المسيح

يدل علم المقارنة بين الأديان على شيوع الإيمان بالخلاص، وظهور الرسول المخلص في زمن مقبل، وظهر على عقائد القبائل الحمر في القارة الأمريكية أنَّ القبائل التي تؤمن بهذه العقيدة غير قليلة في الأمريكتين، وليس في هذا عجب؛ لأنَّ الرجاء في الخير أصل من أصول الديانة، والأمل في الصلاح مادة من مواد الحياة الإنسانية يبثها الخالق في ضمير خلقه، ويفتح لهم بها سبيل الاجتهاد في طلب الكمال والخلاص من العيوب.

وقد يشتد هذا الأمل حين تشتد الحاجة إليه، فكان المصريون الأوائل يترقبون «المخلص» المنقذ بعد زوال الدولة القديمة، وروى برستيد عن الحكيم إبيور Ipuwer أنَّ المُخلِّص الموعود «يلقي بردًا على اللهيب، ويتكفل برعاية جميع الناس، ويقضي يومه وهو يلم شمل قطعانه.»١

وقد كان البابليون يؤمنون بعودة «مردخ» إلى الأرض فترة بعد فترة؛ لقمع الفتنة، وتطهيرها من الفساد، وكان المجوس يؤمنون بظهور رسول من إله النور كل ألف سنة ينبعث في جسد إنسان، وقيل إنَّه هو زرادشت رسول المجوسية الأكبر الذي يرجعون إليه بتفصيل الاعتقاد في إله النور وإله الظلام، وقد تخلفت هذه العقيدة إلى ما بعد اليهودية والمسيحية والإسلام، وأشار إليها الجاحظ وهو يتكلم عن أستاذه إبراهيم بن سيار النظام حيث قال: «إنَّ السلف زعموا أنَّ كلَّ ألف عام يظهر رجل لا نظير له، فإذا صدق هذا الزعم كان النظام للألف عام هذه.»

أما الإيمان بظهور رسول إلهي يُسمَّى «المسيح» خاصة، فلم يعرف بهذه الصيغة قبل كتب التوراة وتفسيراتها أو التعليقات عليها، في التلمود والهجادا وما إليها.

ومرجع التسمية نفسها إلى الشعائر التي وردت في سفر التكوين وسفر الخروج، وما يليهما من أسفار الأنبياء، فإنَّ المسح بالزيت المبارك شعيرة من شعائر التقديس والتكريم، وأول ما ورد ذلك في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين، حيث رُوي عن يعقوب أنَّه «بكَّر في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه، وأقامه عمودًا، وصب زيتًا على رأسه، ودعا ذلك المكان بيت إيل — أي بيت الله.»

وجاء في الإصحاح الثلاثين من سفر الخروج أنَّ «الرب كلم موسى قائلًا: … وأنت تأخذ أفخر الأطياب … دهنًا مقدسًا للمسحة … وتمسح به خيمة الاجتماع، وتابوت الشهادة والمائدة وتقدِّسها، فتكون قدس أقداس، وكل ما مسها يكون مقدسًا، وتمسح هارون وبنيه وتقدسهم …»

وكان الأحبار والأنبياء يُسمَّون من أجل هذا مسحاء الله، وتنهى التوراة عن المساس بهم كما جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر الأيام: «لا تمسوا مسحائي، ولا تُؤذوا أنبيائي.»

وكان مسح الملوك أول شعائر التتويج والمبايعة، فكان شاءول وداود من هؤلاء المسحاء.

ثُمَّ أطلقت كلمة «المسيح» مجازًا على كل مختار منذور، فسُمِّي كورش الفارسي «مسيحًا» كما جاء في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا؛ لأنَّ الله أخذ بيده لإهلاك أعداء الإسرائيليين، وإقامة بناء الهيكل من جديد، وسُمِّي الشعب كله مسيحًا كما جاء في المزامير، وكتاب النبي حبقوق، ومنه: «خرجت لخلاص شعبك: خلاص مسيحك»؛ بمعنى الشعب المختار.

وتكررت في كتب «الهجادا» أو كتب التعاليم الإشارة إلى الرسول المنتظر باسم المسيح، فتارة يُطلق هذا الاسم على يوسف، وتارة على موسى — عليهما السلام — ولا يزال المؤمنون بالرسالة المسيحية من طوائف اليهود ينتظرون مسيحًا في صورة رسولٍ هادٍ أو صورة شعب مبرور؛ لأنهم لا يدينون برسالة عيسى ابن مريم — عليهما السلام.

وقد كان الإيمان بانتظار المسيح على أشده بعد زوال مملكة داود وهدم الهيكل الأول، فردد الشعب الإسرائيلي وعود أنبيائه بعودة الملك إلى أمير من ذرية داود نفسه، تخضع له الملوك، وتدين الأمم لسلطانه، ثم ترقى الإيمان «بالمسيح» بمعنى الملك إلى الإيمان بالمسيح بمعنى المختار، أو المنذور للهداية والصلاح، وبلغ هذا التحول غايته في بعض النبوءات، ومنها نبوءة أشعيا التي امتازت بتكرار هذه الوعود، فمن وصف القوة والبطش والصولة والصولجان، إلى وصف الدعة والتضحية والصبر على المكاره في سبيل التحذير والتبشير، وقد جاء في الإصحاح الثالث والخمسين من صفات الرسول المنتظر أنَّه «محتقر ومخذول من الناس، ورجل أوجاع وأحزان»، وجاء في الإصحاح التاسع من سفر زكريا: أنَّه «عادل، ومنصور وديع، يركب على حمار ابن أتان»، واتفقت أقوال كثيرة على أنَّه يأتي مسبوقًا برائد يُعلن مجيئه، وهو النبي إيليا (إيلياس) منبعثًا من الأموات.

وقد كان هذا الارتقاء في فهم الرسالة المسيحية يُصاحب أطوار الشعب الإسرائيلي في تاريخه المتعاقب، فيقوى الرجاء في المسيح الملك كلما ضعفت الدول المسيطرة على فلسطين، وهان خطب الثورة عليها، وتعاظم الأمل في استقلال رعاياها، ويعود الرجاء إلى «المسيح الهادي» كلما استحكم سلطان الغالبين، وبدا أنَّ الأمل في الخروج عليهم بقوة السلاح بعيد عسير، وهكذا تراوح تفسير الرسالة المنتظرة بين رجعة الدولة وبعثة الهداية على حسب أطوار التاريخ، فلمَّا دخلت فلسطين في حوزة الدولة الرومانية سنة خمس وستين قبل الميلاد، وأخذ الأمل في قيام الدولة يتضاءل، ويخلفه الأمل المتتابع في انتظار الرسول المخلص، والبعثة الروحانية، اقترن هذا التحول بظاهرتين تصطحبان حينًا وتفترقان، بل تتناقضان جملة أحيان، فعظم سلطان الهيكل وكهانه حين تحول السلطان القومي كله إليهم، وأصبح هذا السلطان ملاذ المتطلعين إلى كل رئاسة قومية تصمد للدولة الأجنبية، ومن النَّاحية الأخرى جنحت الضمائر المتعطشة إلى اليقظة الروحية جنوحًا متمردًا على القديم، مؤمنًا بانتظار البعث من غير جانب «الهيكل» وبقاياه، وما جمد عليه مع الزمن من الموروثات والمأثورات.

فلما بلغ الكتاب أجله، وحانت البعثة المرقوبة، كان المعسكران متقابلين متحفزين على استعداد.

١  صفحة ٧٩ من كتاب «نور الشرق القديم» لمؤلفه جاك فنيجان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤