أصل الحياة وغايتها

لم يئن الوقت للإجابة على هذا السؤال، ذلك أننا عشنا عشرات القرون ونحن نعتمد في المعارف الخاصة بأصل الحياة على قصص تقليدية، لكل أمة صيغتها الخاصة لها، فللصينيين قصة وللهنود أخرى وللأتراك أخرى، وهلم جرًّا. وهذه القصص قد عاقت التفكير العلمي بشأن البحث عن أصل الحياة. وخاصة عندما اندغمت هذه القصص في الأصول الدينية؛ لأن هذا الاندغام جعل المخالفة لهذه القصص والأساطير جريمة.

وليس الخوف من الوقوع في الجريمة هو وحده الذي حال دون التفكير العلمي. لأن هناك ما هو أكبر من هذا الخوف وهو الإيمان بالقصة أو الأسطورة منذ أيام الطفولة، حين تشتبك تفاصيلها بعواطفنا حتى لنشمئز وننفر من الفحص عما فيها من صحة أو زيف.

وأعظم المفكرين تلابسه عقائد المجتمع الذي يعيش فيه وعاداته الذهنية والنفسية، وهو لا يتخلص منها إلا بمقدار صغير. اعتبر أرسطوطاليس مثلًا؛ فإن القوة الذهنية عنده كانت عظيمة، وكانت قدرته على الترتيب والتفصيل معجزة، وقد ألف كتابًا عن الحكومة أو الدولة في أيامه يحس من يقرؤه أنه قد استضاء فيه بفكرة التطور، ولكنه مع ذلك عمي عن الانتباه إلى تطور الأحياء، ولم يمنعه من ذلك سوى الأساطير التي نشأ عليها، إذ هي أطبقت على ذهنه وغمت على ذكائه.

والآن وبعد نحو مائة وخمسين سنة فقط من العلم البيولوجي شرع الإنسان يفكر التفكير العلمي في أصل الحياة، وشرع يبصر بأن الحياة هي خاصة من خواص المادة كما أن العقل هو خاصة من خواص الحياة. وقد بسطت لنا الكيمياء الحيوية (أي التي تدرس كيمياء الجسم الحي من نبات وحيوان) آفاقًا جديدة في البحث والدرس، انتهينا منها إلى الوقوف على أجزاء كثيرة من الجسم الحي، وكيف تصنع بالتأليف والتركيب من مواد غير حية. فهناك مركبات حيوية يصنعها الجسم الحي مثل الإنزيمات والفيتامينات والهورمونات، وهي مركبات محورية في الأحياء بحيث لا يمكن أن تحيا بدونها. ومع ذلك تصنع الآن هذه المواد في المعمل دون حاجة إلى الجسم الحي، بل هي تصنع في المعامل ويعالج بها الإنسان أو الحيوان عندما تنقصه.

وقدرتنا الحاضرة على إيجاد هذه الأجزاء من الجسم الحي هي بشير بما سوف نستطيعه عندما نتقدم في الكيمياء العضوية. إذ ليس بعيدًا أن نصنع الكل كما نصنع الآن الجزء بل الأجزاء. وكل ما نحتاج إليه هو الوقت. وليس في الجسم الحي من العناصر ما لا يوجد في حفنة من الصلصال. بل إن المشابهة الكيماوية كبيرة بين الاثنين.

وقد نشأت الخلية الأولى قبل نحو سبع مئة مليون سنة أو أكثر حين شرعت الأرض تبرد، وتتخثَّر الغازات إلى سوائل، ثم تجمد هذه إلى مواد صلبة، ومن العسير علينا أن نعرف تلك الحال الأولى حين نبض الطين بالحياة؛ إذ أين كان النيتروجين والكربون والأكسجين والهيدروجين؟ وكيف كانت الأشعة الشمسية وأثرها في الغيوم التي كانت تكسو الكرة الأرضية التي كانت تدور بأسرع مما تدور الآن حول نفسها وحول الشمس؟

كل هذا نجهله كما يجهل أحدنا ما يقوم به الكيماوي في معمله المقفل، ولكننا نتحسس الطريق إلى الوقوف على حقائقه بالتجربة تلو التجربة.

ولكن يجب أن نفهم من عبارة «الخلية الأولى» شيئًا آخر غير الخلايا المفردة التي نراها في أيامنا؛ فإن هذه الخلايا هي أبسط ما نعرف في وسطنا الحاضر، ولكن الخلايا الحية الأولى التي ظهرت على الأرض كانت بالطبع أكثر بدائية وأقل تركبًا من الخلايا الحاضرة؛ لأن المعقول أن الخلية قد تطوَّرت، ظهرت أول ما ظهرت جزيئات بروتينية مجموعة عاجزة عن الاغتذاء إلا أقله، كما نرى في هذا الوقت في «الخلية الأنيروبية» التي تعيش بلا أكسيجين، وهي لهذا السبب لا تستغل سوى عشرة في المئة من طعامها، ويذهب تسعون في المئة من هذا الغذاء هباء، ثم ارتقت بعد ذلك باستغلال الأكسجين والاعتماد على مركبات أو جزيئات قوية من البروتين.

وأجسام الأحياء، من نبات وحيوان، تحتوي ثلاثة مركبات لا يمكن أن يخلو منها جسم حي هي:
  • (١)

    الكربوهيدرات؛ مثل السكر والنشا.

  • (٢)

    والدهنيات؛ مثل الشحم والزيت.

  • (٣)

    والبروتينات؛ مثل زلال البيض واللحم والجبن.

والجزيء في السكر (مثل جلوكوز) يحتوي ٢٤ ذرة.

والجزيء في الشحم (مثل ترستيارين) يحتوي ١٥٣ ذرة.

والجزيء في البروتين (مثل زلال البيض) يحتوي ٢٣٠٥ ذرات.

ومن هذه الأرقام نفهم أن أعقد المركبات في الجسم الحي هي البروتينات، وأسهلها هي الكربوهيدرات، وقد استطاع الإنسان أن يصنع، كيمياويًّا — أي في المعمل — السكر والشحم، ولكنه لم يستطع صنع البروتين.

والجسم البشري يحيل السكر إلى شحم، وكذلك الشحم إلى سكر، ولكن أجسامنا لا تستطيع إحالة السكر أو الشحم إلى بروتين؛ ولذلك نحن نموت بعد مدة قصيرة إذا اقتصرنا على الاغتذاء بالشحم فقط، أو بالسكر فقط، أو بالاثنين معًا؛ لأن أجسامنا تعجز عن صنع اللحم منهما.

ولكننا نستطيع أن نحيا إذا عشنا على البروتينات فقط؛ مثل زلال البيض أو اللحم أو الجبن؛ لأن أجسامنا تستخلص منها السكر والنشا، وهناك آلاف من الحيوان تعيش على البروتينات فقط.

ومن هنا نفهم أن البروتين هو المادة الحية الأولى، والمادة البروتينية تحمل على الدوام شحنة كهربائية تجعلها على تفاعل مع الأجسام المكهربة المحيطة بها؛ فهي تتذبذب بها كما يتذبذب الحديد بالقوة المغنطيسية، وهذا التذبذب هو في النهاية أقرب الأشياء إلى الإحساس والتحرك، والإحساس والتحرك هما خاصة الأحياء.

ولذلك يمكن الظن بأن أول الأحياء على الأرض هو مجموعة من الجزيئات البروتينية الكهربائية التي اغتمزت بالحياة، ولم يكن هذا الاغتماز سوى حركة أو ذبذبة كهربائية.

•••

وفي تطور الأحياء خطوط واضحة، إذا تأملناها فهمنا وزادت بصيرتنا لماضينا كما تزيد رؤيانا لمستقبلنا؛ ففي الأحياء خط واضح نحو الغريزة؛ كالنمل والنحل والكثير من الأحياء الدنيا، بل نستطيع أن نقول إن النبات يحيا ويغتذي وينمو بغريزته كالنحل أو النمل، وأنه لولا أن أجسام النبات كاسية بالسليلوز الجامد لاستطاع أن يتحرك ويتنقل، ولكن النبات حين يختار طعامه من التربة لا يختلف كثيرًا من النحل حين يرشف رحيق الزهرة ويصنع الشهد والشمع.

هذا الخط؛ خط الغريزة، يعمُّ أكثر من ٩٩ في المئة من الأحياء؛ أي الحيوان والنبات، وهي لأنها غريزية لا تدري وجودها؛ فهي في غيبوبة، أو تكاد تكون كذلك.

أما الخط الآخر فيتجه نحو الوجدان؛ أي الوعي الذي يبلغ ذروته في الإنسان، فنحن ندري أننا موجودون، ولذلك نتعقَّل؛ لنا أمس وغد، ولكننا مع ذلك لم نخلُ من الجهاز الغريزي كالنبات والحشرات؛ فالطفل يرضع أمه بالغريزة، كما ترشف النحلة رحيق الزهرة بالغريزة، أو كما يمتص النبات غذاءه من الأرض بالغريزة، ونحن نهضم طعامنا بالغريزة، فنقبل الحسن منه ونقيء السيئ كما يفعل جذر الشجرة.

ولكن الوجدان هو الذي نزن به الظروف والأشياء، ونقابل بينها ونتعقل، وهو يتركز في الدماغ، وعلى قدر هذا الدماغ الأعلى — وليس الدميغ الخلفي السفلي — يكون الوجدان، وإذا نُزع هذا المخ في الحيوان؛ كالكلب مثلًا، ارتد إلى غريزته، فيسلك ويتصرف كما لو كان نملًا أو نحلًا.

وعندما تحتدُّ الغريزة نسميها عاطفة، وعواطفنا في الغضب والخوف والشهوة لا تزال قوية عنيفة، مما يدل على أن جهازنا الغريزي لا يزال قويًّا، ولكننا صائرون بالوجدان والتعقل إلى التغلب عليه.

وحتى عندما نسير مع السيكلوجيين السلوكيين ونقول إن تفكيرنا يرجع إلى الرجوع الانعكاسية المكيفة الأُوَل، فإن هذا القول لا ينقض اعتمادنا على العقل، بالمقارنة إلى الحشرات التي تعتمد على الغريزة.

فمستقبلنا هو زيادة التطور في العقل، وكما أن الزرافة استطاعت أن تزيد طول عنقها إلى نحو مترين كي تصل إلى الغصون الطرية العالية أو إلى الأعشاب الأرضية البعيدة، فإننا نحن كذلك نستطيع أن نزيد الدماغ البشري، الذي هو آلة التفكير، حجمًا ومساحة، فنُزيد قدرتنا على التفكير المنطقي، ويزيد وجداننا؛ أي وعينا ودرايتنا بالعالم والكون وبأنفسنا أيضًا.

وقد ظهرت «غيبيات» جديدة عند بعض الدراسين للتطور، وفي مقدمتهم برجسون «الفيلسوف» الفرنسي؛ فإنه يقول بأن الحياة مبدأ، أو عنصر، أو فكرة مستقلة عن المادة، وإنها إنما تستخدم المادة فقط كي تبدو أو تتمثل في أجسام الأحياء؛ كأن هناك حياة مجردة بدون أحياء، بل إنه ليتمادى بعد ذلك حتى ليقول إنه ليس بعيدًا أن تتخلص الحياة من المادة في المستقبل وتحيا الأحياء بلا أجسام!

وهذا كله عبث في التفكير، وهو ردة إلى أفلاطون حين كان يقول أن البياض سبق الشيء الأبيض وله وجود مستقل، وأن الإنسانية سبقت الإنسان ولها وجود مستقل؛ أي إن الفكرة سبقت المادة، وما دخلت الغيبيات قط في علم أو فلسفة إلا أفسدتهما، وأقل ما يقال في الرد على برجسون وأفلاطون إننا إلى الآن لم نرَ سوى الأجسام الحية، ولم نرَ الحياة المجردة، ولم نرَ العقل المجرد، وإنما عرفنا الأحياء التي تحمل هاتين الخاصتين فقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤