ألكني يا ضياء

أجدَّكِ يا كواكب لا ترينا
بيانًا منك يُخبِرُنا اليقينا؟١
كأن العالم العُلوِيَّ سِفرٌ
نطالعهُ ولسنا مفصحينا
نحاول منه إعراب المعاني
بتأويل فنرجع مُعْجِمِينا٢
كواكب في المجرة عائماتٌ
حكت في بحر فسحتها السفينا٣
سرت زُهْرُ النجوم وما دراها
فلاسفة مضت ومنجمونا
شموس في السماء عَلتْ وجلَّت
فظنوا في حقيقتها الظنونا
سوابحَ في الفضاء لها شئونٌ
ولمَّا يعلموا تلك الشئونا
وما ارتجفت بجُنح الليل إلا
لتضحك فيه مما يزعمونا
لعلَّ لها بهذا الجو شأنًا
سِوى ما نحن فيه مُرجمونا٤
تلوح على الدجى متلألئات
فتُبْهِج في تلألُئها العيونا
وأنَّى يدرك الرائي مداها
وإن ألقى لها نظرًا شفونا؟!٥
تودُّ الغانيات إذا رأتها
لو انتظمت لها عِقْدًا ثمينا
تقَلدُه على اللَّبَّات منها
وتطَّرح الدمالج والبُرينا٦

•••

أَلِكْني يا ضياءُ إلى الدراري
رسالةَ مُسهِرٍ فيها الجفونا٧
لعلَّك راجع منها جوابًا
يزيل عمايةَ المتحيرينا
فقل، إني تحيَّر فيك فكري
كذاك تحير المتفكرونا
فيا أمَّ النجوم وأنتِ أمٌّ
أيولد فيك كالأرض البنونا؟٨
وهل فيك الحياة لها وجود
فيمكن للرَّدى بك أن يكونا؟
وهل بك مثل هذي الأرض أرضٌ
وفيها مثلنا متخالفونا؟
وهل هم مثلنا خُلقًا وخَلقًا
هناك فيأكلون ويشربونا؟
وهل هم في الديانة من خلاف
نصارى أو يهود ومسلمونا؟
وهل طابت حياة بنيك عيشًا
ففوق الأرض نحن معذبونا؟
وهل حُسِبت بك الأيام حتى
تألَّف من تعاقبها السنونا؟
وهل بالموت نحن إذا خرجنا
عن الأجساد نحوك مرتقونا؟٩
فتبقى عندك الأرواحُ منَّا
تُصان فلا ترى جَنَفًا وهُونًا١٠
فأحْبِبْ بالمنون إذن وأحبِب
بها إن كان سُلَّمك المنونا!١١

•••

أبيني ما وراءَك يا دراري
فنحن نخاله بعدًا شَطونا١٢
قد اتسع الفضاءُ لك اتساعًا
فهل أبعاده بك ينتهينا؟
وصغَّرك ابتعادك فيه حتى
إليك استشرف المتشوِّفونا١٣
فهل كان ابتعادك من دلال
علينا أم بعدت لتخدعينا؟
خوالد في فضائك أنت؟ أم قد
يحلُّ بك الفناءُ فتذهبينا؟
وقالوا: ما لعدَّتك انتهاءٌ
فهل صدقوا أو ارتكبوا المجونا؟١٤
وقالوا: الأرضُ بنتك غيرَ مَيْن
فهل أبناءُ بنتك يصدقونا؟١٥
وقالوا: إن والدك المفدَّى
أثيرٌ في الفضاء أبى السكونا١٦
ترصَّدك الأنام وما أتانا
بعلم كيانك المترصدونا١٧
«فهرشل» ما شفى منا غليلًا
ولا «غاليلُ» أنبأنا اليقينا١٨
و «كبلر» قد هدى أو كاد لما
أبانك يا نجوم تجاذبينا١٩
إلى كم نحن نَلبس فيك لبسًا
ومن جَرَّاكِ ندَّرع الظُّنونا!٢٠
لعلَّ النجم في إحدى الليالي
سيبعث للورى نورًا مبينا
تقوم له الهواتف قائلات:
خذوا عني النهَى ودعوا الجنونا
١  أجد: بفتح الجيم وكسرها، والهمزة للاستفهام، وهذه من الكلمات التي لا تستعمل إلا مضافة، ومعناها: أيجد منك هذا العمل، وقيل معناها بفتح الجيم: استحلاف بالجد؛ أي البخت والحظ، وبكسرها معناها: استحلاف بالجد؛ أي الحقيقة والاجتهاد، والجد الذي هو ضد الهزل.
٢  الإعراب: الإظهار. معجمين: غير مفصحين.
٣  المجرة: مجموعة نجوم كثيرة لا تدرك بمجرد البصر، وإنما ينتشر ضوءها كأنه بقعة بيضاء. حكت: أشبهت، السفين: جمع سفينة.
٤  مرجمون: قائلون بما لا نعلم.
٥  مداها: غايتها. شفن شفونا: رفع طرفه ناظرًا الشيء كالمتعجب أو كالمكاره، فهو شافن وشفون بفتح الشين.
٦  تقلده: أي تتقلده بمعنى تلبسه كالقلادة. اللبات: جمع لبة وهي النحر، الذي هو موضع القلادة من العنق. الدمالج: جمع دملج، وهو حلي يلبس في المعصم. البرين: نوع من الحلي، وهو جمع برة — بضم الباء وفتح الراء — على غير قياس.
٧  ألكني يا فلان: أي كن رسولي إليه، وتحمل رسالتي إليه. الدراري: أراد بها النجوم الزواهر.
٨  أم النجوم: هي المجرة.
٩  مرتقون: مرتفعون.
١٠  تصان: تحفظ. جنفًا: ظلمًا.
١١  يقول: أيتها المجرة، هل نحن نرتفع إليك إذا متنا، فإن كذلك فما أحلى الموت إن كان سلمًا للوصول إليك!
١٢  بئر شطون: بعيدة القعر، وغزوة ونية شطون: بعيدة.
١٣  استشرف الشيء: رفع بصره ينظر إليه. تشوف إلى الشيء: تطلع إليه.
١٤  المجون: إرسال القول أو الفعل من غير مبالاة كالهزل.
١٥  المين: الكذب.
١٦  الأثير: مادة منتشرة في كل خلاء ألطف من الهواء.
١٧  الكيان: الطبيعة.
١٨  هرشل وغاليل وكبلر: علماء فلكيون.
١٩  أبانك: أظهرك.
٢٠  من جراك: من أجلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤