المرحلة الثالثة

(من الآن فصاعدًا يبرز في صدر المهاد كوخ يحجب داخله ستار جانبي. هنا على الأرض بقرب الكوخ. القيثاري في الغيابة اليسرى، يبدو من القيثار طرف العنق مع بعض الملاوي. في هذه المرحلة لا يحدق أحد إلى العالية، فيكون النظر إليها مخالسةً مع أكف مبسوطة فوق الحواجب.)

هنا (تلتفت إلى الغيابة اليسرى) :
أيُّها القِيثارْ
يا حِمَى صبابتي
سأحكي لَكَ سَفْرَة ليلة
حُلمًا سرح، ترنَّحْ
أَرْسِلْ مِن حَوْلِه ألحانَك تحبسْ تَيَهانَهْ
أدركْ ضلوعي زَحمتها وساوس الرُّعب.

(زينة تدخل من آخرة المهاد في خطًا مترفة، تستمع إلى هنا في حسرة وبلا ضغينة.)

هنا (تحكي والقيثار يراسل حديثها بائتلافات مضغوطة ومتقطعة) : رأيت صخورًا توشحت بالياسمين. أخذت ترقص دوَّارةً. بين لفَّتين لمحتُ إليه يصعد، شبحَ شجرةٍ يبس عودها وقسا. ظلَّ الشبح يسرع من مرقى إلى مرقى، تدفعه يدان على مثال يديَّ، إلا أنهما من صوَّان. كان الليل أسود، ولكن في غيابة جفني فز برق، ما كنت أجرؤ على ندائه. هل أَقِفُه فأعوِّقه؟ في تلك اللحظة أدركت أنه لا بدَّ له أن يمضي. (مهلة) فجأةً تلفت زفيره وجعل يناجي عفَّة حسي …
(ها هنا يعلو صوت فدا بهذه الكلمات في بطء) «البعد يدني الأشياء، يدنيها في الخاطر … بين وجه الدنيا وقلبها موجودات تهاجرت وتفاوتت، ثم نهض بعضها يسعى إلى بعض يستشف، فالتقت وتواشجت وراء الأقاليم المطروقة، عند قفرٍ تصول فيه رياح القلق. هنالك يأبى الكدح أن ينقضي فيطمئن؛ لأن الممكنات لا تنفك تبرز للعزم مستطرفةً فتستهويه. (مهلة) لا راحة هنالك! إنما الراحة نصيب مشاعر حرصت على الظفر بما تشتهي، وقد رفضت رعدة النشوة … نشوة تُضني، وتُغني، متى غلبت العصبَ شدت الفؤاد، فيهبُّ الظن ويمرح وقد شرع يؤلف بين طائفة من القوى، كان الكون بعثر عِقدها لِيَمدَّ بساطه، فذهبت مذاهب حتى بدت كأنها في شقاق منذ الأزل. (مهلة) في هذه الليلة كلُّ ما يضطرب بين الأرض والسماء ينقاد لمعجزة النشوة. هأنذا أخف إلى بروج الظنون؛ لعلي أعثر في مسابح الأثير على النفَس الزاخر، ينتظرني؛ فلطالما لمعت آيةُ مصيري تحت ركام السنين. (صمت) أصبحتُ بعيدًا عنك، فانقطع الحبل الظاهر … أنا أبدًا معك، وأنتِ معي … لا شقاق بيننا: نبضٌ إلى نبض يهتدي عند ميثاق الأنس، تحت جناح الديمومة. نحن كالنقرتين على صدر دُفٍّ، كلتاهما الآن في سبيلها، سوف تشتبكان يوم يُدوي طبل النصر وقد نشز على الأوزان الدارجة. حينئذ يلتصق القلب بالقلب، يقتسمان عبء الغبطة». (ينقطع صوت فدا).

(تعود هَنا إلى حديثها) عند هذا الحدِّ ذاب الصوت في العلا. حدَّقتُ فقرأت في وجه الحبيب حظه الأرفع: حروفًا وشَّت الخدين بلَهَب فطهرت، أما أنا فبقيت حيث كنت، أتأمله عسى أن أحزر ما تكون إتاوة النصر … عجزت عن الحركة: حَجزتني الأرض رهينةً لقاء فكره الجسور. فجأةً وقف الدهر معي ليُحكم قرع الضلوع بمِطرقة الوعيد. (مهلة) خفِي عن بصري. عدت إلى نفسي. أخذت أنحدر، وإذا أناملي تسحر ألفافًا من الشوك، فتَخلُص لها براعم أريجها مُقنَّع: نسمةٌ من خَفَر الحب. سرعان ما افترَّت الورقات عن مكنونها. جعلت أنثرها في حِجر شجرة يبس عودها وقسا، هبطت من مروج السحب. ويلي! هذه الورقات يُفَتِّحُها البِشر، هل تستطيع أن تُنَضِّر العود وتمسحَه برقتها.

(زينة مزعزعةً. القيثاري يعلق على حلم هَنا بلحن منطلق. هادي والقوَّال ثم الفلاحون يدخلون من آخرة المسرح في أثناء ذلك، على وجوههم جميعًا لوائح ألم بليغ. ينقضي اللحن فتنهض زينة مقلقةً وتسرع إلى هادي والقوَّال. هَنا لا تفطن لما يجري حولها وتأخذ في الإنشاد فيجمد الجمع.)

هنا (تنشد) :
غَمْزُ قِيثَارِ مُغْتَرِبِ
سَلْسَلَ الوَجْدَ بِالطَّرَبِ
حَبَسَ الأمَسَ فِي وَتَرِ
جُنَّ مِنْ جَسِّ مُدَّكِرِ
سَلْسَلَ الوَجْدَ بِالطَّرَبِ
نَفْضُ نَوْبَاتِ مُنْجَذِبِ
شَغَلَ العَجْزَ بِالسَّفَرِ
عَلَّقَ القَلْبَ بِالخَطَرِ
حَبَسَ الأمَسَ فِي وَتَرِ
وَارِدٌ جَامِحُ الشَّرَرِ
مِنْ أَسَاطِيرَ كَالحَبَبِ
رَقَصَتْ فِي دُجَى الحِقَبِ
هادي (في خفوت) : نشيدها لمن؟ …

(القوَّال يقطع على هادي الكلام بإشارة.)

هَنا (تتم النشيد) :
جُنَّ من جَسِّ مُدَّكَرِ
وَتَرٌ سُلَّ مِنْ حَسَرِ
مَدَّ حَرَّ الهَوَى اللَّجِبِ
فِي سَمَا وَهْمِ مُلْتَهِبِ
غَمْزُ قِيثَارِ مُغْتَرِبِ

(القوَّال يدنو من زينة ويهمس في أذنها …)

زينة (بعد انطواء) : آه.

(هَنا تلتفت دهشةً. صمت طويل كله توجع. الجمع، في مقدمتهم زينة، يخفُّون إلى هَنا. يتناظرون مرتبكين يريدون أن يقولوا لها قولًا، ولكن أحدًا لا يقدم. زينة تعتمد ذراع القوَّال. هادي له نظر تائه.)

هنا (تتفرس فيهم، في صوت ساذج) : اليوم لم يسقط الحجر.
زينة (تسرع إلى هنا، تعانقها ولها ابتسامة تحسر) : آه، ذلك العود الذي يبس وقسا! أقبلتِ عليه تنعشينه فأخفقت.

(هنا تلقي برأسها على كتف زينة.)

زينة : أنا وأنتِ؛ غُصة إلى غصة، ما وجدنا السبيل إليه. (القيثاري يرسل بعض ائتلافات رخوة) أيَّتُنا بذلتْ أعظم الجهد في صرفه عن مراده؟ هل أدري؟ هل تَدرين؟ نحن النساء لا نقيس البيداء إذا قطعها قلبُنا على هَلَع. (هَنا تأوي إلى كوخها ساهمةً) أنا وأنت تألفنا تحت حكمه. (مهلة) ما أضعف المرأة بين يدي رجل إذا أحب تعدى شأنَ نفسه فطلب العشق لوجه العشق.

(اللفيف يدخلون في تهجم.)

أصوات (في اللفيف) : مات …

(اللفيف يجمجمون، في حين زينة تدخل إلى الكوخ وتخرج منه بعد قليل.)

زينة (في رقة) : هُسْ. (الليف يكفون عن الجمجمة. زينة تشير إلى الكوخ) خلت إلى روحها تنشدها آخر نشائدها.

(موسيقى غائمة. صمت. بدء الظلمة. زينة تقترب من الكوخ فتقف مفجوعةً. هادي يسرع إليها.)

زينة : ماتت. (في خفوت) جاء دورها.

(ذهول شامل. زينة واثنان من الفلاحين يخطون بضع خطوات: رقص الندب، بلا موسيقى، ثم يشرعون في صلاة مخافتة. هادي وسائر الفلاحين يحذون حَذْوَهم. القوَّال يستند إلى الكوخ مطرقًا. اللفيف يسترسلون للنوم حيث هم. القيثاري يدخل ويتوجه إلى الكوخ، يخفض عنقَ القيثار حزنًا، يتصفح المشهد ثم يمضي. الظلمة تنتشر.)

(الستار يسقط)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤