نحن على منطاد

نحن من أرضنا على مُنطادِ
جائلٍ في شواسع الأبعادِ١
طائرٍ في الفضاء عرضًا وطولًا
بجناح من القوى غير بادِ٢
أيها الأرض سرت سيرك مثنى
ذا نِتاجين في زمان أُحَاد٣
فتقلَّبت في نهارٍ وليلٍ
ذا مُضِلٌّ وذاك للناس هادِ
في بلاد يكون سيرك تأويـ
ـبًا على أنه سُرًى في بلاد٤
فيك دفع وفيكِ يا أرض جذب
لكِ ذا سائق وذا لكِ حادي٥
فلكٌ دائر على الشمس طورًا
في اقتراب وتارة في ابتعاد
ليت شعري وما حصلت من الآ
راء إلا على خلاف السداد
لبقاءٍ تُقلِّنا الأرض في تَسـ
ـيارها أم تقلِّنا لنفاد؟!٦
نحن في عالم تَقصَّف فيه
عارض النائبات بالإرعاد٧
شأننا العجزُ فيه نوجد أنى
قذفتنا يدُ الخطوب الشداد
ضاع جَذر الحياة عنا فخلنا
أنها كالأصم في الأعداد٨
شغلتنا الدنيا بلهو ولعبٍ
فغفلنا والموت بالمِرصاد
ضلَّ مَنْ رام راحة في حياةٍ
ونحن منها في معرك وجلاد٩
إنما هذه الحياة جروح
أثخنتنا والموت مثل الضماد١٠
كلُّ أسرٍ يهون إن أطلقت أر
واحنا المُوثقاتُ بالأجساد
لا تلمني إذا جَزعت فإني
ما ملكت الخيار في إيجادي
طال عُتْبي على عِدات الليالي
مثلما طال مَطْلُها بمرادي١١
كدَّرت عيشيَ الحوادثُ حتى
لا أرى الصفو غير وقت الرقادِ١٢
صاحِ ما دلَّ في الأمور على الأشـ
ـكال إلا تفحص الأضداد
فاعتبر بالسفيه تُمْسِ حليمًا
وتعرَّفْ بالغيِّ طرْق الرشاد
واللبيب الذي تعلَّم إتيا
نَ المعالي من خِسة الأوغاد١٣
أيها الغِرُّ لا تغرُّك دنيا
ك بكونٍ مصيره لفساد
خفَّ من غاص في الغرور كما في
لجة الماء خفَّ ثِقلُ الجماد١٤
يا خليليَّ والخليل المُواسي
منكما من يقوم في إسعادي١٥
خاب قوم أتوا وغى العيش عُزلًا
من سلاحَيْ تعاون واتحاد١٦
قد جفتنا الدنيا فهلَّا اعتصمنا
من جفاء الدنيا بحبل وِداد؟
لو عقلنا لمَا اختشى قطُّ محسو
دون وقع الأذاة من حُسَّاد
فمتاع الحياة أحقر من أن
يستفزَّ القلوب بالأحقاد
أنا واللَّهِ لا أريد بأن أو
قِع شرًّا ولو على من يعادي
إنَّ لي إن سمعتُ أنةَ محزو
نٍ أنينًا مُرَجعًا في فؤادي
إن نفسي عن همها ذات شغل
بهموم العباد، كلِّ العباد
لا أحب النسيم إلا إذا هبَّ
على كل حاضر أو باد

•••

أيها الناس إن ذا العصر عصرُ الـ
ـعلم والجدِّ في العُلا والجهاد
عصر حكم البخار والكهربائيـ
ـة و«الماكنات» والمُنطاد
بُنيت فيه للعلوم المباني
وأقيمت للبحث فيها النوادي
فاض فيضُ العلوم بالرغم مِمَّنْ
ضربوا دونهن بالأسداد١٧
إنَّ للعلم في الممالك سيرًا
مثل سير الضياءِ في الأبعاد
أطلع الغربُ شمسه فحبا الشر
قَ اقتباسًا من نورها الوقاد
إن للعلم دولة خضعت دو
نَ علاها عوالمُ الأضداد
ما استفاد الفتى وإن ملك الأر
ضَ بأعلى من علمه المستفاد
لا تُسابق في حَلبة العزِّ ذا العلـ
ـم فما للهجين شأوُ الجواد١٨
إن أموات أمة العلم أحيا
ءٌ حياة الأرواح والأجساد
وكأيِّنْ في الناس من ذي خمول
صار بالعلم كعبة القصاد!

•••

ربَّ يومٍ وردت دجلَةَ فيهِ
موردًا خاليًا عن الورَّاد
حيث ينصب في سكون عميق
ماؤها لاثمًا ضفاف الوادي
وهبوب النسيم يكتب في الما
ءِ سطورًا مُهتزَّةً في اطِّراد
يَمَّحي بعضها ويظهر بعضٌ
فهي تنساب بين خافٍ وبادِ١٩
وتئنُّ المياه لي بخريرٍ
كأنين السقيم للعُوَّاد٢٠
قمت في وجهها أردِّد طرفي
ساكنًا والضمير منِّي ينادي
واقفًا تحت سَرحة ناح فيها
طائر فوق غصنها الميَّادِ٢١
منشدًا في النواح شعرًا غريزيـًّ
ـا حزينًا كأنه إنشادي
جاوبته أفنانُها بأنين
من حفيف الأوراق والأعواد٢٢
أيها الطائر المرجِّع فوق الـ
ـغْصن هل أنت نائح أم شاد؟!
بين ماء جارٍ ولحنٍ شجيٍّ
منك يا طائرُ استطار فؤادي
يا مياهًا جرت بدجلة تجتا
ز مرورًا بجانبَي بغداد
إن نفسي إلى الحقيقة عَطشَى
أفتشفين غُلة من صادِ؟٢٣
كنت تجرين والرُّصافةُ والكر
خ خَلاءٌ من رائحٍ أو غادِ
أيها الماءُ أين تجري ضَياعًا
وحواليك قاحلات البوادي؟!٢٤
فمتى تفطن النفوس فيحيا
بك سقيًا موات هذي البلاد؟
لو زرعنا بك البقاع حبوبًا
لحصدنا النُّضار يوم الحصاد٢٥
أفيدري خليج فارسَ ماذا
فمه منك بالعٌ بازدراد؟!
أنت واللَّهِ عسجد ولُجَين
لو أتينا الأمور باستعداد٢٦
فَاجْرِ يا ماءُ إن جريت رويدًا
بأناةٍ ومُهْلةٍ واتئآد٢٧
علَّنا نستفيق من رقدة الفقـ
ـر فنَغْنَى بفيضك المزداد
سلكتك السما ينابيعَ في الأر
ض أمدَّتك أيَّما إمداد!
فتفجَّرتَ في السفوح عيونًا
نبعت من مخازن الأطواد٢٨
وإذا ما انتَهيت في جرَيانٍ
عُدت للبدءِ في مُتون الغوادي٢٩
هكذا دار دائر الكون من حيـ
ـث انتهى عاد راجعًا للمبادي
١  المنطاد: هو ما يطار به في الفضاء، وهو ما يسمونه «البالون». جائل: اسم فاعل من الجولان. الشواسع: البعيدة، من شسع المكان بمعنى بعد. الأبعاد: جمع بعد.
٢  غير باد: غير ظاهر.
٣  إنما كان سير الأرض مثنى؛ لأن لها في الزمان الواحد دورتين، تنتجان نتاجين: دورة ينتج عنها اختلاف الليل والنهار، وهذه تتمها بأربع وعشرين ساعة، ودورة ينتج عنها اختلاف الفصول، وهذه تتمها في سنة كاملة.
٤  التأويب: السير جميع النهار. السرى: السير في الليل. يقول: أيها الأرض إن سيرك النهاري في بلاد هو في الوقت نفسه سير ليلي في بلاد أخرى؛ وذلك لأن الكرة يكون نصفها مضيئًا وهو ما يقابل نور الشمس، والنصف الآخر يكون مظلمًا وهو ما لا يقابلها، وبمقدار ما تنير الشمس من الأرض ترسل الظلام على قسم آخر.
٥  حادي: من حدا الناقة إذا غنى لها لتجود في السير.
٦  تقلنا: تحملنا.
٧  العارض في الأصل: السحاب الذي يعترض في الأفق. النائبات: المصائب.
٨  خلنا: ظننا. الأصم في اصطلاح الحسابين: هو العدد الذي لا يؤخذ جذره، بمعنى أنه لا يكون حاصلًا من ضربه بنفسه كالخمسة والثلاثة والأحد عشر وغيرها، معنى البيت: أننا جهلنا أصل الحياة، فظنناها لا أصل لها، كالعدد الأصم الذي لا جذر له.
٩  الجلاد: مصدر جالدوا، بمعنى تضاربوا بالسيوف.
١٠  أثخنتنا: أوهنتنا وأضعفتنا. الضماد: العصابة التي يربط بها موضع الجروح.
١١  عدات: جمع عدة بمعنى الوعد.
١٢  الرقاد: بمعنى النوم.
١٣  الأوغاد: جمع وغد، وهو اللئيم.
١٤  خف: من خفة العقل.
١٥  المواسي: المعين.
١٦  وغى العيش: شدته، والوغى في الأصل: أصوات المحاربين في الحرب. عزلًا: جمع أعزل، وهو الذي لا سلاح معه.
١٧  الأسداد: جمع أسد.
١٨  الهجين من الخيل: هو الذي ولدته برذونة من حصان عربي.
١٩  تنساب: تسرع.
٢٠  العواد: الزوار.
٢١  السرحة: الشجرة العظيمة. المياد: المتمايل.
٢٢  أفنانها: أغصانها. الحفيف: صوت أوراق الشجر.
٢٣  الغلة: العطش. الصادي: العطشان.
٢٤  أرض قاحلة: لا نبات فيها.
٢٥  النضار: الذهب.
٢٦  العسجد: الذهب. اللجين: الفضة.
٢٧  الأناة والمهلة والاتئاد: ألفاظ مترادفة بمعنى التأني.
٢٨  السفوح: جمع سفح، وهو أسفل الجبل. الأطواد: جمع طود، وهو الجبل.
٢٩  المتون: جمع متن، وهو جانب الشيء. الغوادي: السحاب الذي يكون فيه المطر، يقول: إن الماء بعدما ينتهي جريانه يرجع كما كان في بادئ الأمر سحابًا بواسطة التبخر ثم ينزل مطرًا، وهكذا قال أبو العلاء:
فيا جسد المرء ماذا دهاك
وقد كنت من عنصر طيِّب؟!
تعود طهورًا إذا ما رجعت
إلى الأصل كالمطر الصيب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤