النافذة المفتوحة

برغم أن «تختخ» كان مُتعبًا بعد مغامرته الليلة؛ فإنه لم يستسلم للنوم؛ فبعد أن خلع ملابسه واغتسل، فتح النافذة ليسمح لنسيم الليل البارد بدخول غرفته، ثم استلقى على فراشه، وفتح لفَّة المذكِّرات …

كانت مكتوبةً على أوراقٍ مختلفة … وكلُّ جزءٍ منها مربوطٌ بشريطٍ من المطَّاط، ففتح الجزء الأول … ولكن قبل أن يقرأها سأل نفسه: هل يحقُّ له أن يقرأ هذه المذكِّرات؟! إن صاحبها طلب من «سحر» فقط أن تقرأها … أفينتظر حتى يُسلِّمها لها، أم يبدأ في قراءتها؟

وأخيرًا استقرَّ رأيه على أن يقرأها … فهو يُحاول الوصول إلى صاحب المذكِّرات قبل أن يختفيَ إلى الأبد، أو يقع له مكروه … أو تختطفه العصابةُ إذا عرفَت مكانه وتقضي عليه! … إنه في سباقٍ مع الزمن، ويجب أن يصل إلى «إلهامي» قبل أن يحدث أيُّ شيء.

أمسك «تختخ» بالورقة الأولى يقرأ … كانت المذكِّرات تبدأ منذ مولد «إلهامي»، ونسي «تختخ» نفسه ومضى يقرأ … وكلَّما استمرَّ أصبح أكثر تشوُّقًا لما في المذكِّرات من قَصَصٍ طريفة، ومعلوماتٍ غريبةٍ عن نجاح هذا الرجل، الذي استطاع أن يُصبح ثريًّا من تجارة الساعات …

ومضى الوقت، وتثاقلت أجفان «تختخ» بعد أن أوشك الفجر أن يبتسم … وساعد هواء الليل البارد على أن يستسلم للنوم … وقد نسي النافذة مفتوحة … ومن خلال هذه النافذة تسلَّل رجل … لم يكن إلا «صبحي» الذي تبع «تختخ» في شوارع المعادي بدون أن يُحِسَّ به، وتسلَّق الشجرة المجاورة للنافذة، وشاهد «تختخ» وهو يقرأ المذكِّرات، وأدرك أنها مُهمَّة … وهكذا انتهز فرصة استسلام «تختخ» للنوم، ثم تسلَّل إلى الغرفة، وأخذ المذكِّرات، ثم انصرف في هدوء!

لم يكن المُتسلِّل يعرف أن هناك حارسًا مُهمًّا جدًّا كان يتربَّص به في الحديقة … حارسًا لا ينام … إنه «زنجر» سادس المغامرين وصديقهم، وهكذا لم يكَد المُتسلِّل ينزل من النافذة إلى الشجرة، ومن الشجرة إلى الأرض، وقد ظنَّ أنه استولى على المذكِّرات، حتى وجد «زنجر» في انتظاره.

قفز «زنجر» وهو يُزمجِر … وانقضَّ على الرجل كالبرق، وسقط الرجل على الأرض، وارتفع صياح الكلب، وسمع «تختخ» فيما يُشبه الحلم صوتَ الصراع الدائر تحت نافذته، فاستيقظ يفرك عينَيه، ويُحاول فهم ما حدث … وسمع صوت زمجرة الكلب وتأوُّهات الرجل، فأدرك أن «زنجر» قد وقع على فريسة، ونظر بجوار الفراش فوجد المذكِّرات قد اختفت، وأدرك كلَّ شيء … فقفز من فراشه كالصاروخ، ونظر من النافذة، وعلى أضواء مصابيح الشارع شاهد الصراع الدائر بين الكلب والرجل … وكان الرجل يُحاول أن يضع يده في جيبه ويُخرج مسدسه … وأدرك «تختخ» أن كلبه الشجاع الذكي مُعرَّض لخطرٍ جسيم … فصعد إلى النافذة، ومنها نزل على الشجرة، ولم يكن هناك وقت للنزول مُتسلِّقًا إلى الأرض؛ فقد كاد الرجل ينجح في إخراج مسدَّسه … وهكذا قدَّر «تختخ» المسافة بينه وبين الرجل وقفز في الظلام وسقط عليه … ووقع الاثنان يتدحرجان على الأرض … كان وزن «تختخ» الثقيل كأنه شجرةٌ قد سقطت على الحارس، فوقع مكانه لا يتحرَّك، في حين أخذ «زنجر» يدور حوله مُهمهمًا في الظلام … مستعدًّا للانقضاض عليه في أية لحظة … وقام «تختخ» واقفًا … وكانت عظامه تُؤلمه، ولكنه كان يستطيع أن يتحرَّك … ونظر حوله، وحَمِدَ الله أن المعركة لم تلفت انتباه أحد، فلم يرَ أحدًا يقف هنا أو هناك، ولكن كانت أوراق المذكِّرات متناثرةً في كلِّ مكانٍ على أعشاب الحديقة … فكانت مُهمَّة «تختخ» الأولى أن يجمع هذه الأوراق … وهكذا انحنى يجمعها ومعه «زنجر» يدور ويلفُّ حوله … وكانت ريح الفجر السريعة قد حملت بعض الأوراق بعيدًا، فمضى «تختخ» خلفها ومعه «زنجر»، وقد أسعده أن يشترك في مغامرة بعد أن ظلَّ فترةً طويلةً لا يفعل شيئًا.

في هذه الأثناء كان «صبحي» قد أفاق من إغمائه، ونظر حوله في هدوء … وسمع صوت أقدام «تختخ» بعيدًا، فجلس في مكانه بدون أن يصدر أيَّ صوت … ثم تسلَّل في هدوء وتسلَّق السور … وفي هذه اللحظة أحسَّ «زنجر» بما يحدث، فأسرع إليه، ولكن «صبحي» كان قد استطاع القفز إلى الطريق، وأطلق ساقيه للريح.

أخذ «زنجر» ينبح ويُحاول القفز من السور … ولكن «تختخ» حضر مسرعًا ووضع يده على رأسه يُهدِّئه. لم يكن يُريد القبض على الحارس الآن؛ فإن ما يُهمُّه أوَّلًا هو العثور على «إلهامي»؛ حتى يستطيع الشهادة ضدَّ الأشرار الثلاثة، ويكون هناك سببٌ قانونيٌّ للقبض عليهم، هذا بالإضافة إلى أن مع الحارس مسدَّسًا قد يستخدمه ضده أو ضد «زنجر» … وهكذا أخذ «تختخ» «زنجر» معه إلى داخل المنزل. كان يُحسُّ بالسعادة لأن كلبه الذكي أنقذ المذكِّرات التي كاد يُضيِّعها بإهماله. وجلسا معًا في المطبخ، ونور الصباح يتسلَّل من النوافذ، وأعد «تختخ» لنفسه إفطارًا شهيًّا، وأعدَّ ﻟ «زنجر» إفطارًا آخر، وجلسا يأكلان.

انتهى «تختخ» من إفطاره، ومع كوب الشاي مضى يقرأ المذكِّرات حتى إذا ارتفعت الشمس كان قد انتهى منها، واستُغرق في تفكيرٍ عميق، فلم يُحسَّ بمرور الوقت إلا عندما دخلَت والدته المطبخ، ووجدته جالسًا يُفكِّر، وبجواره «زنجر» يهزُّ ذيلَه في سكون.

حمل «تختخ» المذكِّرات معه في مظروفٍ كبير، ثم انطلق وخلفه «زنجر» إلى منزل «عاطف» حيث اعتاد المغامرون الخمسة الاجتماع، فوجد الأصدقاء جميعًا في انتظاره ومعهم «سحر»، فجلس يروي لهم ما حدث في الليل، والمذكِّرات التي قرأها … وفجأة بدا من طرف الحديقة شخصٌ يقترب، وعرفه الأصدقاء جميعًا على الفور؛ فلم يكن سوى الشاویش «علي».

كان الشاويش يربط يده وعلى وجهه آثار «الميكروكروم» بعد الإصابة التي وقعت له ليلة أمس في حديقة القصر، وكان وجهه غاضبًا يكشف عمَّا يدور في رأسه من أفكار، وتقدَّم الشاويش من الأصدقاء وقال ﻟ «تختخ» في صوتٍ عاصف: تعالَ معي!

نظر «تختخ» إلى الشاويش في هدوء، وقال: أنا؟

الشاويش: نعم أنت!

تختخ: لماذا؟!

الشاويش: لأنك دخلت أمس قصر «إلهامي» ليلًا بدون إذنٍ من أصحابه!

تختخ: وأين هم أصحابه؟

الشاويش: لا أعرف … ولكني قابلتُ حارسَ القصر، وقال لي إنك دخلتَ القصر!

تختخ: وهل ضاع شيءٌ من هناك؟

الشاويش: لا أدري، ولكن تعالَ معي!

عاطف: إنك لا تدري يا شاویش «علي»؛ فلماذا تقبض على «تختخ» بدون تهمةٍ مُحدَّدة!

الشاويش: لا تتدخَّل أنت فيما لا يعنيك. إني أُريد اصطحاب «توفيق».

تختخ: وإلى أين ستذهب بي يا شاويش؟

الشاويش: إلى القصر!

كان «زنجر» يجلس مُتحفِّزًا يُريد القفزَ على الشاويش، وكان الشاويش يعرف هوايةَ الكلب الأسود في مُداعبته وعضه في قدمَيه، فكان يقفُ بعيدًا عنه وعينه عليه … وانتهز «تختخ» فرصة انشغال الشاويش بالكلب، فمدَّ يده بمظروف المُذكِّرات إلى «سحر» التي سارعَت إلى وضعها فوق الكرسي والجلوس عليها حتى لا يراها أحد … عندما اطمأنَّ «تختخ» إلى أن المُذكِّرات قد أصبحت في أمان وقف قائلًا: سأذهب معك يا شاویش «علي»؛ ففي القصر أشياء كثيرة أُحبُّ أن أراها معك!

الشاويش: إنك لن تذهب إلى القصر للفرجة، ولكن لمقابلة الحارس؛ حتى يتعرَّف عليك!

تختخ: وأنا أيضًا أُريد التعرُّف عليه … هيَّا بنا!

صاح الأصدقاء في نفَسٍ واحد: سنأتي معكما! وزمجر «زنجر» مُعلنًا أنه على استعدادٍ للذهاب هو الآخر!

ولكن «تختخ» قال: لا داعي لأن نسير كأننا في زفَّة … سيأتي «محب» وحده معي، و«زنجر» أيضًا؛ فقد نحتاج إليه هناك!

وسار الشاويش ومعه «تختخ» و«محب» و«زنجر»، والتفت «تختخ» إلى بقيَّة الأصدقاء وغمز لهم بعينه يُطمئنهم. كان الشاويش يسير مُرتبكًا، وينظر خلفه بين لحظةٍ وأخرى خوفًا من الكلب الأسود … وسار «تختخ» و«محب» معًا يتحدَّثان ويضحكان، ولكن ضحكهما كان يُخفي خطَّةً رسماها للتصرُّف إذا حدث شيءٌ غير مُتوقَّع.

اقترب الأربعة من القصر الكبير … وكان الباب مُغلقًا، فبدا من بعيدٍ وكأنه قلعةٌ حصينة، وتذكَّر «تختخ» مغامرة الليلة الماضية، وارتعش وهو يتصوَّر لو كان قد وقع بين يدَي الحارس العملاق، أو الشاويش الذي يعيش على أمل أن يوقع به!

وصلوا إلى القصر … واقترب الشاويش من الباب وأخذ يدق الجرس … كانت الحديقة واسعة، ولم يكن في إمكانهم معرفة أيرنُّ الجرس أم لا؟ وظلَّ الشاويش يضع يده على زرِّ الجرس بدون أن يردَّ أحد.

وتقدَّم «تختخ» من الشاويش قائلًا: ما رأيك يا شاویش أن تقفز السور؟

ولم يتحمَّل الشاویش سخرية «تختخ» وإشارته إلى ما حدث أمس، وصاح في ضيق: هل تقصد أنني لم ألحق بك أمس؟! هل تقصد أنني وقعت؟! إنني لا أتحمَّل سخريتك، ولا أُحبُّ خفَّة دمك!

وابتسم «تختخ» قائلًا في هدوء: وماذا تُريد مني الآن یا شاويش؟ من الواضح أن القصر ليس به أحد، وأُحبُّ أن أوضِّح لكَ أن الحارس الذي تتحدَّث عنه لصٌّ عريقٌ ضحك عليك وتظاهر أنه من الشرفاء!

كاد الشاويش ينفجر وهو يقول: لص؟ … لص؟ … هل تتَّهم الناس على كيفك؟

تختخ: سوف أُثبت لك أنه لص، ولكن ليس الآن … المهم ماذا تُريد مني بعد ذلك؟

ونطق الشاويش جملته الخالدة في صَخَبٍ شديد: أُريدُ أن تُفرقع من أمامي فورًا. فرقعوا جميعًا … فرقعوا!

وانصرف الشاويش غاضبًا … ولكنه لم ينسَ أن ينظر خلفه خوفًا من «زنجر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤