الأثر المفقود

وقف «تختخ» قائلًا: إنني مضطرٌّ لترككم؛ فعندنا ضيوفٌ على العشاء، وقد طلب مني أبي أن أكون موجودًا.

محب: إن «سحر» مُتعبةٌ؛ فقد عادت اليوم من السفر، وأُفضِّل أن ترتاح، على أن نلتقي غدًا صباحًا.

وعندما وقفوا للانصراف قالت «نوسة» ﻟ «سحر» مُشجِّعة: تأكَّدي أن كلَّ شيءٍ سيُصبح على ما يُرام … وسيبذل المغامرون الخمسة كلَّ جهدهم حتى يعثروا على جدِّك، وتعود حياتُكِ كما كانت.

شكرت «سحر» الأصدقاء، ثم دخلت المنزل مع «عاطف» و«لوزة»، في حين انصرف بقيَّة الأصدقاء؛ فركب «تختخ» درَّاجته، وسار في شوارع المعادي الهادئة، وكان الظلام قد هبط، والجو قد برد، فأخذ يُفكِّر فيما سمعه … إنها قصة غاية في الغرابة … هذا الجدُّ العجوز الطيِّب الذي يفقد ذاكرته أحيانًا … وهذه الفتاة الصغيرة الوحيدة، وهؤلاء الزوَّار الغرباء الذين استولَوا على ما يَملكه العجوز! … وعندما وصل إلى منزله كان الضيوف قد وصلوا، فأسرع إلى غرفته، حيث غيَّر ثيابه، ثم نزل إلى الصالون مسرعًا، وانضمَّ إليهم. كان ضيفهم هو الدكتور «ثروت»، وهو عالِمٌ نفسيٌّ مشهور … وزوجته وابنته.

حيَّاهم «تختخ»، وجلس يستمع إلى الحوار الذي يدور بين والده والدكتور «ثروت» حولَ بعض أمراض النفس … وتذكَّر الرجلَ العجوز «إلهامي»، الذي يفقد ذاكرته أحيانًا. ووجدها فرصةً سانحةً لمعرفة أسباب هذه الظاهرة المرضيَّة. وانتظر حتى انتهى النقاش بينهما، ثم سأل: لماذا يفقد الإنسان ذاكرتَه أحيانًا يا دكتور «ثروت»؟

ابتسم الدكتور «ثروت» قائلًا: إن الذاكرة كما تعلم جزءٌ من مُخِّ الإنسان، ومعنى الذاكرة هو القدرة على استرجاع المعلومات، أو الخبرات التي مرَّت بالإنسان … وهذه القدرة تختلف من فردٍ لآخر … كما أن الإنسان يمكن أن يفقد هذه القدرة فترةً قصيرةً أو طويلةً لأسباب؛ منها إصابته في مكانٍ خاصٍّ في المُخ، أو إذا أجهد ذهنه إجهادًا شديدًا، أو إذا أُصيب ببعض الأمراض النفسيَّة.

تختخ: وهل لِكبر السن دخلٌ في هذا؟

الدكتور «ثروت»: طبعًا. إن الذاكرة كبقيَّة قدرات الإنسان وأجهزته تضعف مع تقدُّم العمر.

قال والد «تختخ» مُعَلِّقًا: ولماذا هذا السؤال عن الذاكرة يا «توفيق»؟ هل نسيتَ دروسك مثلًا؟

قال «تختخ»: لا، ولكن هناك مشكلةٌ تَشغل ذهني أُحاول أن أعرف عنها كلَّ ما يمكن من معلومات!

الوالد: لغزٌ كالعادة؟

تختخ: لم يُصبح لُغزًا بعد، ولكنه قد يُصبح لُغزًا غدًا، أو بعد أيَّام.

التفت الوالد إلى الدكتور قائلًا: إن «توفيق» من هُواة حلِّ الألغاز.

قال الدكتور «ثروت»: وأنا أيضًا، وعندنا عددٌ كبيرٌ من الروايات البوليسية أتسلَّى بها، ولكنها طبعًا لا تشغلني عن الكتب الأخرى.

الوالد: ولكن «توفيق» وأصدقاءه لا يكتفون بقراءة الألغاز … إنهم يُشاركون في حلِّها عمليًّا!

الدكتور: ذلك شيءٌ مثيرٌ للغاية … وما هو الغز الذي تحله الآن؟

تختخ: إنه لغز رجلٍ يفقد ذاكرته أحيانًا؛ فيخرج من بيته ولا يعود إليه إلا بعد فترة … ونُريد أن نعثر عليه!

الدكتور: عليك أن تعرف كلَّ شيءٍ عن حياته؛ فقد يكون أُصيب بصدمةٍ نفسيةٍ شديدة … هذا إذا لم يكن قد تعرَّض لأحد أسباب فقدان الذاكرة التي قلتُ لكَ عنها منذ قليل.

قال والد «تختخ» ساخرًا: وأسهل من هذا أن تُبلغ رجال الشرطة فيبحثون عنه!

ضحك الجميع، وأعلنت والدة «تختخ» أن العشاء جاهز، فقاموا جميعًا إلى غرفة الطعام. جلس «تختخ» بجوار «سامية» ابنة الدكتور «ثروت»، الَّتي أبدت إعجابها ﺑ «تختخ» والأصدقاء، وطلبت أن تنضم إليهم؛ فطلب منها «تختخ» أن تكتب اسمها وعنوانها ورقم تليفونها، ووعدها أن يتصل بها إذا احتاجوا إليها.

انتهى العشاء، وبعد أن قضى الضيوف بعض الوقت خرجوا عائدين إلى القاهرة، وصعد «تختخ» إلى غرفته، وهو مشغول بالأستاذ «إلهامي» وقصة غيابه، ونام وهو يحلم بمغامرةٍ مثيرة.

في صباح اليوم التالي اجتمع جميع الأصدقاء مُبكِّرين في حديقة منزل «عاطف»، ومعهم «زنجر» و«سحر» التي كانت أحسن حالًا بعد أن استراحت ونامت، وقال «تختخ»: سنزور القصر اليوم … إنني أُريد أن ألتقي بهؤلاء الزوَّار … ولْتُحدِّثنا عنهم «سحر»؛ حتى نعرف أكبر قدرٍ من المعلومات عنهم.

سحر: إن ما أعرفه عنهم قليل … إنهم ثلاثة … رجلان وامرأة … وأحد الرجلَين يُدعى «شاكر»، والثاني «الحكيم»، أمَّا السيدة فاسمها «لطيفة».

عاطف: لعلها أمنا الغولة كما يقولون في الخرافات!

سحر: إنها كذلك فعلًا!

وقف «تختخ» قائلًا: لنذهب فورًا إلى القصر؛ فإنني أخشى أن تحدث أشياء أخرى أخطر ممَّا حدث حتَّى الآن! … هيَّا بنا.

محب: هل نأخذ الدرَّاجات؟

تختخ: لا داعي لها … هيَّا نمشي … ما يزال الجوُّ لطيفًا.

وانطلقوا جميعًا مع «سحر» في طريقهم إلى قصر «إلهامي» في طرف المعادي.

بعد نحو ساعةٍ من السير وصلوا إلى المكان. كان قصرًا ضخمًا تُحيط به حديقةٌ واسعة، فصاحت «لوزة»: إنها أكبر حديقة منزل رأيتُها في حياتي! … إنها تشبه ملعب كرة القدم.

قالت «سحر»: لقد بنى جدِّي هذا القصر منذ نحو أربعين عامًا … وقد أنفق عليه الكثير ليكون تحفةً لا مثيل لها.

واقتربوا من بداية الحديقة … وكانت في انتظارهم أوَّل مفاجأة … لقد كان بابها الضخم مُغلقًا … وقالت «سحر» في دهشة: لم يحدُث أن أغلقنا باب الحديقة … إن ذلك شيء غريب!

ولكن المفاجأة الثانية كانت أكبر … فقد سمعوا صوتًا يُنادي من داخل سور الحديقة قائلًا: «سحر» … «سحر»!

التفت الأصدقاء جميعًا إلى مصدر الصوت، ومن بين الأشجار والأعشاب ظهر رجلٌ عجوز، ما كادت «سحر» تراه حتى صاحت: عم «مبروك» … عم «مبروك».

وأسرع الرجل إلى السور، ومدَّ يده، ومدَّت «سحر» يدها، وأخذا يتصافحان بحرارة … وقالت «سحر»: هذا عم «مبروك»، أقدم من اشتغل في القصر. لقد ربَّى أمِّي وربَّاني، وكان صديقًا لنا جميعًا، ومُخلصًا لجدِّي.

والتفتت «سحر» إلى «مبروك» وسألته: ماذا تفعل هنا؟

مبروك: لقد كنتُ أُراقب القصر منذ طردوني منه … إنني لا أثق فيهم مُطلقًا … إنهم أشرار … وقد قفزتُ من فوق السور، ودخلتُ لأرى ما يفعلون!

فقال «تختخ»: ألَا تقولين إنه يشتغل في القصر؟!

سحر: كان يشتغل، ولكن هؤلاء الثلاثة طردوا جميع العاملين القُدامى من القصر، وجاءوا ببعض أعوانهم، واحتلُّوا القصر!

مبروك: رحلوا جميعًا … رحل الثلاثة ورحل الشغَّالون، ولم يبقَ سوى رجلٍ واحد، وقد أغلق الباب منذ قليلٍ وخرج، ولا أدري أيعود الآن أم لا يعود!

ابتسمت «سحر» لأوَّل مرَّة منذ رآها الأصدقاء، وقالت: رحلوا وتركوا القصر! هذه مفاجأةٌ جميلة.

مبروك: ولكن يا سيِّدتي الصغيرة!

سحر: لكن ماذا؟

مبروك: لقد جاءوا ليلًا بسيارات نقلٍ كثيرة، وحملوا كلَّ شيءٍ مُهم، وفي الصباح الباكر تحرَّكت السيارات وبها حمولة ضخمة!

سحر: اللصوص! … اللصوص!

تختخ: إنني أُريد أن ندخل القصر.

مبروك: لقد أغلقوا جميع الأبواب!

سحر: ولكنَّهم نسوا أني أحمل مفتاحًا معي … إن معي مفتاح القصر!

لوزة: وكيف ندخل وباب الحديقة مغلق؟

محب: وهل هذه مشكلة؟ … سنقفز من فوق السور!

لوزة: ولكن قد يرانا أحد!

تختخ: سننتظر لحظةً مناسبة، ثم نقفز.

محب: لتبقَ «نوسة» و«لوزة» للمراقبة.

وأخذ الأصدقاء ينظرون حولهم في انتظار خُلُوِّ الشارع من المارَّة، وفي أوَّل فرصةٍ تسلَّقوا السور كالقرود، وساعدوا «سحر»، ثم هبطوا في الجانب الآخر، وانطلقوا يجرون ومعهم «زنجر»، وخلفهم عم «مبروك» العجوز يُحاول أن يلحق بهم.

ووصل الأصدقاء إلى باب القصر، وأخرجت «سحر» من جيبها مفتاحًا أدخلته في القفل، ثم أدارته ففُتح الباب، ودخل «تختخ» يتبعه «محب» ثم «عاطف» و«سحر» و«مبروك»، وأغلقوا الباب.

كان القصر مُظلمًا من الداخل … هادئًا … فأسرعت «سحر» لتفتح النوافذ، ولكن «تختخ» صاح بها: لا تفتحي شيئًا! … لا نُريد أن يعرف أحدٌ أننا هنا!

ومدَّ «تختخ» يده وضغط على مفتاح النور …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤