الوجه البشري

ما زال التنقيب يكشف لنا عن أنواع قديمة لا يمكن أن يقال إنها بشرية، كذلك لا يمكن أن يقال إنها قردية، وإنما تدل هذه الأنواع على اتجاه قردي يتخصص للشجر، أو اتجاه بشري يتخصص للسعي على اليابسة ويومئ إلى الإنسان الحاضر، وهذه الأنواع كانت تعيش إلى ما قبل مليوني سنة.

والعامل الوحيد لتغيُّر الحيوان وتطوره هو التغيُّر والتطور في البيئة، بحيث يستجيب الحيوان للتغيرات بمجهوده، على توالي الألوف والملايين من السنين، فتتغير أعضاؤه وتتخذ وظائف جديدة، ثم تتراكم التغيرات حتى تظهر سلالات جديدة، ثم أنواع جديدة.

وقد تغيَّر الوجه كما تغيرت القامة البشريان، والإنسان الحاضر نوع واحد يتلاقح ويخصب مهما تباعدت السلالات، ولكن هذه السلالات تختلف في الملامح والتقاسيم؛ لأنها عاشت في أقاليم مختلفة حرًّا وبردًا ورطوبة وجهدًا، ولكننا جميعًا نتشابه، ومع أن الفرق عظيم جدًّا بيننا وبين الطرسير، الذي لا يزال حيًّا، فإننا ما زلنا نرى ملامحنا فيه؛ إذ له عينان في الوجه مثلنا، وله يدان بأصابع مستطيلة للتناول، بل هو من هاتين الناحيتين أقرب إلينا من القردة؛ لأن هذه قد تخصصت، وفصلها التخصص منا.

ونحن نمتاز من القردة العليا — وهي الأربعة البتراء — بقامة عمودية وبجمجمة كبيرة وبجسم أملط، فأما القامة العمودية فمرجعها إلى أننا تركنا الشجر واعتمدنا على السعي على قدمينا على الأرض، فطالت أقدامنا واستطاعت أن تحملنا في اتزان، ومع ذلك لسنا سعداء بهذا الوضع العمودي؛ فإننا ما زلنا نتعب في الطفولة، نحبو أولًا ثم نتعلم الانتصاب، وأيضًا في الشيخوخة نعود إلى الانحناء، والساقان هما العضوان الأساسيان في انهيارنا مدة الشيخوخة؛ ولذلك نحتاج إلى ساق ثالثة هي العكازة التي نعتمد عليها، واعتبرْ أيضًا الفتق، وهو اندلاق الأمعاء أو بعضها في الخصيتين، بسبب هذا الوضع العمودي.

وأما الجمجمة الكبيرة التي تتسع لنحو تسعة آلاف مليون خلية في الدماغ فمرجعها أيضًا إلى هذا الوضع العمودي؛ لأننا لولا هذا الوضع لما استطعنا حملها وهي بهذا الثقل الذي يبلغ ألفًا وخمس مئة جرام، ثم إن اهتداءنا إلى اللغة ربط المعاني بكلمات، وهذه عملت على تكبير الدماغ.

أما الملط، فمرجعه إلى أننا نحن البشر قد اهتدينا إلى النار وإلى السكنى في الكهوف منذ أزمان بعيدة جعلتنا عرضة للحر المرهق، وللموت حرقًا لو كانت شعورنا باقية تكسو أجسامنا، ولا يزال أثر المناخ واضحًا؛ فإن الزنجي الذي يعيش حول خط الاستواء أملط بخلاف الأوربي الذي لا يزال الشعر يكسو معظم جسمه؛ لأن الشعر يؤدي عمل الكساء الصوفي في التدفئة، وأوربا باردة وإفريقيا حارة.
figure
(شمبنزي بعد ولادته ﺑ ٤٨ ساعة، وهو يشبه رجلًا مسنًّا أملط الجسم ليس له شعر إلا على رأسه)

وليس عندنا من الشعر الكَثِّ سوى ذلك الذي يكسو الرأس، وهو هنا وقائي لأنه بمثابة المرتبة القطنية؛ يصد الصدمة أو يخفف وقعها على الرأس.

وألوان الأجسام البشرية تخضع للوسط؛ فحيث تكون الرطوبة والحر معًا يكون لون البشرة أصفر، وهذا ما يحدث لأقدامنا المحبوسة في الأحذية، وهذا أيضًا ما يحدث للصينيين وسائر الأمم التي تعيش في الأقاليم التي تقع في الشرق الجنوبي من آسيا، أما في أوروبا، حيث ضوء الشمس أخف وقعًا مما هو في إفريقيا، فإن البشرة تكاد تشف؛ ولذلك يبدو الدم الأحمر تحتها واضحًا؛ إذ ليس في هذه البشرة سوى صبغة خفيفة، ولكن عندما يعيش الأوربي في أقصى الشمالي، حيث يدوم الثلج على الأرض نحو تسعة أشهر، فإن بشرته تقاوم البياض في هذا الثلج بشيء من السمرة. وهذا هو ما نجد عند الإسكيماويين، ولون العينين والشعر يتبع لون البشرة من حيث الخفة أو الثقل.

والوجوه البشرية، أو بالأحرى الرءوس البشرية، تتبع طرازين: أحدهما الوجه المستطيل، والآخر المستدير، وهناك طراز وسط بينهما، ولكلٍّ من هؤلاء مزاج سيكلوجي خاص.

والأنف البشري يخضع للوسط من الحر أو البرد؛ فحيث يكون الحر يتمدد الهواء ويحتاج الإنسان إلى أنف واسع المنخرين؛ كي يحصل على ما يحتاجه من الأكسجين، وهذا هو الشأن في أنف الزنجي أو الصيني المفرطح المنبسط، أما إذا كان الهواء باردًا، كما هو الشأن في أوربا، فإن الأنف يستدِقُّ ويضيق المنخران؛ حتى يدخل الهواء البارد في بطنه ساخنًا ولا يفاجئ الرئة ببرودته.

وأنف الزنجي لا يختلف هنا من أنوف القردة، ولونه كذلك؛ فإنها هي أيضًا زنجية، أو تتسم بألوان السمرة القاتمة، وهي بالطبع تعيش في ظل الشجر، فلا تحتاج إلى الصبغة الثقيلة التي يحتاج إليها الزنجي المكشوف لضوء الشمس في قريته أو حقله.

ونحن نرى شبهًا آخر في ملط الزنجي وشعرانية الأوربي، فإن الفيل في إفريقيا وآسيا يكاد يكون أملط، وكذلك الجاموس؛ لأن الحر يغنيها عن الشعر، أما الحيوانات التي تعيش في القطب الشمالي؛ مثل الدب والثعلب، فتكتسي بفراء وفيرة كثيفة تحميها من البرد، والبقر يعيش في أوربا بخلاف الجاموس لهذا السبب أيضًا.

والأذن البشرية صغيرة، وقد كانت كبيرة تتحرك، بل لا يزال هناك أفراد يستطيعون استرداد القدرة على تحريكها، وانحطاط الأذن عندنا يرجع إلى أننا قد استغنينا عن السمع — إلى حد بعيد — بالاعتماد على الرؤية.

ومما يميزنا من القردة أن الفكَّين اللذين يحملان الأسنان عندنا قد ضؤلا وتراجعًا للوراء، وصارت بعض ضروسنا الخلفية لا تنبت، أو هي تبزغ بعد أن نبلغ العاشرة أو الخامسة عشرة، وهي تزعجنا وتؤلمنا أكثر مما تفيدنا، ثم قد تلازت الأسنان؛ لأن الفكين في صغرهما لم يعودا يتسعان لها، والبشر يعانون في أيامنا أزمة بيولوجية في الأسنان؛ لأن نصفها كان يكفينا، ولكننا ورثنا تراث الحيوان المفترس القديم دون الفرصة للافتراس.

وهذا على خلاف ما نرى من بروز الفكَّين عند القردة؛ فإنها تأكل وتمضغ الأطعمة القاسية التي تحتاج إلى القضم والهرس والتمزيق؛ ولذلك بقي الفكان، كما بقيت عضلات وجهها التي تحرك هذين الفكَّين.

•••

وهنا نقطة تستحق أن نقف عندها، ذلك أننا لا نجد بين الحيوانات جميعها هذا الالتفات للوجه كما نجد بين الإنسان؛ فنحن نقول عن شاب أو فتاة أو امرأة إن أحدهم جميل، ونعني أن الوجه جميل، ولا نكاد نلتفت إلى عضو آخر سوى الالتفات العابر، فنحن نذكر العينين الناطقتين، والوجنتين النضرتين، والجبهة العالية، والأنف المرهف، والشفتين الرقيقتين، ونحس أن في الوجه شيئًا أكبر من المِلاحة الجسمية، نحس نبلًا وروعة وشهامة وسحرًا.

ولا عبرة بأن يقال إن هذا الجمال ذاتي، وإنه ليس له وجود موضوعي في الطبيعة؛ إذ هو يجب أن يكون ذاتيًّا، وذاتيته برهان على الإحساس العام، في الضمير أو الوجدان البشري، بقيمته، وأنه هو الصورة التي رسمها هذا الوجدان.

وبكلمة أخرى نقول إن الرجل ينظر إلى المرأة بخلاف ما ينظر الذكر إلى الأنثى من الحيوان، ولا مفر من أن نردَّ هذا الفرق إلى الوضع الذي اتخذاه في التعارف الجنسي، هذا التعارف الذي يتم بيننا نحن البشر وجهًا لوجه، وليس — كما هي الحال بين الحيوانات — وجهًا لظهر، فالحيوان بهذا الوضع يشتهي ظهر الأنثى وخلفها، ويهمل الوجه، ونحن نشتهي وجه المرأة وصدرها، ومن هنا عنايتنا الكبرى بملامح الوجه، وهي عناية لا يُعقل أن تكون عند الحيوان، وقد أصبح الوجه البشري بذلك بؤرة التقدير الفني من الرجل ومن المرأة.
figure
(وجه الربة فينوس كما تخليه الفنانون الإغريق حين أرادوا تمثيل الجمال البشري)

ومع هذا ما زلنا حيوانات؛ فإن شهوة اللحم عندنا تجد في كَفَلَي المرأة ما يثير الانجذاب الجنسي، وهذا يرجع بالطبع إلى قبل ملايين السنين الماضية حين كان التعارف الجنسي بيننا يجري على أسلوب الحيوانات؛ أي وجه الذكر إلى ظهر الأنثى، ولكن هذا الأسلوب قد تغير فالتفتنا إلى الوجه، وتغيَّر الوجه بحيث صار وفق الصورة التي رسمها وجداننا عن الجمال البشري، ولكن بقيت الذكرى الحيوانية في الإعجاب بكَفَلي المرأة، بل بقي الشذوذ الجنسي.

وجميع الحيوانات الرواضع تتسم بقرب أثدائها من ساقيها الخلفيتين، ولكن ثديي المرأة ترتفعان إلى الصدر؛ وعلة ذلك أنها قد أصبحت تحل طفلها على صدرها وتمشي على ساقيها فقط، بل هي تعتمد حين تقعد على أليتيها أيضًا، فيحتاج الطفل في الرضاع إلى أن يجد الثديين على الصدر، وليس على أسفل البطن.

ومع أن ضخامة الأليتين لا تعد من الجمال إلا عند البدائيين أو المتوحشين، فإن هناك ما يرجح القول بأنهما ستزيدان ضخامة في المستقبل؛ لأن الدماغ سيكبر في حجمه، وسيحتاج الجنين إلى حوض واسع عند المرأة حتى تسهل ولادته، واتساع الحوض يعني في النهاية تضخم الأليتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤