ذكريات جميلة

جلست «لوزة» وحيدةً في حديقة منزلها. كان شقيقُها «عاطف» قد ذهب في رحلةٍ بالدرَّاجة مع بقيَّة الأصدقاء؛ «تختخ» و«محب» و«نوسة» على الكورنيش، أمَّا هي فبقيت في الحديقة تنتظر حضور صديقتِها «سحر» التي حدَّثَتْها تليفونيًّا، وقالت إنها تُريدُها لأمرٍ مُهِم.

كانت حديقة منزلها هي المكان الذي يجتمع فيه المغامرون دائمًا؛ فقد كانت حديقةً واسعة، ترتفع أشجارُها، وتلتفُّ أغصانُها، وتتكاثر بين أعشابِها الخضراءِ الأزهارُ الحمراءُ والصفراءُ والزرقاء، فتُحِيلُها إلى شِبه بِساطٍ جميلٍ من صنع الخالق العظيم.

ومالَت الشمس إلى المغيب، وهبَّت نسمةٌ رقيقةٌ باردةٌ لطَّفت الحرارة التي شملت المعادي طول النهار، وتذكَّرت «لوزة» أُمسيةً مُماثلةً قضتها في حديقة قصر البارونة «شيليا» في فينسيا، وتذكَّرت المغامرات التي مرَّت بها في أثناء رحلتها هي والأصدقاء إلى إيطاليا؛ حيث كانوا في ضيافة عم «تختخ» في ميلانو.

قالت «لوزة» لنفسها: لقد رَوَيتُ ذكريات هذه الرحلة المُمتعة لكلِّ الأصدقاء، ولكنني لم أروِها بعدُ لصديقتي «سحر»؛ فقد كانت في الإسكندرية، ولم أقابلها بعد، وستزورني «سحر» الآن وأروي لها كلَّ شيء … كل دقيقة، وكل ساعة، وكل يومٍ في تلك الرحلة المُمتعة.

وفي هذه اللحظة سمعت صوت صديقتها «سحر» تُناديها، وهي تجتاز باب الحديقة مسرعة … ولكن الذكريات الجميلة طارت من رأس «لوزة» عندما شاهَدَت وجه صديقتِها الشاحب، وقد بدت عليه آثارُ الخوف والفزع والدموع!

وقفت «لوزة» تتلقَّى صديقتها الصغيرة بالقبلات؛ فقد مضى وقتٌ طويلٌ منذ التقتا معًا.

دعت «لوزة» «سحر» إلى الجلوس قائلة: لقد أعددتُ لكِ طبقًا من «الجيلي» المُثلَّج؛ فإنني أعرف أنكِ تُحبِّينه. قالت «سحر» — وهي تُحاول أن ترسم على وجهها ابتسامة: شكرًا لك يا «لوزة». إنكِ دائمًا كريمةٌ وطيِّبة.

جلست «سحر» ساكنة، ولكن شيئًا فيها كان يبدو حزينًا، فقالت «لوزة»: ما لكِ يا «سحر»؟ إنكِ تبدين مهمومةً وحزينةً جدًّا … ماذا حدث؟ هل الشيء الذي قلتِ إنه مهم، مُحزنٌ إلى هذا الحد؟

ردَّت «سحر» في صوتٍ خافت: جدِّي … جدِّي … «إلهامي» يا «لوزة»!

دقَّ قلب «لوزة» بعنف وقالت: ماذا حدث له؟

ردَّت «سحر» والدموع تتسابق على خدَّيها: يقولون إنه خرج منذ فترة ولكن … ولكن …

ولم تستطع «سحر» إتمام جملتها، وانفجرت باكية.

وقفت «لوزة» واحتضنت صديقتها بذراعَيها، وقالت تُهدِّئها: ولماذا تبكين؟ سوف يعود طبعًا.

مضت «سحر» تبكي لحظات، ثم أخذت تتمالك نفسها، وقالت: إنكِ تعرفين كم أُحبُّ جدِّي «إلهامي»! إنه حياتي كلُّها بعد وفاة أمِّي وأبي!

وتذكَّرت «لوزة» الرجل الطيِّب الأستاذ «إلهامي» … وقالت وهي تُقبِّلها: لا داعي لهذا الخوف، وقولي لي ماذا حدث لجدِّكِ هذه المرَّة.

ردَّت «سحر»: عِشتُ مع جدِّي «إلهامي» العامَين الماضيَين في قصره … وقد كان أمِّي وأبي وكلَّ شيءٍ في حياتي … إنه كما تعرفين رجلٌ طيِّبُ القلب إلى أبعد حد … ولكن بعد أن طعن في السِّن أخذَت ذاكرتُه تضعُف؛ صار ينسى الكثير من الأشياء … ويخرج أحيانًا من القصر ويغيب أيَّامًا، ولا يعود إلا بعد أن يعثر عليه رجالُ الشرطة … أو بعضُ من يعرفونه، أو يتذكَّر عنوان البيت.

لوزة: أعرف كلَّ هذا؛ فماذا حدث الآن؟

سحر: علمتُ أنه خرج منذ سبعة أيَّام ولم يعُد، وهي أطول فترةٍ غابها منذ عشت معه … وأنا في غاية القلق.

لوزة: سوف يعود … لا تقلقي، وسأتصل بالمُفتِّش «سامي» عندما يعود الأصدقاء، وسوف يعثر عليه رجال الشرطة.

سحر: أُحسُّ هذه المرَّة أن هناك شيئًا غير عاديٍّ قد حدث!

لوزة: لماذا؟

سحر: لقد حدثت أشياء كثيرةٌ في أثناء غيابِك تجعلني غيرَ مُطمئنَّةٍ إلى عودته …

لوزة: ماذا تقصدين بهذه الأشياء الكثيرة؟

سحر: منذ شهرٍ تقريبًا زارنا بعضُ أقارب جَدِّي … وهم ناسٌ لم أرَهم من قبلُ مطلقًا … وقد دعاهم جدِّي إلى البقاء بعض الوقت، فقبلوا الدعوة، ولكنهم لم يتركوا القصر بعد ذلك، وأخذوا يتحكَّمون في كلِّ شيء … وعندما انتهيتُ من الامتحانات، طلبوا مني أن أُسافرَ في رحلةٍ إلى الإسكندرية … ولم أكن أرغب في الذهاب، ولكنهم صمَّموا على سفري إلى بعض معارفِهم هناك … وقالوا لجدِّي إنني مريضةٌ من أَثَر المذاكرة والامتحانات؛ فوافق جدِّي على سفري؛ فسافرت.

وسكتت «سحر» لحظات، ثم عادت تقول: وعدتُ فلم أجد جدِّي الأستاذ «إلهامي» في القصر، وقالوا لي إنه خرج كعادته ولم يعُد … ولم يكن ذلك شيئًا غريبًا؛ فكثيرًا ما خرج جدِّي كما قلتُ لك، وغاب ساعاتٍ أو أيَّامًا وعاد … وأخذتُ أبحث عنه اليوم؛ فإنني أعرف بعض الأماكن التي يتردَّد عليها … لكني لم أجده مطلقًا! … وعندما عدتُ قالوا لي إنه لا مكان لي في القصر؛ فقد باع لهم جدِّي كلَّ ما يملِكُ من أرضٍ وعمارات، والقصر أيضًا، وطلبوا مني أن أبحث عن مكانٍ آخرَ أعيش فيه.

دُهشت «لوزة» عندما سمعت هذا الكلام، وقالت: شيءٌ غريب!

سحر: غريبٌ جدًّا؛ فليس من المعقول أن يفعل جدِّي الأستاذُ «إلهامي» هذا، ويتركني بلا مكانٍ ولا نقود!

وعادت «سحر» تبكي، وأخذت «لوزة» تحاول التسرية عنها، وهي حائرةٌ فيما يجب أن تفعله. وفجأةً سمعت أجراس الدرَّاجات … لقد عاد بقيَّةُ المغامرين الخمسة.

دخل الأربعة الحديقة يبتسمون لصديقتهم الصغيرة «لوزة» ولضَيفتِها، ولكن ابتساماتهم الأربع لم تستطع محوَ الحزن الذي كان يكسو الوجهَين الصغيرَين الجميلَين. وقال «تختخ»: يبدو أن في انتظارنا أخبارًا سيِّئة!

وتقدَّم الأربعة، وتبادلوا السلام مع «لوزة» و«سحر»، ثم قال «تختخ»: ما لي أراكما حزينتَين؟ ماذا حدث يا «لوزة»؟

لوزة: إنكم طبعًا تعرفون «سحر» … وتعرفون جدَّها الثريَّ الكبير الأستاذ «إلهامي» …

محب: نعرفها طبعًا … وقد زُرتُ قصر الأستاذ «إلهامي»، وهو حقيقةً تحفةٌ في فنِّ المعمار، بالإضافة إلى ما يملؤه من تُحَفٍ نادرة، ولوحاتٍ ثمينة.

لوزة: لقد خرج الأستاذ «إلهامي» من منزله منذ أيَّام، ولم يعُد حتى الآن … و«سحر» تخشى أن يكون قد أصابه مكروه.

عاطف: ولكنني أسمع عن رحلات الأستاذ «إلهامي» التي تطول أيَّامًا يعود بعدها إلى قصره … إن أكثرَ جيرانه ومعارفه يعرفون هذه الحقيقة، فلماذا هي خائفةٌ هذه المرَّة؟

لوزة: الحقيقة أن هناك أسبابًا تدعو إلى الخوف هذه المرَّة.

ثم روت «لوزة» للأصدقاء ما حدثتها به «سحر»، وكيف باع جدُّها «إلهامي» كلَّ ممتلكاته لهؤلاء الزوَّار الغرباء، وكيف أصبحَت «سحر» بلا مأوًى ولا نُقود.

ظلَّ «تختخ» يستمع بانتباه، ثم سأل في النهاية: أليس لكِ أقارب … أعمام أو أخوال؟ ردَّت «سحر» في حزن: للأسف؛ إن أمِّي وحيدةُ والدَيها، وليس لها أخوات … أمَّا عمِّي الوحيد فقد هاجر منذ فترةٍ طويلةٍ إلى الخارج، وانقطَعَت أخباره عنَّا، ولا أعرف أين هو.

عاطف: على كلِّ حال … إن منزلَنا هو منزلُك … ويسرُّني أنا و«لوزة» أن تُقيمي معنا حتى نجد حلًّا لهذه المشكلة.

سحر: شكرًا كثيرًا!

محب: أنا على استعدادٍ أيضًا.

نوسة: وسيسرُّني هذا للغاية.

بكت «سحر» لكرم الأصدقاء، وقالت: سوف أُلبِّي دعوة «لوزة» وأبقى معها، باعتبارها زميلةً لي في المدرسة، ولكن المهم؛ ماذا ترون في هذه القصة التي رويتُها؟

سكت الأصدقاء لحظات، ثم قال «تختخ»: إني أُوافقكِ على أن المسألة فيها كثيرٌ من الغموض والغرابة … وأشكُّ كثيرًا أن جدَّكِ «إلهامي» قد باع كلَّ ممتلكاته!

سحر: ولكني للأسف اطَّلعتُ على عقدٍ كتبه جدِّي ببيع ممتلكاته!

تختخ: وهل تعرفين إمضاءَه؟

سحر: نعم؛ فقد كنتُ أراه كثيرًا على الشيكات وغيرِها من الأوراق، هو بلا شكٍّ إمضاؤه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤