كلمة معتبر

أقوى مَصيفُ القوم والمربعُ
فالدار قفر بعدَهم بلقعُ١
سارت بنا الأرض إلى غاية
لنا ولَلأرضُ هي المرجِعُ
ونحن كالماء جرى نابعًا
لكنْ علينا خفيَ المنبعُ
والعلم قد أنكر مِنهاجَنا
ولم يبِنْ أين هو المهيع
خرقت يا علْمُ رداءً لنا
كنا ارتديناه فهل ترْقعُ؟!
فَجعتنا يا علْمُ في أمرنا
أمعتِبٌ أنت إذا تجزع؟!٢
لقد طغت حيرة أهل النهى
هل فيك يا علم لها مَردَع؟٣
كم نشرب الظنَّ فلا نرتوي
ونأكل الحَدْس فلا نشبع!٤
والناس ويل الناس في غفلة
ترتع والموت بهم يرتع
والكون قد لاح بمرآته
للعيش وجهٌ شاحب أسفعُ٥
وإن في البدر لخطبًا به
في البدر لاحت بقع أربع٦
فالعين ما يورث حزنًا ترى
والأذن ما يزعجها تسمع
والأرض في منقلبٍ بالورى
والشمس من مشرقها تطلع
حتى إذا ما بلغتْ شوطها
لاحت نجوم في الدجى تلمع٧
وهكذا الظلمةُ تتلو الضيا
والضوء للظلمة يستتبع٨
ونحن في ذاك وفي هذه
بالنوم واليقظة نستمتعُ٩
ما بين مسعود يميت الدُّجَى
نومًا ومنكود فلا يهجع١٠
ومسرع يسبقه مبطئٌ
ومبطئ يسبقه مسرع
وشامتٍ يضحك من حادث
حلَّ بباكٍ قلبه موجَع
لو كان للقسوة عين وقد
رأته كانت عينها تدمع
والكلُّ في شغْبٍ لهم دائم
لم يقلعوا عنه ولن يقلعوا١١
والماءُ يمشي وشَلًا تارةً
وحوضه آوِنةً مُترَعُ١٢
والريح تجري وهي رَيْدَانَةٌ
حينًا وحينًا عاصفٌ زَعزع١٣
وبعضهم تُمْرع وِديانه
وبعضهم واديه لا يُمرع١٤

•••

قد لا يحسب الإنسان آماله
والموت مصغٍ نحوه يسمع
حتى إذا أكمل حُسْبانها
وافاه ما ليس له مدفع
فخرَّ للجنْب صريعًا به
وأيُّ جنب ما له مصرع؟!
وظل فوق الأرض في حالة
يزورُّ عنها الحسب الأرفعُ١٥
لا تعمل الأقلام في كفِّه
وكان من قبل بها يصدع١٦
ولم تعد تقطع أسيافه
من بعد ما كان بها يقطع
فاستلَّ مثل السيف من مُطرَفٍ
طرائق الوشي به تلمع١٧
ولُفَّ في ثوب له واحدٍ
ليس له رقم ولا مِيدع١٨
واهًا له ثوب البِلَى إنه
يبلى مع الجسم ولا ينزع
ودُسَّ حيث الأرضُ أمست له
ملحودة ضاق بها المضجع١٩
حيث البِلَى يرميه حتى إذا
لم يَبْقَ في قوس البِلَى منزع٢٠
خالط ترب الأرض جثمانهُ
مطحونة منه بها الأضلع٢١
للَّه دَرُّ الموت من خطَّةٍ
فيها استوى ذو العيِّ والمُصْقِع!٢٢
يخون فيها القولُ مِنطيقه
كما تخون البطلَ الأدرع٢٣
ما أقدر الموتَ! فمِن هَوْلِه
لم ينجُ لا كِسْرى ولا تُبَّع٢٤
يا رافع البنيان كما للردى
من سُلَّم يدرك ما ترفع
ويا طبيب القوم لا تؤذهم
إنَّ دواء الموت لا ينجَع٢٥
لا بدَّ للمغرور من مَنْدَمٍ
فالعَضُّ تدمَى عنده الأصبع
وما عسى تُغني وقد حشرجتْ
ندامةٌ ليست إذنْ تنفع٢٦
يا برقع الخلقة واهًا لما
فيك واهًا منك يا بُرقُع
قد زاغت الأبصار فيما ترى
إذ فات عنها سرك المودَع
وليس في الإمكان عند النهى
أبدع مما خلق المبدِع
١  المصيف: مكان الإقامة صيفًا، والمربع: مكانها ربيعًا. البلقع: الأرض الخالية من السكان.
٢  مُعتب: مرضٍ، مشتق من أعتبه بمعنى أعطاه العتبى؛ أي الرضا. نجزع: لم نصبر.
٣  النهى: العقل.
٤  الحدس: التخمين والرجم بالغيب.
٥  شاحب، يقال: شحَب لونه وشحُب، بمعنى تغير من جوع أو سفر أو مرض، وجه أسفع شاحب متغير من المشاق.
٦  الخطب: الأمر.
٧  الشوط: الغاية والنهاية.
٨  تتلو: تتبع.
٩  نستمتع: ننتفع زمانًا طويلًا.
١٠  الدجى: الليل. يهجع: ينام.
١١  الشغب: الهياج وإثارة الشرور.
١٢  الوشل: الماء القليل. مترع: ملآن.
١٣  ريدانة: لينة الهبوب. عاصف، زعزع: شديدة الهبوب.
١٤  تمرع: تخصب.
١٥  يزور: يميل وينحرف.
١٦  يصدع: يشق.
١٧  المطرف: نوع من الثياب. طرائق الوشي: خطوط التنميق والنقش.
١٨  الرقم: الوشي. الميدع: الصوان الذي يصان به الثوب، أي: ليس وشي ولا صوان يصان به؛ لأن الكفن يلبس ولا ينزع كما قال في البيت الثاني.
١٩  دس في التراب: أودع فيه. ملحودة: اتخذ لها لحدًا.
٢٠  يقال: لم يبقَ في القوس منزع، أي: بلغ الأمر الغاية.
٢١  الجثمان: الجسم.
٢٢  ذو العي: ذو الحصر، وهو الذي لا يحسن الكلام. المصقع: الفصيح.
٢٣  المنطيق: البليغ.
٢٤  كسرى: اسم كل ملك كان يحكم الفرس. وتبع: اسم كل ملك كان يحكم اليمن، كقيصر للروم، وخاقان للترك، والنجاشي للحبشة، وفرعون للقبط، والعزيز لمصر.
٢٥  لا ينجع: لا يؤثر.
٢٦  حشرجت: الضمير راجع للروح، والحشرجة: الغرغرة عند الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤