فلسفة التطور

أعظم ما يعوق التفكير المثمر والرأي المدروس أن تكون هناك عقيدة مألوفة أو عادة اجتماعية يمارسهما الناس لأن العادة التي ننشأ عليها — ذهنية أم اجتماعية — تحول بيننا وبين رؤية الحقائق كما تمنعنا من الانتقاد لما هو قائم بيننا.

وكثيرًا ما نقرأ مؤلفات الفلاسفة الإغريق وفقهاء الدين في المسيحية والإسلام واليهودية فنجد العقول الناضجة والآراء السديدة، ثم نعجب بعد ذلك لأنه لم يعارض مثلًا واحد منهم، ولو بالنقد العابر، هذه النخاسة التي كانت تحيط به في مجتمعه حين كان يباع الصبي والرجل والمرأة كما تباع البهائم.

وقد نزهوا نحن برقينا على أسلافنا في هذه الناحية. ولكن يجب ألَّا نتناسى أنهم كانوا معذورين؛ لأنهم نشئوا على هذه العقيدة أو العادة ومارسوها أو رأوا غيرهم يمارسها فلم يستطيعوا التغلب على عواطف الاقتناء التي أوجدتها النخاسة.

والعقيدة تحدث عاطفة تزعجنا بل تؤلمنا مخالفتها.

وعندما نتأمل نظرية التطور وشواهدها التي لا تحصى نعجب لتأخر الجماهير المثقفة في اعتناقها، ونعجب أيضًا لأن أحدًا من الفلاسفة لم يقل بها إلا منذ أقل من قرن، وعندنا أن مرجع ذلك هو الإيمان بالعقيدة الدينية التي تقول بأن الأحياء قد خلقت، كل حي مستقل في خلقه عن الآخر، فإن هذه العقيدة حالت دون التفكير في كرامة الإنسان وحريته.

وقد أصبحت نظرية التطور بعض عاداتنا الذهنية، وقد نقلناها من الأحياء إلى المواد والعناصر، وإلى المجتمعات والنظم السياسية والاقتصادية. بل نحن نحس الحاجة؛ لأن يعم التطور البيولوجي جميع البشر حتى يتغيروا إلى أحسن وأرقى مما هم عليه، ونحن بهذه النظرية نرى هذا الكون كله بعين جديدة، إذ نعرف أنه صائر متحرك وليس كائنًا جامدًا

وقد تعلمنا من السيكلوجية أن من أعظم ما يؤذينا في سلوكنا الاجتماعي وتصرفنا الشخصي هو هذه العواطف التي ورثناها من أسلافنا حين كنا في أطوار حيوانية نحتاج إليها، فنحن ما زلنا نغضب ونغار ونخاف ونقسو ونشتهي ونتشكك، وهذه العواطف تلغي عقولنا أحيانًا وتعذبنا. وهي لا تختلف عن الأظافر التي تنمو بلا حاجة لنا بها إلى النمو، ولكننا نقلم أظفارنا ولا نستعز بنموها. أما العواطف فلا سلطان لنا عليها سوى سلطان العقل. وهو لا يزال في بدايته لم يسد السيادة التامة. ومن هنا الأمراض النفسية إذ هي جميعها أمراض العواطف التي لا تزال عالقة بنا بعد أن أدت مهمتها وكان يجب أن تموت.
figure
(العظام تتشابه: إنسان — إنسان منقرض — قرد)

وعندما نتأمل أعضاءنا الخاصة بالعواطف نجد أنها لا تزال كما هي لم تتقلص أو تضمر، فنحن من حيث الجهاز العاطفي لا نختلف عن الحيوانات إلا من حيث إن لنا جهازًا آخر هو الدماغ الكبير، مكان التعقل. ولذلك يغمنا جنون حين نغضب أو نخاف أو نتشكك أو نغار أو نشتهي الجنس الآخر.

ولو أن هذا الجهاز العاطفي كان قد تقلص أو ضمر، كما هو الشأن في الزائدة الدودية، التي كانت قبل ملايين السنين مِعَى كبيرة تهضم المواد التي تحتاج إلى مدة طويلة ثم أصبحت أصغر من أصبع، لو أن جهازنا العاطفي كان قد نقص مثل هذه الزائدة، لكنا سعداء بعقولنا لا نغضب أو نخاف أو نهتم كما هي حالنا الآن.

ونحن ما زلنا حيوانات نفسًا وجسمًا بهذا الجهاز العاطفي، ولذلك أصاب فرويد حين قال إن كلًا منا يتألف من ثلاث ذوات: الذات الحيوانية نجوع بها ونشتهي الأنثى ونغضب ونبطش، ونحن في كل ذلك حيوانات. ثم الذات الاجتماعية التي نراعي فيها العادات المألوفة. ثم الذات العليا التي يحتويها ضميرنا والتي نرتفع بها أحيانًا على المألوف.

وقد رسم لنا تاريخنا التطوري أننا نسير نحو زيادة الدماغ، والواقع أن وزن الدماغ في الإنسان كبير جدًّا بالمقارنة إلى ما هو عليه عند الحيوانات، وخاصة تلك الزواحف المنقرضة، فإن واحدًا من هذه الزواحف يدعى «البرونتوسور» كان وزن دماغه لا يزيد على رطلين. ولو أن دماغه كان ينمو على قياس النمو البشري للدماغ لكان يجب أن يكون وزنه ٢٠٧٢ رطلًا، أي نحو طن، ولو أنه كان ينمو على قياس النمو في الغوريلا لكان يجب أن يزن دماغه ٣٧٠ رطلًا.

ونحن صائرون نحو الزيادة الدماغية، فإن كلمات اللغة، وهذا التوسع اللغوي في المعاني الجديدة، ثم هذه الآفات التي عددت اهتمامات الإنسان، كل هذا جدير بأن يزيد خلايا الدماغ في المستقبل ويزيد بذلك فهمنا وتسلطنا على هذه العواطف الحيوانية التي تؤذينا وتردنا في أزماتنا النفسية إلى حال الحيوان.

وقد وصل الإنسان إلى حاله الحاضرة من الرقي الدماغي بقوانين الغابة، أما الآن فإنه قادر على أن يأخذ التطور البشري في يده وأن يتسلط على مستقبله بنفسه، وأن يزيد هذا الدماغ البشري إلى أكبر مقدار ممكن بالتربية أولًا وبالاختبار ثانيًا.
figure
(تطور الأدمغة من السمكة إلى الفقمة إلى الكلب إلى الغوريلا إلى الإنسان)

وسوف يأتي اليوم حين تحس كل أمة أن إصلاح أرضها وتحسين مبانيها وترقية مصانعها وزيادة ثرائها، كل هذا ليس شيئًا يستحق العناية بالمقارنة إلى الرقي البيولوجي في أبنائها، وأعظم هذا الرقي هو زيادة الأدمغة، حتى يأخذ التعقل البصير مكان العاطفة الطائشة، وحتى يزيد الذكاء في أفراد الأمة،

وقد عرف هتلر قيمة التطور وعمل به، ولكنه أساء إذ كان يحمل في نفسه بغضاء جنونية لليهود، كما أنه كان أيضًا مجنونًا من ناحية الاعتقاد بأن السلالة الألمانية هي خير السلالات في العالم، وقد استعمل التطور هنا، كما استعمل الأمريكيون القنبلة الذرية، للعدوان وليس للبنيان.

ولكن إذا كان الألمان قد أساءوا باستعمال التطور في غير مكانه، كما أساء الأمريكيون باستعمال الانشقاق الذري في غير مكانه، فإن هذا لا يعني أن المجتمعات لا يمكنها أن تنتفع في المستقبل بإيجاد سلالات بشرية راقية، وأيضًا باستخدام الانشقاق النووي أي الذري في إيجاد القوة لاستغلال الطبيعة.

ولن يقتصر هذا التطور المدبر على الإنسان؛ لأنه سوف يشمل أيضًا الحيوان والنبات. بل الواقع أن الإنسان قد عمل كثيرًا في تغييرهما لخدمته، فإن البقرة مثلًا هي جهاز حي لتحويل العلف إلى لبن، والكلب هو حيوان للبيت يؤانس الأطفال. والقط قد أصبح بعض الأثاث في منازلنا. أما الفرس فإننا قد أحلناه إلى تحفة من الجمال، وإلى حيوان للجر، ثم إلى وسيلة للمقامرة في حلبات السباق.

وليس بعيدًا أن نربي ونختار في الكلاب حتى نستخرج منها سلالة ذكية تؤدي الكثير من حاجاتنا، وأن نختلق سلالات جديدة من البقر أو الجاموس تتخصص كل منها في إدرار اللبن البروتيني أو الإكثار من الزبد. كما ليس بعيدًا أن نجعل من النبات أنواعًا وسلالات تختص كل منها بتزويدنا بثمار معينة للغذاء أو الدواء.

هذا هو بعض ما تعلمناه من نظرية التطور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤