اختيار القبلة

كان الموقف — كما قدمنا — على مفترق الطريق، وكان على السالك أنْ يختار وجهته وقبلته، ويحسب لها كل حسابها، فيأخذها بكل ما لها وما عليها، أو يرفضها بكل ما لها وما عليها، ويجمع قلبه كله في خدمة الرب الذي يعبده، فليس في مقدوره أن يعبد ربين، وأن يدين بالخدمة والإخلاص لسيدين.

وعلى هذا الوجه وحده تفهم الدعوة المسيحية على جليتها، ويزول اللبس عنها، بل يزول عنها ما يبدو عليها من النقائض والأضداد؛ لأنَّها عند تصحيح الاتجاه تعتدل على طريق مستقيم.

إذا كان الجيل مُقبلًا على محراب «مامون» بقلبه وقالبه، فالوجهة الأخرى على الطرف الآخر من هذا المحراب.

إنَّ عباد «مامون» غارقون في هموم الحطام، لا يفرغون لحظة لغير الشهوة والطعام، فالذي يستدبر هذه القبلة فلتكن قبلته حيث لا ظل لذلك المحراب، ولا أنقاض لأركانه وأوثانه، وحيث المطلوب كله هم الروح والضمير، وحيث المنبوذ كله هم المادة والجثمان.

أو كما قال لهم الرسول البشير:

الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس، وزنابق الحقل تنمو ولا تتعب ولا تغزل، وسليمان في كل مجده لا يلبس كما تلبس واحدة منها، فإذا كان العشب الذي يقوم اليوم في الحقل ويطرح غدًا في التنور يلبسه الله، فما أحراكم أن يلبسكم يا قليلي الإيمان …

نعم. وإذا تهالكت أمم العالم على الطعام والشراب وقلق العيش؛ فاطلبوا أنتم ما هو أفضل وأبقى … اطلبوا كنوزًا لا تنفد في سماواتها، حيث لا تنالها يد السارق، ولا يبليها السوس.

من استدبر قبلة «مامون» فهذه هي القبلة التي يتجه إليها، وهذه هي غايتها القصوى، وإن لم تكن هي كل خطوة في الطريق.

وعلى هذا الوجه يفهم السامع رسول الرحمة حيث يقول:

ما هو بقادر أن يكون لي تلميذًا من لا يقدر على أن يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته، بل يبغض نفسه …

وما هو بقادر أن يكون لي تلميذًا من لا يقدر على أن يحمل صليبه ويتبعني في طريقي.

قائل هذا هو القائل:

أيها السامعون: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، ادعوا لمن يسيئون إليكم، من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن أخذ رداءك فامنحه ثوبك، وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ ما في يدك فلا تُطالبه، وما تريدون أن يصنعه النَّاس لكم فاصنعوه لهم أنتم، وأي فضل لكم إن أحببتم الذين يُحبونكم؟ إنَّ الخطاة ليحبون من يحبهم، وأي فضل لكم إن أقرضتم من يردون قرضكم؟ إن الخطاة ليقرضون من يُقارضهم، بل تحبون أعداءكم، وتحسنون وأنتم لا تُرجون أجركم …

وقائل هذا هو القائل:

إن أخطأ أخوك فوبخه، وإن تاب فاغفر له، وإن أخطأ إليك سبع مرات وتاب إليك سبع مرات فتقبل منه توبته.

وهذا نقيض ذاك:

هذه الرحمة التي تعم الأعداء والأحباب نقيض البغضاء التي تشمل بها أحب الناس إلى الناس: الآباء والأمهات والأبناء وذوي الرحم والقربى.

إنهما تتناقضان غاية التناقض إلا على وجه واحد، وهو توجيه النظر إلى قبلة غير القبلة ووجهة غير الوجهة، وغاية قصوى غير تلك الغاية القصوى التي تستدبرها.

وإذا افترقت الطريقان، ووجب عليك أن تمضي هنا أو هناك، فلا جناح عليك أن تمضي حيث سددت خطاك، ولو كرهت نفسك وحملت صليبك وانقطعت عن ذويك.

وما من أحد يأبى أن يُحبَّ ذويه، وأن يحبه ذووه إذا ساروا حيث سار، واستقاموا معه حيث استقام، فليس عن هذا يجري الحديث، ولا في هذا موضع للنصيحة والتفضيل، وإنَّما يجري الحديث ويستمع النصح حيث يتعارض الطريقان ويتناقضان.

وإنما يجري الحديث ويستمع النصح حيث تتقابل القبلتان، وحيث تمضي هنا مع الله وتمضي هناك مع مامون.

ولا تناقض في هذا المفترق بين نصيحة من تلك النصائح، أو آية من تلك الآيات، فكلها على نهج واحد من أول الطريق إلى غايته، ولهذه الغاية القصوى ينبغي أن يتحول من يَمَّمَها بخُطاه، وآثرها بهواه.

وفي مثل من الأمثلة التي تعمر بها أقوال المسيح عبَّر لهم عن الموقف كلِّه بأنْ يحسبوا النَّفقة كلها قبل بناء حجر في البرج الشامخ.

من منكم — وهو يريد أن يبني برجًا — لا يجلس ليحسب نفقته، ويعلم هل لديه ما يلزم لكماله؟

فهذا حساب التكاليف جميعًا قبل وضع الحجر الأول في أساس البناء، وإلا فلا حجر، ولا أساس، ولا برج هناك، وخير لمن تخذله القدرة، وتعوزه النَّفقة أن يترك الأرض والحجر والبناء.

فمن نظر إلى الأرض فرأى شعابًا تتقاطع، ومفارق تختلف؛ فليرفع نظره من تلك الشعاب، ولينظر إلى الأفق الذي تنص إليه الركاب، فهناك القبلة التي يتلاقى عندها ما تشعب، وينتهي إليها ما اعوج أو استقام من الدروب.

ولقد كان المستمعون إلى السيد المسيح، وأولهم تلاميذه وأتباعه، يُعجبون منه لأمرين: ترحيبه بالأطفال الصغار، وخطابه للمنبوذين المحقرين، فانتهرهم حين رآهم يبعدون عنه أطفال القرى وقال لهم:

دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، فمن لم يُقبل على ملكوت الله طفلًا فلن يدخل إليه.

وقال لقوم أيقنوا أنهم أبرار واحتقروا المشهورين بالذنوب: «صعد اثنان إلى الهيكل يُصليان، فريسي وعشار.

فأمَّا الفريسي فراح يقول في صلاته: حمدًا لك يا إلهي! إنني لست كسائر هؤلاء الخاطفين الظالمين الزناة، ولا كمثل ذلك العشار، أصوم في اليوم مرتين، وأؤدي حق العشر عن كل ما أقتنيه.

وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه إلى السماء، وقرع صدره وابتهل إلى الله: ارحمني يا إلهي أنا الخاطئ. فهبطا إلى بيتهما؛ هذا مستجاب، وذلك غير مبرور.»

وتكررت هذه الأمثلة، فتكرر معها العجب من المستمعين إليه من آمن به وأحبه ومن كفر به وحنق عليه، ولو أنَّهم إذ كانوا يُعجبون ذلك العجب قد عرفوا رسالته، واستقبلوا قبلته، لما أنكروا عليه أن يشخص ببصره إلى بعيد، وأن يزهد في يومه، ثُمَّ يمتد بالرجاء إلى غده، فإنَّما في الغد يوم أولئك الأطفال المرتقب، وإنَّما يُرجى لتبديل الحال من لا يعنيه من الحاضر إلا أن يزول.

وجماع القول أنَّ الدعوة الجديدة كانت ككل دعوة جديدة غريبة مناقضة لما حولها، ولكنها تنفض عنها كل غرائبها ونقائضها إذا نظرنا إلى القبلة التي تستقبلها، فهنالك تلتقي الشعاب، ويحسن المآب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤