الساعة السادسة

كان إهمالًا فظيعًا من «تختخ» أن ينسى إغلاق باب المطبخ بعد أن دخل … كان يجب عليه كمغامرٍ قديمٍ ألَّا يقع في مثل هذا الخط … ولكن هذا ما حدث، وأصبح مصيره مُعلَّقًا بما يفعله حارس القصر «صبحي».

قال الحارس: لقد قلتَ لي إنكَ كنتَ تتبع هذا الولد المغرور … فهل شاهدته وهو يقفز من فوق سور القصر؟

الشاويش: طبعًا … لقد شاهدتُه، وحاولتُ أن أقبض عليه؛ فقفزتُ من فوق السور أنا أيضًا، ولكنك هاجمتني!

الحارس: وهل استطاع دخول القصر؟ هذا مستحيل؛ فقد أغلقته بالمفتاح … ومع ذلك فلْنبحث عن هذا الولد!

وسمع «تختخ» أصوات أقدامهما وهما يتجوَّلان … وأخذ يدعو الله ألَّا يقتربا من الدولاب. وعندما سمع أقدامهما تبتعد، أضاء مصباحه الصغير، وسلَّطه على القفل، ثم أعاد تجربة فتحه على حسب الأرقام التي معه … رقم ستة أوَّلًا، ثم واحد، ثم ستة، ثم اثنَين، ثم ستة، ثم ثلاثة، وسمع تكَّةً خفيفة، ودفع الباب الصغير فانفتح، وتسلَّل داخلًا، ولم ينسَ أن يُغلق الباب خلفه.

أدار مصباحه الصغير حوله حتى عثر على مفتاح النور، فأضاء الغرفة، ونظر حوله. كانت غرفةً صغيرةً مُبطَّنةً بالخشب كلها … فيها مكتبٌ صغيرٌ صُفَّ عليه كثيرٌ من الأدوات الدقيقة … وكانت الجدران مُقسَّمةً إلى أرفف، وقد رُصَّت عليها عشرات من التُّحف والساعات القديمة الضخمة.

جلس «تختخ» إلى المكتب، وأخذ يفحص الأدوات: مفكات … شواكيش … مفاتيح … مسامير … وعددٌ من الساعات الصغيرة الدقيقة، بعضها مفتوح. وأخذ «تختخ» يُفكِّر في الساعة السادسة، ماذا تعني؟ إن أمامه عشرات الساعات … كلٌّ منها تقف عقاربها على ساعةٍ مختلفة، وكلٌّ منها نوع مختلف، فماذا كان يقصد الأستاذ «إلهامي» عندما قال ﻟ «سحر» عن أهمية الساعة السادسة؟ وحاول «تختخ» النظر حوله لعله يعثر على شيءٍ يدله على معنى الساعة السادسة، ولكن لم يكن بالغرفة عدا الساعات والأدوات سوى بعض اللوحات الزيتية، وبعض الصور العائلية للأستاذ «إلهامي» وابنته وحفيدته «سحر». ووضع «تختخ» رأسه بين كفَّيه، وأخذ يُفكِّر تفكيرًا عميقًا … ويرفع رأسه بين لحظةٍ وأخرى، يُعاود النظر إلى الساعات التي أمامه، محاولًا أن يكتشف ماذا يعني سرُّ الساعة السادسة … وفجأةً خطر له خاطر … أن يضبط كلَّ الساعات على الساعة السادسة، ثم يرى ماذا يحدث عندما تدور … وهكذا قام إلى الساعة الأولى على الرف، وضبطها على السادسة، ثم أدار مفتاح ملء الساعة حتى امتلأت وتركها تدور، ولكن شيئًا غير عادي لم يحدث … فقد مضت الساعة تدور وعقربها الكبير يقفز من دقيقة إلى أخرى … ومدَّ يده إلى الساعة الثانية، وفعل ما فعل بالأولى، ولكن ما حدث أوَّلًا حدث ثانيًا … ثم جرَّب الساعة الثالثة … والرابعة والخامسة … والسادسة … وعند الساعة السادسة خفق قلب «تختخ»؛ فقد كانت ساعةً كبيرةً ترتكز على قاعدةٍ ضخمةٍ أشبه بالصندوق المتوسِّط الحجم … ولم يكد «تختخ» يضبطها على الساعة السادسة ثم يُديرها، حتى انطلق منها جرسٌ خفيفٌ ظلَّ يدقُّ لمدة دقيقةٍ تقريبًا، وفي هذه الدقيقة لاحظ «تختخ» أن الساعة تدور ببطء على محورها، وظلَّت تدور حتى أتمَّت دورةً كاملة، ثم صدرت منها تكة خفيفة، ثم برز من القاعدة دُرجٌ إلى الخارج! عندما نظر إليه «تختخ» أصابته دهشةٌ لم يسبق لها مثيل! … كانت في الدرج أكبر مجموعةٍ من الجواهر رآها في حياته … أخذت تبرق تحت الضوء وكأنها أشعَّة الشمس في ماءٍ يتموَّج، ولفت نظر «تختخ» بجوار الجواهر مجموعةٌ من الأوراق، حُزمت بعناية، ورُبطت بشريطٍ رقيقٍ من المطَّاط.

مدَّ «تختخ» يده بقلبٍ خائف، وأمسك بالأوراق … هل فيها شيءٌ يحل لغز الرجل المختفي؟ وأزال «تختخ» الشريط، ثم وضع الأوراق أمامه، وفتح الورقة الأولى … وطالعه خطٌّ دقيقٌ جميل، وكان على رأس الصفحة كلمة «مذكِّرات» … ثم تاريخ الكتابة … كان تاريخًا يعود إلى عشرة أيَّام … أي إن هذه الورقة كُتبت قبل اختفاء «إلهامي» بيومٍ واحد. وأخذ «تختخ» يقرأ ما كتبه «إلهامي» بخطِّه الدقيق الأنيق.

هذه ربما تكون آخر صفحةٍ في مذكِّراتي التي أتركها لحفيدتي «سحر» عندما تكبر وتفهم كلَّ شيء … لقد كبرتُ في السن، وأصبحت عبئًا عليها؛ فكثيرًا ما أفقد ذاكرتي وأختفي، وأُسبِّب لها الشقاء والخوف، وأنا أتمنَّى لها السعادة والهناءة. وإذا كان كِبَرُ سني من أسباب فقداني الذاكرة؛ فإن السبب الأوَّل في الحقيقة يعود إلى يوم فقدت ابنتي الوحيدة التي لم أجد أحدًا مثلها. فقدتُها في لحظات فأصبحت حياتي جحيمًا. ولعلني أفقد الذاكرة لأنني لا أُريد أن أتذكَّر أنني فقدتُها …

وقد كتبتُ مذكِّراتي حتى لا تُفاجأ «سحر» بحقيقة أن جدَّها الذي تُحبُّه وتحترمه كان في يومٍ نزيلًا من نزلاء السجون! وقد أخفيتُ عنها هذه الحقيقة حتى لا أفقد حُبَّها كما فقدتُ أمَّها، وقد دفعتُ كثيرًا من المال لتظلَّ هذه الحقيقة مختفيةً إلى الأبد؛ فهناك رجلٌ كان معي في السجن يعرف كلَّ شيء … وعندما خرج من السجن أخذ يُهدِّدني بإفشاء سري الخطير … وكنتُ أدفع له ما يطلب حتى لا يُفشي سري، ولكنه حضر إلى القصر ليُقيم معي ومعه زوجته وشخصٌ آخر. إنهم ضيوفٌ ثقلاء، ولكنِّي لا أستطيع أن أطردهم … وقد وعدوني أن يتركوني نهائيًّا إذا تنازلتُ لهم عن بعض ما أملك، وقد قبلت ذلك، ولكني رفضتُ أن أتنازل لهم عن القصر؛ فإنني أحبُّه.

إنني أكتب هذه السطور بسرعةٍ قبل أن أفقد ذاكرتي مرةً أخرى، وقد أفقدها تمامًا. ولقد دخلتُ السجن لخطأٍ ارتكبته وأنا شاب، وعندما خرجتُ من السجن عشتُ حياةً جادَّةً ومستقيمة، حتى كوَّنت ثروتي بشرفٍ واستقامة. وقد أحبَّني الناس جميعًا، وأخشى إن هم عرفوا الحقيقة أن يفقدوا حبهم لي، وبخاصةٍ «سحر».

إنني أترك كل ما أملك لها … وأعتقد أنها ستكون من الذكاء بحيث تعرف كيف تصل إلى مكان المذكِّرات، ما دامت تعرف كيف تدخل الغرفة …

إنني أتركها في قاع هذه الساعة الأثرية التي كانت أوَّل ساعةٍ اشتريتُها في حياتي، التي بدأتها تاجر ساعات … وقد أحببتُ هذه الآلات الدقيقة، وأصبحت متخصِّصًا فيها … تمامًا كما أحببت رقم ستة؛ لأنه الرقم السعيد في حياتي. ولعل ذلك مجرَّد وهم … ولكنني تعلَّقت به؛ فاسمي مكوَّن من ستة أحرف … وقد وُلدت في الساعة السادسة، في اليوم السادس، من الشهر السادس في عام ١٨٩٦م.

وكنتُ الولد السادس بين إخوتي، وكنَّا نسكن في منزل رقم ٦، وفي الدور السادس. وهكذا وجدت رقم ٦ يُحيط بي في كلِّ مكان، وأحببته، وتفاءلت به … ومن يقرأ مذكِّراتي فسيجد في كلِّ صفحةٍ صفقةً رابحةً أو رحلةً سعيدة … وحتى حياتي العملية بدأتها قرب باب ستة في الإسكندرية.

وعن طريق رقم ستة ستجد «سحر» هذه المذكِّرات، بل قد تجدني أنا أيضًا إذا قرأت هذه المذكرات في الوقت المناسب … ولها كلُّ حبِّي.

«إلهامي»

استُغرق «تختخ» في قراءة أوَّل المذكِّرات، ونسي أين هو … وكيف يخرج من هذا المكان. وعندما طوى الصفحة ومدَّ يده ليقرأ بقية المذكِّرات، تذكَّر أين هو، وهبَّ واقفًا، ونظر في ساعته، كانت قد تجاوزت الثالثة صباحًا، فأعاد المجوهرات إلى قاعدة الساعة كما كانت، ثم طوى حزمة المذكِّرات ووضعها في صدره؛ فلم يكن جيبه يتَّسع لها … ثم اتجه إلى الباب، وأخذ يُنصت … كان كلُّ شيءٍ هادئًا، ولا بد أن الشاويش «علي» قد انصرف، وأن الحارس قد غلبه النوم.

أدار «تختخ» قرص الأرقام مرةً أخرى ليفتح الباب، وسمع في نهاية الرقم تكَّةً خفيفة، وأدرك أن الباب قد فُتح، فأطفأ النور، ثم تسلَّل من الباب في هدوء، وأعاد إغلاقه، ثم أضاء بطاريته، ووجد نفسه في دولاب المطبخ مرةً أخرى، فتحرَّك ببطءٍ حتى لا يُحدثَ صوتًا، ثم خطا أوَّل خُطوةٍ خارج الدولاب، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان … لقد التوَت ساقه وفقد توازنه، ومدَّ ذراعه ليجد شيئًا يستند عليه، فوقعت على مجموعةٍ من الأطباق وانهارت الأطباق في صوتٍ مرتفعٍ بدا كطلقات المدافع في الليل الساكن!

وجد «تختخ» نفسه واقفًا بين حطام الأطباق وبقية الأواني التي سقطت من الدولاب، وتلا صوت الأطباق المُكسَّرة صمتٌ شامل … ثم سمع «تختخ» صوت أقدامٍ تأتي بسرعةٍ في اتِّجاه المطبخ، وأدرك أنه وقع في فخٍّ لا فِكاكَ منه، وكان تصرُّفه في الدقائق التالية يتوقَّف عليه؛ أن يهرب أو يُمسكه الحارس وتصبح كارثة … ففي إمكانه أن يتَّهمه بالسرقة، وأهمُّ من هذا أن يجد المذكِّرات معه.

وأفاق «تختخ» من لحظات الدهشة، فقفز واقفًا، وفي خطوتَين كان يقف خلف باب المطبخ الذي فُتح في اللحظة نفسها، وشاهد شبحًا يندفع داخلًا، وكانت فرصته الوحيدة في تلك اللحظة، فمدَّ ساقه إلى آخرها أمام الشبح الداخل … وتعثَّر الشَّبح في الساق، وسقط على الأرض مُتأوِّهًا.

لم يُضيِّع «تختخ» لحظةً واحدة، وقفز فوق الجسم المُمدَّد على الأرض، ثم انطلق خارجًا إلى باب القصر، فأخذ يُحاول فتح الباب … ومرةً أخرى سمع صوت أقدامٍ قادمةً بسرعةٍ من ناحية المطبخ، فجذب باب القصر بشدَّة، فانفتح الباب، وأطلق ساقَيه للريح … وأخذ يقفز سلالم القصر بسرعة، ووجد نفسه في الحديقة … وفي هذه اللحظات كان الحارس قد وصل إلى الباب أيضًا، وشاهد «تختخ»، فصاح في صوتٍ كالرَّعد: قف مكانك وإلا أطلقتُ النار!

ولكن «تختخ» كان يدرك أن وقوعه في يد الحارس معناه نهاية المغامرة … فانطلق يجري دون أن يلتفت خلفه … وسمع صوتًا حادًّا لشيءٍ يمرُقُ بجوار أذنه … وأدرك أن الحارس يُطلق عليه الرصاص من مسدَّس كاتمٍ للصوت، فألقى بنفسه على العشب، وأخذ يتدحرج … واستطاع في النهاية أن يصل إلى صفِّ الأشجار الكثيفة قرب السور، فقفز كالقرد إلى إحدى الأشجار، وتسلَّقها مسرعًا، وهو يسمع وقع خطوات الحارس يجري نحوه، ولكنه استطاع في النهاية أن يصل إلى السور، ورمى جسمه إلى الخارج، ثم ترك نفسه يسقط في الشارع … ووقف مرةً أخرى يلهث، ولكنه لم يُضيِّع دقيقةً واحدة؛ فجمع كلَّ ما بقي من قوته، وأخذ يجري في شوارع المعادي الخالية في هذه الساعة المتأخِّرة … متَّجهًا إلى منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤