إخلاص التلاميذ

فضل التلاميذ الأول في كل دعوة أنَّهم دعاة، أي أنَّهم شُركاء للمُعلِّم في نشر الدعوة.

أما الفضل الأول للتلاميذ في الدعوة المسيحية فهو أنَّهم مستجيبون، فلم يكونوا قادة يدعون غيرهم إلى صفوفهم، بل كانوا في الواقع هم الصف الأول السابق إلى الاستجابة، ثُمَّ تلته صفوف أخرى من أمثاله، ليس فيهم قائد ولا مقود، وكلهم في قبول الدعوة سواء.

كان فضل التلاميذ في الديانة المسيحية أنَّهم أول القابلين، ولا بد أنْ نَعلم هذا الفارق بين طبيعة القابلين، وطبيعة العاملين.

فالتلاميذ بالنسبة إلى السيد المسيح هم أمته الصغرى، كَبُرت مع الزمن على هذا المثال، فأصبحوا أمة كبيرة تقتدي بتلك الأمة الصغيرة في الاستجابة، فهم سابقون أعقبهم لاحقون من قبيلهم، وهم الصف الأول في الجيش الواحد، وليسوا هم جيشًا يُقابل جيشًا آخر بالدعوة فيلبيه وينضوي إليه.

كانوا نموذج الأمة المسيحية في أول الرسالة، ومضى على الأمة المسيحية عدة أجيال، وهي لا تُخالف هذا النموذج في التكوين، ولا في الطراز، ومن هنا نقول إنَّ التَّلاميذ لم يكونوا دعاة فرضوا عقيدتهم على أُناس غيرهم، ولكنَّهم وغيرهم جميعًا مستجيبون للدعوة فوجًا بعد فوج، ورعيلًا وراء رعيل.

في الدَّعوات قادة ومقودون.

ولكنَّ التَّلاميذ في الدعوة المسيحية لم يكونوا قادة لغيرهم، بل كانوا هم السابقين من صفوف تلاحقت وتعاقبت، لا فرق في بنيتها بين أولين وآخرين.

وليس في سيرتهم الأولى ما يفهم منه أنَّهم مميزون بصفة القيادة، فهم جميعًا من بيئة واحدة، وربما كانوا جميعًا من سلالة مُتقاربة أو بيوت متجاورة، كأنَّهم وقعت عليهم القرعة بين المتشابهين والمتماثلين، ثم امتازوا بعد ذلك بالتعليم والتدريب على يدي السيد المسيح.

وكان السيد المسيح ينظر إلى بعضهم، فيقول له: اتبعني. فيتبعه ولا يظهر عليه أنَّه أفضل من غيره بمزية عقلية أو نفسية إلا أن تكون المزية التي يتوسمها فيه السيد فيدعوه من أجلها، وهي مزية الإصغاء والاتباع.

ولم يبد منهم أنَّهم أقدر على فهمه من الآخرين، فلو أصابت القرعة اثني عشر آخرين لكانوا في مثل قُدرتهم على التعلم واستعدادهم للقبول؛ لأنَّ كفاءتهم — ولا شك — هي الكفاءة الوسطى في كل طائفة بهذا العدد، ومن هذه البيئة، فلم يكن منهم علم بارز لا يتكرر بهذه النسبة في أيَّة جماعة يقع عليها النظر للوهلة الأولى، فلا يُقال في واحد منهم إنَّه واحد من مائة أو واحد من ألف لا يتكرر، أو أنَّ واحدًا منهم تعلم ما لا يتعلمه أمثاله لو حضروا كما حضر على معلمهم القدير، بل كل ما يقال إنَّه مُجنَّد يُشبه غيره من المجندين، والفضل للقائد بعد ذلك فيما ظفر به من التدريب والتهذيب.

وقد وقع عليهم الاختيار كما جاء في الأناجيل.

ولكن لا يبدو من ذلك الاختيار أنَّه كان اختيارًا نادرًا أو مستعصيًا على القائد الحكيم الحصيف، ولعلَّ العامل الأكبر فيه أنَّهم مُختارون من طائفة متعارفة متآلفة، وأنَّ اجتماعهم هكذا خير وأصلح من اجتماعهم بددًا من بيئات متباعدة، فإنَّ المُتآلفين أولى بمصاحبة بعضهم بعضًا من المتباعدين.

ونحسب أنَّ التَّشبيه بالتجنيد هنا خليق أنْ يُقرِّب إلى الأذهان هذا المعنى الذي نرى له المكان الأول في فهم الدعوة وأسباب سريانها.

فالمجندون يقترعون، وكلهم مُتماثلون في شروط التجنيد، ولكنَّهم مع هذا يعرضون على القائد فيعزل منهم فئة متجانسة فيما يراه، وكل الفئات الأخرى تُضارعها على الجملة في شروط التجنيد.

لم يكونوا طينة من البشر غير طينة السواد لولا تلك النفحة العلوية التي نفثتها فيهم روح المُعلم القدير.

كان يعرف عيوبهم، وكانوا في أمانتهم وإخلاصهم لا يُغالطون أنفسهم في تلك العيوب.

كان يُخاطبهم فلا يفهمونه، فيسألونه مزيدًا من التوضيح، وكان يُخامرهم الشَّكُّ فيحسه منهم فلا ينكرونه، وربما فاتحوه بالشَّكِّ ابتداء وسألوه أنْ يزيدهم إيمانًا، فيزيدهم ويعلمهم كيف يتقون أمثال هذه الشُّكوك.

ولم يحسب قط أنَّهم طود لا يتزعزع، وأنَّهم عزيمة لا تتضعضع، وأنَّهم يُواجهون المحنة في كل حال، ولا يُدركهم ضعف النفس يومًا أمام هول من الأهوال.

فقد أنبأهم أنَّهم سيتخلون عنه، وقد ناموا وهو يسألهم أن يسهروا معه، وقد لامهم غير مرة؛ لأنَّهم يتنافسون على السبق، أو لأنَّهم يستبطئون جزاءهم على الإيمان، أو لأنَّهم — بعد وعظهم وتذكيرهم — لم يزالوا يُفرِّقون بين النَّاس، ويدينون بشريعة غير شريعة الحب والغفران، ولم يكن على اليقين ينتظر منهم أكثر مما نظر، أو تفوته منهم في أوائلهم حالة ظهرت له في أواخرهم، ولكنَّه علم المطلوب منهم كله فوجد فيه الكفاية؛ عَلِمَ أنَّهم نموذج لغيرهم يتكرر على مثالهم، وليس مطلوبًا من النَّاس في العالم الواسع أنْ يُدركوا مقامًا من الإيمان فوق مقام الإخلاص وحسن الاستعداد لإصلاح العيوب، وهذا المقام قد أدركه التلاميذ يوم وكل إليهم أنْ يسيحوا في أرض الله، ويجعلوا من أنفسهم مثلًا يقتدي به المخلصون.

فهو لم يقصد إعدادهم ليخرجهم طرازًا معصومًا لا عيب فيه، ولا مأخذ فيه، ولكنَّه قصد إعدادهم؛ ليحسنوا القدوة، ويجمعوا حولهم من يسلك مسلكهم، ويستقبل معهم قبلتهم، ويُكلفوا أنفسهم غاية ما يستطيعون، وقد يستطيع من يقفوهم فوق ما استطاعوه.

ومن العبارات ذات المغزى الكبير في الإنجيل أنَّ المسيح مضى شوطًا بعيدًا في دعوته، ولم يقل لهم إنَّه هو المسيح المنتظر، فشاع ذكره في القرى، وتساءل النَّاس عنه: من يكون؟ فمنهم من يقول إنَّه يُوحنا المعمدان قد بُعث من الموتى، ومنهم من يقول إنَّه إلياس، ومنهم من يقول إنَّه نبي مبعوث، والمسيح لا يقول للتلاميذ إنَّه المسيح، بل سألهم بعد شيوع ذكره، وتساؤل النَّاس عنه: وأنتم من تقولون إنِّي أنا هو؟ فأجابه بطرس: أنت المسيح. فانتهره، وأوصاهم ألا يذكروا ذلك لأحد، في رواية إنجيل مرقس، أما في إنجيل مَتَّى فقد رُوي أنَّ بُطرس قال: «أنت هو المسيح ابن الله الحي.» فأجاب يسوع وقال: «طُوبى لك يا سمعان بن يونا، أنَّ مخلوقًا من لحم ودم لم يُعلن لك، ولكنَّه أبي الذي في السماوات، وأنا أقول لك إنَّك أنت بطرس،١ وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات، ثم أوصى تلاميذه ألا يقولوا لأحد إنَّه هو يسوع المسيح.»

أمَّا في إنجيل لوقا فالرواية أقرب إلى رواية إنجيل مُرقس: «ففيما هو يُصلِّي على انفراد، كان التلاميذ معه فسألهم قائلًا: ماذا تقول الجموع عني؟ فأجابوا أنَّهم يقولون: يُوحنا المعمدان. وآخرون يقولون: إنَّ نبيًّا من القدماء قام. ثُمَّ سألهم: وأنتم من تقولون؟ فقال بُطرس: مسيح الله. فانتهرهم، وأوصاهم ألا يقولوا ذلك لأحد.»

والرواية في يُوحنا أقرب إلى تصوير ما قدمناه، فإنَّ السيد المسيح أحسَّ أنَّ النَّاس يتراجعون عنه «وأنَّ كثيرًا من تلاميذه رجعوا إلى الوراء، ولم يمشوا معه، فقال للاثني عشر: ألعلكم أنتم تريدون أيضًا أن تذهبوا؟ فأجاب سمعان بطرس: يا رب! إلى أين نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك، ونحن قد آمنا، وعرفنا أنَّك أنت المسيح ابن الله الحي. فأجابهم: ألست أنا اخترتكم؟ وواحد منكم شيطان»!

وقد تسمَّى كثيرون باسم التلاميذ، فقال لهم كما جاء في إنجيل يُوحنا: «قال يسوع لليهود الذين آمنوا به إنَّكم إنْ ثبتم في كلامي كنتم بالحقيقة تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يُحرركم. فأجابوه: إنَّنا ذرية إبراهيم، ولسنا عبيدًا لأحد، فكيف تقول إنَّكم ستصيرون أحرارًا؟ قال: الحق الحق أقول لكم إنَّ كلَّ من يعمل للخطيئة فهو عبدٌ للخطيئة، والعبد لا يبقى في البيت أبدًا، إنَّما يبقى فيه الابن إلى الأبد، فإنْ حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا، أنا عالم أنَّكم ذُرية إبراهيم، لكنَّكم تُريدون قتلي؛ لأنَّ كلامي لا يقع منكم موقعًا، أنا أتكلم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعلمون ما رأيتم عند أبيكم. فأجابوه: إنَّ أبانا إبراهيم. قال: لو كان أباكم لعملتم عمله، ولكنَّكم الآن تطلبون دمي، وأنا إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم، وأنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له: إنَّنا لم نُولد من سِفَاح، لنا أب واحد هو الله. قال: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني؛ لأنَّني خرجت من قبل الله، وأتيت إليكم، إنَّني لم آتِ من نفسي بل هو أرسلني … أنتم من أب واحد هو إبليس …»

فأجابه اليهود: «لحسن تقول إنك سامري بك شيطان. وبعد أن قال لهم «إنَّ من يحفظ كلامي لن يرى الموت»، عادوا يقولون: الآن تبيَّن لنا أنَّ بك شيطانًا، قد مات إبراهيم، وأنت تقول «إنْ حفظ أحد كلامي لن يذوق الموت»، من تجعل نفسك؟ ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات؟!»

والعبرة من هذه القصة أنَّ السيد المسيح مضى في دعوته زمنًا، ولم يذكر لتلاميذه أنَّه هو المسيح الموعود، وأنَّه كان يعلم ممن يطلبون التتلمذ عليه أنَّهم لا يُدركون ما يقول، ولا يُفرِّقون بين لغة الحس، ولغة الروح، أو لغة المجاز، وأنَّه أشفق يومًا أنْ ينفضَّ عنه تلاميذه المختارون كما انفضَّ هؤلاء الذين أرادوا أن يحسبوا أنفسهم من التلاميذ، وزعموا أنَّهم مثله، فأنكر عليهم دعواهم، وقال لهم: إنَّما بنوة الله بالأعمال، وإنما أنتم بأعمالكم أبناء إبليس!

وقد علم المسيح أنَّه لن يبقى طويلًا مع طلاب التلمذة عليه إلى الأبد، وأنَّه لن يبقى معهم حتَّى يبلغوا من الدراية والإيمان تلك الغاية المُثلى التي ليس فوقها غاية، فإنْ صَمَدَ معه أُناس يضعفوا تارة، ولا يحسنوا فهمه تارة أخرى، ولكنَّهم يحسنون الظن، ويترقبون الأمل في الخلاص من هذا الطريق، فأولئك على علاتهم خير من المتتلمذين الذين يُسيئون الفهم، ويستكبرون ويأتمرون به ليقضوا عليه.

•••

والشائع أنَّ التلاميذ كانوا طائفة من صيادي السمك في بحر الجليل، والمفهوم من هذا عند أُناس ممن يعرفونهم بالصناعة على السماع أنَّهم في طبقة عمال الصيد الأميين، ولكنَّه فَهْم متعجل مبني على قياس غير صائب، إذ الواقع أنَّهم كانوا طائفة تقرأ وتكتب وتتردد على مجامع الوعظ والصلاة، وتراجع ما قيل عن النبوءات، لم يبلغوا في العلم مبلغ الفقهاء في زمانهم، وهو خير؛ لأنَّهم لو كانوا من فقهاء زمانهم لركبهم الغرور، وقابلوا الدعوة بالتحدي والمكابرة، ولكنَّهم لم يبلغوا كذلك مبلغ الأمية الجاهلية في الغباء، وكان منهم من نُسمِّيه في عصرنا هذا بكاتب الحسابات أو مأمور التحصيل، وهو مَتَّى العشَّار صاحب الإنجيل المعروف باسمه، وقدرته على كتابة إنجيل — باللغة اليونانية كما هو الأرجح — قدرة لا تتأتى لغير المثقفين، ومنهم يُوحنا الذي يُنسب إليه الإنجيل الرابع، وهو ابن خالة المسيح أو من بني خئولته، وكان صاحب عمل ناجح في تجارة السمك يُشاركه فيه أخوه يعقوب، كما يُؤخذ من إنجيل مرقس حيث يقول: إنَّهما تركا أباهما في السفينة مع الأُجراء، وذهبا وراء السيد المسيح.

ومنهم جيمس قريب المسيح، ويُوحنا، و«ابن الرعد» كما سماه المسيح لقوته في الإنذار وتشديد النكير، ومنهم بطرس وهو متكلم جريء صلب العزيمة، مدرب على حمل السلاح كما يُؤخذ من بعض أخبار الإنجيل، وكلهم كانوا على استعداد للمناقشة والمساجلة ومخاطبة النَّاس في أمر الدعوة، وأكثرهم واجه الموت في عمله لنشر الدعوة، ولم يحفل بمقاومة ذوي البأس والسلطان.

وقد استمالت الدعوة إليها في عصر المسيح وبعد عصره طائفة من المثقفين العلماء، مثل نيقوديمس عضو المجمع الأعلى، ومثل الطبيب لوقا صاحب بولس الرسول، ومنهم بولس الرسول نفسه، وهو أستاذ في فقه الدين عالم بالتواريخ، وأكثر هؤلاء المثقفين مالوا إلى الدعوة عطفًا على التلاميذ المجاهدين الذين نكلت بهم السطوة الغاشمة؛ لأنَّهم خارجون على نظام من العقيدة والعادة يحتقره أولئك المثقفون، ولا يجهلون فعل المحاسبة الروحية في تقويضه أو الإجهاز عليه.

•••

ومن المعاصرين من يحلو له أنْ يحسب السيد المسيح داعيًا إلى الفوضى السياسية متحللًا من النظام؛ لشدة إنحائه على الشريعة، والجامدين عليها، والمنافقين باسمها، وفاتهم أنَّ الشريعة الفاسدة في أيدي الجامدين أو المنافقين هي الفوضى في صورة أخرى، ومن يدحضها وينحى عليها لن يكون من الفوضويين، ولا أعداء النظام.

أما البيِّنة في الواقع على سخف هذا الحسبان فهو تنظيمه لتلاميذه، وترويضه لهم على الطاعة وإنكار الذات، وتقسيمه للأعمال في مجتمعه الصغير — مجتمع التلاميذ — بين أمين للصندوق، ومباشر لمطالب الجماعة، وراع يرعى القطيع في غيبة السيد، وهم فئة قليلة لا تجاوز العشرين مع حسبان التلاميذ، وغيرهم من الطارئين.

وأدخل من هذا في باب التنظيم أنَّه اختار أولًا اثني عشر تلميذًا، ثُمَّ اختار بعدهم سبعين وأوصاهم أن ينطلقوا بالدعوة اثنين اثنين في كل اتجاه، وأنَّهم حين عادوا من رحلتهم أخذهم ناحية في الجبل؛ ليستمع منهم، ويراجع أعمالهم، ويزيدهم من الوصية والإرشاد.

وقد جعل كل مناسبة للدعوة مناسبة لتعليم أولئك التلاميذ المختارين، وكان يُحذرهم على الدَّوام من الفتنة الموبقة التي يتحطم عليها نظام كل جماعة، وهي فتنة التنافس على الرئاسة، فعلمهم أنَّ الأول فيهم هو خادمهم الأول، وضرب لهم مثلًا فذًّا في تاريخ الدعوات؛ ليقوا جماعتهم غواية الرئاسة كلما ذكروه، فجمعهم في محفل؛ ليغسل أقدامهم بيديه، ونفر بعضهم أول الأمر، ولكنَّهم عادوا فأذعنوا حين علموا العبرة التي عناها بهذه القدوة، وقال الذين نفروا أول الأمر من هذا التقليد إنَّهم يودون لو يأمرهم بأنْ يُطيعوه في غسل الأيدي والرءوس.

وحصر جهده كله في تعويدهم «إنكار الذَّات» وهو فضيلة الفضائل في الأعمال العامة، فعلمهم أن يعملوا ولا ينتظروا جزاء على عملهم، ثم أذن لهم أن يقبلوا ضيافة البيوت التي يدخلونها لدعوة أهلها، ولكنَّه قال لهم: «لا تحملوا كيسًا ولا مزودًا ولا أحذية … وأي بيت دخلتموه فقولوا: سلام. وأي مدينة دخلتموها، ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى سبلها، وانفضوا غبارها من أرجلكم.»

وكرر لهم الوصية بالبساطة في العمل والكلام، فأمرهم «ألا يشغلوا بالهم كيف ومتى يتكلمون؛ لأنَّهم يلهمون في تلك الساعة ما يقولون، وليسوا هم المتكلمين، بل هو روح أبيهم يتكلم فيهم».

ولم يخفِ عنهم أنَّهم مُلاقون ويلًا من النَّاس، فليكونوا حُكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام، أمَّا إذا جدَّ الجدُّ فلا يخافُنَّ من يهلك الجسد، وليخافُنَّ من يهلك الروح.

وقد أثمرت رياضة الحب في تدريب هذا الجند الروحاني ما لا تثمره رياضة القسوة والصرامة في تدريب جنود القتال؛ فخرجوا يعملون وهم يعلمون أنَّ الوناء في أداء الأمانة يُصغرهم أمام أنفسهم، ويُصغرهم أمام الله، وليس أقسى على النُّفوس من الشعور بهذا الصغار.

وما هو إلا حان موعدهم ليعملوا وينتشروا في الأرض، حتى خرجوا إلى كل وجهة، وأبعدوا الرحلة في كل مكان معمور، فمنهم من وصل إلى جزر الهند الشرقية كالرسول تُوما، ومُنهم من وصل إلى سكيثية وآسيا الصغرى كالرسول أندراوس، ومنهم من شغل بنفسه في البلاد الأوربية، فأرسل صحابته إلى إفريقية الشمالية، وعمَّت الدَّعوة مصر وبلاد العرب والعراق، فضلًا عن الدَّعوة في فلسطين.

ولكنَّهم لم يحفلوا بخطاب أبناء اليهودية، كما حفلوا بخطاب «الأمم» في الجليل وآسيا الصغرى والإسكندرية، وأفادهم التمهيد الذي سبقهم به طوائف اليهود وأصحاب النِّحَل السِّرِّيَّة في تنظيم الدعوة، فعملوا كما كان يعمل الآسون والغلاة الغيورون، يخرجون اثنين اثنين، وينشرون الخلايا في كلِّ بقعة، ويحفظون الصلة بين تلك الخلايا بالمُراسلة والزيارة، وهنا يصح أنْ يُقال إنَّ الدعوة الجديدة استفادت من الدعوات التي سبقتها في العصر السابق لعصر الميلاد، ولا جرم يكون أكبر النجاح الذي أصابوه ملحوظًا في آسيا الصغرى والإسكندرية، حيث عُرف من قبل نظام الخلايا والسياح المتنقلين من الوعاظ.

كذلك يبدو أثر «الحالة العالمية» في انتشار الدعوة الجديدة من ظاهرة رائعة تكررت في كل أُمَّة، فقد كان المدعوون إلى الدِّين الجديد من جماهير النَّاس سراعًا إلى القبول، حراصًا على المعاونة والتأييد، ولم يصب الرسل خطر إلا من قبل «السلطة» الغالبة، حيث تصطدم عبادة القياصرة بعبادة الله.

وكان أشدهم حماسة لدينه يلجأ إلى المجاملة رجاء أنْ تُكسبه هذه المجاملة بعض المؤمنين الذين يُعرضون عن الدعوة إذا واجهتهم الصَّراحة بغير تقية، فكان بُطرس في أنطاكية يُجامل المحافظين، ويُعاشر أبناء الأمم كلَّما أحسَّ حوله بقوم من «آل يعقوب»، فوبخه الرسول بولس علانية، وحذَّره من مخالفة الدعوة في سبيل مرضاة النَّاس.

على أنَّ بُولس نفسه كان يتألف القلوب ببعض المجاملة، وكان كما قال في سفر كورنثوس الأول «… استعبدت نفسي للجميع لكي أربح الأكثرين، وصرت لليهودي كيهودي لأربح اليهود، وللناموسيين كالناموسيين، ولغيرهم كأنَّني بغير ناموس … صرت لكل كل شيء؛ لعلي أستخلص من كلِّ حالٍ قومًا …»

ومِنْ ثَمَّ — ولا شكَّ — خالط المسيحيين الأول أُناسٌ ممن تحولوا إلى المسيحية من الوثنية، ونقلوا معهم بعض عاداتها وشعائرها، وشملهم الأعضاء حينًا، لعلهم بعد هجر الوثنية يستقيمون على مناهج الدِّين الجديد.

ومن بدع القرن العشرين سهولة الاتهام، كلما نظروا في تواريخ الأقدمين، فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها، وصفات لا يشاهدونها، ولا يعقلونها، ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان، أو أعاجيب النقل والرواية، ولكنَّنا نعتقد أنَّ التَّاريخ الصَّحيح يأبى هذا الاتهام؛ لأنَّه أصعب تصديقًا من القول بأنَّ أولئك الدعاة أبرياء من تعمد الكذب والاختلاق، فشتَّان عمل المؤمن الذي لا يُبالي الموت تصديقًا لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب ويعلم أنَّه يكذب، وأنَّه يدعو النَّاس إلى الأكاذيب، مثل هذا لا يقدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أوَّل من يعلم زيفها وخداعها، وهيهات أنْ يُوجد بين الكذبة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون، فإذا كان المؤرخ الصادق من يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين إلى التصديق هو أنَّ الرسل لم يكذبوا فيما رووه، وفيما قالوا إنَّهم رأوه، أو سمعوا ممن رآه، وليس بالمخالف للمعهود في كل زمن أن يصدق الإنسان عيانًا ما يصدقه في قرارة نفسه، وبخاصة حين يُجمع الألوف على تصديقه، ولا يُوجد بين قائليه وسامعيه من يحسبه من المستحيل.

وليذكر أدعياء التمحيص في عصرنا هذا أنَّنا نطلب من الرجل في القرن الأول للميلاد أنْ يُكذِّب إنسانًا لغير سبب، وهو يطمئن إليه، ولا يتهمه بالتلفيق والاختلاق، ومن التَّكذيب لغير سبب في ذلك العصر أنْ يُبادر السامعون إلى تكذيب الرواة كلَّما تحدثوا عن المعجزات، فذلك شبيه في عصرنا هذا بمن يُكذِّب إنسانًا لأنَّه سمعه يتحدث عن ظاهرة فلكية وصناعية لا غرابة فيها، ولا سيما إذا كان المتكلم غير معهود فيه أنْ يتعمد الكذب والاختلاق.

إنَّ أسخف السخف أنْ يُقال إنَّ دينًا من الأديان قام على الأعاجيب والخوارق، إنَّ تصديق الخوارق والأعاجيب هو نفسه إيمان كأقوى الإيمان، وما خلت دعوة دينية قط من أحاديث هذه الخوارق والأعاجيب، ما يُعقل منها وما لا يُعقل، ولكن لم يحدث قط إقبال كذلك الإقبال الجارف الذي تلقَّى به النَّاس رسل المسيحية؛ لأنَّهم تلقوهم بنفوس مقفرة متعطشة، ونظروا أمامهم فرأوا قومًا مثلهم يُؤمنون غير مكترثين لما يُصيبهم، وغير متهمين في مقاصدهم، فأصغوا إليهم، وآمنوا كإيمانهم، ولولا ثقة المسيح — عليه السلام — بهذا الإقبال لما أوصى تلاميذه أن يذهبوا حيث يُستمع لهم، وينفضوا عن أقدامهم غبار كل بلد يتلقاها بالصدود والنفور.

١  الكلمة الآرامية «صفا» بمعنى حجر كما في العربية، وبطرس «بيتر» هي ترجمة الكلمة باليونانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤