوم الاتنين المذكور فضربت المدافع الكثيرة التي صففوها بالبرين، وزين أهالي بولاق أسواقهم وحوانيتهم وأبواب دورهم، ودقت الطبول والزمامير والنقرزانات في السفاين وغيرها، وطلبخانة الباشا تضرب في كل وقت، والمدافع الكثيرة في ضحوة كل يوم وعصره وبعد العشا كذلك، وتوقد المشاعل وتعمل أصناف الحراقات والسواريخ والنفوط والشعل، وتتقابل القلاع المصنوعة على وجه الماء يرمون منها المدافع على هيئة المتحاربين، وفيها فوانيس وقناديل وهيئة باب مالطة بوابة مجسمة مقوصرة لها بدنات، ويرى بداخلها سرج وشعل، ويخرج منها حراقات وسواريخ، وغالب هذه الأعمال من صناعة الإفرنج.

وأحضروا سفاين رومية صغيرة تسمى الشلنبات يرمى منها مدافع وشنابر وشيطيات وغلايين مما يسير في البحر المالح، وفي جميعها وقدات وسرج وقناديل، وكلها مزينة بالبيارق الحرير والأشكال المختلفة الألوان، ودبوس أوغلي ببولاق التكرور وعنده أيضًا الحراقات الكثيرة والشعل والمدافع والسواريخ، وبالجيزة عباس بك ابن طوسون باشا، والنصارى الأرمن بمصر القديمة وبولاق والإفرنج، وأبرز الجميع زينتهم وتماثيلهم وحرايقهم وعند الأعيان حتى المشايخ في القنج والسفاين المعدة للسروح والتفرج والنزاهة والخروج عن الأوضاع الشرعية والأدبية، واستمروا على ما ذكر إلى يوم الاتنين سابع عشره.

وفي ذلك اليوم وصل عبد الله بن مسعود الوهابي، ودخل من باب النصر وصحبته عبد الله بكتاش قبطان السويس وهو راكب على هجين، وبجانبه المذكور وأمامه طايفة من الدلاة فضربوا عند دخوله مدافع كثيرة من القلعة وبولاق وخلافهما، وانقضى أمر الشنك وخلافه من ساحل النيل وبولاق ورفعوا الزينة، وركب الباشا إلى قصر شبرا في تلك السفينة وانفض الجمع، وذهبوا إلى دورهم.

وكان ذلك من أغرب الأعمال التي لم يقع نظيرها بأرض مصر ولا ما يقرب من ذلك، ومطبخ الميري يطبخ به الأرز على النسق المتقدم والأطعمة، ويؤتى لأرباب المظاهر منها في وجبتي الغدا والعشا، خلاف المطابخ الخاصة بهم وما يأتيهم من بيوتهم، وأما العامة والمتفرجون من الرجال والنسا فخرجوا أفواجًا وكثر زحامهم في جميع الطرق الموصلة إلى بولاق ليلًا ونهارًا بأولادهم وأطفالهم ركبانًا ومشاة.

وقد ذهب في هاتين الملعبتين من الأموال ما لا يدخل تحت الحصر، وأهل الاستحقاق يتلظون من القشل والتفليس مع ما هم فيه من غلا الأسعار في كل شي وانعدام الأدهان وخصوصًا السمن والشيرج والشحم، فلا يوجد من ذلك الشي اليسير إلا بغاية المشقة، ويكون على حانوت الدهان الذي يحصل عنده بعض السمن شدة الزحام والصياح، ولا يبيع بأزيد من خمسة أنصاف وهي أوقية اثنا عشر درهمًا بما فيها من الخلط، وأعوان المحتسب مرصدون لمن يرد من الفلاحين والمسافرين بالسمن، فيحجزونه لمطالب الدولة ومطابخهم ودورهم في هذه الولايم والجمعيات، ويدفع لهم ثمنه على موجب التسعيرة، ثم يوزع ما يوزعه وهو الشي القليل على المتسببين وهم يبيعونه على هذه الحالة، ومثل ذلك الشيرج وخلافه حتى الجبن القريش.

وفيه وصل عبد الله الوهابي فذهبوا به إلى بيت إسماعيل باشا ابن الباشا، فأقام يومه وذهبوا به في صبحها عند الباشا بشبرا، فلما دخل عليه قام له وقابله بالبشاشة وأجلسه بجانبه وحادثه وقال له: ما هذه المطاولة؟ فقال: الحرب سجال، قال: وكيف رأيت إبراهيم باشا؟ قال: ما قصر وبذل همته ونحن كذلك حتى كان ما كان قدَّره المولى، فقال: أنا — إن شاء الله تعالى — أترجى فيك عند مولانا السلطان، فقال: المقدر يكون، ثم ألبسه خلعة وانصرف عنه إلى بيت إسماعيل باشا ببولاق.

ونزل الباشا في ذلك اليوم السفينة وسافر إلى جهة دمياط، وكان بصحبة الوهابي صندوق صغير من صفيح، فقال له الباشا: ما هذا؟ فقال: هذا ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلى السلطان، وفتحه فوجد به تلاتة مصاحف قرآنًا مكلفة ونحو تلتماية حبة لؤلؤ كبار وحبة زمرد كبيرة وبها شريط ذهب، فقال له الباشا: الذي أخذه من الحجرة أشيا كثيرة غير هذا، فقال: هذا الذي وجدته عند أبي، فإنه لم يستأصل كل ما كان في الحجرة لنفسه، بل أخذ كذلك كبار العرب وأهل المدينة وأغوات الحرم وشريف مكة، فقال الباشا: صحيح، وجدنا عند الشريف أشيا من ذلك.

وفي يوم الأربع تاسع عشره سافر عبد الله بن مسعود إلى جهة إسكندرية، وصحبته جماعة من الططر إلى دار السلطنة ومعه خدم لزومه.

واستهل شهر صفر بيوم الاثنين (سنة ١٢٣٤)

في تالته وصل طايفة من الحجاج المغاربة يوم الأربع وصحبتهم حجاج كثيرة من الصعايدة وأهل القرى، فدخلوا على حين غفلة وكان الريس فيهم شخص من كبار عرب أولاد علي يسمى الحبالي، وهذا لم يتفق نظيره فيما وعيناه، وسببه أمن الطريق وانكماش العربان وقطاع الطريق.

وفيه أخبر المخبرون بأن الباشا أقام بدمياط أيامًا قليلة، ثم توجه إلى البرلس، ونزل في نقيرة وذهب إلى إسكندرية على ظهر البحر المالح، وقد استعد أهلها لقدومه وزينوا البلد، والذي تولى الاعتنا بذلك طايفة الإفرنج، فإنهم نصبوا طريقًا من باب البلد إلى القصر الذي هو سكن الباشا، وجعلوا بناحيتيه يمنى ويسرى أنواع الزينة والتماثيل والتصاوير والبلور والزجاج والمرايات، وغير ذلك من البدع البديعة الغريبة.

وفي غايته وصل الحاج المصري ودخلوا أرسالًا شيًّا فشيًّا، ومنهم من دخل ليلًا وخصوصًا ليلة الاتنين، وفي صبحه دخل حسن باشا أرنؤد الذي كان مقيمًا بجدة، وفي ذلك اليوم دخل بواقي الحجاج إلى منازلهم.

واستهل شهر ربيع الأول بيوم التلات (سنة ١٢٣٤)

في صبحه دخلوا بالمحمل المدينة، وأكثر الناس لم يشعر بدخوله، وهذا لم يتفق فيما نعلم تأخر الحاج إلى شهر ربيع الأول.

وفي ليلة التلات تامنه احترق السرب، والجملون الكاين أسفل جامع الغورية بما فيه من الحوانيت وبضايع التجار والأقمشة الهندية وخلافها، فظهرت به النار من بعد العشا الأخيرة، فحضر الوالي وأغات التبديل فوجدوا الباب الذي من جهة الغورية مغلوقًا من داخل، وكذلك الباب الذي من الجهة الأخرى، وهما في غاية المتانة، فلم يزالوا يعالجون فتح الباب بالعتالات والكسر إلى بعد نصف الليل، والنار عمالة من داخل، وهرب الخفير، واحترق ليوان الجامع البراني والدهليز.

وأخذوا في الهدم وصب المياه بآلات القصارين، مع صعوبة العمل بسبب علو الحيطان الشاهقة والأخشاب العظيمة والأحجار الهايلة والعقود، فلم يخمد لهب النار إلا بعد حصة من النهار.

وسرحت النار في أخشاب الجامع التي بداخل البنا، ولم يزل الدخان صاعدًا منها، وسقطت الشبابيك النحاس العظام، وبقيت مفتتة ومكلسة، واستمر العلاج في إطفا الدخان تلاتة أيام، ولولا لطف المولى وتأخير فتح الباب لكونه مصفحًا بالحديد فلم تعمل فيه النار، فلو لم يكن كذلك لاحترق وسرحت النار إلى الحوانيت الملاصقة به، وهي كلها أخشاب ويعلوها سقايف أخشاب كذلك، ومن فوق الجميع السقيفة العظيمة الممتدة على السوق من أوله إلى آخره، وهي في غاية العلو والارتفاع، وكلها أخشاب وحجنة وسهوم وبراطيم من أعلى ومن أسفل لحملها من الجهتين، ومن ناحيتها الرباع والوكايل والدور وحيطان الجميع من الحجنة والأخشاب العتيقة التي تشتعل بأدنى حرارة، فلو وصلت النار — والعياذ بالله تعالى — إلى هذه السقيفة لما أمكن إطفاها بوجه وكان حريقًا دوميًّا، ولكن الله سلم.

وفي يوم السبت تاني عشره حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف سابقًا؛ وذلك أنه لما حصلت النصرة والمسرة للباشا، فكتب إليه مكتوبًا بالتهنية وأرسله مع حفيده السيد صالح إلى إسكندرية، فتلقاه بالبشاشة وطفق يسأله عن جده فيقول له: بخير ويدعو لكم، فقال له: هل في نفسه شي أو حاجة نقضيها له؟ فقال: لا يطلب غير طول البقاء لحضرتكم.

ثم انصرف إلى المكان الذي نزل به، فأرسل إليه في تاني يوم عثمان السلانكلي ليسأله ويستفسر عما عسى أن يستحي من مشافهة الباشا بذكره، فلم يزل يلاطفه حتى قال: لم يكن في نفسه إلا الحج إلى بيت الله إن أذن له أفندينا بذلك، فلما عاد بالجواب أنعم عليه بذلك، وأذن له بالذهاب إلى مصر، وأن يقيم بداره إلى أوان الحج إن شاء برًّا وإن شاء بحرًا، وقال: أنا لا أتركه في الغربة هذه المدة إلا خوفًا من الفتنة، والآن لم يبقَ شي من ذلك، فإنه أبي وبيني وبينه ما لا أنساه من المحبة والمعروف، وكتب له جوابًا بالإجابة، وصورته بحروفه:

مظهر الشمايل سنيها، حميد الشئون وسميها، سلالة بيت المجد الأكرم، والدنا السيد عمر مكرم، دام شانه. أما بعد، فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف، تهنية بما أنعم الله علينا وفرحًا بمواهب تأييده لدينا، فكان ذلك مزيدًا في السرور، ومستديمًا لحمد الشكور، ومجلبة لثناكم، وإعلانًا بنيل مناكم، جزيتم حسن الثنا، مع كمال الوقار ونيل المنى.

هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الإذن في الحج إلى البيت الحرام، وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام، للرغبة في ذلك، والترجي لما هنالك، وقد أذناكم في هذا المرام تقربًا لذي الجلال والإكرام، ورجا لدعواتكم بتلك المشاعر العظام، فلا تدعوا الابتهال ولا الدعا لنا بالقال والحال كما هو الظن في الطاهرين، والمأمول من الأصفيا المقبولين، والواصل لكم جواب منا خطابًا إلى كتخداينا، ولكم الإجلال والاحترام، مع جزيل الثنا والسلام.

وأرسل إليه المكتوبين صحبة حفيده السيد صالح، وأرسل إلى كتخدا بك كتابًا وصل إليه قبل قدومه، فأرسل الكتخدا ترجمانه إلى منزله ليبشرهم بذلك، وأشيع خبر مقدمه، فكان الناس بين مصدق ومكذب، حتى وصل في اليوم المذكور إلى بولاق، فركب من هناك وتوجه إلى زيارة الإمام الشافعي، وطلع إلى القلعة وقابل الكتخدا وسلم عليه، وهنته الشعرا بقصايدهم وأعطاهم الجوايز، واستمر ازدحام الناس أيامًا، ثم امتنع عن الجلوس في المجلس العام نهارًا، واعتكف بحجرته الخاصة، فلا يجتمع به إلا بعض من يريده من الأفراد، فانكف الكثير عن الترداد وذلك من حسن الرأي.

واستهل شهر ربيع التاني بيوم السبت (سنة ١٢٣٤)

فيه حصل الاهتمام بحفر الترعة المعروفة بالأشرفية الموصلة إلى إسكندرية، وقد تقدم في العام الماضي بل والذي قبله اهتمام الباشا، ونزل إليها المهندسون ووزنوا أرضها، وقاسوا طولها وعرضها وعمقها المطلوب، ثم أهمل أمرها لقرب مجي النيل، وتركوا الشغل في مبديها، ولم يترك الشغل في منتهاها عند إسكندرية بالقرب من عامود السواري، فحفروا هناك منبتها، وهي بركة متسعة، وحوطوها بالبنا المحكم المتين، وهي مرسى المراكب التي تعبر منها إلى إسكندرية بدلًا عن البوغاز، وهو ملتقى البحرين، وما يقع فيه من التلف للمراكب، فتكون هذه أسلم وأقرب وأقل كلفة إن صحت، بل وأقرب مسافة.

ونزل الأمر لكشاف الأقاليم بجمع الفلاحين والرجال على حساب مزارع الفدادين، فيحصون رجال القرية المزارعين، ويدفعون للشخص الواحد عشرة ريال، ويخصم له مثلها من المال، وإذا كان له شريك وأحب المقام لأجل الزرع الصيفي أعطاه حصته وزاده عليها حتى يرضى خاطره، وزوده بما يحتاج إليه أيضًا، وعند العمل يدفع لكل شخص قرشًا في كل يوم.

ويخرج أهل القرية أفواجًا ومعهم أنفار من مشايخ البلاد، ويجتمعون في المكان المأمورين باجتماعهم فيه، ثم يسيرون مع الكاشف الذي بالناحية ومعهم طبول وزمور وبيارق ونجارون وبناءون وحدادون، وفرضوا على البلاد التي فيها النخيل غلقانًا ومقاطف وعراجين وسلبًا، وعلى البنادر فوس ومساحي شي كثير بالثمن، وطلبوا أيضًا طايفة الغواصين؛ لأنهم كانوا إذا اشتغلوا في قطع الأرض في بعض المواضع منها ينبع الماء قبل الوصول إلى الحد المطلوب.

وفي يوم الخميس عشرينه ورد مرسوم من الباشا بعزل كتخدا بك عن منصب الكتخداية، وتولية محمود بك فيها عوضًا عنه، وحضر محمود بك في ذلك اليوم قادمًا من إسكندرية، وطلع إلى القلعة وحضر أيضًا حسن باشا وكان قد ذهب إلى إسكندرية ليسلم على الباشا لكونه كان بالديار الحجازية المدة المديدة، وحضر إلى مصر والباشا بإسكندرية فتوجه إليه وأقام معه أيامًا، وعاد إلى مصر صحبة محمود بك، وحضر أيضًا إبراهيم أفندي من إسلامبول وهو ديوان أفندي الباشا، فتقلد في نظر الأطيان والرزق والالتزام عوضًا عن محمود بك.

واستهل شهر جمادى الأولى (سنة ١٢٣٤)

وفي سابعه يوم الخميس ضربت مدافع كثيرة وقت الشروق؛ بسبب ورود نجابة من الديار الحجازية باستيلا خليل باشا على يمن الحجاز صلحًا.

وفيه وصلت الأخبار أيضًا عن عبد الله بن مسعود أنه لما وصل إلى إسلامبول طافوا به البلدة وقتلوه عند باب همايون، وقتلوا أتباعه أيضًا في نواح متفرقة فذهبوا مع الشهدا.

وفيه أشيع وصول قابجي كبير من طرف الدولة يقال له قهوجي باشا إلى إسكندرية، وورد الأمر بالاستعداد لحضوره مع الباشا، فطلعوا بالمطابخ إلى ناحية شبرا وطلبت الخيول من الربيع، واستمر خروج العساكر ودخولهم وكذلك طبخ الأطعمة، وفي كل يوم يشيعون الورود فلم يأتِ أحد، ثم ذكروا أن ذلك القابجي حين قرب من إسكندرية رده الريح إلى رودس، واستمر هذا الريح إلى آخر الشهر.

وفيه قوي الاهتمام بأمر حفر الترعة المتقدم ذكرها، وسيقت الرجال والفلاحون من الأقاليم البحرية، وجدُّوا في العمل بعدما حددوا لكل أهل إقليم أقصابًا توزع على أهل كل بلد من الإقليم، فمن أتم عمله المحدود انتقل إلى مساعدة الآخرين، وظهر في حفر بعض الأماكن منها صورة أماكن ومساكن وقيعان وحمام بعقوده وأحواضه ومغاطسه، ووجد ظروف بداخلها فلوس نحاس كفرية قديمة، وأخرى لم تفتح لا يعلم ما فيها رفعوها للباشا مع تلك.

وفي يوم الأربع سابع عشرينه حضر الباشا إلى شبرا، ووصل في أثره قهوجي باشا، وعملوا له موكبًا في صبيحة يوم الخميس، وطلعوا إلى القلعة ومع الأغا المذكور ما أحضره برسم الباشا وولده إبراهيم باشا الذي بالحجاز، وهو خلعتا سمور لكل واحد خلعة، وخنجر مجوهر لكل واحد، وشلنجان مجوهران وساعة جوهر وغير ذلك، وقري الفرمان بحضرة الجمع وفيه الثنا الكثير على الباشا والعفو عمن بقي من الوهابية، وبعد القراءة ضربت مدافع كثيرة وكذلك عند ورودهم، واستمر ضرب المدافع تلاتة أيام في جميع الأوقات الخمس، ونزل القابجي المذكور ببيت طاهر باشا بالأزبكية، وحضر أيضًا عقبه أطواخ لكلٍّ من عباس بك ابن طوسون باشا ابن الباشا ولأحمد بك ابن طاهر باشا، وفي ضمن الفرمان الإذن للباشا بتولية إمريات وقبجيات لمن يختار.

وفي صبحها يوم الجمعة خلع الباشا على أربعة أو خمسة من أمراه بقبجيات باشا، وهم علي بك السلانكلي قابجي باشا وحسن أغا أزرجانلي كذلك وخليل أفندي حاكم رشيد وشريف بك.

واستهل شهر جمادى الثانية (سنة ١٢٣٤)

فيه حضر محمد بك الدفتردار من الجهة القبلية فأقام أيامًا وعاد إلى قبلي.

وفي أواخره رجع الكثير من فلاحي الأقاليم إلى بلادهم من ترعة الأشرفية، وهم الذين أتموا ما لزمهم من العمل والحفر، ومات الكثير من الفلاحين من البرد ومقاساة التعب.

وفي هذا الشهر حصل بعض موت بالطاعون، فداخَل الناس وهْم بسبب ما حدث في أكابر الدولة والنصارى من التحجب وعمل الكورنتيلات، وهي التباعد من الملامسة وتبخير الأوراق والمجالس ونحو ذلك.

واستهل شهر رجب بيوم الاثنين (سنة ١٢٣٤)

في خامسه مات عبود النصراني كاتب الخزينة، وكان مشكور السيرة في صناعته، وعنده مشاركة ودعوى عريضة ودعوى علم، ويتكلم بالمناسبات والآيات القرآنية، ويُضمِّن إنشاءاته ومراسلاته آيات وأمثالًا وسجعات.

وأخذ دار القيسرلي بدرب الجنينة وما حولها وأنشأها دارًا عظيمة وزخرفها، وجعل بها بستانًا ومجالس مفروشة بالرخام الملون وفساقي وشاذروانات وزجاج بلور، وكل ذلك على طرف الميري، وله مرتب واسع وكان الباشا يحبه ويثق به، ويقول: لولا الملامة لقلدته الدفتردارية.

وفي سابعه حضر إلى مصر حاكم يافا المعروف بمحمد بك أبو نبوت معزولًا عن ولايته، فأرسل إلى الباشا يستأذنه في الحضور إلى مصر فأطلق له الإذن، فحضر فأنزله بقصر العيني وصحبته نحو الخمسماية مملوك وأجناد وأتباع، واجتمع بالباشا وأجلَّه وسلم عليه، وأقام معه حصة من الليل ورتب له مرتبًا عظيمًا، وعين له ما يقوم بكفايته وكفاية أتباعه، فمن جملة ما رتب له تلاتة آلاف تذكرة، كل تذكرة بألفين وستماية نصف فضة في كل شهر، وذلك خلاف المعين واللوازم من السمن والخبز والسكر والعسل والحطب والأرز والفحم والشمع والصابون، فمن الأرز خاصة في كل يوم أردبان وللعليق خمسة وعشرون أردبًّا في كل يوم.

وفي يوم السبت تالت عشره سافر قهوجي باشا عايدًا إلى إسلامبول، واحتفل به الباشا احتفالًا زايدًا، وقدَّم له ولمخدومه وأرباب الدولة من الأموال والهدايا والخيول والبن والأرز والسكر والشربات وتعابي الأقمشة الهندية وغيرها شيًّا كثيرًا، وكذلك قدَّم له أكابر الدولة هدايا كثيرة، ولأنه لما حضر إلى مصر قدَّم لهم هدايا فقابلوه بأضعافها، وعندما سافر احتجب الباشا وأمر كل من كان يلازم ديوانه بالانصراف والتحجب، فتكرتن منهم من تكرتن في داره ومنهم في القصور، وسافر مع قهوجي باشا سليمان أغا السلحدار وشربتشي باشا وآخرون لتشييعه إلى إسكندرية.

وفي يوم الخميس ثامن عشره حضر بواقي الوهابية بحريمهم وأولادهم، وهم نحو الأربعماية نسمة، وأسكنوا بالقشلة التي بالأزبكية، وابن عبد الله بن مسعود بدار عند جامع مكة هو وخواصه من غير حرج عليهم، وطفقوا يذهبون ويجيئون ويترددون على المشايخ وغيرهم، ويمشون في الأسواق ويشترون البضايع والاحتياجات.

واستهل شهر شعبان (سنة ١٢٣٤)

وفيه وصل جماعة هجانة من جهة الحجاز وصحبتهم ابن حمود أمير يمن الحجاز؛ وذلك أنه لما مات أبوه تأمر عوضه وأظهر الطاعة وعدم المخالفة للدولة، فلما توجه خليل باشا إلى اليمن أخلى له البلاد واعتزل في حصن له، ولم يخرج لدفعه ومحربته كما فعل أبوه، وترددت بينهما المراسلات والمخادعات حتى نزل من حصنه وحضر عند الخليل باشا فقبض عليه وأرسله مع الهجانة إلى مصر.

وفيه صرفوا الفلاحين عن العمل في الترعة لأجل حصاد الزرع، ووجهوا عليهم طلب المال.

واستهل شهر رمضان (سنة ١٢٣٤)

والباشا مكرتن بشبرا، ولم يطلع إلى القلعة كعادته في شهر رمضان.

وفي تامن عشرينه طلع إلى القلعة وعيد بها.

واستهل شهر شوال بيوم الجمعة (سنة ١٢٣٤)

وفي رابع عشره الموافق لآخر يوم من شهر أبيب نودي بوفا النيل، وكان الباشا سافر إلى جهة إسكندرية بسبب ترعة الأشرفية، وأمر حكام الجهات بالأرياف بجمع الفلاحين للعمل فأخذوا في جمعهم، فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال، وينزلون بهم المراكب، وتعطلوا عن زرع الدراوي الذي هو قوتهم، وقاسوا شدة بعد رجوعهم من المرة الأولى بعدما قاسوه.

ومات الكثير منهم من البرد والتعب، وكل من سقط أهالوا عليه من تراب الحفر ولو فيه الروح، ولما رجعوا إلى بلادهم للحصيدة طولبوا بالمال وزيد عليهم عن كل فدان حمل بعير من التبن وكيلة قمع وكيلة فول، وأُخذ ما يبيعونه من الغلة بالثمن الدون والكيل الوافر، فما هم إلا والطلب إلى الشغل في الترعة ونزح المياه التي لا ينقطع نبعها من الأرض وهي في غاية الملوحة، والمرة الأولى كانت في شدة البرد، وهذه المرة في شدة الحر وقلة المياه العذبة، فينقلونها بالروايا على الجِمال مع بُعد المسافة وتأخر ري إسكندرية.

وفي سابع عشرينه ارتحل ركب الحجاج من البركة وأمير الحاج عابدين بك أخو حسن باشا.

واستهل شهر ذي القعدة (سنة ١٢٣٤)

والعمل في الترعة مستمر.

واستهل شهر ذي الحجة (سنة ١٢٣٤)

في منتصفه سافر الباشا إلى الصعيد وسافر صحبته حسن باشا طاهر ومحمد أغا لاظ المنفصل عن الكتخداية وحسن أغا أزرجانلي وغيرهم من أعيان الدولة.

وفيه وصل الخبر بموت سليمان باشا حاكم عكا، وهو من مماليك أحمد باشا الجزار.

وفي أواخره وصل ابن إبراهيم باشا وصحبته حريم أبيه، فضربوا لوصولهم مدافع وعملوا للصغير موكبًا، ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة.

وانقضت السنة وما تجدد بها من الحوادث التي منها زيادة النيل الزيادة المفرطة أكثر من العام الماضي، وهذا من النوادر وهو الغرق في عامين متتابعين، واستمر أيضًا في هذه السنة إلى منتصف هاتور حتى فات أوان الزراعة، وربما نقص قليلًا ثم يرجع في تاني يوم أكثر ما نقص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤