رجل!

في زاوية من زوايا الأرض جبلٌ طال طولَ تمني الفقير وسأم الغني، جبل اشتدَّ اشتداد شهر الصوم على المتكلفين، والناس يحذقون التكلف؛ لأن الفطرة سلامة.

جبلٌ هبَّ أملس ضامرًا جردًا، رمحٌ ركزه ربٌّ أعياه خلقٌ لا ينزجرون.

كان الجبل سيِّد أهل الزاوية، يستقبل أعينهم كل صباح فيحد من مرماها، ويعكس عليهم شعاع الشمس فيشترك في اللفح، ويصدُّ عنهم الزعازع فيهدِّئ ليلَهم: مصدر طمأنينة، وصاحب غلبة.

كان أهل الزاوية لا يرفعون الأبصار إلى الجبل إلا وأكفُّهم مفروشة فوق حواجبهم، وإنْ تجرأ الطرف وانفسح، فعلى سبيل اللمح: كان الجبل يمزق عزم العين، ولولا هذا الجبل الأملس الضامر الجرد ما كان أهل الزاوية على تلك الحال من الدعة والرقة … لا بدَّ للناس من شيء يهددهم بالسحق، من شيء متماسك مع تطاول حين تلين أنفسهم.

كان الجبل مصدر طمأنينة، وصاحب غلبة.

وكان الشغلَ الأكَّال للأذهان: على رأس الجبل بيت منقور، نقره شيء مجنَّح هوى من ناحية السماء، ثم زرع فيه عشبًا أبيض قصير الورق، مَن أكل منه — وهو ندٍ في منبته — ظفر بالحياة الأبدية … السماء تستهوي الخلق أبدًا، وتارة تغويهم، السماء جزء من الكون، والكون بهرج.

والطريق إلى ذلك البيت المنقور وعر، معضل. والتصعيد فيه خُدعة من خدع الموت، ولم يقوَ على بلوغ البيت من أهل الزاوية سوى اثنين، وقد عاد أحدهما كسيحًا من الإعياء … هل يقدر رجل على حمل الأبدية؟ وعاد الآخر مكفوفًا … آه من الشمس تقتل من حيث تُحيي؛ وهجها ينير ويعمي، أضاءت البيت المنقور أيَّ إضاءة حتى إنها أطفأت العين.

عاد الكسيح والمكفوف وبين أيديهما الأبد، ولم يدرِ أحد من أهل الزاوية أيسخران من الموت أم الموت يسخر بهما؟

•••

– «يا رجل، لا تصعد في الجبل.»

– «أنا مصعِّد فيه يا قوم.»

– «أتبتغي الأبدية، وأنت بشر؟ أتخرج على سُنَّة الكون؟ كل ما فيه مقدَّر؛ الجفاف يترقَّب النبات، الليل راصد للشمس، الموت يُحصي على الإنسان أنفاسه.»

– «الكون مبذول لنا، لسنا بمدفوعين إلى الكون يعبث بنا ويتحكم في أمرنا، الكون مبذول لنا، فليسخر! قيوده للعبيد، لمن يطوِّح النظر إلى فوق وكفه مبسوطة فوق حاجبه. هذا الجبل يكسر طرفي، وأنا أريد أنْ أحدِّق إليه؛ وأقول له: الآن لا أسارقك النظر، ولا أخشى لمسك وخطفك؛ لأن سرك انتقل إليَّ، أنت تطويه في رأسك وأنا في عروقي أبثُّه، أنا أفضلك وأبهرك؛ لأنك صاحب السر، أمَّا أنا فمختلسه. أنت قبضت على المستحيل وهوَّلت به علينا، أنا أجعله برجولتي ممكنا.»

– «ولكن الكسيح والمكفوف، ألا تتعظ بهما؟»

– «إنهما رغبا في الأبدية طمعًا فيها وحدها، أما أنا فأطلبها لتنقاد، لأحس بأني ظافر. هما رغبا فيها للتنعم بالحياة الباقية، وأنا أطلبها لأصرعها … كالمرأة تستمتعون بها وتلهون، أمَّا أنا فأطرحها تحت همتي لأشعر بأني أملك شيئًا نابضًا، شيئًا أستطيع أنْ أنشر فيه من إرادتي، وأسلَّ منه إرادته عِوضًا. إني لا أحس برجولتي إلا إذا وجدتُني السلطانَ القادر على حياة غيري. حياتي لا أملكها، لأني عبد لها تسيِّرني ولا أجرؤ على الانتقام منها … لا يقتل نفسَه إلا من افتقد حياته فانفلت من ضغطها، ولست كذلك؛ حياتي بين يديَّ، لكنهما لا تسعانها.»

تمهَّلَ الرجل ليتصفح القوم، ثم واصل: «أنا مصعِّد في الجبل لأغتصب عمري من براثن العدم، فأعود سيدَ نفسي: إذا ضايقتني أدبتها، سيدَ جسمي: أُفنيه متى أشاء، سيدَ روحي: أميِّلها على هواي … الروح التي حِرتم في شأنها سأقبض على أطرافها، وأجعل لها من عظامي إطارًا يخنقها، أنا مصعد.»

قال الرجل مقاله، فضحك الكسيح، وبكى المكفوف من خلفه، كأن أحدهما يتمِّم أخاه، ثم حمل المكفوف الكسيح، وأخذا يتحسسان — هذا بعينه وذاك بقدمه — نعيمَ الفناء: الأرضَ وما عليها.

عاد الرجل إلى مقاله: «أنا مصعد، وسألقي إليكم كل يوم بحجر؛ لأُعْلِمكم بأني سالم، حتى أرجع إليكم فتلتفُّوا حولي، وتسألوني أن أفتك بهذا الكسيح وبهذا المكفوف؛ لأنهما طلبا ما فاتهما خطرُه، أنا مصعد.»

هدأ الرجل، ومن بين الصفوف برزت فتاة وقالت: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»

أخذتِ الرجلَ بحَّةٌ، وهو يقول: «يا حبيبتي …»

تطلعت الفتاة إليه قلقةَ البصر حيْرى السمع، فأكَّد الرجل: «نعم، حبيبتي، الآن فقط أناديك: يا حبيبتي، ومن قبل كتمت ما يشغل صدري؛ لأني لو نشرت حبي بين يديك لتعطل إحساسك الدفين به.»

ثبت القلق في البصر، وامتدت الحيرة في السمع، فزاد الرجل: «الروضة التي عن يمينك تجلسين إليها تنقلين البصر؛ فيتزود، فينساب سحر مستتر تحت الجفنين فيغلبهما ويطبقهما، ثم تُقبل صاحبة من صواحبك فتصيح: ما أجمل الروضة! فينزعج السحر؛ ويفر من تحت الجفنين، فينفرجان، فترى عينك ما تراه عين صاحبتك: تلمس حواسُّك الأشياء؛ فتصحو، فتبطل الخلوة بالوهم الخاطر … الحب والجمال كالبريق الذي في الياقوت الأصفر الرقيق: ماء رعَّاش في تعاريج جوهرة، فوق الوصف ودون اللمس … الحب والجمال وماء الجواهر لا تفعل فعلها إلا إذا رفَّت وراء حجاب شفاف … يا حبيبتي.»

دنا الرجل من الفتاة التي برزت من بين الصفوف، فارفضَّ القوم، فقالت الفتاة: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»

ضمها الرجل إليه: «اليوم أناديك: يا حبيبتي؛ لأني منصرف عنك، لحظة يَنْشرم اللحمُ من اللحم يحسن بالألفاظ أن تنفح دمًا، وهل يفور بالدم غير الألفاظ المقدسة؟»

فك الرجل الفتاة من الضمة: «وما أحراني الآن بأن أناديك: يا حبيبتي … إني بباب المعبد، سأدخله في الوقت الذي أختاره، سأدخل معبد الزمان المنزَّه عن خطر الانفصال، فأختطف من دعائمه حقيقةَ حرفين متلاحمين: الحاء والباء؛ لأن الحب نفسٌ متصل. اليوم لي الحق أن ألفظ الحرفين؛ لأني قريب الاتحاد بالقوة الراسخة … آه! يضحكني البشر حين يُخرجون حروفًا وُضعت لغير حلقهم. البشر إلى الزوال، والحب حابس العابر في المقيم، حابس الزمن الدائر في دقة قلب.»

قالت الفتاة التي برزت من بين الصفوف: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»

فتدفق الرجل: «أتخشَين أن تشغلني الأبدية عنك؟ لا أهواها ولا أشتهيها، إنما أريد أن أُذِلَّها، أنت تغارين منها؛ لأنك تحسين ما تكون هبتها لي؛ ستهَب لي سرَّها، ويشق عليك أن ينافس سرَّك الذائع في صدري سرٌّ داخل، ثم تحسِّين أن الأبدية شيء يماثلك، شيء يمنح السعادة.»

ثم جعل الرجل يقطِّر كلامه: «لا تغاري يا حبيبتي، سأجعل الأبدية سُلَّمًا إليك، فأجلس إزاءك ندًّا إلى ندٍّ: أنت امرأة تبسط الدنيا لحبيبها فيسع الأشياءَ كلها ولا يسعه شيء، وأنا رجل قد نزع قدمه من ورطة الأرض … كُفِّي عن منعي.»

همهمت الفتاة: «يا حبيبي، لا تذهب إلى البيت المنقور.»

•••

وذات يوم لم يسقط حجر، فندَّد القوم بالرجل، ثم سبوه … لِمَ يحاول الفوق عليهم ثم يكبو؟!

وفي الليل حلُم المكفوف أنه رسَّام، والكسيح أنه رقَّاص … الشماتة فنَّانة!

ثم مرضت فتاة.

وذات صباح هبط الرجل على القوم سالمًا، فالتفَّ القوم حوله: «أنت؟ حيٌّ؟ هل أكلتَ من العشب؟»

– «عنِّي! الطريق!»

– «ولمَ أمسكت عن إلقاء الحجر؟»

– «إلى من ألقي بالحجر؟ لا ترقبوا الشيء من عل، نقِّبوا في جوف الأرض؛ يا بشر! عنِّي! الطريق!»

دخل الرجل بيت الفتاة التي برزت من بين الصفوف ثم مرضت.

والفتاة لم تكن في البيت، قتلها الحجر الذي لم يسقط.

خرج الرجل إلى الجبل، وصعَّد فيه يقصد إلى البيت المنقور يحاسبه.

ولما كان ذات صباح سقط الرجل من الجبل ميتًا … قتل الرب نفسه، والذي قتله بشر.

شتورة «لبنان» أكتوبر ١٩٤١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤