رحلة الليل

عاد «تختخ» إلى الأصدقاء وشرح لهم ما حدث، ثم قال: من المؤكَّد أن عصابة الثلاثة الآن تعرف أن هناك من يبحث عنها، ولا بد أنهم سيتصرَّفون سريعًا!

نوسة: وما هو التصرُّف الذي تتوقَّعه؟

تختخ: لا أدري بالضبط … إما أنهم سيُحاولون الحصول على المذكِّرات مرَّةً أخرى، وسنتعرَّض في هذه الحالة لخطر الهجوم علينا، وإمَّا أنهم سيكتفون بما أخذوا ويختفون! … إن غياب الحارس اليوم معناه أنهم يجتمعون لتدبير خطَّة!

نوسة: وماذا نفعل؟

تختخ: ليس في رأسي شيءٌ مُعيَّن … فماذا تقترحون؟

محب: إنني أقترح أن نُراقب القصر … فلا بد أنهم سيعودون إليه لأخذ ما تبقَّی به من أثاثٍ ثمينٍ وتُحَف!

عاطف: وأقترح أن أقوم أنا بالمراقبة؛ فهذا الحارس وبقيَّة العصابة لم يروني من قبل، وفي استطاعتي المراقبة بدون أن ألفت أنظارهم.

لوزة: ونحن … أليس لنا دور في هذه المغامرة؟!

تختخ: لِتُراقبوا القصر بالدور … «نوسة» و«لوزة» نهارًا، و«محب» و«عاطف» ليلًا.

سحر: وأنا ماذا أفعل؟

تختخ: ستبقَين معي هنا … إن العصابة تعرفكِ جيِّدًا، ولعلهم يُحاولون خطفك أيضًا … ومن المُهمِّ أن تبقَي مختفيةً عن عيونهم تمامًا!

سحر: ولكن جدِّي «إلهامی» متى نعثر عليه؟ ومتى أراه؟

وانحدرَت من عينَي «سحر» دمعةٌ على خدِّها، وتأثَّر الأصدقاء جميعًا لرؤيتها تبكي، وقالت «نوسة» وهي تربت على كتفها: لا تبكي یا «سحر» … سوف نعثر على الأستاذ «إلهامي» … إن قلبی يُحدِّثني أنكِ سترينه قريبًا.

ثم التفتتْ إلى «لوزة» قائلة: هيَّا يا «لوزة»، لنقوم بالمُراقبة. وتحرَّكت البنتان، ثم انصرف «محب» و«عاطف» للاستعداد للمراقبة ليلًا، وبقيت «سحر» مع «تختخ» الذي تحدَّث إليها قائلًا: إنني لم أقُل لكِ جزءًا هامًّا من المذكِّرات يجب أن تعرفيه؛ إن جدَّكِ «إلهامي» يُحبُّكِ جدًّا، ومن أجلك ضحَّى بالكثير.

سحر: وأنا أُحبُّه أكثر من أيِّ شخصٍ آخر في العالم … فليس لي سواه!

تختخ: هناك سِرٌّ في حياة جدِّكِ أراه أنا شيئًا لا أهمية له … ولكن جدَّكِ لخوفه أن يفقد حبكِ له … خضع لهؤلاء الأشرار الثلاثة الذين يعرفون هذا السر!

شحب وجه «سحر» وهي تسمع هذا الحديث من «تختخ»، وقالت: سِرٌّ في حياة جدِّي «إلهامي»؟! شيءٌ غريبٌ جدًّا!

تختخ: إنه في رأيي شيءٌ بسيطٌ للغاية … وحتى لا تُفاجَئي به … قرَّرتُ أن أقوله لكِ قبل أن تقرئي المذكِّرات … فقد كتبَها لك!

وأخذ «تختخ» يُفكِّر في صيغةٍ مُناسبة، ثم قال: في شباب جدِّك … أي وهو في العشرين من عمره تقريبًا، ارتكب خطأً مخالفًا للقانون!

وسكت «تختخ» قليلًا، ثم عاد يقول: وبسبب هذا الخطأ دخل السجن فترةً من عمره!

صرخت «سحر» قائلة: السجن؟!

تختخ: نعم، وهو بالطبع ليس شيئًا مُشرِّفًا للإنسان، ولكن المهم أن جدَّكِ بعد أن خرج من السجن عاش حياةً شريفةً جادة، واستطاع أن يُكوِّن ثروته الضخمة، وأن يكسب محبة الناس … ونسي ماضيه ونسيه الناس. ولكن أحد الذين كانوا معه في السجن استطاع أن يصل إليه، وأن يُهدِّده بإفشاء سرِّه!

وبالطبع كان جدُّك حريصًا على أن تظلَّ سمعتُه حسنةً بين الناس، فوقع في خطأ قَبول ابتزاز أمواله بوساطة هذا الرجل وزوجته وزميله!

قالت «سحر» بصوتٍ يخنقه البكاء: مسكينٌ يا جدِّي. لقد تعذَّبتَ كثيرًا … عذَّبك هؤلاء الأشرار! …

تختخ: لقد عرفْت السر … وبالطبع لم يتغيَّر حبُّكِ لجدِّك …

سحر: أبدًا … أبدًا …

تختخ: هكذا يمكن أن تعودا وتستأنفا حياتكما بدون أن يتمكَّن هؤلاء الأشرار الثلاثة من تهدید جدِّك …

سحر: المهم أن نعثر عليه …

تختخ: سنعثر عليه بإذن الله!

عندما عادت «نوسة» و«لوزة» في المساء، لم يكن عندهما أخبارٌ جديدة، قالت «لوزة»: ليس هناك شيء … لقد ظللنا نُراقب القصر فلم نجد فيه أيَّة حركة، ولم يدخله أو يخرج منه أحد. وطُفنا حوله بضع مرَّات ولم نرَ شيئًا يستحقُّ الذكر …

تختخ: لا بأس … إن عندي خطةً سوف أُنفِّذها غدًا صباحًا إذا لم يصل «محب» و«عاطف» إلى شيءٍ هذه الليلة …

نوسة: خطة لكَ وحدك؟

تختخ: لا … لنا جميعًا … أو لثلاثةٍ منَّا …

نوسة: سنلتقي غدًا صباحًا، وسوف أذهب إلى المنزل الآن؛ لأنني مُتعبةٌ جدًّا …

لوزة: وأنا أيضًا …

سحر: وسأذهب أنا أيضًا مع «لوزة» …

وخرجت الفتيات الثلات، وبقي «تختخ» وحيدًا، وبعد لحظاتٍ وصل «محب» و«عاطف»، وقد استعدَّا لسهرة الليلة في مراقبة القصر، فقال لهما «تختخ»: كونا على حذر … فلا أحد يدري مدى شراسة هذه العصابة؛ فقد كاد الحارس أن يقتلني بالرصاص كما تعرفون … إنهم على استعدادٍ لعمل أيِّ شيء!

وانصرف الصديقان وقد غربت الشمس، وبدأ الظلام يُغَطِّي المعادي … وعندما وصلا إلى القصر اختفيا في مكانٍ بعيد، بحيث يمكنهما مراقبة باب القصر، ثم جلسا يراقبان ويتحدَّثان!

ومضى الوقت بطيئًا مُمِلًّا ولم يحدث شيء، وعندما اقتربت الساعة من منتصف الليل أخرج «عاطف» بعض السندويتشات والتهماها سريعًا، وشربا بعض الماء المُثلَّج من «ترمس» يحمله «محب»، ثم مضيا يُراقبان … كانت الشوارع قد خلت من المارَّة، وهبط صمت ثقيل على القصر الكبير والحديقة … والشوارع التي تُحيط به، فقال «عاطف»: يبدو یا «محب» أن لا شيء سيحدث. هيَّا بنا.

محب: انتظر ساعةً أخرى؛ فقد يحدث شيء. إننا نبحث عن رجلٍ مُهم، ونتوقَّع الإيقاع بثلاثةٍ من الأشرار، وهذا يستحقُّ الانتظار!

ولم يكَد «محب» ينتهي من جملته حتى سمعا صوت عدة عربات تقترب من القصر، ثم لمعت أضواء العربات في الظلام … كانت ثلاث عربات نقلٍ مُحمَّلةٍ بصناديقَ خشبيةٍ كبيرة، وسرعان ما وقفت أمام باب حديقة القصر، ونزل رجلٌ مُسرعًا ليفتح باب القصر، ثم ركب السيارة، فقال «عاطف»: فرصتنا للدخول معهم … هيَّا بنا!

وأسرع الصديقان جريًا مستترَين بالظلام، ولحقا بآخر سيارةٍ وهي تجتاز باب القصر فتعلَّقا بأسفلها. ودخلت السيارات بهدوء، ووقفت أمام باب القصر … فأسرع الصديقان ينزلان، ومرَّةً أخرى استترا بالظلام، واختفيا بجوار السلَّم الرخامي الكبير … واستطاعا أن يُشاهدا الرجال وهم ينقلون الصناديق إلى داخل القصر، فهمس «عاطف»: ماذا في هذه الصناديق؟

محب: ليس بها شيء … إنها فارغة … لاحظ السهولة التي يحملها بها الرجال … إن هذا يؤكِّد أنها فارغة!

عاطف: ولكن … لماذا؟

محب: لأنهم سيملئونها بالتحف والأثاث من القصر … واضحٌ جدًّا أن العصابة قرَّرت نهب القصر، ثم الفرار نهائيًّا حيث لا يعثر عليهم أحد!

عاطف: وما هي خطتك الآن؟

محب: سندخل القصر معًا … إنهم مشغولون الآن بملءِ الصناديق.

ودخل الصديقان بهدوء … كان الرجال مشغولين بنقل الأثاث والتحف الثمينة من أنحاء القصر الواسعة. فاختفى الصديقان خلف أحد الأبواب، وأخذا يرقبان ما يحدث!

همس «عاطف»: لا بد أن نتصرَّف بسرعة!

محب: إن أمامنا فرصةً لمعرفة مكان العصابة؛ وذلك بأن يختفي أحدُنا في أحد الصناديق، ويذهب مع العصابة إلى حيث تكون، ومن حسن الحظ أن الصناديق ليست محكمة الإغلاق.

عاطف: سأذهب أنا …

محب: بل سأذهب أنا … وعليك أن تُسرع إلى «تختخ».

عاطف: دعني أنا أذهب …

محب: لا وقت للكلام … سأنتظر حتى يملئوا أحد الصناديق إلى منتصفه، ثم أدخل فيه، وعليك أن تضع الغطاء بسرعة حتى يظنوا أنهم انتهَوا منه، ثم تنطلق بعد ذلك إلى «تختخ».

شاهد الصديقان رجلَين ينزلان من الدور الثاني ومعهما التحف الثمينة، فوضعاها في صُندوقٍ بعناية، ثم صعدا، وحضر بعدهما رجلان آخران … وهمس «محب»: إنهم ستة رجال، ولن يعرف أحدهم ماذا يفعل الآخرون … سننتهز أوَّل فرصةٍ لأدخل الصندوق … والمسألة ليست شاقة؛ فالصناديق لیست محكمة الإغلاق، وسأستطيع أن أتنفس.

وانتهز الصديقان فرصةً سانحةً خلا فيها بهو القصر من الرجال، ثم أسرع «محب»، فتسلَّل إلى داخل أحد الصناديق، وتمدَّد بجوار بعض التماثيل، وأخذ «عاطف» يُحاول بكلِّ قوته، حتى استطاع أن يضع غطاء الصندوق عليه، ثم سمع صوت أقدام تنزل السلَّم، فأسرع يختبئ بجوار أحد الصناديق، وسمع أحدَ الرجال يقول: لقد ملأ «حسنين» صندوقًا وأغلقه، وسنتمكَّن من ملء بقية الصناديق.

بعد ساعتين على الأكثر نستطيع أن نملأ الصناديق، ثم نتجه إلى «مريوط» قبل الفجر! وهكذا عرف «عاطف» اتجاه السيارات، فانتهز أول فرصة وانطلق مُسرعًا إلى «تختخ».

وبعد نحو ساعة كان الرجال قد انتهَوا من ملء الصناديق وحملوها إلى السيارات، وأحسَّ «محب» بالصندوق الذي يختبئ فيه وهو يُرفع، ثم يسير به الرجال، حيث وضعوه في إحدى السيارات، وحمد اللهَ على أن الصندوقَ لم يوضع تحت بقية الصناديق … بل كان آخر صندوق … وهكذا استطاع أن يتنسَّم هواءً نقيًّا.

دارت السيارات في حديقة القصر، ثم انطلقت خارجةً تهتزُّ على أرض الطريق، و«محب» يُحسُّ بالتماثيل التي بجانبه تهتز وتكاد تقع عليه، فيمد يده يسندها.

ومضت السيارات في الظلام تشق طريقها مُسرعة. وفي هذه الأثناء كان «عاطف» يقف تحت نافذة «تختخ» يُطلِق نقيق البومة، على أمل أن يسمعه «تختخ»؛ فهذا الصوت هو الإشارة المُتفق عليها بين المغامرين … ولكن «تختخ» كان نائمًا فلم يسمع شيئًا … وأخذ «عاطف» يُفكِّر فيما ينبغي عمله، أيوقظ «تختخ» بأيِّ طريقة، أم ينتظر حتى الصباح؟ وأخيرًا استقرَّ رأيه على أن يتسلَّق الشَّجرة التي بجوار نافذة غرفة «تختخ» … ويدق عليها … وكان «زنجر» قد استيقظ، ووقف بجوار «عاطف»، فلمَّا رآه يصعد الشجرة أدرك أن هناك مغامرة، وأخذ ينبح ويهز ذيله في مرح. ووصل «عاطف» إلى النافذة، ومدَّ يده وأخذ يدق، فاستيقظ «تختخ» سريعًا واستمع إلى الدقات، وعرف من طريقة الدق وعدد الدقَّات أنه أحد الأصدقاء، فأسرع بفتح النافذة، وقال «عاطف» بسرعة: لقد حضرت العصابة! … جاءوا بعدد من سيارات النقل، وحملوا بقية الأثاث والتحف التي كانت بالقصر وانطلقوا!

تختخ: إلى أين؟!

عاطف: إلى مريوط؛ فقد سمعتُهم يقولون إنهم سيصلون إليها قبل الفجر!

تختخ: إنهم يقصدون بحيرة «مريوط» عند الإسكندرية!

عاطف: و«محب» معهم؛ فقد اختبأ داخل أحد الصناديق التي أحضروها لأخذ التحف، وإذا سارت الأمور عادية، فلا بد أنه في إحدى السيارات في الطريق إلى الإسكندرية.

تختخ: ولماذا تصرَّف هكذا؟ ألم أقل لكما أن تكونا على حذر؟

عاطف: كان هذا هو الحل الوحيد لمعرفة مقرِّ العصابة!

دخل «عاطف» غرفة «تختخ»، الذي أسرع يرتدي ملابسه، ثم خرج الاثنان إلى الشارع ومعهما «زنجر».

قال «عاطف»: ماذا نفعل الآن؟

تختخ: وماذا نعمل إلا أن نذهب إلى الإسكندرية فورًا؟!

عاطف: وماذا نفعل هناك؟

تختخ: سيُحاول «محب» الاتصال بنا من الإسكندرية، ولا بد أن نكون قريبين منه حتى نستطيع التصرُّف.

عاطف: وكيف يتصل بنا في الإسكندرية؟

تختخ: لا أدري … ولعلَّه سيتصل بنا هنا في المعادي، ويترك مع «نوسة» أو «لوزة» رسالةً لنا!

ومشى الصديقان إلى محطة المعادي يتبعهما «زنجر»، فقال «عاطف»: هل نأخذ «زنجر» معنا؟

تختخ: سنأخذه؛ فقد نحتاج إليه هناك.

ركبا القطار إلى محطة باب اللوق، و«تاكسيًا» إلى محطَّة باب الحديد، ولم يجدا قطاراتٍ في هذا الموعد، ولكنَّهما وجدا سياراتٍ كبيرةً (رميس) القاهرة-الإسكندرية، ووجدا سيارة السائق «وجيه»، وهو الذي تعرَّف به «تختخ» في لغز الفارس المُقنَّع، وكانت مغامرة الفارس المُقنَّع قد انتهت بأن أخذ «وجيه» مكافأةً ضخمة، فرحَّب بهما، وسرعان ما كانت سيارته تنطلق بهما إلى الإسكندرية.

مضت السيارة تشق طريقها مُسرعةً برغم الظلام، وفجأةً قال «عاطف» وقد تجاوزا مدينة طنطا: لعلنا نستطيع اللحاق بسيارات النقل؛ فقد تركتها تستكمل حمولتها، ولم نُضيِّع وقتًا طويلًا في منزلك. إن المُدَّة الضائعة نستطيع تعويضها لو أسرعنا.

سمع «وجيه» هذا الحديث؛ فأطلق لسيارته العِنان، ومرقت کالسهم، وأخذت تقترب شيئًا فشيئًا من مدينة الإسكندرية … بدون أن يلتقوا بالسيارات الثلاث … وعندما أشرفوا على مدخل الإسكندرية، قال «وجيه»: إن هذا هو اتجاه بُحيرة مريوط.

ودارت السيارة في اتجاه طريق مريوط، وقال «تختخ»: إن «زنجر» يستطيع التقاط رائحة «محب»، ولا بد أنه يُدرك أننا نُريد أن نلحق به، وقد يدلُّنا على مكانه.

وبعد ربع ساعةٍ وصلوا إلى شاطئ مریوط دون أن يجدوا السيارات الثلاث، وكان الفجر قد لاح في الأفق، وتوقَّفت السيارة، وقال «وجيه»: لم يبقَ مكانٌ يمكن أن تذهب إليه السيارة؛ فليس أمامنا سوى الماء.

شكر الصديقان «وجيه» الذي رفضَ أن يتقاضَى منهما أُجرةً للسفر، وتمنَّى لهما التوفيق، ثم ركب السيارة وعاد في اتجاه المدينة.

وجد الصديقان نفسَيهما أمام المياه الضحلة، وقد بدأ الصيادون يخرجون من أكواخهم في الطريق إلى الصيد، وقال «تختخ» موجِّهًا الكلامَ إلى «زنجر»: وماذا بعد ذلك یا «زنجر»؟ لقد وصلنا إلى طريقٍ مسدود!

فهم «زنجر» ما يقصده «تختخ»، فمضَى يتنسَّم الهواء، ويجري هنا وهناك، ثم انطلق في اتجاه أكواخ الصيادين … وأشرف الثلاثة على مخزنٍ كبير، فأوقف «تختخ» «زنجر» ونظر إلى الأرض، وقال ﻟ «عاطف»: انظر، إن على الأرض آثار سيارات … لقد دخلت السيارات هذا المخزن، فتعالَ نختبئ هنا!

وبين الأعشاب الكثيفة على شاطئ البحيرة اختفى الثلاثة وهم يُركِّزون أنظارهم على المخزن.

في تلك الأثناء كان «محب» داخل الصندوق الخشبيِّ قد أحسَّ بوقوف السيارات في مكانها، وسمع صوت الرجال يتحدَّثون، ثم شعر بالصندوق الذي اختفى فيه يُرفَع من السيارة ويوضَع على الأرض … وأدرك أن الوقت قد حان ليخرج من مكانه؛ فرفع غِطاء الصندوق ببطء شديدٍ ليرى أين هو، ولكن ما كاد يفعل هذا، حتى سمع صوت أحد الرجال يقول: يُخيَّل لي أنني رأيتُ غطاء هذا الصندوق يتحرَّك! فردَّ رجلٌ آخرُ ضاحكًا: إن السهر قد أثر على رأسك … أو إن في الصندوق بدل التماثيل إنسانًا حيًّا!

أنزل «محب» غطاء الصندوق مكانه وقلبه يدق سريعًا؛ فقد كادُوا يكتشفون مكانه، وأخذ يُفكِّر فيما يفعل، وتشمَّم رائحة البحر، وأدرك أنه قريبٌ منه … فماذا تفعل العصابة عند البحر؟

سمع «محب» صوت أقدامٍ تقترب من الصندوق، وسمع صوت أحد الرجال يقول: إن التحف الأثرية كلَّها ستُهرَّب إلى خارج مصر؛ فسوف تُصدَّر في داخل صناديق الفاكهة!

قال الآخر: يجب أن تصل هذه الصناديق إلى باب ستة في الوقت المناسب!

وتذكَّر «محب» على الفور ما قاله «تختخ» عن باب ستة، وتساءل: أين هو؟

وأخذ «تختخ» و«عاطف» و«زنجر» يقتربون من المخزن في هدوء، حتى وقفوا خلفه تمامًا، وأخذ «تختخ» يُنصت إلى ما يحدث في داخل المخزن، ثم قال ﻟ «عاطف»: قف هنا مع «زنجر»، وسأدور أنا حول المخزن لأرى ما يمكن عمله.

دار «تختخ» حول المخزن في حذرٍ شديد، ولاحظ أنه مقسَّم إلى جزأين؛ جزء يُستخدَم ﮐ «جراج» للسيارات، والآخر حلقة لشراء السمك تفتح أبوابها على الماء … وعندما وصل إلى زاوية المخزن وقف بحذرٍ شديد، ثم أطلَّ في هدوء ورأى الرجال جميعًا يجلسون في حلقة يتناولون إفطارهم ويتكلَّمون، وتأكَّد أن «الجراج» خالٍ في هذه اللحظة.

أسرع إلى «عاطف» و«زنجر» وهمس: علينا أن ندخل فورًا من باب المخزن الخلفي حتى يمكننا أن نجد «محب».

وتقدَّموا من باب المخزن في هدوء، ثم مدَّ «تختخ» يده وفتح الباب في بطءٍ شديد، وأحدث الباب صوتًا، فتوقَّف «تختخ» ينصت، ولكن أحدًا لم يظهر، ففتح الباب وتسلَّل الثلاثة إلى الداخل … كان المخزن مظلمًا لا تُنيره سوى بعض الأشعة التي تتسلَّل من شقوق الحوائط، ووقف الثلاثة لحظات، ثم بدأ «تختخ» يقول: «محب» … «محب» … أين أنت؟

ولكن قبل أن يرد «محب» كان «زنجر» قد اندفع إلى أحد الصناديق وأنشب فيه مخالبه، فأسرع «تختخ» و«عاطف» إليه، ورفعا الغطاء ووجدا «محب»، وقد فتح عينَيه رُعبًا؛ فقد ظنهم من رجال العصابة!

ساعد «تختخ» و«عاطف» صديقهم «محب» على الخروج من الصندوق بعد النومة الشاقة التي استمرت ساعات، وقال «محب» مُسرعًا: إنهم سيُحاولون تهريبَ بعضِ التماثيل الثمينة إلى خارج مصر عن طريق باب ستة!

وقال «تختخ»: باب ستة!

محب: نعم … لقد سمعتُهم يقولون هذا!

تختخ: لقد كانت رحلتك مفيدةً لهذا السبب وحده … فنحن لا نستطيع مصارعة العصابة … ولكن نستطيع الإبلاغ عنها الآن لقيامها بالتهريب!

محب: هل تذكر أن باب ستة جاء في مذكِّرات الأستاذ «إلهامي»؟

تختخ: طبعًا … إنني أُفكِّر في المصادفة العجيبة التي جمعت بين الأستاذ «إلهامي» وهذه العصابة، وباب ستة!

عاطف: إنكما تتحدَّثان وكأنكما تجلسان في الحديقة … ونسيتُما أن العصابة على بُعد أمتارٍ منا!

قفز «تختخ» ناحية الباب، وخلفه «محب» و«عاطف»، وفي هذه اللحظة خُيِّل إليهم أنهم سمعوا أنينًا يصدر من أحد أركان المخزن المُظلمة! توقَّفوا جميعًا في ذُهول … وتأكَّدوا من الأنين عندما تكرَّر من نفس المكان … ونظر الأصدقاء بعضهم إلى بعض، ثم تقدَّم «محب» من مصدر الأنين في الركن المظلم، وانحنى على كمية من القش كان الأنين يصدر من تحتها، ثم أزاحه بيده، وأطلق صيحة دهشةٍ عندما شاهد رجلًا قصيرًا ومُكمَّمًا ملقًى على الأرض القذرة!

أشار «محب» للصديقَين فأقبلا مُسرعَين، ولم يكد «عاطف» يرى الرجل المربوطَ حتى صاح: الأستاذ «إلهامي»!

كان «عاطف» يعرفه؛ فقد كان يذهب هو و«لوزة» كثيرًا لزيارة «سحر».

انحنى الأصدقاء الثلاثة على الأستاذ «إلهامي»، وأخذوا يفكُّون وثاقه في سرعة؛ فقد كانوا مُهدَّدين بكشف موقفهم في أيَّة لحظة.

كان الرجل العجوز في حالةٍ يُرثى لها … مُمزَّق الثياب، شاحب الوجه، مُرهق الجسم … وأخذ ينظر إليهم في ذهول؛ فلم يكن يعرفهم، أو يتذكَّر أنه رأى «عاطف» من قبل.

قال «تختخ»: سنأخذه معنا!

واستند الأستاذ «إلهامي» على «عاطف» و«محب»، في حين سبقهم «تختخ» يستطلع الطريق … كان كلُّ شيءٍ هادئًا خارج المخزن، فتسلَّل الأصدقاء ومعهم الأستاذ «إلهامي» خارجين، وساروا يتلفَّتون خلفهم، وهم يُحاولون الاختفاء في الأعشاب التي تُجاور الشاطئ … ولكن فجأةً ارتفع صياحٌ من المخزن، وصاح «تختخ»: لقد اكتشَفوا اختفاء الأستاذ «إلهامي»! أسرِعوا إلى المياه … فلو جرينا على الأرض فسيلحقون بنا بالسيارات!

كان هناك قارب ذو مجاذيف قريبًا منهم، فأخذوا يجرُّون الأستاذ «إلهامی» مُحاولين كسب الوقت قبل أن يراهم أحد … وعندما استطاعوا وضعه في القارب، وقفز خلفهم «زنجر» … كان بعضُ أفراد العصابة قد خرجوا من المخزن. أخذوا ينظرون هنا وهناك، ووقع بصرهم على القارب الصغير وبه الأستاذ «إلهامي» والأصدقاء، وسرعان ما كانوا يجرون في اتجاههم.

أمسك «تختخ» بمجذافَين، و«محب» بمثلهما، وأخذ الصديقان يُجذِّفان بشدةٍ في محاولةٍ للابتعاد عن الشاطئ قبلَ وصول رجال العصابة … وفعلًا نجحا في الدخول إلى المياه العميقة، وأخذت سرعة القارب تتزايد.

قال «محب»: إنهم لم يطلقوا علينا النار!

ردَّ «تختخ»: لعلهم يخافون أن يسمع رجال خفر السواحل؛ فهم قريبون منَّا.

بعد دقائق كان رجال العصابة يستقِلُّون قاربًا آخر، وقد شمَّروا عن سواعدهم في محاولة مُستميتة للَّحاق بقارب الأصدقاء. كان رجال العصابة أقوى، وقاربهم أكبر، وبدأت المسافة تضيق بين القاربَين خلال دقائق قليلة.

قال «تختخ»: إنهم سيكسبون السباق … فلْنتَّجه إلى الشاطئ مرَّةً أُخرى!

عاطف: ولكن قد يكونُ بعض أفراد العصابة هناك!

محب: وما الحل؟

تختخ: نتجه إلى نقطة خفر السواحل … ونصيح في طلب النجدة قبل أن نصل إلى الشاطئ.

تناقصت المسافة بين القاربَين سريعًا … وبدت الوجوه الشريرة تظهر … وأحسَّ الأصدقاء أنهم لو وقعوا فسيلقَون أشدَّ أنواعِ الانتقام.

ولم يبقَ سوى أمتارٍ ويلحق بهم القارب الكبير، ولم يقتربوا بعدُ من نقطة خفر السواحل … ثم تناقصت المسافة مترًا … فمترًا … ولم يبقَ سوى أقل من متر، وصاح أحدُ رجالِ العصابة: توقَّفوا وإلا …

كان الرجل واقفًا في القارب يُهدِّدهم ببندقيَّة … وفي هذه اللحظة حدث شيءٌ مُدهش … لقد استجمع «زنجر» قوَّته، ثم قفز قفزةً رائعةً على الرجل الواقف في القارب … ولم يتمالك الرجل نفسه، ومال بشدة، ثم سقط … ومال معه قارب العصابة، وانقلب في الماء وبه جميع الرجال.

صاح «تختخ»: لقد فعلها «زنجر» البطل!

عاطف: ولكنهم قد يقتلونه!

محب: ولكن لن نستطيع التوقُّف!

ومضى القارب يشق طريقه مسرعًا إلى الشاطئ … ووصلوا إلى نقطة خفر السواحل … وأسرع «محب» يقفز إلى الشاطئ … واتجه مُسرعًا إلى النقطة، وقابل الضابط … وفي كلماتٍ قليلةٍ شرح له كلَّ شيء.

أسرع الضابط إليهم … ونقل رجال السواحل الأستاذَ «إلهامي» إلى الشاطئ؛ فقد كان في حاجةٍ إلى إسعافٍ سریع … وبعد لحظاتٍ كان قارب رجال خفر السواحل يشق طريقه إلى حيث غرق قارب العصابة … وكان الرجال يُحاولون الوصول إلى الشاطئ عائمين … وكان «زنجر» يعوم مُسرعًا حتى لا يقبضوا عليه.

دار قارب رجال خفر السواحل دورةً واسعة، انتشل فيها رجالَ العصابة واحدًا واحدًا … ثم اتَّجه إلى المخزن حيث أشار الأصدقاء … وتم القبض على بقية أفراد العصابة، وأُخطر رجال الشرطة، وبعد لحظات كان المخزن يعج بالرجال.

•••

بعد ساعةٍ من هذه الأحداث … كانت سيارةٌ تحمل الأصدقاء و«زنجر» … والأستاذ «إلهامي» إلى المعادي، وقال «عاطف»: أرجو أن يتمكَّن الأستاذُ «إلهامي» من استرداد ذاكرته ليرويَ لنا ما حدث.

ردَّ «تختخ» وهو يربت على رأس «زنجر» البطل: عندما يرى «سحر»، ويعود إلى القصر؛ سيتذكَّر كلَّ شيء، ويروي لنا قصته كاملة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤