مقدمة المترجم

أصول الفلسفة الإغريقية

بقلم  بارتلمي سانتهيلير

جمعت عمدًا بين هذين الكتابين في هذا السفر؛ لأنهما — كما يظهر لي — يعبِّران كلاهما عن أفكار من قبيل واحد؛ ففي أولهما يُعنَى أرسطو بإيضاح كيف تكون الأشياء وكيف تنتهي، خلافًا لمذهب وحدة الوجود ولا تغيره، وفي ثانيهما المناقشة بعينها موجهة مباشرة إلى ممثلي مدرسة إيليا: إكسينوفان مؤسسها، وميليسوس حافظ مبادئها حتى العهد الذي قام فيه سقراط يبدِّل بالتردد القديم فلسفة جديدة حاسمة. فالفكرة في الكتابين متماثلة، ولا فرق بين أحدهما وبين الآخر إلا في الشكل فقط؛ فهنا توضيح عام لمبدأ، وهناك نقض خاص للمبدأ المناقض. وسنعود بالاختصار في آخر هذه المقدمة إلى تقدير قيمة هذين الكتابين اللذين يستأهلان أن يعرفا أكثر مما هما الآن. ولكني أرغب بديًا في أن أبيِّن بقدر ما أستطيع من البيان ماذا كانت الحركة الفلسفية التي شاطر فيها إكسينوفان وميليسوس، سواءٌ في أحداثها أو في أتباعها.

إكسينوفان وميليسوس كلاهما من الأسماء البعيدة القدم. ومن الصعب لأول نظرة الاقتناع بأن درسهما يبعث اهتمامًا جديًّا هذه الأيام. هذان الفيلسوفان كانا يعيشان في القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، وعلى هذا المدى فليس إلا التنقيب وحده — فيما يظهر — هو الذي ما زال يوليهما العطف الذي انقضى زمانه، ويستقصي مذاهبهما المنسية منذ زمان بعيد. لست أقصد في الحق إلى انتقاد التنقيب، ولكني أدرك ما يُثِير ثائره من التحامل البادر عندما يتوغَّل في درس تلك الأزمان البعيدة؛ إذ تنعدم المراجع الوثيقة فلا يبقى لنا من أعيانها إلا آثار لا صور لها. على أني في هذا الموطن أكثر مما في سواه أسأل أن يُصغَى إلى التنقيب لحظة؛ فإن الموضوع الذي يحاوله فيما يتعلق بإكسينوفان هو موضوع من أهم موضوعات تاريخ العقل البشري وأكثرها حيوية.

إنه ليس أقل من أن يكون ميلاد الفلسفة في هذا العالم الذي نحن منه.

أما من جهة الفلسفة الشرقية فإننا لا نعرف، بل ربما لن نعرف أبدًا من أمرها شيئًا معينًا بالضبط فيما يختص بعصورها الرئيسية وانقلاباتها، فإن أزمنتها وأمكنتها وأهلها تكاد تعزب عنا على سواء. إنها مستعصمة دون إدراكنا، مدعاة للشكوك لما يغشاها من كثيف الظلمات، حتى لو عرفنا منها هذه التفاصيل مع الضبط الكافي لما أفادنا ذلك إلا من جهة إرضاء رغبتنا في الاطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيرًا. إن الفلسفة الشرقية لم تؤثر في فلسفتنا، ومع التسليم بأنها تقدمتها في الهند وفي الصين وفي فارس وفي مصر، فإننا لم نستعر منها كثيرًا ولا قليلًا، فليس علينا أن نصعد إليها لنعرف من نحن ومن أين جئنا، والأمر على الضد من ذلك مع الفلسفة الإغريقية، إننا بها نتصل بالماضي الذي منه خرجنا، وعلى الرغم من عماية الكبرياء التي هي في الغالب جانية الكفران يجب علينا ألا ننسى أبدًا أننا أبناء إغريقا. إنها أمنا في جميع أمور العقل تقريبًا، فلئن ساءلنا أوائلها فإنما نسائل أصولنا، فمن طاليس، ومن فيثاغورث، ومن إكسينوفان، ومن أنكساغوراس، ومن سقراط، ومن أفلاطون، ومن أرسطوطاليس إلينا لا يوجد إلا فرق الدرجة. نحن جميعًا في طريق واحد مستمر من قرون عديدة، ومتصل بلا انقطاع، لا يتغير اتجاهه، بل يصير على مرور الزمان أكثر طولًا وأبهى جمالًا. والظاهر أننا لا نخجل من الانتساب إلى أمثال هؤلاء الآباء، وكل ما علينا هو أن نبقى حقيقين ببنوتهم بأن ندرج على سننهم.

قد أمكن القول — لا من غير حق — بأن الفلسفة ولدت مع سقراط،١ والواقع أن لهذا الرجل العجيب من المقام ما يسمح بأن يسند إليه هذا الشرف العالي، بأن يقرن اسمه بهذه الحادثة الكبرى. ولكن سقراط بتواضعه المعروف ما كان ليقبل هذا المجد؛ فإنه كان يعلم أكثر من كل إنسان أن الفلسفة قد كانت تنشأ من قبله بنحو قرنين إلى أن جاء فأفاض عليها قوة وجمالًا لم يفارقاها بعده. لم يكن مولد الفلسفة في آتينا، بل في آسيا الصغرى؛ لأنه يجب تأخير هذه الحادثة مائتي عام إلى الوراء تقريبًا، إلا أن تُمْحَى من التاريخ تلك الأسماء العظام الأولى التي ذكرتها. إن التقدم الذي افتتح سقراط بابه لم يكن إلا استمرارًا لا ابتكارًا وإبداعًا.

كل الأصول غامضة بالضرورة. يجهل المرء نفسه دائمًا في أول الأمر، وأن تعرف سنة هذه القرون الأولى مقرون بالشك الذي يلحق أيضًا الحوادث ذاتها التي مرت كأنها غير محسوسة. ومع ذلك إذا لم يلتزم هنا الضبط غير الممكن فإن أوائل الفلسفة اليونانية يجب أن تظهر لنا أجلى من أن يدعو للشك في أمرها سبب محسوس.

كان طاليس من ملطية، وقد حقَّقَ التاريخ وجوده في جيش أحد ملوك ليديا نحو آخر القرن السادس قبل المسيح. وبعده بقليل جاء فيثاغورث الذي بعد أن عاد إلى وطنه ستموس إثر سياحات طويلة فرَّ منه اتقاءً لظلم بوليقراطس الذي كان يضطهده، وذهب يحمل مذاهبه على الشطوط الشرقية لإغريقا الكبرى إلى سيبارس وقروطون. أما إكسينوفان فإنه لأسباب أشبه بالمتقدمة نزح عن كولوفون وطنه الأول، ولما اجتمع ببعض المهاجرين من فوكاية، الذين هم بين أنياب الأخطار قد وجدوا آخر الأمر موئلًا على شواطئ البحر الترهيني في إيليا (هييلا أوفيليا)، أسَّس في هذه المدينة الحديثة العهد وقتئذ مدرسة شهرت ذكرها.

أصرف القول الآن إلى هؤلاء الثلاثة العظماء الذين كانوا جميعًا رؤساء مدارس خالدات، وإن كنا لا نعرف منها إلا الشيء القليل: مدرسة يونيا، ومدرسة فيثاغورث، ومدرسة إيليا، وعما قريب أستطيع أن أضم إلى هذه الأسماء طائفة من أسماء أخر، لا يستطيع تاريخ الفلسفة أن يُغفِلها كما لا يستطيع إغفال الأولى.

ولكني — لا لشيء غير الفكرة في أمر طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان — أشعر بأمر يسترعي نظري، أنهم ثلاثتهم من هذا الجزء من العالم الهليني الذي يسمى آسيا الصغرى، وأنهم تقريبًا متعاصرون. إن ملطية التي هي في القارة، وسموس في الجزيرة التي بهذا الاسم، وكولوفون في شمال إيفيزوس بقليل، تكاد لا تتجاوز الأبعاد بينها خمسة وعشرين فرسخًا.

على هذه المسافة الضيقة وفي وقت واحد تقريبًا تجد الفلسفة مهدها المجيد، لكيلا نخرج من هذه الحدود في المكان والزمان والموضوع نضيف إلى هذه الثلاثة الأسماء: طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان، أسماء أنكسيمندروس وأنكسمينس اللذين هما أيضًا من ملطية، وهيرقليطس الذي هو من إيفيزوس، وأنكساغوراس من كلازومين غربي أزمير قليلًا في خليج هيرموز. وأذكر اسم لوكيبس وديمقريطس اللذين ربما كانا من ملطية أيضًا أو من أبدير مستعمرة طيوس، واسم ميليوس الذي هو من سموس كفيثاغورث. وفوق ذلك أضيف إلى هذه الأسماء أسماء بعض الحكماء الذين هم أقل استنارةً من الفلاسفة، ولكنهم ليسوا أقل منهم احترامًا؛ فمنهم بطاقس من ميتيلين في جزيرة لسبوس، وهو رفيق سلاح للشاعر ألقايوس في محاربة الطغيان، وقد نادى به مواطنوه ديكتاتورًا عليهم فلبث فيهم عشرة أعوام يعمل صالحًا ثم نزل عن الدكتاتورية. ومنهم «بياس» من «بريينة» الذي لو اتبع الاتحاد اليوناني ما قدمه له من النصح لنجا كما ذكر هيرودوت. ومنهم إيزوبس الذي أقام طويلًا في سموس ثم في سرديس عند كريزوس، ذلك المولى الفريجي الذي لا ينبغي للفلسفة أن تنسى ذكره في عداد ذويها، والذي لم يستنكف سقراط من أن ينظم حكاياته شعرًا.٢

وأذكر كذلك أسباسيا من ملطية التي حدَّث عنها أفلاطون في كتابه المينكسين، والتي كانت تتحدث إلى سقراط، والتي كانت تعطي لبيركليس دروسًا في البلاغة كانت تؤلف منها أحيانًا الخطب السياسية، والتي خصص لها رفائيل محلًّا في مدرسته الآتينية.

من ذلك يرى أن تيديمان الأريب كان محقًّا حين كنى آسيا الصغرى ﺑ «أم الفلسفة ووطن الحكمة».٣ هذه الأحداث القليلة التي جئت على ذكرها والتي يمكن أن يضاف إليها كثير من أمثالها كافية في إثبات هذه الحقيقة. منذ الآن متى عرض حديث منشأ الفلسفة في عالمنا الغربي — بالمقابلة للعالم الآسيوي — عرفنا لمن هو ذلك المجد، وإلى من يجب أن يسند عدلًا.

يكفي قليل من النظر للعلم بأن من الممتنع أن تنمو الفلسفة بذاتها وحدها. من البديهي أن جميع عناصر العقل يجب أن تبلغ نماءها قبل التأمل؛ لأن التأمل المرتب على نمط معين لا يظهر إلا متأخرًا وبعد سائر الملكات الأخرى. وليس بي حاجة إلى التبسط في بيان هذه الحقيقة المشاهَدة في الأمم وفي الأفراد على السواء، وأقتصر على أن أقرر أن مجرى الأمور في آسيا الصغرى لم يكن مختلفًا عنه في غيرها؛ فإن الفلسفة على هذه الأرض المخصِبة لم تكن نبتًا منفردًا ولا ثمرة غير منتظرة. وقليل من الكلمات يكفي في التذكير بأنها كانت هي المنطقة المهيأة لهذا الإنتاج الشريف، وما عليَّ إلا أن أسرد أجمل الأسماء وأحقها باعتراف الناس.

في رأس هذه الطائفة اسم هوميروس الذي ولد وعاش يقينًا على شطوط آسيا الصغرى وفي جزرها قبل الميلاد بنحو ألف عام. وماذا عسى أن أقول في قصائده؟ وكيف أوفي عبقريته مدحًا وثناءً؟ كل ما أقرر هو أن هوميروس لا يقصر أمره على أنه أكبر الشعراء، بل هو أعمقهم فلسفة. وإن بلدًا يُنتج باكرًا أمثال تلك البدائع لحقيق بأن ينتج بعد ذلك عجائب العلم والتاريخ.

بعد هوميروس أقص نبأ قلينوس الإيفيزوسي الذي هو حربي مثل طورطايس، والذي شهد وقت إغارة القميريين وشدا بها في شعره، ثم الكمان السردي الذي حق له أن يعلم لقدمونيا وطن لوكورغس ويبهرها على ما بها من جفاء، وأرخيلوخس الباروصي وألقايوس اللسبوسي ذي الربابة الذهبية كما قال هوراس، وسافو الميتيلينية أو الإيريزية التي لا يكاد يستحق أحد الثناء أكثر منها إلا هوميروس،٤ ثم ميمنرمس الأزميري شاعر انتصارات يونيا على الليديين، ثم فوكليديس الملطي الذي حمل الشعر قواعد الأخلاق، ثم أناكريون الطوسي، وقريب من الشعراء تربندرس اللسبوسي مبدع الموسيقى وواضع طرائقها الثلاث الأصلية: الليدية والفريجية والدورية. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء أريون الشاعر الذي هو من لسبوس مثل تربندرس.

ذلك في الشعر. وكم إلى جانب الشعر من الكنوز التي لا تقل عنه في نفاستها وإن قلت عنه في البهاء: علم الفلك والجغرافيا أبدعهما أنكسيمندروس وسكولاكس من كاروندا على خليج يسوس. والرياضيات التي أبدعها فيثاغورث وتلاميذه أسلاف أرستارخس السموسي معلم أرخميدس وهيبارخس الرودسي. والتاريخ أبدعه أكسنطس السردي وهيكاتيوس الملطي وهيلانيكوس الميتيليني، وعلى الأخص هيرودوت الهاليكارناسي الذي لقب منذ زمان طويل أبا التاريخ، وبودي لو أعطيه لقبًا آخر لو وفقت إلى لقب أجمل من هذا وأدخل منه في الحق. والطب انتقل من جزيرة سموس إلى كورينا وقروطون ورودس وكنيدس قبل أن يقر قراره في قوص بفضل بقراط الذي لا يقل عِظَمًا في فنه عن هوميروس في شعره. وفن عمارة المدن أبدعه هيوداموس الملطي الذي كان مع ذلك كاتبًا سياسيًّا حلَّل مؤلفاته أرسطو في كتابه «السياسة» (ك٢ ب٥). وفن الحفر والصبِّ أبدعهما تيودور السموسي بن روكوس. وفن التعدين أبدعه الليديون … إلخ.

أقف هنا لكيلا نجاوز بهذا التعديد الجاف أبعدَ مما ينبغي، ولكنه يجب التنبيه إلى أن هذا الخصب البالغ حدَّ الإعجاز لم ينتهِ بانقضاء تلك الأزمان التي ذكرناها؛ فإن تيوفراسط هو من إيريزا، وأبيقور رُبِّيَ في سموس وكولوفون، وزنون فخر الرواق ولد في كتيون من قبرص، وإيفورس من كومة، وتيوبومبس من شيوز، وبرهاسيوس وأبيلس من إيفيزوس وكولوفون، وإسترابون من أماسية على الجسر (البحر الأسود) مستعمرة إحدى المدن اليونانية من الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى … إلخ إلخ.

تلقاء هذا المجد السامي الذي لم يمحه ما ظهر بعده لا يسعني إلا أن أقف مأخوذًا أتساءل: هل عرف الناس أن يوفوا هذه العبقرية وهذا الكمال وذلك الإبداع حقوقها من الإعظام؟ لا أظن ذلك، وتلك في رأينا داعية إلى تعديل تاريخ هذه المستعمرات الإغريقية من آسيا الصغرى في بعض أجزائه على الأقل؛ تلك المستعمرات التي نَدين لها بكل شيء. ولكني إذا قربت هذا العمل وحاولت هنا عجالة فذلك لا لأرفع ظلمًا مرت عليه القرون لضيق دائرة موضوعي، بل ليحسن فهم الناس لتلك الحركة الخارقة للعادة والتي هي فذة في تطور العقل الإنساني، ولأبين حق واضعي الفلسفة وآباء العلم.

لذلك أعرض — دون مجاوزة الحدود المشروعة — ماذا كانت هذه المستعمرات التي نزحت من إغريقا على شواطئ آسيا الغربية قبل المسيح بأحد عشر أو اثني عشر قرنًا، وماذا كانت الحوادث السياسية الرئيسية التي اعتورت تلك الأصقاع مدة قرنين اثنين من عهد إكسينوفان إلى ميليسوس، ومن طاليس إلى حرب بيلوبونيز. وسنرى أن فلاسفتنا أخذوا بقسط وافر من هذه الحوادث، بل صرفوها في بعض الأحيان مع أنهم في الغالب كانوا لحرِّها صالين.

وإني راجع في كل ما أقدم من القول إلى هيرودوت وطوكوديدس وإكسينوفون وما حفر على رخام باروص أو رخام آرونديل.٥

كانت المستعمرات الإغريقية على شواطئ آسيا الصغرى مقسمة إلى ثلاثة أجناس متميزة تؤلف اتحادات منفصلة: الأيوليون في الشمال، واليونان في الوسط، والدوريون في الجنوب. يقطن هؤلاء وهؤلاء أوطانًا متقاربة المساحة؛ فأما الأيوليون الذين هم أول من هاجر من الوطن الأصلي المشترك فإنهم حطوا رحالهم واستوطنوا آسيا بعد فتح طروادة بقرن تقريبًا إذ طُرِدوا من بيلوبونيز عند إغارة الهيرقليديين، وأما اليونان فقد جاءوا بعدهم بأربعين سنة تقريبًا، وأما الدوريون فكانوا آخر المهاجرين.

كان الأيوليون الذين هم أقل الشعوب الثلاثة شهرة وأضعفها امتيازًا يقطنون اثنتي عشرة مدينة؛٦ وهي كومة فريكيون، ولاريسافريكيون، وليونتيكوس، وطموس، وكيلا، ونوسيون، وإيغيروسا، وبيطاني، وأيغاي، ومورينا، وغروناي وأزمير، ولكن هذه المدينة الأخيرة قد نزعت من أيديهم وأضيفت إلى الاتحاد اليوناني بفضل الذين نفوا من كولوفون والتجئوا إلى أزمير واستولوا عليها في غفلة من أهلها. وقد ضاع من أيدي الأيوليين أيضًا بعض المدن الأخرى التي أسسوها على جبال أيدا. وكان لهم خارج القارة خمس مدائن بجزيرة لسبوس، وواحدة بجزيرة طندوس، وأخرى في مجموع الجزر الصغيرة التي كان يطلق عليها اسم مائة الجزيرة منذ زمان هيرودوت. ولم يكن للمدائن الأيولية من الاسم إلا الخمول، وكانت أرض أيولس أحسن من أرض يونيا، ولكن جوها كان أقسى من جو الأخرى خصوصًا في سرعة التقلب.

وأما اليونان فكان لهم اثنتا عشرة مدينة كلها على التقريب مشهورة، وهي: ملطية وميوس وبربينة في قاريا، وإيفيزوس وكولوفون وليبيدوس وطيوس وكلازومين وفوكاية في ليديا وإيروطراي على اللسان الذي يكونه جبل ميماس. وكان لهم جزيرتان: سموس في الجنوب، وشيوز في الشمال، ومن الغريب أن اليونان كان لهم أربع لهجات متباينة جد التباين: لهجة سموس، وكانت لا تشابه واحدة من الثلاث الأخرى، وملطية وميوس وبريينة كان لها ثلاثتها لهجة واحدة، وللمدن الست الأخرى لهجتها، وكان أهل شيوز وإيروطراي يتكلَّمون بلسان واحد.

أما الدوريون الذين جاءوا بعد الآخرين فكان قرارهم في الجزء الجنوبي، وليس مدق الدوريون لهم إلا ست مدن نزل عددهم إلى خمس بعد قليل، وهي: لندوس، وياليسوس، وكاميروس في جزيرة رودس، وقوص، وكنيدس، وهاليكارناس. على أن هذه المدينة الأخيرة قد عزلت عن الاتحاد الدوري عقابًا لها على أن أحد أهلها كان اتهم بانتهاك بعض الحرمات المقدسة.

كل واحد من هذه الاتحادات الصغيرة كان له معبد جامع مشترك يجتمعون فيه؛ فللدوريين معبد طريوبيون، ولليونان معبد نبتون هلليكوني على رأس موكالي في مواجهة سموس تقريبًا، وفي هذا المعبد كان يجتمع مجلس الاتحاد اليوناني المسمى بأنيونيون، والذي كان يرأسه دائمًا شاب من شبان بريينة، ولا يعرف بالضبط معبد الأيوليين. كانت هذه المعابد لإقامة الأعياد الدينية عادة، غير أنهم في الظروف الخطيرة كانوا يتداولون فيها في أمر أخطار الحلف وفيما يمس منافعهم الكبرى.

لم تك هذه المستعمرات لتشغل جغرافيًّا إلا مساحة ضيقة. فلو أن شهرة المدائن والممالك كانت تقاس بمقدار امتدادها لظلت هذه المستعمرات مجهولة في التاريخ؛ فإن مساحة المستعمرات الأيولية واليونانية والدورية لا يكاد يتجاوز مجموعها٧٠ فرسخًا في الطول على ١٥ أو٢٠ فرسخًا في العرض؛ أي أقل من ثلاث درجات في خطوط الطول وأقل من درجة في خطوط العرض. ومساحة لسبوس خمسة عشر طولًا على خمسة عرضًا، وسموس لا يبلغ محيطها ٣٠ فرسخًا، وشيوز أكبر منها قليلًا.

ومن الطبيعي أن أهتم بأمر اليونان أكثر من الآخرين؛ فإنهم كانوا أكثر نشاطًا وحذقًا في الملاحة والتجارة والسياسة والفنون والعلوم والآداب. ومن الأمم كثيرة العدد من كان أثرهم أقل ألف مرة من أثر اليونان.

لما ترك اليونان أشاية الواقعة شمال بيلوبونيز على خليج كرسا، كان لهم فيها اثنتا عشرة مقاطعة أو مدينة، واستصحابًا لتذكار وطنهم الأول لم يشاءوا أن يؤسِّسوا في آسيا من المستعمرات عددًا أكثر مما كان لهم في إغريقا. ولما طردهم الدوريون الذين أغاروا على بيلوبونيز من الشمال اجتازوا برزخ كورنتة، واحتموا إلى أجل ما على الأقل في أطيقا، وهي الملجأ العادي لجميع المنفيين كما نبَّه إليه طوكوديدس في مقدمة تاريخه. وعما قليل ضاقت أطيقا القليلة الخصب ذرعًا بأهلها، واضطر نازحو أشاية إلى البحث عن ملجأ آخر. وصادف وقتئذ أن قدروس مات ميتة الأبطال دفاعًا عن وطنه، ولما أُلْغِي نظام الملوكية لم يتيسَّر لأبنائه أن يقيموا في بلد انقطع فيه رجاؤهم من ميراث أبيهم، فرأسوا المهاجرين في هجرتهم؛ فأما نيلاوس فولى وجهه شطر ملطية، وأما أندركلوس فاتجه إلى إيفيزوس، ولو صدقنا رخام باروص لقلنا إن نيلاوس هو الذي أسَّس المدائن الاثنتي عشرة اليونانية وأسَّس رابطة اتحاد تحت ظل الدين هي البانيونيون الذي لم يكن بعدُ من القوة على ما كان يرجو مؤسِّسه.

يظهر أن المهاجرين الذين اقتفوا آثار ابني قدروس كانوا خليطًا ولم يكونوا من صميم اليونان كما يمكن أن يظن؛ فإن الذين أتوا من أشاية إلى أطيقا اختلطوا فيها بأجناس مختلفة مختلطة جدَّ الاختلاط، ليس بينهم وبين اليونان جامعة مشتركة بل لا يشابه بعضهم بعضًا، إنما كانوا أبانطة من أوبويا، ومنجينيين من أرخومنوس، وقدميين، ودريوبيين، وفوكيين، ومولوس، وأرقديين، وبلاسجة، ودوريين من أبيدورس، وطائفة من أجناس أخر. وكان كل هؤلاء الرحل يعامل بعضهم بعضًا على حد المساواة، ومع ذلك كان اليونان الذين هم من نسل شيوخ آتينا يعتبرون أشرف هذا الخليط وإن كان ذلك لم يستتبع أية مزية عملية. وإن تلقيبهم بلقب «اليونان» كان في ذلك الحين وفيما بعده أيضًا قليل الرفعة؛ فكان الآتينيون يخجلون منه، وكان الملطيون في أوج قوتهم يحبون أن ينفصلوا من بقية هذا الاتحاد الذي كان دائمًا قليل الاحترام. وأما اليونان فكانوا من جهتهم أيضًا يفخرون بأصلهم، ويقيمون مثابرين الأبتوريا الآتينية، تلك الأعياد الخاصة بالعائلة وبرابطة الأخوة الشعبية التي كانت موجودة في آتينا، ما عدا أهل كولوفون وإيفيزوس فإنهم حرموها على أثر قتل حرام ارتكبوه.

لم تكن المهاجرة هينة ولو أنه كان يرأسها أبناء ملك، فلم يحمل المهاجرون إلى ملطية معهم نساءهم، واتخذوا زوجات بالإكراه، بل عمدوا إلى القاريين فذبحوا منهم الآباء والبعول والأولاد، واستحيوا النساء واتخذوهن زوجات لهم، ولكنهن انتقمن لأنفسهن فأقسمن الأيمان على ألا يطعمن مع غاصبيهن طعامًا ولا يدعونهم أزواجًا؛ حتى لا يذقنهم حلاوة هذا الدعاء، واستنت بناتهن هذه السنة مع أزواجهن عدة أجيال.

والواقع أن البلد الذي احتله المهاجرون كان محتلًّا قبلهم زمانًا طويلًا؛ فقد كان فيه — غير أهليه — خليط من البلاسجة والتوكريين والموصيين والبيثونيين في الشمال، ومن الفريجيين والليديين والمايونيين في الوسط، ومن القاريين والليليج … إلخ في الجنوب. وكان هؤلاء قبائل منقسمين على أنفسهم أكثر مما هو الشأن في الإغريق، ولو أنهم كانوا يقربون القرابين بالاشتراك، مثال ذلك قرابينهم إلى «مولاسا» في معبد «المشتري» القارئ. في أوائل الأمر لم تكن الممالك التي كمملكة ليديا قد اتخذت نظمها بعد، ولو أن الليديين لما زحزحوا بعد ذلك إلى الوسط نشروا سيادتهم بادئ الأمر على تلك الجهات إلى الشواطئ، وبعثوا منهم طوائف المستعمرين إلى إغريقا الكبرى وإلى أمبريا وعلى شواطئ البحر الترهيني.

وأما الموصيون الذين كانوا إلى شمال ليديا وغربيها، فكانوا أنزع هذه الأمم إلى الحرب. والفريجيون الذين هم أكثر توغلًا في الجهة الشمالية من هؤلاء كانوا يُثْرُون من تربية القطعان، يبيعون من أصوافها وأجبانها ولحومها المملحة بأثمان غالية جدًّا في أسواق ملطية. وكان الليديون مشتغلين على الأخص بصناعة المعادن؛ لأن نصف أرضهم بركانية تخرج الذهب والفضة والحديد والنحاس … إلخ. وكانت أخلاق الفريجيين والليديين أخلاق تهيُّب وحياء، ومن بلادهم يأتي أكثر العبيد.

ومع أن اليونان جاءوا إلى آسيا بالبحر، فلم تكن تظهر عليهم المهارة في فن الملاحة. وعلى قول طوكوديدس لم يكن تفوق البحرية اليونانية حقيقة إلا تحت حكم قيروش وابنه قمبيز، ومع ذلك فقد كان شأنهم أن أقبلوا بجد على أن يتلقَّوْا دروسًا عن الكورنتيين الذين كانوا وقتئذ أعلم الناس بإنشاء العمارات البحرية، وانتفعوا بتلك الدروس. على أنهم قد ألجأتهم الحاجة منذ بداية أزمانهم إلى التزام الشواطئ في ملاحتهم. كانت هذه المدائن التي تستجلب كل شيء من داخلية البلاد لا تستطيع أن تحصل على الثراء إلا بتجارة كبرى في الصادرات والواردات، فكانت كبنوك ومراكز معاوضات بين الأهالي والبلاد التي كان يأتي منها الأجانب، فلم يمضِ على هذه المدائن زمان حتى ظهرت ثروتها على صورة رائعة.

ولما ازدحمت بالسكان وفاضت بالثراء استطاعت أن تنشئ أساطيل قوية، وعمرت كل شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمال أفريقية حيث كان لصور وسيدون من قبل منشآت في إغريقا الكبرى وصقلية، وفي بلاد الغالة، وفي إسبانيا أمام عمد هيرقليس وفيما وراءها، وعلى الأخص في القسم الشمالي لبحر أيغاي وفي هليسبنتس، والبروبونتيد، بل في البحر الأسود الذي كان يسمى وقتئذ «الجسر»، حتى لقد قيل إن ملطية وحدها كان لها خمس وسبعون أو ثمانون مستعمرة.

هذا النماء الأول للمستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى — وعلى الخصوص المستعمرات اليونانية — غير معروف إلا قليلًا مع أنه استمر على الأقل ثلاثة قرون أو أربعة؛ فإن التاريخ لم يبتدئ حقًّا إلا حين دخلت المدائن الهلينية الحرب مع المملكة الليدية؛ أي حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، أعني من عهد حكم المرمنادة.

روى هيرودوت على طوله تاريخ جوجيس الذي ارتقى عرش ليديا بقتله قندولس ملكها، وهذه الحكاية ليس عليها إلا مسحة الصدق وإن كانت ليست مطابقة لرواية أفلاطون التي هي بالبداهة أسطورة؛ فإن غضب الملكة زوجة قندولس وغدر جوجيس عشيقها ليس فيه شيء من المستحيلات. وأما حكاية الخاتم فليست إلا أسطورة عامية وجدت بعد ذلك بكثير على صورة أخرى في «ألف ليلة وليلة». ولقد حدث أرخيلوخس — وهو معاصر لقندولس وجوجيس — عن ذلك العسكري الذي صار ملكًا، وعن إقدامه وظفره، في إحدى القطع الشعرية التي كان لا يزال يقرؤها هيرودوت.٧ وقد انتهت بموت قندولس العائلةُ الليدية الأولى التي تدعي أنها سلالة هيرقليس، والتي دام ملكها خمسمائة وخمسة أعوام مدة اثنين وعشرين جيلًا من عهد نصف الإله الذي وصلها بنسبة كبريائها، وكان جوجيس هو أول الدولة الثانية دولة المرمنادة.

افتتح جوجيس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد عهدًا جديدًّا؛ إذ أخذ يُغِير على المدائن الإغريقية ملطية وأزمير وكولوفون، وربما كان الحامل له على ذلك أنه أراد أن يبرِّر اغتصابه للمُلك ومطاوعة لبعض الضرورات السياسية، في حين أن ليديا كانت وقتئذ بينها وبين الإغريق — خصوصًا إغريق القارة — علاقات أقرب ما تكون إلى السلام.

وقد كان جوجيس، كسائر الإغريق في آسيا وفي غيرها، يعتقد وحي دلفوس ويخضع له. ولما كان محاطًا بالمكايد من كل ناحية منذ تبوُّئه العرش، وخائفًا من سخط الليديين الذين كانوا شديدي التعلق بالملك الذي ذبحه، أراد أن يدخل الإله في قضيته، فاستشاره وقدم إليه الهدايا الغالية. وقد أقر الإله هذا الغاصب القاتل على عمله، ولكن بوثيا كاهنة دلفوس كانت قد أنبأت بأن عائلة هيرقليس سوف ينتقم لها من شخص الولد الخامس من ذرية جوجيس. وكان هذا الخليفة الخامس هو كريزوس السيئ البخت المشهور بمصائبه أكثر من شهرته بكنوزه التي تضرب بها الأمثال. ولكن لم يك جوجيس في أوج ملكه ولا الليديون في سخطهم ليعبئوا بإنذار الكاهنة، وملك ذلك العسكري الزاني القاتل ثمانية وثلاثين عامًا آمنًا مطمئنًّا ما عدا حروبه مع مدن الشاطئ. والظاهر أن ملطية وأزمير وكولوفون سلمت له وخضعت لسلطانه.

وقد حكم أردوس خلف جوجيس أكثر منه أيضًا؛ أي مدة تسعة وأربعين عامًا؛ فاستولى على بريينة وهاجم ملطية بلا جدوى؛ لأنها استطاعت رد هجماته، وخلفه ابنه سدواتيس، فلم يمكث على العرش إلا اثني عشر عامًا ومات، وكانت سنوه الست الأخيرة كلها مشغولة بمحاربة ملطية كما كان يفعل أبوه. ولكن هذه المدينة التي لم يكن يستطيع أن يأتيها من البحر نجحت في الدفاع عن نفسها، على رغم أن عدوها كان يهمُك حرثها كل سنة، وكان دائمًا على قدم الاستعداد ليكرر هجماته المخربة. وفي كل مرة حاول الملطيون الحرب في العراء كانت هزيمتهم أمرًا مقضيًّا. وقد مزقهم العدو كل ممزق مرتين على أرضهم في ليمنيون وفي سهول مياندروس حيث صادف منهم غفلة وسوء احتياط.

وقد واصل أليات بن سدواتيس محاربة مدينة ملطية خمس سنين، وكان يظن وقوعها في يديه بالقحط وشيكًا لولا أنه استشار وحي دلفوس — كما كان يفعل أجداده — فجنح لعقد الصلح معها، وساعد على ذلك مهارة طراسوبولس طاغية ملطية وقتئذ؛ إذ أنبأه جلية الأمر صديقه برياندروس بن كوبسيلوس طاغية كورنتا، فأخفى عن سفير ليديا حقيقة الحال السيئة التي وقعت فيها المدينة من جراء الحصار، وأوهمه أن في باطن أسوارها من الأرزاق والذخائر ما لم يجتمع لها مثله من قبل؛ وبذلك انخدع أليات بما خبره به سفيره المخدوع وأمضى عهد ملطية في حين أنه لم يكن بينه وبين الاستيلاء عليها إلا القليل.

وقد استمر هذا السلام الذي يرجع الفضل فيه إلى الوحي ودهاء طراسوبولس زمانًا طويلًا، ومات أليات بعد أن حكم سبعة وخمسين عامًا حكمًا مملوءًا بالاضطراب. وفي هذا الزمن لم يقطع صلته الحسنة بكاهنة دلفوس، وقد اعتراه مرض طالت مدته، فلما برئ باستشارة الوحي قدَّم إلى إله دلفوس كأسًا جميلة من الفضة قاعدتها من الحديد فنية الصنع، صاغها جلوكوس الشيوزي مخترع ذلك النمط الحديث الذي بالغ الناس في الإعجاب به.

لم تكن حرب ملطية هي الوحيدة التي أجج نارها أليات، بل استولى على أزمير مستعمرة كولوفون، وهاجم مدينة كلازومين الواقعة على مسافة قليلة إلى الغرب في الخليج بعينه، ولكن كلازومين ردته عنها وحملته خسائر عظيمة. غير أن أليات أُلهِم التوفيق وخدم آسيا كلها خدمة حقيقية بأن حول قواه إلى محاربة القميريين الذين استولوا في عهد جده أردوس على تلك الولايات الآمنة المخصبة؛ فإنهم لما طردهم السيتيون الرحل من مواطنهم اضطروا إلى النزوح جهة الجنوب ونفذوا من قوقازيا وولوا وجوههم جهة الغرب، وجازوا هالوس، وتقدموا إلى قلب آسيا الصغرى، وكانوا قد دخلوا سرديس عاصمة ليديا على حين غفلة من أهلها وأحرقوها إلا القلعة القائمة على صخرة شاهقة يجري من تحتها نهر بكتول؛ فهي وحدها التي استعصت عليهم، ثم ردوا عن المدينة بعد ذلك، ولكنهم ظلوا يهددون الأمن: يخيفون السابلة، وينهبون الأماكن المجاورة، حتى طردهم أليات من آسيا الصغرى، ودحرهم إلى الشرق، وقذف بهم بين الأجناس السامية التي كانت حدود أوطانها تنتهي إلى هالوس، ومن يومئذ يظهر أن علاقته بهم صارت من السهولة والعطف بمكان.

لكن هذه العلاقات التي كانت بين ليديا وبين السيتيين هي التي جرت على آسيا الصغرى جيوش الميديين ثم جيوش الفرس الذين هم أشد بأسًا؛ فإن فصيلة من السيتيين لما طردوا من إقليمهم القاسي المناخ هبطوا إلى أرض ميديا في الشمال الغربي من نهر الفرات، فأحسن كواكزاريس — ملك الميديين — وفادتهم، ولم تقتصر حفاوته بهم على أن مكَّن لهم في وطنه، بل دفع إليهم صبيانًا من الميديين ليعلموهم لغتهم وليتعلموا في مدرستهم فن الرماية. ولكن بعض هؤلاء المتوحشين المقرَّبين من ملك ميديا غاظهم منه شدة في قولٍ وجَّهه إليهم، فشفوا غليل صدورهم من هذه الإهانة بأن قتلوا الصبيان الذين هم في رعايتهم، واحتموا بمعية أليات ليتَّقوا شر العقاب الذي كانوا يتوقعون، فطلب كواكزاريس تسليم الجناة وأبى ملك ليديا تسليمهم، ومن ذلك قامت بين الليديين والميديين حرب لم تخبُ نارها خمس سنين أو أكثر. وهذا السبب كان تافهًا جدًّا، بل يظهر أن الخلاف قام على سبب آخر؛ لأن المملكتين متجاورتان، والاحتكاك بين أمم ما زالت متوحشة مثار خلاف لا يتقى.

هنا أستوقف النظر لحادثة في غاية الخطر من حيث تاريخ تلك الأمم ومن حيث تاريخ علم الفلك ومن حيث تاريخ الفلسفة جميعًا: كانت تلك الحرب في سنتها السادسة، والتقى الجمعان وجنودهم على أشدِّ ما يكون التحام بين المحاربين، وإذا بالشمس قد كسفت فغشيهم ليل مظلم اضطرهم إلى وقف القتال. ليس في هذه الحادثة ما يبعد احتمال وقوعها، وليس من الغريب أن تأخذ ظاهرة من هذا النوع بالعقول مأخذًا عميقًا، غير أن هيرودوت الذي حفظ لنا ذكرها زاد على حكايتها أن طاليس الملطي كان قد تنبأ بهذا الكسوف الشمسي ونبَّأ اليونان به وبالسنة التي يقع فيها.٨

لا شبهة لديَّ في رواية المؤرخ تلك التي قد أفسحت من البحث محلًّا لنظريات كثيرة على غاية الخطورة؛ فقد بحث العلماء أخيرًا في حساب هذا الكسوف بالآلات الفلكية التي بين أيدينا الآن، والتي تكاد تكون معصومة من الخطأ رجاء تعيين تاريخ صحيح ثابت بين تلك الروايات المختلطة المشكوك فيها، ولكن لم يمكن الإجماع على أمر علمي محض ولا الاهتداء إلى الغرض المطلوب، فإن الأب بيتو قد حسب أن هذا الكسوف ينبغي أن يكون قد وقع في السنة الرابعة من الأولمبياد الخامسة والأربعين، يعني السنة ٥٩٢ قبل الميلاد.

وأما سان مارتان الذي هو آخر من عُني بهذه المسألة فإنه وجد أن كسوفًا كليًّا يرى في هالوس حيث ملتقى الجيشين لا يمكن أن يكون إلا في ٣٠ سبتمبر سنة ٦١٠ق.م (ر. مذكرات مجمع الرسوم الخطية والفنون الجميلة، السلسلة الجديدة، الجزء ١٢). وإذن يكون الفرق بين التقديرين ثمانية عشر عامًا. ويمكنني أن أسرد آراء آخرين من المؤلفين الحديثين ليسوا أقلَّ اختلافًا من السابقين. أما بلاين عند القدماء فإنه عيَّن هذا الكسوف بغاية الضبط في السنة الرابعة من الأولمبياد الثامنة والأربعين وفي السنة ١٧٠ من تأسيس روما.٩ وهذا التوافق المشكوك في ضبطه بين التاريخين يجعل ذلك الكسوف في سنة ٥٨٠ تقريبًا. ولست أريد الدخول في هذه التفاصيل؛ لأني لا أتطلع إلى إمكان الفصل فيها واستجلاء غوامضها، بل أقف عند حد الرجاء في أن علم الفلك يستطيع أن يضع رأيًا قاطعًا في هذه المسألة التاريخية.
أما المسألة الأخرى التي أثارت هذه الحادثة ثائرتها فهي: أيكون من الممكن أن طاليس حسب حقيقة هذا الكسوف وتنبَّأ به كما سمع بذلك هيرودوت؟ شكَّ المؤرخون الحديثون في ذلك. وفي هذه الأيام أنكر ج. جروت١٠ أن العلم كان وقتئذٍ من التقدم بحيث يسمح بنبوءات مثل هذه وحسابات علمية إلى هذا الحد. لا أبغي أن أعارض هذا المؤرخ وهو حجة، ولكني أنبه إلى أنه يؤخذ من رواية هيرودوت عينها — صادقة كانت أو كاذبة — أنه في زمانه؛ أي بعد طاليس بقرن تقريبًا كان الناس يعتقدون إمكان حساب الكسوف، هذا وحده يكفي في إثبات أن العلم كان متقدمًا إلى قدر الكفاية؛ فإن مثل هذا الفرض يشهد بتقدم هو غاية في الجد؛ لأنه لأجل أن يقبل العامي إمكان حساب الكسوف ويصدقه ويتحدث به لا بد من أن يكون العلماء قد وفوا الموضوع بحثًا.

ومما لا جدال فيه أيضًا أن شهرة طاليس بين تلك الشعوب كانت من الرفعة بحيث إنهم نسبوا إليه من غير تردد هذه المعجزة العلمية، ولقد قرر بلاين أن هيبارخس الرودسي أمكنه أن يضع فهرسًا لكسوف الشمس وخسوف القمر مدة ستمائة عام. وفي زمن هذا الكاتب الروماني لم تكن الحسابات الفلكية لتخطئ مرة واحدة، حتى قيل: «إن هيبارخس كان يحضر مداولات الطبيعة.» وكان هيبارخس بعد طاليس بأربعمائة عام تقريبًا، وربما كانت المسافة بين علم أحدهما وعلم الآخر متناسبة مع المسافة الزمنية بينهما؛ لأنه ليس في يوم واحد يمكن الوصول إلى نتائج علمية مضبوطة إلى هذا المقدار. فلست أرى من المستحيل في شيء أن طاليس في عهد أليات قد فتح باب علم بلغ به هيبارخس هذه الغاية البعيدة سنة ١٥٠ قبل الميلاد.

أعود إلى ما كنا فيه: بعد قليل عقد الصلح بين الليديين والميديين بوساطة سونيزيس ملك كيليكيا ولابينيوس ملك بابل، وزف أليات ابنته زوجة إلى أصطياغ بن كواكزاريس، وأقسم الطرفان على احترام المعاهدة. واتِّباعًا لعرف هذه الشعوب قد فصد سفراء الصلح من الجانبين أذرعهم ومصَّ كل فريق من دم الفريق الآخر. ولكن هذه المحالفة التي عقدت على أكمل ما يمكن من الإخلاص كانت طائر نحس على ليديا؛ إذ جرتها إلى حرب جديدة انكسرت فيها وفقدت وجودها.

ذلك أنه لما مات الملك أليات خلفه ابنه كريزوس الذي قدر عليه أن يكون آخر ملك لجنسه، وحقَّت بذلك نبوءة هاتف دلفوس. وكان كريزوس هذا الذي صار اسمه مرادفًا للغنى أميرًا من خير الأمراء الممتازين، ومع أنه كان شديدَ الإعجاب بكنوزه الوراثية التي جمعها أجداده الهيرقليون والميرمناديون لم يكن رجلًا مترفًا ولا ضعيفًا كما يبدر للذهن عادة، فما كاد يلي الملك حتى فكَّر في أن يتم عمل أسلافه ويُخضِع نهائيًّا جميع المدائن الإغريقية على الشاطئ، فتجنَّى عليها بعلل مختلفة حقًّا أو باطلًا بادئًا فتحه بإيفيزوس، وعما قريب أخضع إلى سلطانه كل المستعمرات؛ إذ قهر يونيا وأيولس جميعًا، ولكن كريزوس أحسَّ أنه لم يصنع شيئًا ما دامت الجزر خارجة عن قبضة يده، فجهَّز أسطولًا ليجاوز عليه بجيشه البحر، ثم عدل عن هذه الغزوة التي هي قليلة الجدوى عند أمةٍ كالليديين بنصيحة بياس البرييني، وفي رواية أخرى بنصيحة بطاقس الميتيليني؛ إذ جاء الحكيم إلى سرديس فسأله الملك عن ماجريات الحال في الجزائر، فأجاب بياس: «إن أهل الجزائر يتأهَّبون لمهاجمة سرديس في عشرة آلاف فارس.» فأجاب كريزوس: لتشأ السماء أن يركبوا هذا الشطط، فقال الحكيم: «أيها الملك، لك الحق أن ترغب في أن أهل الجزر يرتكبون خطأً كهذا، ولكن ما ظنك بما سيقولون من جانبهم عندما تأتيهم الأنباء أنك تفكر في غزوهم من طريق البحر؟» ففهم كريزوس الدرس على مرارته، وقنع بأن عقد عهد محالفة ومودة بينه وبين يونان الجزر.

لما ارتاح كريزوس واطمأنَّ من هذه الجهة بحث في بسط سلطانه إلى جهة الشرق وفي آسيا الصغرى، وعما قليل وضع يده على جميع الشعوب النازلة إلى هنا من نهر هالوس دون ما وراءه، وهم الفريجيون، والميزيون، والمارياندينيون، والخالوبس، والبفلاغونيون، وتراقيوثينيا، وبيثينيا، والقاريون، والبمفيليون، حتى الدوريون واليونان والأيوليون، ولم يُفلِت من قبضته إلا كيليكيا وليكيا في الجنوب.

وكان نهر هالوس هو أحد الثلاثة أو الأربعة الأنهر التي تحدد هذه البقاع المسماة آسيا الصغرى وترويها، فهو ينبع من جبال أرمينية ويسير من الشرق إلى الجنوب الغربي، وينفرج على نحو زاوية قائمة ليتَّجه من الجنوب إلى الشمال فيصب في البحر الأسود شرقي سينوب وطن ديوجين، وبعد نهر هالوس ثلاثة أنهر أخر عظيمة النفع لتلك الجهات تتقاسم بينها شبه الجزيرة، جارية كلها إلى الغرب وصابة في البحر الأبيض المتوسط يوازي بعضها بعضًا تقريبًا، وهي المياندرس الذي يصب في خليج ملطية، والقاوصترس في خليج إيفيزوس، والهرموز في خليج أزمير إلى الشمال الغربي قليلًا. وكان لكريزوس أن يفخر بأنه تفرَّد بالملك في آسيا الصغرى، وأنه وصل بالمملكة الليدية إلى حد من رفاهة العيش وقوة البأس لم يكن لها مثله من قبل، ولكن ذلك هو في الواقع كان السبب في خرابها.

في هذه الأثناء حصلت تغييرات وانقلابات عظيمة في الشرق وفي البلاد المجاورة للملكة الليدية المترامية الأطراف؛ فإن قيروش خرَّب مملكة أصطياغ صهر كريزوس، وقهر ملوك آشور، وعاهد ملك هرقانيا، وفكَّر في مهاجمة ليديا التي كان يظهر عليها أنها كانت متحدة مع أعدائه. وبعد أن بسط سلطانه على جميع البلاد شرقي نهر هالوس لم يكن هناك محل للتأخر عن عبور ذلك النهر، كذلك لم يكن لقوة الفرس الهائلة مدفع عن أن تمتد إلى البحر وأن تفتح شبه الجزيرة وكل ما تحويه من الشعوب، سواء في ذلك البرابرة والإغريق. ولقد أدرك كريزوس للحين خطر الموقف الذي يتهدده، فلما علم بهزيمة أصطياغ استكمل عدته للحرب بقدر ما يستطيع.

فما كاد يتعزى عن موت ابنه الذي قتل في حادثة في الصيد، ثم عزم على أن يقف تقدم الفرس بأن يحالف إغريق الشواطئ وجميع إغريق بيلوبونيز والغرب، ولهذه الغاية أرسل بادئ الأمر يستشير الوحي ليحصل على تأييد الآلهة والاعتقاد العام. وذهبت وفوده فعلًا إلى دلفوس ودودون، وإلى أباس في فوكيد، وإلى غار طروفو نيوس، ومعبد أنفياراوس، ومعبد البرنشيد على مقربة من ملطية، بل إلى معبد المشتري آمون نفسه، وكان كريزوس يريد أن يضع لهم بادئ الأمر أسئلة يختبر بها صدقهم ثم يستفتيهم بعد ذلك بصورة منظمة في المسألة الكبرى؛ مسألة الحرب مع الفرس التي كانت تُقْلِق باله، فوجد أن هاتفي دلفوس وأنفياراوس أكثر إخلاصًا، فحمل إليهما الهدايا الباهرة التي يمكن قراءة وصفها التفصيلي في هيرودوت الذي رأى بعض هذه النفائس الغالية في المحاريب.

وعندما قدم ملك ليديا تلك الهدايا الثمينة استشار الهاتفين في أمر الحرب، فكان جوابهما مبهمًا كله تورية؛ إذ قال: «إذا اشتبك كريزوس في الحرب مع الفرس خربت مملكة عظمى.» أيهما؟ أدولة الفرس أم دولة ليديا؟ لم يقل الإلهيان بالتعيين، ولكنهما نصحا لكريزوس أن خير وسيلة أن يتخذ حلفاء ونصراء من أقوى الشعوب الإغريقية، فعاود كريزوس هاتف دلفوس في هذه النقطة، فعيَّن له الهاتف اللقدمونيين من الجنس الدوري والآتينيين من الجنس اليوناني — يعني الهيلنيين والبلاسجة — فأوفد سفراءه إلى الأجزاء المختلفة لبلاد الإغريق يخطب ودهم فلم يجب دعاءه إلا اللقدمونيون الذين هم مائلون إليه لخدم أدَّاها لهم قبل ذلك. أما بقية الإغريق — وعلى الخصوص الآتينيين — فلم يدركوا حقيقة الخطر المقبل، ولم يجيبوا داعي ملك ليديا، واستنجد كريزوس — على ما يقول سيروبيديا — حتى بأهل مصر، ولكن من المشكوك فيه أن مصر وجهت لمساعدته مائة وعشرين ألف مقاتل كما يروي الرجل الطيب إكسينوفون.

ولقد أول كريزوس جواب الهاتف لمصلحته خطأً وأغار على كابادوس من أرض ميديا التي افتتحها قيروش قبل ذلك بقليل، وكان من الضروري له أن يعبر نهر الهالوس وهو في هذا المحل واسع المجرى، ووقع بذلك في صعوبة كبرى لم يتغلب عليها إلا بحذق طاليس الذي كان قد تبع الجيش الليدي في عدد غير قليل من مواطنيه، فإنه اصطنع جسرًا عريضًا فَصَلَ النهر إلى عدة فروع سهل اجتيازها، تلك هي الرواية التي وصلت إلى هيرودوت في حداثة عهدها. ولكن هيرودوت يظهر عليه أنه يعتقد أن الجيش عبر النهر بالبساطة على قناطر لم تنشأ في رواية العامة إلا بعد هذه الواقعة بزمان. ولما عبر كريزوس النهر استولى على المنطقة التي كانت تسمى بطيريا وخرَّبها.

سارع قيروش إلى لقاء الغائرين بجميع جيوشه ومن انضم إليهم من أهل البلاد، ولكن قبل أن ينازل الليديين أرسل إلى اليونان يستميلهم إلى التخلي عن جيش كريزوس، ولكن اليونان بقوا على عهدهم مع كريزوس؛ لاعتقادهم أن خيانة مخجلة لا تأتي إلا بالعار المجرد من كل منفعة؛ لأن الإغريق لا يستطيعون أن يقفوا وحدهم في وجه الفرس إذا سقطت ليديا في يده كما كانوا يتوقعون، وإن هزيمة عامة لكل أجناس الإغريق خير من العار ما داموا مصرِّين على ألا يسلِّموا بلادهم إلى الفرس لأول وهلة. ولما التقى الجمعان في سهول بطيريا شرقيَّ هالوس جَرَت بينهم حرب طاحنة استَعَرَت نارها طول اليوم إلى المساء لم يظهر فيها نصر نهائي لأحد الفريقين على الآخر.

ولكن أضرارها كانت على كريزوس أكبر؛ لأن جيشه مع بسالة قواده كان قليل العدد جدًّا بالنسبة إلى الجيش الآخر. ولما رأى قيروش ما مس جيشه من القرح لم يشأ أن يبدأ بالقتال في اليوم التالي؛ فانتهز كريزوس تلك الفرصة للتقهقر إلى سرديس، وعزم على أن يبلغ من الدفاع عنها غايته.

ثم استنجد حلفاءه وأمازيس ملك مصر ولابنطوس ملك بابل، واستنفر لقدمونيا لنصرته، واعتمد على أنه متى اجتمعت له هذه القوى كلها يجدد الكرَّة على جيوش قيروش في الربيع القادم، وجعل ميعاد حلفائه ونصرائه على تمام خمسة أشهر من يوم الدعوة في عاصمة ملكه. ولقد أصاب كريزوس الحكمة في هذه التدابير، ولكنه ارتكب خطأً جمًّا في صرف جنوده ظنًّا منه أن قيروش لا يستطيع أن يطلع على سرديس بجنده الذي نال منه القرح ما نال، وقد خاب ظنه؛ لأن قيروش احتفظ بجنوده وسار بهم بعد أن أخذوا قسطًا من الراحة إلى ليديا، فلم يلبث أن نزل السهل الفسيح القائمة فيه مدينة سرديس.

أما كريزوس وإن كان قد أُخذ على غرة فإنه لم تنحلَّ عزيمته، بل اعتمد على ما هو مشهور عن أهل ليديا من الإقدام خصوصًا كتائب فرسانهم، فإنهم كانوا مقطوعي النظير لمهارتهم في سوس الخيل وفي حسن استعمالهم الرماح الطوال التي كانوا يعتقلونها. ولكن قيروش من جهته قد فكَّر في تقليل قيمة تفوق فرسان العدو، فسيَّر في مقدمة جيشه جماله كلها التي لم تعتدْ خيل ليديا رؤيتها ولا رائحتها؛ فجفلت وصعبت رياضتها، فترجَّل الليديون وأبلوا على الرغم من ذلك بلاءً حسنًا، لكنهم بعد التحام هائل انهزموا فلم يجدوا لهم موئلًا إلا أسوار مدينتهم.

لما رأى كريزوس أنه محصور بجنود منصورة عجل إلى حلفائه وعلى الأخص اللقدمونيين، لكن هؤلاء بعد أن تأهَّبوا لنصرته حسب نص المعاهدة جاءهم نبأ سقوط سرديس عنوة في يد قيروش بعد حصار دام أربعة عشر يومًا ووقوع كريزوس في الأسر. لما وقع ملك ليديا التعس في أيدي أعدائه مثقلًا بالسلاسل وحكم عليه بأن يحرق حيًّا هو وبعض أبناء العائلات الكبرى الذين كانوا معه وسعرت له النار وكادت تصل إلى جسمه، رقَّ له قلب قيروش وأخذته الرحمة على هذا الملك البائس الذي كان يحتمل تصاريف القدر بالرضا والتسليم، والذي كان في هذه اللحظة الرهيبة يذكر نصيحة سولون له حينما وفد عليه وأقام في معيته. وكانت سن كريزوس وقت وقوعه في الأسر تسعة وأربعين عامًا حكم منها أربعة عشر عامًا منذ وفاة أبيه، وبقي بعد ذلك زمنًا طويلًا في معية قيروش مرافقًا ومعينًا له في غزواته.

إن تاريخ سقوط سرديس ليس أقل اضطرابًا من تاريخ كسوف طاليس. وأخذًا بما على رخام باروص تكون سرديس سقطت في السنة الثالثة من الأولمبياد التاسعة والخمسين؛ أي سنة ٥٣٧ قبل الميلاد. أما فريريت فإنه يقول إنه وقع في سنة ٥٤٥ أخذًا بشهادة سوسيقراط الذي استشهد به ديوجين اللايرثي في كتابه «حياة بيرياندر». وأما فولني فإنه أخره إلى سنة ٥٥٧ في كتابه «أخبار هيرودوت». وعلى كل حال فإن هذا التاريخ على خطره مَحُوط بالشكوك، ولا يزال محلًّا للتحقيق.

لما غلب الليديون على أمرهم أحست المدائن الإغريقية خطر مركزها، فعرض الأيوليون واليونان الطاعة على الشروط التي كانت بينهم وبين كريزوس، فرفضها قيروش مزدريًا إياهم، وذكَّر اليونان إعراضهم عنه حين خطب ودهم قبل ذلك ببضعة أشهر، فلم يبقَ لهذه المدائن إلا خوض غمار الحرب بعد ذلك الرفض المهين، فدعيت ندوتهم (البانيونيون) وحضرها أهل المدائن كلها إلا الملطيين الذين كانوا اتخذوا للحرب عدتها من قبل، ولكن حظ الجميع منها لم يكن أحسن من حظ مملكة ليديا.

من المحتمل أن يكون هذا الحين هو تاريخ النصيحة التي قدمها طاليس للاتحاد اليوناني؛ فإنه لبصره بالعواقب ارتأى ألا يكون للمدن اليونانية إلا جمعية واحدة تعقد في طيوس — لتوسط مركزها — على أن تحتفظ كل مدينة بنظمها الخاصة؛ لأنهم متى اجتمعت قواهم كانوا بالضرورة أقدر على مقاومة عدوهم المشترك؛ فإن الاتحاد وحده هو الذي ينجيهم ما دامت المنازعات الداخلية هي التي أضعفتهم. ولكن هذا الرأي السديد لم يكن ليطاع فيهم مع أنه لم يجئ بعد الأوان، فإن حال اليونان لم يكن بعدُ من السوء بحيث لا يمكن إصلاحه.

ولقد نصح لهم طاليس بعد ذلك نصيحة في وقت أشد حرجًا فلم تقابل إلا بما قوبلت به سابقتها من الإعراض، ثم نصح لهم بعد ذلك بياس البرييني — أحد أعضاء الندوة (البانيونيون) — أن يترك اليونان جميعًا آسيا ويتخذوا أسطولًا كبيرًا يركبونه إلى «سردينيا» حيث يؤسسون جمهورية قوية، وأبان لهم بيأس أنهم إن بقوا في آسيا لا يستطيعون أن يحموا حريتهم. يرى هيرودوت أن اليونان لو كانوا قرروا هذا القرار الباسل لصاروا أسعد الشعوب الإغريقية كلها، ولكنهم قنعوا بمفاوضة الأيوليين ليرسلوا سفراء إلى إسبرطة يطلبون باسمهم وباسم اليونان إعانة الجمهورية إياهم.

لم تشأ جمهورية إسبرطة أن تمدهم بقوة حقيقية، بل أرسلت رجلًا ثقة من رجالها يقال له «لقرين» إلى سرديس يطلب إلى الفاتح ألا يسيء إلى أية مدينة إغريقية ويهدده بسخط لقدمونيا، غير أن قيروش الذي ما كان يعرف إلى ذلك الوقت ما هي إسبرطة، أخذ يسأل بها وأعلن — وهو هازئ بهذه الشعوب التي يخالها متأنثة في أمورها — أنه أولى بها أن يشغلها الخطر المحدق ببلادها عن الخطر الذي يتهدد يونيا. في هذا الوقت دعا قيروش اختلاف الأحوال في بابل وبكتريان والساسيين بل وفي مصر أيضًا إلى التعجل بالسفر من سرديس إلى أقبطان، وخلَّف على المدينة فارسيًّا يدعى طابالوس، وجعل على نقل الكنوز التي جمعها ملوك ليديا منذ عدة قرون ليديًّا يقال له بكتياس.

انتهز بكتياس غيبة قيروش في حصار بابل، ووضع يده على الكنوز التي اؤتمن على نقلها، وانتبذ بها مكانًا بعيدًا على الشاطئ، ودعا الليديين إلى الثورة والانتقاض على قيروش، وألَّف بالمال جندًا سار به إلى حصر مدينة سرديس التي كان يحميها طابالوس، ولكن هذه الثورة لم تلبث حينًا حتى جاء مزاريس — أحد قواد قيروش — بالمدد، واضطر بكتياس إلى الهرب والاحتماء في «كومة»، فلما طلبه مزاريس همَّ الكوميون بتسليمه إليه بنصيحة هاتف البرنشيد، لولا رجل شجاع منهم يقال له أرسطوديقوس حمى النزيل ونجاه من الهلك واستحب عصيان الإله على انتهاك حرمات الضيافة في حق مستجير. ونجا بكتياس إلى ميتيلين حيث عادت لأهل كومة نخوتهم وأرادوا هم أيضًا حمايته، غير أن هذا السيئ الحظ قد أخذه الشيوزيون بالقوة من معبد مينرفا وسلموه إلى الفرس؛ لأن قيروش أمر بأن يحضر لديه حيًّا، وقبض الشيوزيون ثمنًا لهذا العار مقاطعة أطرنة الواقعة في ميزيا تجاه لسبوس، ولكنهم لم يسعدوا في هذه الأرض التي امتلكوها بذلك الثمن المخجل، فقد أكد هيرودوت أنه مر زمن طويل على أهل شيوز لا يستطيعون أن يقربوا للآلهة قربانًا ولا أن يضحوا بشيء مما كان يأتيهم من غلة ذلك البلد الملعون.

قسا مزاريس في التنكيل بالذين خرجوا على الملك في ثورة بكتياس، وكتب الرق على سكان بريينة وباعهم بالمزاد، وخرب بلا رحمة سهول مينادرس جميعها وأباحها لنهب عسكره، ولكن منيته صادفته أثناء هذا الانتقام، ولقد أراد الفرس بهذه الفظائع أن يغلوا أيدي المغلوبين عن الثورة، ولكن إغريق الشاطئ ومستعمرات أيولس ويونيا ودريدا لم يخفهم ذلك، بل أخذوا عدتهم واستجمعوا بأسهم إلى حرب غير متعادلة القوى ولا ملحوظ في نتيجتها إلا الفشل والخذلان.

بذلك يبتدئ العهد الثالث والأخير لتاريخ الإغريق في آسيا الصغرى؛ فإن العهد الأول لبث من وقت نزوحهم إليها إلى حكم جوجيس غاصب ملك ميديا، وهو أطولها؛ لأنه لا يقل عن ٥٠٠ سنة، والثاني الذي كان مملوءًا بالتنازع بين مدائن الإغريق ومملكة ليديا، ويمتد إلى هزيمة كريزوس وسقوط سرديس. ولم تكن قوة ملوك الليديين تلقاء قوة الفرس شيئًا مذكورًا؛ لأن الفرس كانوا أمة حزب ملكت جزءًا عظيمًا من آسيا، وتقدموا تقدمًا كبيرًا في فنون الحرب بفضل قيادة قيروش.

أما الذي خلف مزاريس على التنكيل بالثائرين واستمرار الفتح فهو رجل خليق بكل أنواع الفظائع واقتراف الدنايا يقال له هربغوس، اشتهر بعمل مقطوع النظير في الخسة حتى في معرض دنايا البلاط الفارسي، ذلك أن «أصطياغ» — ملك الميديين — كان قد أزعجته رؤيا، فكلف هربغوس أمينه أن يحتال لقتل الولد الذي ولدته حديثًا ابنته مندان من قمبيز، وكان هذا الحفيد المقصود بالوقيعة هو قيروش، فقبل هربغوس هذا الأمر، ولكنه لم يشأ أن يقتل الصبي بيده؛ فوكل ذلك إلى راعٍ أخذته الرحمة من توصيلات زوجته؛ فاستبدل صبيه الذي ولد ميتًا بالذي دفع إليه ليقتله، ودخلت هذه الحيلة على هربغوس، فلما استكشف «أصطياغ» خفية الأمر وعلم بكل ما جرى كظم غيظه، ولكنه انتقم من هربغوس شر انتقام، فأمر بقتل ابن هربغوس سرًّا، ودعاه إلى طعام قدم إليه فيه لحم ابنه فأكله، ثم أمر فأحضر رأس الغلام ويداه وقدمت أثناء المأدبة تحت غطاء إلى هربغوس، فلما كشف عنها الغطاء رأى هذا المنظر الفظيع فلزم السكينة، فسأله «أصطياغ» في ذلك فقال إنه تعرف اللحم الذي أكله، ولا يسعه إلا الثناء على الملك على ما تفضل به.

ومع ذلك فإن هربغوس قد أصر على الانتقام من «أصطياغ» بأن يثل عرشه من تحته؛ فحرض قيروش سرًّا على العصيان، ولم يصادف هذا الأمير الشاب عناءً في حمل الفرس على نبذ نير الميديين الثقيل، ولقد بلغت العماية «بأصطياغ» أنه لما جاء حفيده على رأس الجيش الفارسي أمر على الجند هربغوس الذي كان قد نكَّل به ذلك التنكيل، فلم يلبث هذا الأخير أن خانه وانخذل بالجيش، وقهر قيروش «أصطياغ» ولم يقتله، بل تركه يعيش في الخزي، وسقطت مملكة الميديين بعد أن أقامت ٣٢٨ سنة من ديجوسيزبن فراورط، وبقي هذا القسم من آسيا من يومئذ تابعًا للفرس الذين لم يحتفظوا به إلا أقل من تلك المدة حتى سقطت مملكتهم بإغارة إسكندر.

ذلك هو هربغوس الذي رمى به قيروش مدائن الإغريق ليُخضعها.

ولقد عُنيت بذكر هذه التفاصيل على شهرتها لأبين أي الأمم وأي الأخلاق سيكون ليونان الشاطئ علاقة بها.

أخذ هربغوس يبتكر طرائق لفتح المدائن، فكان كلما وصل مدينة أحاط بها ثم حفر حولها خندقًا يحصر أهلها فيضطرهم إلى التسليم؛ فبدأ بمدينة فوكاية، تلك المدينة التي كان لها اسم كبير في ذلك العهد، والتي تهمنا بوجه خاص جد الأهمية؛ لأن أحد فلاسفتنا (إكسينوفان) كان بها منذ نفي من كولوفون وهرب مع مواطنيه على الشواطئ البعيدة لبحر طرهينيا، ولقد كان أهل فوكاية أول من أزمع السياحات الكبرى المقرونة بالأخطار من جميع الجنس الهليني؛ فإنهم أول من علَّم الناس ما هو البحر الإدرياتيكي وبحر طرهينيا وأيبيريا وطورطايس، تلك الأصقاع السحيقة في حدود الأرض وراء عمد هيرقليس، وهم الذين حوروا طريقة صنع السفن فرغبوا عن السفن الغليظة المستديرة إلى سفن ذات خمسين صفًّا من المجاذيف، وهي المسماة «البانيكونتور». ولما كان لأهل فوكاية صلات مودة ومعاملة ببلاد طورطايس عرض عليهم أرغانتونيوس — ملك هذه الجهة — أن يهاجروا إليه إذا شاءوا أن يتركوا يونيا عندما هدد الفرس مدينتهم. ونظرًا إلى أنهم لم يكونوا قد عزموا على الهجرة بعد، أعطاهم حليفهم الملك مبلغًا عظيمًا من النقود ليساعدهم على إقامة سور منيع حول مدينتهم، فأقاموا هذا السور الواسع الامتداد من أحجار كبيرة محكمة الرصف جدًّا.

وقف هربغوس أمام هذا الحصن العظيم الذي لم يستطع النفوذ منه إلى داخل المدينة، وبقي محاصرًا لها حتى أرهق أهلها إرهاقًا، ثم عرض عليهم عرضًا يوافقهم، وهو أن يهدموا جزءًا من الحصن الأمامي تحتله الفرس إشارة إلى أن أهل المدينة أطاعوا؛ فطلب إليه الفوكيون الذين أعياهم الحصار جوابًا على هذا العرض هدنة يوم واحد، وأن يبتعد الجيش الفارسي عن مراكزه، فأجابهم هربغوس إلى ذلك مع توقعه ما سيحصل؛ فاغتنم الفوكيون هذه الهدنة وحملوا على السفن نساءهم وأولادهم وجميع ما يستطيعون حمله خصوصًا الأمتعة المقدسة التي جمعوها من المعابد، وسافروا إلى شيوز، فلما جاء الفرس في اليوم التالي وجدوا المدينة خلوًا ليس فيها أحد من أهلها.

كان الفوكيون قد رغبوا بادئ ذي بدء في أن يشتروا من أهل شيوز الجزر التي تسمى إينوزوس، لكن هؤلاء قد رفضوا الصفقة حتى لا يخلقوا لأنفسهم مزاحمين لا يستهان بأمرهم على مرافق التجارة، فاضطر الفوكيون إلى أن يوجهوا سفنهم نحو جزيرة قورسقة (المسماة وقتئذ سيرني)، حيث أسسوا فيها قبل ذلك منذ عشرين عامًا مدينة «علالية» بإشارة الهاتف، ولكنهم قبل أن يذهبوا إلى هذا المنفى النهائي رجعوا إلى فوكاية على غرة من حرسها الفارسي وذبحوهم، ومع ذلك فإن هذا العمل الجريء لم يمكِّنهم من البقاء في وطنهم القديم، بل ارتدوا إلى أسطولهم. وليثبتوا أنهم لن يتركوه ألقوا في البحر كتلة من الحديد، وأقسموا ألا يعودوا قبل أن تطفو هذه الكتلة الثقيلة على سطح الماء.

وعلى رغم هذا القسم زُيِّن لنصف النازحين أن ينزلوا إلى البر ويدخلوا فوكاية، وأما النصف الآخر الذي برَّ بقسمه فقد اعتمد على ألا يبقى تحت نير المتوحشين الذي لا يطاق، وأبحروا إلى قورسقة، فدخلوها آمنين وأقاموا كما يشتهون في سكينة مدة خمسة أعوام مع مواطنيهم الذين سبقوهم إليها قبل ذلك بسنين طوال. ولكن أهل طرهينيا وقرطجنة هاجموا الفوكيين، إما حسدًّا من عند أنفسهم، وإما اضطرارًا للكسب وحبًّا في السلب والنهب. ولم يكن لدى الفوكيين إلا ستون سفينة ضد مائة وعشرين لخصومهم، ولم يبرر لهم ذلك التردد في منازلتهم، بل ذهبوا يبحثون عن عمارات خصومهم في بحر سردينيا، وتحرشوا بهم وطلبوهم للقتال، ولكنهم خسروا في هذا الظفر ثلثيْ سفنهم؛ فرجعوا عجلين إلى «علالية»، واحتملوا عائلاتهم وأموالهم ليلجئوا إلى موئل آخر آمن من هذا.

والظاهر أن جزءًا من هؤلاء المهاجرين قد وقع في يد الطرهينيين والقرطجنيين فقبضوا عليهم وذبحوهم، وذهب الجزء الآخر إلى رغبوم في صقلية، ومن هناك اتجهوا إلى الشمال، وأسسوا على أرض أونتري مدينة إيليا الشهيرة بمدرستها الفلسفية التي شيدت فيها بعد تأسيسها بقليل.

في نحو هذا الحين لجأ إكسينوفان إلى إيليا هاربًا من كولوفون التي وقعت في قبضة الفرس، وانضمَّ إلى الفوكيين الشجعان الذين كانوا مثله يكرهون العبودية. من الواضح أن ما ورد في شعر إكسينوفان خاصًّا بإغارة الفرس الذين ما زال يسميهم الميديين، إنما يراد به واقعة هربغوس تلك لا حرب الميديين،١١ كما ظن ذلك أحيانًا. وقد يظهر أن تأسيس إيليا الذي شدا به إكسينوفان كما شدا بتأسيس كولوفون كان في سنة خمسمائة وست وثلاثين أو خمسمائة واثنين وثلاثين قبل الميلاد، بل قد يكون أدنى من ذلك، على كل حال فإنه قبل إغارة مردونيوس وداتيس على بلاد الإغريق بثلاثين سنة على الأقل، وليس عندنا ما يفيد أن إكسينوفان عاش إلى ذلك الوقت.

ولسنا نرى فيما حفظ لنا التاريخ من التفاصيل ماذا جرى على كولوفون بخصوصها، وهي من ليديا كمدينة فوكاية، ولكن المفهوم ضمنًا هو أنها وقعت فيما وقعت فيه فوكاية، وأن أهلها الذين لم يقبلوا حكم المتوحشين ركبوا البحر ليلجئوا إلى جهات أكثر طمأنينة. حق أن هيرودوت لم يذكر بعد أخبار الفوكيين إلا أخبار أهل طيوس الذين فعلوا مثل ما فعل أولئك، فحملوا ما قدروا عليه في سفنهم وقصدوا تراقيا حيث أسسوا مدينة أبدير، وقد كان سبقهم في الهجرة إلى تلك البلاد أحد مواطنيهم المدعو كلازومين.

أضاف هيرودوت إلى هذا أن بقية مدن يونيا خضعت لحكم الفرس بعد مقاومة عنيفة، ولا مانع من افتراض أن إكسينوفان كان أحد هؤلاء الأبطال الذين أثنى عليهم المؤرخ، والذين لم يلقوا قيادهم إلى الفرس إلا بحكم الضرورة، إلا الملطيين وحدهم فإنهم اتفقوا مع قيروش كما ذكر آنفًا، وبذلك احترم هربغوس حيادهم اكتفاءً بما شتت وأذلَّ من سائر يونان القارة. وأما أهل الجزائر فإنهم بوضعهم كانوا في مأمن من الغارة؛ لأن الفرس لم يكن لديهم بعد أسطول يطولون به الجزائر ويلقون على أهلها نير العبودية.

وأما يونيا وأيولس فإنهما أطاعتا غاية الطاعة حتى جند منهم هربغوس حين مشى إلى قاريا التي وقعت في قبضته بعد قليل. وأما الكنيديون فإنهم حاولوا الدفاع بالإسراع في قطع البرزخ الذي يصلهم بالقارة، ثم بدا لهم أن يستسلموا إلى الفرس أخذًا بنصيحة كاهنة دلفوس. وأما البيدازيون من ضواحي هاليكارناس فإنهم قاوموا حتى حين، ولكنهم قُهروا كما قُهر الليقيون الذين أبلوا بلاءً حسنًا في الدفاع عن وطنهم. وبذلك تم النصر لقيروش، وكان يستطيع أن يغتبط وهو سائر إلى إخضاع بابل بأن كل آسيا الدنيا ملك له إلى البحر.

كانت جزيرة سموس وقتئذ أقوى الجزر، ذات مركز سامٍ بما لها من الروابط بإغريقا وبمصر، وبينما كان قمبير المفتون بن قيروش يغزو مصر ليقضي على نفسه فيها كان بوليقراطس يحكم سموس، وقد مكن له فيها بحسن إدارته وقلة تحرجه ومبالاته، حتى جعل الجزيرة من الرخاء محسودة الوفر من كل نظائرها. وكان من أمره أنه أقام فيها ثورة انتهت باستيلائه فيها على السلطان هو وأخويه ينتنيوت وسيلوسون؛ إذ اقتسم الإخوة الثلاثة حكم المدينة لكل منهم قسم معلوم، ولكن يوليقراطس لم يلبث أن تخلَّص من أخويه؛ إذ قتل أحدهما وشرد الثاني، وخلص له الحكم، وأطاعه أهل المدينة. وقد أراد أن يثبت لنفسه الملك المغصوب فارتبط بأمازيس ملك مصر، وتبادل وإياه الهدايا النفيسة، ولم يمضِ عليه حين حتى نبه ذكره، وعمت شهرته بلاد الإغريق، وكان سعيد الطالع موفقًّا في مشروعاته إلى غاية المنى، وكان أسطوله مؤلفًا من مائة سفينة من ذوات الخمسين صفًّا من المجاذيف، وكان يبلغ عدد رماته وحدهم ألفًا.

ولم يكن مع ذلك ليرعى لجيرانه حرمة، بل كان يضرب عليهم الإتاوة بغاية الجرأة، وكان من مبادئه السياسية ألا يُبقي حتى على أصدقائه متى قضى الظرف إلا أنه كان يعوض عليهم بعد ذلك. وكان قد غزا عدة جزر حوالي سموس، بل عدة مدن في القارة، ولما ساعد اللسبوسيون الملطيين عليه حاربهم وقهرهم في وقعة بحرية، وسخر جميع الأسرى مصفدين بالأغلال في حفر الخندق العميق الذي كان يحيط بأسوار المدينة. وكان من نتائج ظلمه أن بعض أهل سموس هجروها من هول ما يلقون من الجور، واستجاروا بإسبرطة، فأبحر إليه اللقدمونيون في أسطول قوي، وحاصروا المدينة أربعين يومًا، ولكنهم ارتدوا على أعقابهم بفضل بأس بوليقراطس أو بفضل ماله.

وبقي هذا الطاغية مستبدًّا بالحكم مهيب الجانب لا يغلب على أمره، حتى إن من لم يريدوا من السموسيين الاستسلام لمظالمه لم يكن لهم وسيلة إلا الهجرة بعيدًا عن ملكه إلى حيث ينزلون منزلًا يرضونه. ولم يكن ليأمن على نفسه الطوارئ بذلك الخندق العميق الواسع، بل اتخذ نفقًا تحت الجبل سلك فيه إلى المدينة ماءً غدقًا، وبنى رصيفًا شاهقًا متقدمًا في البحر، جعل به المرفأ أكثر ملاءمة لرسوِّ السفن، ثم بنى معبدًا اشتهر بأنه أكبر المعابد المعروفة. وقد ذكر أرسطوطاليس أيضًا هذه الأعمال العظيمة التي عملها بوليقراطس.

وكان هذا الطاغية محبًّا للآداب والفنون، ويقال إنه أول من أنشأ مكتبة. وكان مثل ذلك في تلك القرون زخرفًا نادرًا كانت مصر وحدها هي صاحبة الإبداع فيه، وكان يؤوي إليه الشعراء، وكان أنقريون الطيوسي بعض جلسائه ومادحيه.

في صدد الكلام على عهد طغيان بوليقراطس هذا، ينبغي أن نورد خبر الصلات التي كانت لفيثاغورث به والتي لدينا عنها معلومات مضبوطة؛ فإن يمبليك وفرفريوس وديوجين لا يرث يلتقون في هذه النقطة، وليسوا بالضرورة إلا صدى كثير من المؤلفين الذين هم أقرب عهدًا بزمن فيثاغورث وكتبوا ترجمته، مثل أرسطوكسين الموسيقي — تلميذ أرسطو — وأبللنيوس الصوري وهرميب وديوجين وأنتيفون … إلخ. كان فيثاغورث بن منيزارخس يدلي بأمه إلى أكبر عائلات سموس، ويمكن أن يتصل نسبه بأنصي — مؤسس المستعمرة — ويظهر أن أباه قد جمع مالًا وفيرًا من تجارة القمح، وكان صوريًّا على رأي بعض المؤرخين، وطرهينيًّا على قول البعض الآخر، وكان يستصحب ابنه معه في سياحاته منذ حداثته؛ فطاف الصبي مع أبيه تلك البلاد التي عُني بدرسها بعد ذلك، فلما صار في سن التعلم، ورأى أبوه فيه مخايل وعليه سيما النجابة، وصله بأعلى الرجال امتيازًا في زمنه: طاليس — على ما يقال — وأنكسيمندر وأنكسيمين الملطي وفرقليد السيروسي. وقد عرف فيثاغورث فينيقيا وهو شاب؛ إذ صحب أباه إليها، ولما أراد السفر إلى مصر زوَّده بوليقراطس بكتاب توصية إلى أمازيس، وذلك يُثبت أن رأي فيثاغورث في بوليقراطس وقتئذٍ على الأقل لم يكن كرأيه فيه بعد ذلك.

لم تكن مدة إقامة فيثاغورث بمصر محلَّ اتفاق في التاريخ، فمن مترجميه — مثل يمبليك — من حدَّدها باثنين وعشرين عامًا، وإن كان ذلك قليل الاحتمال. لما أسر عسكر قمبيز فيثاغورث سيق إلى بابل، وهناك اتصل بالمجوس كما اتصل بكهنة مصر مدة إقامته بها؛ إذ كان محل إعجاب بذكائه ورجاحة عقله وحسن روائه. ولما رجع إلى وطنه وهو متقدم في السن؛ أي كانت سنه ستًّا وخمسين سنة على قول يمبليك، فتح فيه مدرسة، وظل السموسيون الفخورون بمواطنهم يعقدون مداولاتهم السياسية قرونًا عدة بعد ذلك في مجلس نصف حلقي مسمى باسم فيثاغورث.

وقد قال أرسطوكسين: إن فيثاغورث لما ترك سموس فرارًا من ظلم بوليقراطس لم يكن يتجاوز من العمر أربعين سنة، وربما كان قوله أوجه؛ لأنه أقرب عهدًا إلى هذه الأحداث من يمبليك، ومن المحتمل أن يكون أعلم بها منه ما دام أنه تلميذ أرسطو الذي كان يشتغل كثيرًا بفلسفة فيثاغورث. وأما شيشيرون فإنه ذكر في كتابه «الجمهورية»: أن فيثاغورث وصل إلى إيطاليا في الأولمبية الثانية والستين؛ أعني في سنة ٥٢٨ قبل الميلاد؛ أي في السنة التي جلس فيها طرخان العظيم على العرش. ولما كان شيشرون (على لسان سيبيون) يقصد إلى تصحيح خطأ تاريخي شائع، فمن المراجع أنه يعرف حق المعرفة صحة ما ذكر، وأنه غير مخطئ.

ومهما تكن حياة فيثاغورث محجوبة عنا مع ما كان من اشتغال كثير من الكتاب الأقدمين بها، فالظاهر أن من المحقق أنه هاجر من سموس المحرومة الحرية ليجد بلدًا في إغريقا الكبرى لا تشمئزُّ فيه نفسه من مشاهد الظلم، ويستطيع أن يتمتع فيه بالاستقلال الذاتي الذي كان في حاجة إليه. وكذلك فعل إكسينوفان في نحو هذا الزمن؛ إذ كان يفرُّ من اضطهاد الفرس الذين كانوا أشد ظلمًا من طغاة الإغريق. كان ذلك هو الحظ المشترك لأمثال هؤلاء، فليس من السهل أن يبقى المرء وطنيًّا أو فيلسوفًا ينوء بحمل الضغط الذي يأتيه أمثال أولئك الأسياد. وعلى ذلك حمل فيثاغورث إلى قروطون وإلى ستيباريس مذاهب عجيبة فيها بلا شك شيء من الديانات الشرقية التي اتصل بأهلها، ولكنها حقيقة باحترام كل من يحبون الحكمة والإنسانية.

ولم تصل إلينا مذاهب فيثاغورث إلا عن طريق الوسطاء؛ إذ لم يجتمع لنا شيء من مؤلفاته الكثيرة التي وضعها١٢ فيما يظهر على ما يقول هيلير قليطس، والتي مع كون فيلولاوس أذاعها لأول مرة بعد ثلاثة أو أربعة قرون من وضعها كان يطلبها أفلاطون بأغلى ثمن.

أما بوليقراطس الذي شاطر في أسباب تعليم فيثاغورث، فإنه لقي حتفه على أسوأ ما يكون بعد سنين قلائل من اعتزال الحكيم سموس التي صارت أحطَّ من أن تكون وطنًا له؛ ذلك بأن أورطيس الذي رسمه قيروش مرزبانًا على سرديس حاول أن يوسع سلطان الفرس ويدخل الجزائر تحته، فعزم على أن يوقِع بالطاغية الذي أتى سموس الواقعة أمام حكومته قوة ومنعة، فأرسل إلى بوليقراطس سرًّا رسولًا يخبره عنه بأنه مهدد شخصيًّا بغضب قمبيز البالغ حد الصرع، وأنه يريد أن يُودِع ماله مكانًا أمينًا ويرجو السيد أن يقبل إيداعها عنده، ولكيلا يتظنن في قوله طلب إليه أن يرسل ثقة له ليريه خزائنه المملوءة بالذهب المضروب، على شريطة أن يبقي نصف المال للمرزبان والنصف الثاني يكون لبوليقراطس ينفقه على مشروعاته الواسعة المدى إلى حد فتح إغريقا كلها.

لم يطق شره بوليقراطس صبرًا، فأرسل أمين أسراره مندريوس إلى «سرديس» ليحقق خبر كنوز أورطيس الذي خدع الرسول وأراه صناديق مملوءة حجرًا مغطاة سطوحها بالذهب، فرجع الرسول إلى سيده وقرر له ما رأى، ففرح بوليقراطس وعوَّل على أن يذهب بنفسه لإحضار الذهب، وعبثًا حاول أصحابه وعائلته منعه، حتى لقد كان منه أن هدد ابنته بألا يزوجها إلا بعد زمن طويل حين تشبثت بمنعه وقت ركوبه الفلك. ومضى وفي صحبته عرافه المدعو هيلي الذي لم يصل علمه إلى كشف هذه الأحبولة. فلما وصل إلى حيث ينتظره أورطيس أمر الغادر بالقبض عليه وصلبه. ومع أن هيرودوت لم يكن به مظنة ضعف للطغاة فإنه رثى لحال بوليقراطس الذي كان من العبقرية والسؤدد بحيث لا يستحق هذه الميتة الشنعاء.

وكان في معية بوليقراطس في هذه السفرة المشئومة — غير ذلك العراف المغفل — ديموكيد الطبيب الشهير من قروطون الذي وقع هو أيضًا بهذه الأحبولة في الرق، ثم دعي بعد ذلك بقليل إلى بلاط دارا ليعالجه من التواء مفصلي أصابه، وذلك حين أمر دارا مهلك المجوس بقتل أورطيس لارتكابه فظائع لا مصلحة في ارتكابها.١٣

لما خلت سموس من بوليقراطس لم تستأخر عن الوقوع في قبضة الفرس؛ لأن الطاغية لما ذهب إلى حيث لقي حتفه كان قد خلف على الجزيرة أخاه مندريوس الذي هو أقل كفاية من أن يلي الحكم، وجاءت جنود أوطانيس المرزبان الجديد تحت قيادة سيلوسون أخي بوليقراطس الذي نال حظوة عند دارا بسبب أنه عرفه في مصر حيث منفاه، فهرب مندريوس وترك الجزيرة، فتولَّى أخوه شاريلاوس قيادة الحامية، وبعد مقاومة عنيفة سقطت الجزيرة في أيدي الفاتحين، ودخلها سيلوسون فوجدها خلوًا من سكانها.

ولما انتصر دارا على بابل بفضل إخلاص زوبير وجَّه قُواه إلى محاربة السيتيين، فصنع له مندروكليس المهندس السموسي القنطرة المشهورة التي عبر عليها جيشه بغاز البسفور، وهي قنطرة من المراكب لم يكن طولها أقل من أربع غلوات؛ أي نحو ٨٠٠ متر، ولا بد أن يكون اتخاذ مثل هذه القنطرة من أصعب ما يكون، وكانت واقعة — على رأي هيرودوت — بين بيزنطة وبين معبد قائم على مصبِّ البسفور. ولكي يخلد هذا الملك العظيم ذكرى هذا العمل أغدق على المهندس السموسي نعمه، وأقام عمودين على جانبي الشاطئ كتب عليهما باللغتين اليونانية والآشورية. وقد رسم مندروكليس في معبد جونون لوحة تمثِّل القنطرة وجيوش الفرس تعبر فوقها تحت نظر دارا جالسًا على عرشه. وقد شفع دارا جيشه البري بأسطول عظيم يقوده اليونان والأيوليون وفريق من أهل هلسبون، وأمر الأسطول أن يدخل البحر الأسود، ثم يدخل مجرى الدانوب ونهر الاستر، ويقيم قنطرة على النهر في محل تفرعه الأول إلى عدة فروع. واتجه دارا بجنوده في البر من تراقيا إلى تلك النقطة، وكانت عدة جنوده البرية سبعمائة ألف مقاتل وعدة سفن أسطوله ستمائة سفينة، وكانت هذه الجيوش البرية والبحرية مؤلَّفة من جميع الأمم التي تشملها مملكة الفرس المترامية الأطراف من شواطئ آسيا الصغرى إلى الهندوس.

وتقدم الملك العظيم — على بعد الشقة وصعوبة المسالك — في طريقه بين تلك الأمم الجافلة التي كانت تولِّي الأدبار أمامه وتستدرجه شيئًا فشيئًا إلى مفازاتها الواسعة وتلك المهامه التي لا تجاز، كما وقع في أيامنا هذه لفاتح آخر ليس أكثر منه بصرًا بالعواقب ولا أقل منه نحسًا في الطالع. وقد عني دارا في انتصاراته الموهومة بأن يقيم في طريقه أعلامًا وأعمدة نقش عليها بالعبارات الفخمة: «إخضاع الجيتيين». وكان يبني آثارًا سهلة البناء؛ فإنه أمر بأن يلقي كل جندي من جيشه العرمرم وهو سائر حجرًا في مكان معين، فيجتمع من هذه الحجارة أكمة عظيمة يخيل أنها هرم.

ولقد وجد جيش دارا حتى في هذه المجاهل بعض آثار النفوذ الإغريقي، فإن أولئك الرحل الذين كانوا يعبدون «ذالمكسيس» الذي كان — كما يقال — عبدًا لفيثاغورث بن منيزارخس في سموس، والذي بعد أن صار حرًّا وغنيًّا عاد إلى مواطنيه بشتات من المدنية الهلينية؛ إذ نقل إليهم شيئًا من عقائد سيده العالم، غير أن هيرودوت لم يقبل هذه الرواية، وردَّها بأن «المكسيس أوغيبليزيس» كان أقدم من فيثاغورث بكثير، وأن فيثاغورث أعجب بحكمته العالية،١٤ ولكن تلك الرواية المشهورة مهما كانت كاذبة تدل على الأقل على ما لاسم الفيلسوف من الاحترام منذ تلك الأزمان، فإليه تنسب الثقافة الأخلاقية والإصلاح الموفق الذي — وإن لم يتم — كان سببًا في التهذيب من حال أهل تراقيا المتوحشين.

على أن دارا لما وصل إلى المحل المعيَّن على نهر الدانوب، وجد اليونان نفذوا أمره بإقامة قنطرة المراكب، كما أقاموا قنطرة البسفور. ولما عبر الجنود النهر أراد دارا رفع القنطرة حتى يتبعه الإغريق في غزوته، ولكن قويس — رئيس المتالنة — كان لحسن الحظ أسدَّ رأيًا من الملك؛ فإنه وصل إلى إقناعه ببقاء القنطرة؛ لأنها طريقه الوحيد عند التقهقر، وعلى ذلك أمر دارا اليونان أن ينتظروه ستين يومًا فإن لم يعد في هذه المدة هدموا القنطرة وسافروا.

حدث ما كان سهلًا توقعه؛ فإن جيش دارا بعد أسفار نحو الشمال متعِبة عديمة الفائدة اضطر إلى أن يعود خاسرًا تاركًا مرضاه وجرحاه، وكانت حاله حال ذلك الجيش العظيم سنة ١٨١٢ الذي كان في تلك البلاد تقريبًا يقاتل أولئك الأعداء أنفسهم الذين خدعوه الخديعة عينها.

ولما انتصر السيتيون على دارا من غير حرب تقدموه إلى قنطرة الدانوب، وكان دارا سيلاقي ما لاقى نابليون في عبور نهيربير يزينا لولا أمانة الإغريق الذين وكل إليهم حراسة القنطرة، فإن السيتيين حرضوهم على كسرها قائلين: إن ميعاد الستين يومًا قد مضى، وإنهم قد أوفوا بعهدهم، وقد نصح لهم ملتياد الآتيني — الذي كان قائد أهل شرسنيز وهلسبون وطاغية عليهما والذي صار بعد ذلك فاتح مرطون — أن يهدموا القنطرة وينسحبوا إلى بلادهم، وبذلك يهلك الجيش الفارسي ويسترد اليونان حريتهم، وكانت نصيحته ستجد آذانًا صاغية، ويكون لها من الأثر ما لم يكن لإغراء السيتيين، لولا أن اجتمع رؤساء اليونان وقرروا بناءً على رأي هستيا الملطي أن ينتظروا دارا ويخلِّصوه، وكان مع هستيا من رءوس اليونان سطراطيس الشيوزي وأوسيز السموسي ولودامس الفوكي، وكان أرسطاغوراس الكومي وحده رئيسًا للأيوليين.

ولم يكن الوفاء بالعهد هو الذي حمل أولئك الرؤساء على هذا القرار الغريب، بل هي المصلحة الشخصية؛ فإن هستيا لم يصادف عناءً في إقناع زملائه الذين مصلحتهم كمصلحته بأنهم إذا فقدوا تأييد الفرس لهم لم يلبث واحد منهم سيدًا على مدينته التي يحكمها، بل إن الأمة متى تخلَّصت من حكم الأجنبي تسارع إلى حكم الديموقراطية، وتحرم رؤساءها الحاليين كل سلطان عقابًا لهم على قبولهم المزايا التي خصَّهم بها الملك الكبير، وقد رجح لدى الرؤساء هذا الرأي، وأمكن لدارا — وقد اقتفى السيتيون أثره — أن يفرَّ منهم بعبور النهر.

ماذا كان عساه أن يقع لو أن اليونان كسروا القنطرة وهلك بذلك دارا وجنوده؟ تكون داهية دهياء على مملكة الفرس من غير شك، ولكن هذه الضربة مهما كانت خطورتها لا تكون هي القاضية؛ لأن هزائم مرطون وسلامين وبلاته لم تكن لتكفي لهذا الغرض، حقًّا ربما كانت يونيا تستطيع أن تتنفس من ضيق الخناق بعض الزمن وتسترد استقلالها، ولكن إغارة جديدة أكثر حدة بالضرورة من سابقاتها ترجعها إلى الخضوع، فلم يكن حان الوقت لسقوط الفرس الذين كانت أمتهم وقتئذ في قوة الشباب وطور النمو الأول، ولكن هذا لا ينفي الإجرام عن أنانية الرؤساء اليونان؛ فإنهم كانوا يستطيعون البقاء على عهد دارا بأسباب أشرف من الأسباب التي اتخذوها.

لما وصل دارا إلى سستوس ركب البحر إلى آسيا وخلف مغباز على الجنود في أوروبا، وليفتح تراقيا ومقدونيا، وبعد قليل دعي مغباز إلى صوص، وكذلك هستيا الذي ظهر أن من عدم التبصُّر تركه وحده في تراقيا، حيث أقطعه دارا إقطاعات واسعة في مرسينة جزاءً له على خدمته.

ولقد منيت بلاد اليونان بجهد جديد ومصائب جدد تتخمر في باطنها؛ فإن هستيا لما ترك ملطية نزل عن السلطة إلى أرسطاغوراس صهره وابن عمه، فجاء إلى هذا الأخير بعض المنفيين من نكسوس يستنجدونه، وأحس من نفسه قلة الحول في أن يقوم بمشروع فتح نكسوس وحده، فرجع في الأمر إلى أرتافرن أخي دارا ومرز بأنه على سرديس وجميع تلك الجهات التي هي أول مرزبانية في المملكة، فطمع أرتافرن في الاستيلاء على نكسوس وما يليها من مدن السكلاد، وحصل من دارا على الإذن بتسيير مائتي سفينة تحت تصرف أرسطاغوراس، ولكن الشقاق قد دبَّت عقاربه بين الأحلاف؛ فاستطاعت نكسوس أن تدافع عن نفسها وأن تصد هجمات محاصريها وتردهم بالخيبة بعد حصار أربعة أشهر؛ وعلى ذلك لم يوفق أرسطاغوراس إلى تحقيق شيء مما وعد به مرزبان سرديس، فخاف من ذلك على سلطانه الخاص، وعقد العزم على ألا يكون نصف مذنب؛ فغلظ ذنبه، وأوقد نار ثورة صريحة دفعه إليها أيضًا سلفه هستيا الذي كان لا يزال في صوص عند الملك الكبير، ولكي يجذب قلوب الملطيين إليه نزل عن حكومة الطغيان، ورتب بدلها حكومة الشعب، ودعا المدائن اليونانية الأخرى إلى العصيان، فاستجابت لدعائه وطردت جميع الطغاة الذين نصبوا عليها تنصيبًا.

إن ما أتاه أرسطاغوراس من الإقدام الكبير كان بعد استشارة أصحابه، فأما هيقات الملطي المؤرخ فكان رأيه ألا يوقدوا نار الحرب في الحال وليس لديهم المال الضروري، فلما لم يستطع الإقناع برأيه ألحَّ في وجوب توجيه كل قواهم نحو البحر، بفكرة أنهم فيه أقدر على الهجوم منهم في البر، ولهذه الغاية نصح بأن يأخذوا جميع أموال كريزوس التي جمعها في معبد البرنشيد، ولكنهم أصموا آذانهم عن الاستماع لهذا الرأي السديد، وأصروا على الثورة على أي حال، وكان أرسطاغوراس يشعر تمامًا بضعف يونيا فذهب إلى إسبرطة ليتخذها حليفة له.

ولقد عني أرسطاغوراس ليزيد كليومين — ملك إسبرطة — علمًا بحقيقة مشروعاته بأن يبيِّن له في أثناء المفاوضة مواقع البلاد التي كانت موضوع الحديث، وهي ليديا وفريجة وقبادوس وفارس … إلخ، بيَّنها له مرسومة على صحيفة من النحاس حملها معه، وكان وقتئذ من أحدث ما يكون رسم خريطة جغرافية. ويظهر أن أنكسيمندروس هو صاحب هذا الاختراع البديع، ولكن كليومين لم يفه إلا بسؤال واحد: «ما هي المسافة بين بحر يونيا وبين المحل الذي يقيم فيه الملك؟» فأجابه ببساطة: «مسير ثلاثة أشهر.» وكان ينبغي لأرسطاغوراس أن يحسب وقع هذا الجواب في نفس رجل إسبرطي؛ لأن كليومين بعد أن سمع هذا الجواب أمر نزيله أن يبرح لقدمونيا قبل غروب الشمس، ورفض مع الازدراء المال الذي حمله إليه ليحاول إغواءه به.

وكان ما قاله أرسطاغوراس عن المسافة حقيقة واقعة؛ فإن هيرودوت قد عدَّد بالضبط والعناية المائة والإحدى عشرة محطة الواقعة على الطريق الجميل الذي أنشأه دارا من سرديس إلى صوص على نهر كواسب أو كراسو البعيد جدًّا من مدينة بابل نحو الشرق، فكان ١٣٥٠٠ غلوة أو ٤٥٠ برزنجًا، والبرزنج هو في المتوسط ٣٠ غلوة، أو بعبارة أخرى ٦٠٠ فرسخ، فكان لا بد للقيام بمشروع ضخم كهذا عبقرية إسكندر ومائتا عام حرب على مملكة الفرس الضخمة، ولم يكن لكليومين من خلقه ولا من زمانه ما يجرِّئه على معاناة أمثال هذه المشروعات.

ولما فشل أرسطاغوراس في إسبرطة قصد آتينا؛ لأنها صارت شيئًا فشيئًا أقوى مما كانت عليه منذ قلبت طغيان البيزستراتيين، وأخذت ترسل السفراء إلى أرتافرن مرزبان سرديس حتى لا يُصغي إلى مزاعم هيبياس الذي التجأ إليه. ولما لم ينجح أرسطاغوراس في استمالة كليومين، ونجح في استمالة سكان آتينا، وعدتهم ثلاثون ألفًا — كما ذكره هيرودوت بعبارة ملؤها التهكم؛ إذ ذكرهم بأن ملطية كانت مستعمرة لأجدادهم — فتقرر أن يرسلوا إلى يونيا عشرين سفينة لنصرتها، وكان ذلك — كما رواه أيضًا هيرودوت — بداية الحرب التي فيها لبست الجمهورية حلل الفخر بتخليص الإغريق، والتي فيها لاقت دولة الفرس هزائم قاسية كانت طلائع لخرابها العاجل. وقد حمل أرسطاغوراس البيون أيضًا على الثورة، وهم أولئك الذين أخرجوا من ضفاف إستريمون إلى فريجة بأمر دارا، وهربوا منها إلى شيوز، وسافروا من شيوز إلى لسبوس، ومنها إلى دوريسكوس، ومنها عادوا إلى بلدهم الأصلي.

لما وصلت السفن العشرون إلى إيفيزوس وانضم إليها خمس سفن أخرى من إريتريا، لاقوا إخوة أرسطاغوراس يقودون جند ملطية؛ لأن أخاهم أقام بالمدينة يباشر بنفسه حركة التعبئة، وقد ترك الجيش البري الأسطول في مياه إيفيزوس وتقدم هو على ساحل «قايستر» يجوس خلال طمولوس حتى وصل إلى سرديس، فأخذها من غير حرب تُذكر وحرقها بغاية السهولة؛ لأن سطوح منازلها مغطاة بالقصب اليابس. ولم يتمكَّن أرتافرن إلا من الاستعصام هو وجنوده بالقلعة، وقد انزعج الفرس والليديون لما رأوا المدينة غنيمة النار، ولكنهم استجمعوا شجاعتهم وخرجوا إلى المحاربين وثبتوا أمامهم حتى اضطروهم إلى التقهقر نحو الشاطئ، ونهض الفرس المرابطون على الهالوس إلى المعركة فلم يجدوا اليونان في سرديس؛ فاقتفوا آثارهم إلى إيفيزوس حيث نالوا منهم نيلًا في واقعة كبرى.

ولقد أخذ اليأس من الآتينيين كلَّ مَأْخَذ من جرَّاء هذه الهزيمة؛ فانسحبوا على رغم رجاء أرسطاغوراس وإلحاحه، ولكنه هو لم ييأس، بل اعتمد على جنوده الخاصة وعلى مساعدة مدن هلسبون وقاريا وجزيرة قبرص العظيمة، وإذ ذاك كان أونيزيلوس طاغية سلامين منتقضًا على الفرس.

لما علم دارا بما أتاه الآتينيون من المشاطرة في إحراق سرديس أقسم أن ينتقم منهم ويجزيهم على هذه الإساءة شر الجزاء، وأرسل هستيا بديا ليعيد اليونان إلى الطاعة بفضل دسائسه، ولم تكن مع ذلك أحوال اليونان بخير، بل إن قبرص سلمت بعد مقاومة شديدة، وقاريا التي كانت ثائرة ردت إلى الطاعة، وكلازومين سقطت في قبضة أرتافرن وأوطانيس، وكذلك سلمت كومة أوليد، فلم يستطع أرسطاغوراس احتمال هذه الخيبة؛ فانزوى في مرسين بلد حميه هستيا، وكان هيكاط الملطي يرى أن الأوفق لهم الالتجاء إلى جزيرة ليروس حيث يمكنهم البقاء حتى يعودوا إلى ملطية في الوقت المناسب. ولما سافر أرسطاغوراس إلى تراقيا قتل أمام قلعة وهلك جيشه.

ولم يكن حظ هستيا بأحسن حالًا من ذلك؛ فإن أرتافرن تظنن في أمره، واطَّلع على دسائسه ففرَّ بعد عناء من سرديس إلى جزيرة شيوز فانتبذوه بفكرة أنه صنيعة الفرس، ولكنه بعد ذلك كسب جاذبيتهم بأن أظهرهم على ما فعل لإقامة ثورة اليونان؛ فحملوه إلى ملطية حيث قابله أهلها بفتور؛ لأنهم بعد أن نالوا حريتهم كانوا يخشون أن يعيد إليهم أيام طغيانه، ولما نفي من وطنه حصل من أهل لسبوس على بعض السفن يطوف بها جهة بيزنطة ينهب أموال الذين لا يريدون أن ينضمُّوا إليه.

أخذت العاصفة التي أثارتها ثورة أرسطاغوراس تَهْمِي على رأس يونيا التي لم تتقهقر أمام هذا الخطر المزعج. انعقد البانيونيون وقرر الحرب، ولم تكن هناك فكرة في حرب برية؛ فلم يؤلف جيش ما، وعوَّلت ملطية على أن تتفرد بحماية أسوارها التي يهددها العدو، ولكنهم رتَّبوا أسطولًا عظيمًا تجتمع سفنه في لادي؛ وهي جزيرة صغيرة قبالة ملطية، فاجتمعت إليه السفن من كل ناحية؛ حتى إن الأيوليين أرسلوا سبعين سفينة فكان الملطيون ومعهم ثمانون سفينة في الجناح الأيمن جهة الشرق، وكان مع البريينيين اثنتا عشرة سفينة، ومع الميونتين ثلاث، ومع أهل طية سبع عشرة، ومع الشيوزيين مائة سفينة، ومع الأريتريين ثمانٍ، ومع الفوكيين ثلاث فقط كالميونتين، وكان مع أهل سموس في آخر الجناح الأيسر إلى جهة الغرب سبعون سفينة، فكان هذا الأسطول الكبير العدد في طاقته أن يقاوم حلفاء الفرس الذين هم الفينيقيون والقبارصة والصقليون والمصريون. ولكن تسلَّلَ الشقاق بين اليونان، وحقد بعضهم على بعض حتى يوم الوقيعة؛ فلم يتناصروا كما ينبغي. وكان السموسيون واللسبوسيون أول من فرَّ من حومة القتال. ويكاد الشيوزيون أن يكونوا وحدهم هم الذين صلوا سعير الحرب وقاموا بواجبهم، ولكنهم كانوا أضعف من ألا يهزموا، وختمت الحرب بهزيمة تامة.

وكان دينيس — رئيس الفوكيين — بطلًا مغوارًا، وكانت عزيمته بحيث يضمن الظفر لو أطاعوا أمره، فلما انهزم لم يجد مناصًا من الهرب على شواطئ فينيقيا، ومن هناك إلى صقلية حيث يشن الغارة على القرطجنيين والطرهينيين.

بعد هزيمة لادي حوصرت ملطية برًّا وبحرًا؛ فأحسنت الدفاع عن نفسها، ولكنها أُخِذت عَنْوة بعد حصار مهلك؛ فذُبحت رجالها وسُبيت نساؤها وأطفالها، وسيق بهم أرقاء بأمر دارا إلى مصب نهر دجلة، واحتل الفرس المدينة والسهل الذي يحيط بها، وأعطوا بقية ما كان يتبعها من الأرض إلى بيدازيي قاريا. أما آتينا التي تخاذلت عن ملطية وتركتها، فإنها أَلِمَتْ لمصائبها التي هي نذير بمصائب أدهى وأمر. ولقد صاغ هذه الواقعة المحزنة الشاعر المأسائي فرينشوس في رواية تمثيلية أبكت جميع شهود تمثيلها؛ فحكم على الشاعر بتغريمه ألف درهم، ومنعت الرواية منعًا باتًّا.

ثم قصد الفرس جزيرة سموس، فلما رآهم أهلها ومعهم أقيس بن سيلوزون طاغيتهم القديم الذي كان نفاه أرسطاغوراس تفرَّسوا ما سينزل بهم القدر؛ فاستحبوا الرحيل من أوطانهم على أن يحتملوا ظلمه مرة أخرى؛ فهاجروا من جزيرتهم إلى قلقطة حيث كان يدعوهم إلى صقلية أهل زنكل. وكان السموسيون هم وحدهم اليونان الذين هاجروا هذه المرة هم والملطيون الذين استطاعوا أن يفروا من المذبحة. ودخل أقيس سموس تحت حماية الفرس الذين استثنوا معابد هذه المدينة وحدها من الإحراق اعتدادًا بجميل السموسيين الذين تخاذلوا عن إخوانهم يوم لادي.

وقد حاول هستيا أن يقاوم من جديد بعد أن انضم إليه بعض اليونان والأيوليين، ولكنه قُبِض عليه قرب أطرنة في ميزيا، وسيق إلى أرتافرن في سرديس فقتله صلبًا وأرسل رأسه مصبرة بالملح إلى دارا في صوص.

ولما قضى الأسطول الفارسي فصل الشتاء في ملطية فتح جميع الجزر: شيوز ولسبوس وتندوس … إلخ، في حين أن الجيش البري يستكمل فتح جميع المدائن الإغريقية.

ولقد كان لانتصار الفرس نتائج فظيعة، كما أنذر الفرس بذلك قبله بست سنين حين بدأت ثورة أرسطاغوراس؛ فإنهم كانوا يذبحون الرجال، ويخصون أجمل الفتيان، ويرسلون أجمل الفتيات إلى صوص، ويحرقون المدائن وما فيها من المعابد لينتقموا لحرق معبد سيبيل إلهة سرديس. وفي أثناء ذلك كان أرتافرن عامل أخيه دارا يدخل في إصلاح الشقاق بين اليونانيين، وكان يضرب عليهم الجزية التي بقي مقدارها ثابتًا لم يتغير إلى زمن هيرودوت؛ أي بعد ستين سنة، ثم أخذ مردنيوس صهر دارا قيادة جيش جرار في البر والبحر وسار به في يونيا يقيم حكومة شعبية متجهًا إلى أوروبا ليعاقب آتينا وإريتريا على مساعدتهما في عصيان مستعمرات آسيا الصغرى. فأما إريتريا فقد أسلمها بعض الخونة فقهرها داتيس، وحرقت معابدها، وصفد رجالها في الأغلال يساق بهم أرقَّاء إلى صوص. وأما آتينا التي هددها الخطر بعد إريتريا بأيام فإنها اقتحمت الحرب وحدها هي والبلاتيون اقتحامَ الأبطال، وصدت الغازين في مرطون. وعلى ذكر مرطون أمسك عن القول لأني لا أقصد رواية عجائب الشجاعة والوطنية. وماذا أنا قائل في الوطنية؟! آتينا التي سيكون من أمرها أن تنير العالم بذكائها قد خلصته وقتئذ بعزيمتها التي لا تتزعزع، فإذا كان قدر للفرس أن ينتصروا ما كان عسى أن تصير إليه المدنية الغربية؟ وماذا يكون مصير أوروبا؟ الله وحده يعلم ذلك. ولكن آتينا تستحق اعترافًا أبديًّا بجميلها.

وقد صيرت مرطون بلوغ الطرموفيل وأرتيميزيوم وسلامين وبلاته وميكال تجاه سوس من الممكنات، وكان أول شرط لقهر المتوحشين هو عدم الخوف منهم، ذلك هو السنة الحسنة التي استنتها يونيا والتي أخذت بها آتينا في هذا الظرف أمام خطر مزعج. لقد افتدتنا مدينة مينرفا (آتينا) من الاستعباد الآسيوي منذ اثنين وعشرين قرنًا. نحن الذين نعرف اليوم آسيا بعلاقة أننا نمدِّنها نستطيع أن نرى أكثر من إغريق ملتياد وطمستوكل من أية هاوية انتشلونا، ونستطيع أن نحلف كما فعل ديمستين بأسماء الأبطال شهداء مرطون.

في كتاب هيرودوت ينبغي أن تقرأ هذه الحكاية الخطيرة على بساطة في سردها كتبها بعد الواقعة بأقل من ثلاثين سنة، وإنه ليخاطب في أولمبيا رجالًا أخذوا بحظ من ذلك الانتصار ومن الحوادث التي كان يمكن أن يكون هو لها شاهد عيان، فلا أريد أن أكرر ما حدَّث به ذلك المؤرخ الشريف من سيرة المجد، ولكن لي بعض كلمات على يونيا لا تمشي بالحوادث إلى العهد الذي كان فيه ميليسوس آخر من علم من فلاسفتنا في سموس مذاهب مدرسة إيلي.

لما قهر اليونان اضطروا إلى أن يخدموا سادتهم ويتبعوهم في حروبهم ضد إغريقا؛ ففي سلامين كان من سموس اثنان من قواد الأسطول الفارسي؛ طيومستور بن أندروداماس وفيلاقس بن هستيا، وقد أبليا بلاءً حسنًا ضد سفن لقدمونيا حين كان الفينيقيون يحاربون سفن آتينا.

ولكنه مهما كان لإغريق آسيا الصغرى من العمل في تأليف جزء عظيم من أسطول دارا وإكزاركسيس، فإنهم لم يكونوا إلا ليتربصوا الفرصة المناسبة للعصيان. بعد هزيمة سلامين جاء أسطول الفرس يقضي الشتاء في كومة وفي سموس بعد أن وصلت الملك المغلوب ومعيته، فلما جاءت السنة التالية حضر الأسطول الإغريقي تحت قيادة ليوتيخيدس — ملك إسبرطة — يبحث عن أسطول الفرس في مياه آسيا الصغرى، أظهرت له جميع مدائن الشاطئ والجزر استعدادها لمظاهرته والعصيان على الفرس، وعلى الأخص جزيرة سموس؛ فإنها كانت تلتهب شوقًا إلى خلع طيومستور الذي رماهم به المتوحشون طاغيةً عليهم؛ فأرسلت لهذا الغرض رسلًا إلى ليوتيخيدس، سواء في إسبرطة أو ديلوس، ليؤكدوا له استعدادها. وربما كانت هذه المخابرات هي التي قوت رئيس الإغريق على الحضور لمهاجمة الفرس في موضعهم، ولكن المتوحشين منذ الدرس القاسي الذي تلقوه في سلامين لم يكونوا ليجرءوا على اقتحام حرب بَحْرِيَّة، وقد أذنوا للأسطول الفينيقي أن ينسحب، ولم يكد يبقى معهم إلا يونان وإغريق من الشاطئ؛ فغيروا مركزهم من سموس إلى ميكال حيث جرُّوا سفنهم إلى البر وأحاطوها بسور يصح أن يكون خط دفاع، وإلى جانبها جيش مؤلف من ستين ألف مقاتل تحت قيادة تجران الذي عهد إليه إكزاركسيس في المحافظة على يونيا.

وكان الفرس يظنون أنهم من موضعهم هذا في حصن حصين، ولزيادة الحيطة قد نزعوا السلاح من أهل سموس الذين كانوا يتهمونهم بأن لهم ضلعًا مع ليوتيخيدس، والذين كان منهم أن افتدوا بمالهم أسرى آتينا وردوهم إلى وطنهم، وفوق ذلك فقد كلف الفرس الملطيين بحماية الطرق المؤدية إلى قمم ميكال، وعلى ذلك لم يكن لديهم أدنى ريب في أن يصدوا من حصنهم كلَّ هجمة عليهم من العدو، ولكنهم مع ذلك قد أهلكهم الآتينيون والقورنتيون بفضل شجاعتهم وبانتقاض أهل سموس وأهل ملطية، فدُمِّر جيشهم تدميرًا، وقتل قائده تجران، وحرق أسطولهم، ورجع الإغريق ظافرين من هذه الموقعة مثقَلين بالغنائم.

كانت يونيا قد تخلصت من حكم الأجنبي بعد واقعة ميكال، ولكن هل تستطيع أن تقوم قائمتها بنفسها وتدفع عنها حمق المتوحشين متى تركت إلى قواها وحدها؟ كان من المشكوك فيه أن لها طاقة على المقاومة، فاجتمع القواد في سموس وتداولوا فيما إذا كان الواجب على اليونان أن يهجروا نهائيًّا سواحل آسيا الصغرى ويلتجئوا إلى قسم من إغريقا يعين لهم، فعارض الآتينيون جد المعارضة في هذا القرار مع أنه كان من الميسور تعويض اليونانيين على حساب الخونة الذين كانوا قد تخاذلوا عن الدفاع في القضية العامة عند الغارة الميدية. وأما البلوبونزيون فإنهم انضموا إلى هذا الرأي من غير مشقة، ووقف الأمر عند عقد معاهدة محالفة مع السموسيين والشيوزيين واللسبوسيين وجميع الذين شاطروا في الظفر. وقد كان الجيش الفارسي قد التجأ إلى سرديس حيث كان إكزاركسيس باقيًا منذ رجوعه المخجل، ثم تركها توًّا إلى صوص ليستر عاره ويكظم غيظه. ولما أصبح الأسطول الإغريقي سيدًا على بحر إيجة كله لا يهاب فيه عدوًّا رجع إلى جهة بيلوبونيز سائرًا على امتداد كل الشواطئ حاملًا من أبيدوس بعض بقايا قنطرة إكزاركسيس المشهورة لجعلها في المعابد تذكارًا لذلك الانتصار.

لما أمنت يونيا شر غارات الفرس أخذت تعمِّر ما تخرَّب، ووضعت نفسها تحت حماية آتينا التي تربطها بها تذكارات الماضي ومنافع الحال وضعًا تامًّا بقدر الإمكان، وبهذه المثابة تحزبت يونيا مع آتينا ضد إسبرطة التي كان ملكها ليوتيخيدس وبوزانياس موضعًا للتظنن فيما يتعلق بعلاقتهما مع المتوحشين.

لقد كانت آتينا قوية جدًّا في البحر بحيث تستطيع أن تقدم ليونيا مساعدة عاجلة مفيدة، في حين أن إسبرطة لا تستطيع أن تقدم هذه المساعدة ولو أرادتها. من أجل ذلك أخذ اليونان بحظ عظيم في اتحاد ديلوس، وشاطروا بمقدار وافر في النفقات العامة التي أنفقها الحلفاء للتحصن من هجوم المتوحشين كرة أخرى، وكان ذلك على أثر حوادث بلاتة وميكال؛ أي في نشوة الاستقلال المسترد بحبوحة الثقة المتبادلة (نحو سنة ٤٧٧ قبل الميلاد).

ولكن آتينا كان من شأنها أن جاوزت في استعمال السلطان الذي أوتيته عفوًا فجرَّت على نفسها الغيرة والأحقاد التي سببت بعد ذلك حرب بيلوبونيز في وقت كان عدوهم المشترك لا يزال فيه بقية. وأخذ سلطان آتينا — كما نبه إليه أرسطو — يثقل على نفوس حلفائها الذين هم مساوون لها لا رعاياها، وبخاصة أهل نكسوس وطاشوز الذين عوملوا معاملة قاسية ظالمة (٤٦٧–٤٦٥) ولم يكونوا ليستسلموا إلى غطرسة الآتينيين في أوامرهم. غير أن الأسطول الآتيني — وهو مؤلف من مائتي شراع — كان يمخر دائمًا على شواطئ آسيا عزيز الجانب مهيبًا من الأسطول الفينيقي الفارسي الذي هرب أمامه حتى بلغ مياه النيل. كانت تلك خدمة حيوية ليونيا، من أجل ذلك كانت يونيا من جانبها تتسامح في كثير من الامتهان الذي كانت تجنيه عليها حليفتها القوية في مقابل هذه الحماية المستمرة التي تنالها.

والظاهر أن اعترافها بجميلها كان إلى الغاية القصوى حين رأت أن استقلالها مضمون بمعاهدة استكرهت آتينا على عقدها الملكَ الكبير بعد عدة انتصارات داوت الهزيمة التي وقعت في مصر (٤٥٥ قبل الميلاد)، وهذه المعاهدة التي يرجع الفضل في نصوصها إلى دهاء سيمون وأعماله في قبرص كانت تنص على أن فارس تترك شواطئ آسيا الصغرى التي يقطنها الإغريق حرة تمام الحرية؛ فلا تضع عليهم جزية، ولا تدنو بجنودها إلى خط على مسافة معلومة من الشاطئ، وفي مقابل ذلك يتعهد الآتينيون وحلفاؤهم ألا يغزوا بعد الآن قبرص ولا صقلية ولا فينيقيا ولا مصر. وقد أرسل الإغريق سفراء إلى صوص حيث صدق على المعاهدة، وكان قلياس هو الممثل لآتينا (نحو ٤٤٩ قبل الميلاد).١٥

صارت جمهورية آتينا وقتئذ في أَوْج قوتها؛ فإنها كانت على رأس اتحاد بحري تكاد تتصرف فيه على هواها، مؤيدة بطائفة من الأحلاف في القارة، سيدة على مستعمرات عديدة على جميع سواحل بحر إيجة وعلى الهلسبون وبحار الإغريق، يضطلع بأعبائها رجل مثل بيريكليس. فهي لذلك كانت تتطلع إلى بسط سلطانها المطلق على جميع الجنس الإغريقي، وهذا الطمع هو الذي أعماها وذهب بها. من بين حلفائها كانت سموس، وهي أشدهم بطشًا، وكانت تحتفظ هذه الجزيرة الكبيرة تلقاء آتينا بنوع من المساواة في المعاملة قد لا يأتلف وما تضمره الجمهورية من مشروعات بسط سلطانها، فحدث شجار قليل الخطورة بين سموس وبين ملطية بشأن أرض بريين الصغيرة جرَّ إلى المداخلة الآتينية؛ فإن الجمهورية قد دعت الفريقين إلى التقاضي أمامها. وكانت سموس تخشى تحيز بيريكليس لملطية التي هي وطن أسباسيا؛ فرفضت قبول هذا التحكيم المريب؛ فأرسلت آتينا لفورها أربعين سفينة لإرغام سموس على الطاعة، فقبلت حكومتهم من الأوليجارشية إلى الديموقراطية، وأخذ خمسون من أعيان الأهالي وعدد مثله من أبناء العائلة الرفيعة رهائن وضعوا في جزيرة لمنوس، وبقيت حامية في سموس لتحقيق نظام الحكومة الجديدة (نحو ٤٣٩ قبل الميلاد).

كان هذا التصرف من جانب آتينا فظيعًا فقوبل بمثله؛ لأن منفيي سموس ذهبوا إلى بيسوتنيس — مرزبان سرديس — يستنجدونه؛ فأمدهم ببعض مقاتلين فقصدوا سموس، وعدتهم سبعمائة رجل، وانقضُّوا على حرس الجزيرة الآتيني بياتًا وأسلموهم إلى بيسوتنيس، وفي الوقت عينه كرة رابحة مثل الأولى على جزيرة لمنوس ردت إليهم رهائنهم، وفوق ذلك تحالفوا مع بيزنطة التي تكاد تكون مثلهم في التبرم بحكومة آتينا، وكان ذلك مفيدًا لهم. كل هذا إنما هو خطر جدي يتهدد الجمهورية، فلو احتملت عصيان سموس لذهب ذلك برئاستها وبسلطانها الذي كانت تؤيده هدنة الثلاثين عامًا التي عقدت قبل ذلك ببضع سنين مع إسبرطة عدوها الوحيد المريب؛ لذلك عقدت آتينا العزيمة على التنكيل بسموس تنكيلًا يمنع سواها من أن يهم بتقليدها.

ستون سفينة أرسلت سراعًا إلى الثائرين انفصل منها ست عشرة إما لمراقبة الأسطول الفينيقي على شطوط آسيا؛ لأن بيسوتنيس لا يفوته أن يضعه تحت تصرف الثائرين، وإما ليأتي بالمدد من جزيرتي شيوز ولسبوس اللتين بقيتا تحت الطاعة، ولكن من الجائز عليهما أن تقلبا ظهر المجن، وبقي الأربع والأربعون سفينة أمام سموس تحت قيادة بيربكليس أحد القواد العشرة السنويين الذين من بينهم سوفكل الشاعر الذي نشر «أنتيجون» السنة الماضية.

ومع أن السموسيين كانوا يتوقعون هذا الهجوم، فإنهم كانوا ذهبوا لمحاصرة ملطية، وكانوا عائدين إذ التقوا مع بيريكليس بالقرب من جزيرة تراجيا، ومع أنه كان لديهم سبعون سفينة من بينها عشرون تحمل رجال حرب فإن بيريكليس لم يتأخر عن منازلتهم وانتصر عليهم، وعوضت خسارة سفنه بالمدد الذي جاءه وقدره أربعون سفينة جاءت من آتينا وخمس وعشرون من لسبوس وشيوز اللتين قدمتاها بإخلاص.

وقد تلت الواقعة البحرية واقعة برية؛ إذ نزل الآتينيون إلى الأرض، وانتصروا على الثائرين، وأسرعوا في إقامة أسوار عالية تحصر المدينة من ثلاث جهات في حين أنها مضيق عليها من جهة البحر أيما تضييق.

وفي هذا المركز الحرج تسنَّى للسموسيين أن يرسلوا خمس سفن تحت إمرة إستيزاغوراس يستعجل الأسطول الفينيقي الذي كانوا أحوج ما يكونون إليه. وليتدارك بيريكليس خطر تجمع هذا الأسطول أسرع بستين سفينة مما معه أمام سموس متجهًا إلى قونوس في قارب حيث كانت هي موطن الاجتماع كما كان يقال. فلما بعد بيريكليس خرج السموسيون مستقتلين، ولم يكن خط دفاع الآتينيين قد تم بعد؛ فانهزموا وخربت بعض سفنهم، ودارت عليهم الدائرة في البر والبحر، ولكن نجاح السموسيين لم يكن ليلبث مدة؛ فإن بيريكليس لما رجع بعد غيبة أربعة عشر يومًا غيَّر مجرى الحال، ولكن في تلك المدة كانت المدينة قد استطاعت أن تدخر الزاد وفيرًا، واستعدت لمقاومة حصار جديد. عاد الحصار كما كان، وقوي الحصار البحري بستين سفينة جاءت من آتينا وثلاثين من لسبوس وشيوز، فكادت تكون عدة مجموع السفن مائتي شراع تحيط بسموس.

في هذه الحادثة نال ميليسوس القدح المعلَّى في الوطنية وسعد الطالع؛ إذ كان على رأس الأسطول والجيش فانتهز غيبة بيريكليس وحرك حمية مواطنيه بغاية الإقدام وكسب الظفر الذي تكلمنا عنه آنفًا. ويظهر، على قول بلوتارخس في ترجمة بيريكليس مستندًا إلى أرسطو: أن ميليسوس هزم بيريكليس نفسه في واقعة بحرية أولى، غير أن طوكوديدس الذي شهد هذه الوقائع لم يقل شيئًا من ذلك؛ فتكون هذه الرواية محلًّا للشك، ومع ذلك فإن النجاح الأول لميليسوس لم يكن من شأنه أن يخلص وطنه؛ فإن بيريكليس لما جاءه نبأ هزيمة جيشه عجل إلى سموس فخرج ميليسوس للقائه، ولكنه انهزم في حرب برية، ويمكن أن يكون هزم أيضًا في واقعة بحرية.

وقد استمر الحصار على أضيق مما كان، وبقيت سموس وفيها ميليسوس تقاوم تسعة أشهر؛ لأن بيريكليس كان أحبَّ إليه أن يأخذها بالأناة حتى مع إنفاق المال والزمان من أن يسفك الدماء الآتينية.

فلما جاء السموسيون على آخر زادهم سلموا ودك بيريكليس أسوارهم، وأخذ سفنهم واضطرهم إلى دفع نفقات الحرب التي قدرت كما قيل بألف طالنطن؛ أي خمسة ملايين من الفرنكات في زمننا، فدفعت سموس على الفور جزءًا من هذا المبلغ الطائل وقتئذ، وتعهدت بدفع الباقي مؤمنًا عليه برهائن قدموها. ويقال إن بيريكليس أبدى في هذا الظرف ما تقشعر له الأبدان من الفظاعة في معاملة بعض الأسرى الذين ماتوا تحت العصا بعد تعذيب عشرة أيام، ولكن الذي روى هذه الفظائع مؤرخ متأخر من سموس وهو دوريس في عهد بطليموس فيلادلفوس، ولا شك في أن روايته تشفُّ عن الحقد الوطني؛ فإن بلوتارخس زيَّف هذه الرواية التي لم يجد لها أصلًا في طوكوديدس ولا في أرسطو ولا في إيفورس وهم الذين استرشد بمؤلفاتهم في ترجمة بيريكليس.

يظهر أن آتينا كانت تعلق أكبر أهمية بقمع ثورة سموس؛ لأن مثلها من شأنه أن يُحْتَذَى، فإذا قلَّد سموس غيرها تداعت مشاريع الجمهورية الآتينية رأسًا على عقب. من أجل ذلك قوبل هذا الظافر في آتينا عند عودته إليها بأجلِّ مظاهر التحمس، وأقيمت حفلات المآتم الفاخرة لشهداء هذه التجريدة، ووكلت المحكمة المقدسة أمر تأبينهم إلى بيريكليس.

ليس لدينا نص هذا التأبين، ولكننا يمكن أن نأخذ عنه فكرة من التأبين الذي نقله لنا طوكوديدس من حيث المعاني على الأقل، ذلك التأبين الذي أقيم لشهداء حرب البيلوبونيز؛ فإن بين الحربين علاقة مشابهة؛ لأن كلتيهما فتنة داخلية تمزق وحدة الإغريق، وقد قوبل مدح شهداء حرب سموس بغاية الحفاوة، فإن بيريكليس لما نزل عن منصة الخطابة قامت إليه النساء جميعهن متأثرات بالاعتراف بفضله يعانقنه ويتوِّجنه بالأزهار والعصائب، كما كان يُصنَع بالمصارع المنتصر في حفلة الألعاب العمومية، إلا امرأة واحدة لم تشرك الجماعة في ذلك الإعجاب المجمع عليه، تلك هي إيليبنس أخت سيمون الذي كان زمنًا طويلًا منافس بيريكليس، وأقبلت عليه تقول له: «حق إنها أعمال مجد حقيقة بهذه الأكاليل! ولقد أضعنا رجالنا لا في حرب الفينيقيين أو الميديين، كما فعل أخي سيمون، ولكن في تخريب مدينة محالفة تدلي بأصلها إلينا وجعل عاليها سافلها.»

لم يكن هذا الانتقاد إلا مصداق الحقيقة، ولكن الظافرين قد كانوا سكارى بخمرة الظفر. ولم يكن حظ سموس إلا نذيرًا بما غيبه القدر لكثير من المدائن الإغريقية الأخرى في الحرب الكبرى التي كان يتوقعها بيريكليس. والظاهر أنه هو أيضًا كان متأثرًا بنجاحه إلى حد لا يأتلف مع اعتدال أخلاقه المعروف. فإذا صدقنا فيه الشاعر يون الشيوزي لحسبنا بيريكليس يفخر بأنه فاق أغاممنون الشهير الذي قضى عشر سنين في فتح مدينة أجنبية، مع أنه لم يقضِ إلا تسعة أشهر للاستيلاء على أكثر المدائن اليونانية مالًا وأعزها نفرًا. ولكن كلمة بيريكليس هذه إنما نقلها صديق لسيمون خصمه؛ فهي بذلك بعيدة الاحتمال؛ لأن كلمة كهذه تخرج من فم رجل سياسة لا تعد إلا غشمًا. إنها فخر شخصي سيئ الذوق ومعاجزة في غير موضعها موجهة للحلفاء.

ولكن مهما كان انتقاص هذا الشاعر له حقًّا أو باطلًا، فإنه كافٍ في الدلالة على ما علقته آتينا من الأهمية على هذه الحرب قصيرة العمر غزيرة الدماء. وعلى رأي طوكوديدس الذي هو مؤرخ شاهد عيان إن السموسيين لو كانوا انتصروا في هذه الحرب لأخذوا من آتينا سيادة البحر؛ فكانت هذه الحرب على ما هي محل للأسف حرب موت وحياة بالنسبة للجمهوريتين، فلما خضعت سموس رغم مقاومة ميليسوس العنيفة لم يبقَ لآتينا شيء تخشاه إلا شر نفسها، وذلك نوع من الخطر تلهو عن الشعور به المدائن كما تلهو عنه كبرياء الأفراد.

لا أريد أن أجاوز بهذه الاعتبارات التاريخية إلى أبعد من ذلك، بل يظهر لي أنها على إيجازها كافية لأن تكشف بوضوح عن حالة الوسط الحقيقي الذي نشأت فيه الفلسفة والذي عاش فيه الأعيان الذين نشتغل بأمرهم وعملوا أعمالهم. وإني ملخص أبرز رسوم هذه اللوحة التي رسمتها لإنعاش حياة تلك الأزمان أو بعض أجزائها على الأقل.

أجل ظهرت الفلسفة لأول مرة في آسيا الصغرى قبل الميلاد بستة أو سبعة قرون، إنها المستعمرات الإغريقية التي خرجت من يونيا بيلوبونيز، وهي التي أشعلت هذا المصباح في أقطار نصف متوحشة ونقلته إلى آتينا حيث كان الاستعداد للانتفاع به تامًّا، فإن أنكساغوراس الكلازوميني عاش مع سقراط، وسقراط هو أب لأفلاطون، ويمكن أن يقال إنه أب لأرسطو أيضًا، ولكن قبل أرسطو وقبل أفلاطون وقبل سقراط كانت بذور الفلسفة مبذورة على أرض أخرى، وكان من اللازم أن تنقل إلى أطيقا حيث تؤتي ثمراتها. نعم إن الفلسفة كانت مسبوقة هناك — كما هو شأنها في كل ناحية — بالشعر؛ فإن هوميروس أنشد من قبل أن يفكر فيثاغورث بأربعمائة أو خمسمائة عام، ولكن العلم بجميع صوره: الفلك والرياضيات والطبيعة والتاريخ والطب، كل ذلك تبع الفلسفة وناصرها؛ لأن الفلسفة هي التي نفخت روح الحياة في كل هذه الفروع واكتسبت بها قوى جديدة.

في وسط المنازعات المدنية والحروب الأجنبية والتجارة والصناعة والملاحة إلى الجهات السحيقة والوقائع والأخطار المتنوعة، في وسط حروب الأبطال التي كان يُذكي نارها فئة قليلة من الرجال الأذكياء الأحرار على دولة فخمة، في وسط كل ذلك يجب أن يوضع مهد الفلسفة الخاشع المجيد. لم يكن هاجر فيثاغورث وإكسينوفان إلى شواطئ إيطاليا وإلى إغريقا الكبرى إلا سخطًا على الطغيان أو الاضطهاد، وما لقحت إيطاليا إلا بهذين الأستاذين اللذين جاءاها من الشاطئ الآخر للبحر، ولكنها لم تثمر؛ لأن النبات الغريب لم يجد فيها الأغذية الضرورية لنضجه، فكان أن ترجع الفلسفة إلى منزلها الأول الذي منه درج أوائل المهاجرين لتكسب فيه صورتها الحقيقية وتكتسي ثوب جمالها وتستوفي قسطها من العظمة وحقها من الاستقلال الذي كللها به استشهاد أهليها. غير أن هذه الفلسفة ذاتها مهما دعا الظاهر إلى أنها ابتدعت في إغريقا فلا يكون من المحتمل أن تكون اقتبست الشرارة من قبس الاختلاط مع جيران إغريقا؛ فإن طاليس قد عاش مع الليديين، وأصل أجداده من فينيقيا، وفيثاغورث الذي يمكن أن يكون هو أيضًا من أصل فينيقي زار حديقة سوريا ومصر وكلدة. ماذا تعلم هناك؟ وماذا جلب منها؟ أو بعبارة أخرى: بماذا تدين الفلسفة الإغريقية جدة فلسفتنا وأم غربنا للعلم الشرقي؟ هل من عليم يحل هاتين المسألتين؟ هل العقل اليوناني بل العقل الغربي اقترض شيئًا ما من العقل الشرقي العتيق؟ هذه أيضًا مسألة مظلمة على ما لدينا من النور الحديث، وسأحاول الجواب عليها بعد، غير أني بادئ ذي بدء أبغي تكملة لما سبق أن أثير مسألةً أقل بسطًا ولو أن لها أهميتها وفائدتها؛ فإنها مع قلة تسديدها جوهرية.

نحن نعرف فلاسفتنا ونعرف بعض الحوادث الرئيسية في حياتهم، نعرف بعض مؤلفاتهم إن لم تكن لدينا كلها، وإذا كان هوميروس هو وحده الذي وصل إلينا كاملًا تقريبًا بفضل أفلاطون فقد كان يمكن أن يصل إلينا الآخرون إذا لم تكن المصادفة أعدمت تآليفهم التي هي مستودعات أفكارهم؛ إذن فقد كتب الأقدمون، ومن ذا الذي يجعل ذلك موضعًا للشك؟! هذه النظرية التي أقر بها هنا ليست قاصرة على ما يتعلق بطاليس وفيثاغورث وإكسينوفان ومعاصريهم، ولكنها تنسحب أيضًا على من قبلهم وعلى من بعدهم إلى مسافات طويلة، كيف خرجت من أيدي مؤلفيها تلك المؤلفات التي هي الآن تحت أيدينا كاملة أو آثارًا ناقصة ومخرومة؟ وعلى أي مادة كتبت بادئ الأمر؟ وماذا كانت وسائط الكتابة في عهد إكسينوفان بل في عهد ليكورغوس أو هوميروس؟

ولأجل أن يكون بحثنا في حدود وضعية ضيقة نتساءل كيف كانوا يكتبون في المستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى في حاجات تجارتهم النشطة ومقتضيات سياستهم المعقدة الحازمة وشعرهم الحاد وعلمهم العجيب، وبالجملة في سائر حاجات عيشة اجتماعية راقية مليئة بالأعمال.

أظن أننا الآن بحيث نجيب على هذه المسألة بطريقة قاطعة واضحة تمام الوضوح، ولكن قبل أن نقول كلمتنا في هذا اللغز نرى من الحسن تقديم حوادث مسلم بها لنبيِّن أن استعمال الكتابة قبل الميلاد المسيحي بسبعة قرون في آسيا الصغرى بل في فارس نصف المتوحشة كان من الانتشار والسهولة على ما هو عليه عندنا الآن. كانت موادها أشياء أخرى، ولكنها تكاد تساوي المواد التي نستعملها اليوم إلا أعجوبة المطبعة. لم يكن للناس في تلك الأزمان البعيدة ورق كالأوراق التي عندنا، ولكنهم كان لديهم ما يساويه وما يؤدي لهم المطلوب من الورق.

أفتح بالمصادفة هيرودوت وطوكوديدس وإكسينوفان وأفلاطون وأرسطو، وأخذ الأشياء كما رووها بل كما رأوها وكما استعملوها.

أضمر هربغوس وهو في معية أصطياغ — ملك الميديين — أن ينتقم من سيده القاسي انتقامًا وينتصف لنفسه، وأراد أن يتفق مع قيروش الذي على حداثة سنه كان له بين الفرس من النفوذ ما سيخرج منه مملكة فسيحة الأرجاء. لما لم يسع هربغوس أن يتصل مباشرة بالأمير الشاب الذي يحمل هو أيضًا ما يدعوه للانتقام، أرسل خادمًا أمينًا يحمل إليه بعض الصيد، وجعل في بطن أرنب كتابًا أخفاه فيه يحرض به قيروش على الثورة، ويؤكد له مساعدته إياه، ماذا فعل قيروش؟ لما فتح بطن الأرنب بيده، كما أوصى المهدي خادمه به، وقرأ الكتاب بمعزل. وضع كتابًا مزورًا يفيد أن أصطياغ قد عيَّنه رئيسًا على الفرس التابعين وقتئذ للميديين. وقرئ ذلك الكتاب المزور على أعضاء عائلة الأشيمينيين فصدقوه، وبهذه المثابة قادهم قيروش على غير علم منهم وحارب بهم أصطياغ وخلعه.١٦ ولم يكن هربغوس وقيروش مع ذلك إلا متوحشين. ولكن ها نحن أولاء بصدد أناس متعلمين في آسيا الصغرى وفي مصر.
وهذا بوليقراطس طاغية سموس وهو على سرير ملكه متمتعًا بالرفاهية إلى غايتها والناس الذين يعجبون به أو يخافون بطشه يكبرون منه حذقه وسعادته، وكان له بأمازيس الحكيم — ملك مصر — رابطة اتفاق بل صلة صداقة؛ فخاف أمازيس على صاحبه ذلك الموفق المهيب مما اجتمع له من التوفيق المستمر أن يتغير له الدهر، وهو يعلم أنه لا ثبات للحظوظ الإنسانية؛ فنصح له أن يحذر الغِيَر في تقلب القدر. كتب له بذلك خطاب عطفٍ ونبوة، أوصاه فيه أن يضرب على نفسه قربانًا يتقي به سخط الحظ الخادع الخائن إن استطاع؛ فأجابه بوليقراطس الذي يخشى على نفسه ما يخشاه صاحبه بخطاب أرسله إليه في مصر، ذكر له فيه الوسيلة التي اتخذها ليصيب نفسه بمحض اختياره بمصيبة موجعة. والمصادفة الخارقة للعادة هي التي صيرت قربانه عبثًا، فكان أمازيس وبوليقراطس يتبادلان الرسائل بين سموس ومنفيس على نحو السهولة التي يتخاطب بها التجار في وقتنا الحاضر بين أزمير والإسكندرية.١٧ لست أدعي أن الخطاب الذي نسبه هيرودوت إلى أمازيس صورة رسمية من خطابه الأصلي لا يتطرق إليها الشك، ولكنه لا محل لأدنى شك في أن الملكين كانا يتبادلان الرسائل الكتابية.

كذلك كان بوليقراطس نفسه قد جمع مكتبة كثيرة الكتب كما ذكرنا آنفًا، وقد كانت في العالم الإغريقي إحدى الباكورات التي استمتع بها بوليقراطس، وأنفق في جمعها مالًا طائلًا. ويقولون نحو ذلك بالنسبة إلى بيزيسطراط المتقدم بالزمان على بوليقراطس، يقولون إنه أنشأ مكتبة في آتينا وجعلها مكتبة عمومية ليلطف من حال الشعب بهذه المزية وبغيرها، ولكن ناقليْ هذا الخبر إلينا هما من المتأخرين؛ لأن أحدهما أطيني والآخر أولوجل، غير أني لا أجد أسبابًا تحمل على الشك في روايتهما، فأما بوليقراطس فإن مصر كانت له قدوة ما كان أسهل عليه تقليدها كما سنبيِّنه بعد، وكان في استطاعته أن يجمع آثار المؤلفين الذين يعجبون سكان الشواطئ الذين يطربون للشعر ويتذوَّقون طعوم العلم منذ عهد هوميروس، وأما بيزيسطراط فمن المؤكد أنه إذا لم يكن فتح مكتبة للجمهور فهو على الأقل قد اقتنى الكتب واشتغل بنفسه فيها لغرض سياسي محض.

وروى بلوتارخس في كتابه «حياة طيسي» أن بيزيسطراط سلخ من «هيزيود» بيت شعر كان يمكن أن يجرح صلف الآتينيين، وأنه زاد على قصيدة هوميروس بيتًا من شأنه أن يسرَّهم، فذلك الحذف وهذه الإضافة كيف يمكن إثباتهما إلا أن يكون لديه نسخ من تلك القصائد يمكن فيها التغيير والتبديل.

نرجع إلى استعمال الرسائل في العهد الذي نحن بصدده.

إن أوريطيس مرزبان سرديس الذي عامل بوليقراطس بتلك القسوة الفظيعة استوجب بسلوكه الوحشي سخط كل من حوله، فإن أحد زملائه عاب عليه أحبولته التي نصبها لطاغية سموس، فقتله هو وابنه. وكان دارا الذي ارتقى عرش الملك حديثًا ساخطًا على أوريطيس الذي فوق ما قارف من الآثام تلكَّأ في حرب المجوس والفرس بعد موت قمبيز، وكان ذلك أكثر مما يلزم للملك الجديد من الأسباب التي تحمله على التخلص من مرزبان قوي يسوس فريجة وليديا ويونيا جميعًا، ويقود جيشًا عرمرمًا. ولأن يقبض عليه جهرًا بالقوة فيه ما فيه من عدم التبصر خصوصًا في ابتداء حكم جديد، ومع ذلك فإن أوريطس دسَّ على سفراء دارا الذين جاءوا يدعونه إلى مقابلة الملك من قتلهم سرًّا، فصار بجملة ما فعل مستحقًّا للعقوبة، ولكن كان يلزم مداراته بعض الشيء وتجنب ثورة أصبح حدوثها قريبَ الوقوع، فدعا دارا أكابر الفرس، وطلب إليهم أن يخلصوه من ذلك العاصي إما بقتله وإما بالقبض عليه وإحضاره، وفي كلتا الحالتين لا ينبغي اتباع غير طريق الحيلة، فتقدم إليه منهم ثلاثون دفعةً واحدةً كلهم يعرض قيامه بهذا العمل وحده، فلم يشأ دارا أن يختار من هذه العروض الصادرة عن الإخلاص، واقترع بين أصحابه؛ فصادفت القرعة باجي بن أرطوطيس.

ماذا فعل باجي؟ كتب كثيرًا من الأوامر تتعلق بمسائل شتى، وختم كل واحد منها بختم دارا، فلما وصل إلى سرديس سلم هذه الأوامر إلى سكرتير الملك بحضرة أوريطيس؛ لأن كل مرزبان كان لديه ممثل للملك، ففضَّ السكرتير الخاتم عن تلك الأوامر وقرأها على الضباط العظام الذين كانوا حول أوريطيس، وكانت تلك الأوامر موجهة إليهم بنوع أخص، فتلقوا جميعًا أوامر الملك بغاية الطاعة والاحترام، فسُرَّ باجي بهذه المحنة الأولى، ورأى أن في استطاعته الاعتماد على طاعتهم، فأفضى إليهم سرًّا ببعض الأوامر التي يأمرهم فيها دارا بالانفضاض عن أوريطيس والانقطاع عن خدمته؛ فأطاعه الضباط أيضًا وألقوا رماحهم دلالة على أنهم تركوا المرزبان، فلما تحقَّق باجي من تأثيره فيهم جعل سكرتير الملك يقرأ عليهم أمره إياهم بقتل المرزبان، فهجموا عليه فخرَّ صريعًا تحت طعنات سيوفهم، وبذلك أخذ منه القود لبوليقراطس، ونال دارا بغيته من الانتقام.١٨

على ذلك كان الفرس أنفسهم في زمن دارا يستعملون الكتب بالسهولة التي يستعملها بها الإغريق الذين هم أرقى منهم تعلمًا وأكثر مدنية، فإن الملك الكبير كان يرسل أوامره إلى جميع أجزاء مملكته الفسيحة الأرجاء. وكانت هذه الأوامر مكتوبة بالأوضاع وبالمواد التي ربما لا تزال تستعملها إلى الآن تلك البلاد القليلة المدنية.

لما اتهم الإغريق بوزانياس بأن له ضلعًا مع الفرس وكرهوه عزم فعلًا على خيانة قضيتهم الشريفة التي طالما خدمها في بلاتة، فراسل إكزاركسيس بكتاب يعرض عليه فيه أن يخضع له إسبرطة وبقية بلاد الإغريق، فقبل ملك الفرس عرض ذلك الخائن، وكتب إليه بخط يده كتابًا أرسله إليه مع أرطباز مرزبان دسكيلينس. فلما أحسَّ أهل إيفورس خيانة ملكهم، كتبوا إليه ينذرونه بأن يغادر طروادة ويعود إلى إسبرطة حيث يستطيعون مراقبة سلوكه، فلم يجرؤ بوزانياس على مخالفتهم، وعاد إلى مقر ملكه، ولكنه لم يكفَّ مع ذلك عن مراسلته الجنائية، ولكن الرجل الذي سلم إليه آخر الرسائل خاف على نفسه لأنه لم يعد ولا واحد من الرسل الذين حملوا أمثال هذا الكتاب إلى دارا، ففضَّ غلاف الكتب بعد أن قلد الختم الموضوع عليها ليقفلها كما كانت، فتحها ليرى ما إذا كان لخوفه محل، وإذا به يقرأ توصية على قتله، فحمل الكتب إلى أهل إيفورس وبلغهم أمر الملك الذي كان يسلم إغريقا للمتوحشين.

إن تاريخ طيميستوكل أشبه ما يكون بتاريخ بوزانياس وإن كان أقلَّ منه جناية؛ لأن الآتينيين كانوا حرَّضوه على الخيانة بأن عاقبوه بالنفي ظلمًا؛ فكاتب أرطقزاركسيس. ولما هرب من أرغوص إلى قرقير ومنها إلى الملك أدميت ملك الملوص، ومن عنده إلى إسكندر — ملك مقدونيا — جاء آخر الأمر إلى إيفيزوس حيث كتب إلى الملك الكبير يطلب إليه ملجأً أباه عليه الإغريق. وقد روى طوكوديدس صورة ذلك الكتاب، ولا محل للتظنن في صحته.١٩

من غير النافع أن نعدد الأمثلة لأنها مستفيضة في جميع المؤرخين الذين لم أذكرهم، وليس من الضروري أن نذهب بالتمثيل بعيدًا، فقد وضح أن الناس في إغريقا وفي آسيا الصغرى كانوا يستعملون الكتب في الأعمال العمومية والخصوصية على نحو ما نستعملها نحن تقريبًا، وبوسائل أشبه ما تكون بوسائلنا من حيث المادة التي كان يسهل الحصول عليها من غير عناء، وأنهم يختمون الأوراق على نحو ما نختم أوراقنا بالطوابع الرسمية، وبالأختام التي يمكن تقليدها من غير أن تكسر … إلخ.

وماذا كانت تلك المواد؟

تجيبنا على ذلك عبارة هيرودوت الصريحة؛ فإن ذلك المؤرخ العظيم للأزمان الأولى للعالم الإغريقي قال في عرض حديثه عن كيفية نقل «قدموس» الحروف الهجائية من فينيقيا إلى القارة عند اليونان ما يأتي:
يطلق اليونان على الكتب من قديم الزمان اسم الدفاتر أو الجلود؛ لأنهم لما لم يكن عندهم ورق في تلك الأزمان كانوا يستعملون للكتابة جلود المعزى والغنم، بل في أيامنا ما يزال كثير من المتوحشين يكتبون على الدفاتر أو جلود من هذا النوع.٢٠

وقد أتى هيرودوت بما لا يقل عن ذلك عجبًا؛ فإنه ذكر أنه رأى بنفسه عند زيارته طيبة في بيوسيا في معبد أبولون الأسميني ثلاثة نصائب منقوشًا عليها بالحروف التي كانت تستعمل في يونيا، وهذه النقوش بالغة في القدم إلى لايوس أبي أوديب؛ أي بعد قدموس بأربعة أجيال.

إن الكلمة التي يستعملها هيرودوت عبارة عن الكتب هي كلمة «ببلوس»، ودلالتها معروفة بصورة مضبوطة؛ فإن هذه الكلمة تدل على جزء معين من بردي مصر، ولم يترك تيوفراسط محلًّا لأقل شك في هذا الصدد، فإنه في كتابه «تاريخ النباتات»٢١ قد وصف النباتات المائية، وتبسَّط في وصف البردي الذي ينمو في ماء النيل، وعدد الاستعمالات المهمة المتنوعة التي يصلح لها البردي، وبعد أن قال: إن من الخشب تصنع المراكب، قال: ومن الببلوس تصنع الشرع والحصر والملابس أحيانًا والنعال والحبال وأشياء أخرى كثيرة أهمها الكتب «ببليا» المعروفة عند الأجانب حق المعرفة. وعلى ذلك يكون معنى ببلوس الذي ذكره تيوفراسط هو ذلك الجزء من ساق البردي الذي لمرونته ومقاومته يقبل هذه الاستعمالات المختلفة بالنسج واللَّيِّ.

وخلاف مكتبتيْ بيزيسطراط وبوليقراطس، فالثابت من الأدلة التفصيلية التي أتى بها أفلاطون أن الكتب في زمنه على المعنى الذي نفهمه نحن من هذا اللفظ كانت منتشرة جدَّ الانتشار بآتينا. وقد روى سقراط نفسه في كتاب «فيدون» أنه سمع ذات يوم إنسانًا يقرأ كتاب أنكساغوراس وفيه أن العقل هو نظام كل الأشياء ومبدؤها. ولما قرعته هذه الحكمة البالغة رجا أن يجد في أنكساغوراس حل كثير من النظريات بعدما سمع من براعة الابتداء، فجدَّ في طلب مؤلفاته وهو يظن أنه سيتعلم منها علم الخير والشر، فقرأها على شوق الفهم، ولكنه كلما تقدَّم في القراءة خاب من رجائه؛ فألقى بها إلى جانب ليعود إلى تفكره الذاتي، إذا كان لسقراط كتب يراجعها ويتركها، كما يفعل بيننا عشاق العلم والحكمة سواءً بسواء، يرجعون إلى كنوز دور الكتب فلا يجدون فيها شفاء الغلة الذي يطلبونه.

وروى أنتيفون في أول كتابه «برمينيد» نقلًا عن رواية فيتودور — أحد أصحاب زنون الأيلي — قال: «لما أتى برمينيد — وكان قد تقدم في السن — إلى آتينا مع تلميذه، أقام في حي السيراميك خارج الأسوار؛ فانتقل إليه سقراط في رفقة ليسمع قراءة كتب زنون.» وكانت تلك هي أول مرة حمل فيها زنون وبرمينيد هذه الكتب إلى آتينا، وكان سقراط وقتها صغير السن، وكان زنون نفسه هو الذي يقرأ كتابه؛ لأن برمينيد كان غائبًا في تلك اللحظة، وكان على وشك أن يفرغ من القراءة إذ عاد فيتودور ومعه برمينيد ومستمع آخر هو أرسطوطاليس الذي صار بعد ذلك أحد الثلاثين، ولم يسمع فيتودور إلا قليلًا مما كان باقيًا، ولكنه أقام إلى آخر التلاوة التي كان قد سمعها قبل ذلك في جلسة أخرى.

لما أصغى سقراط إلى النهاية طلب إلى زنون أن يتفضَّل بإعادة القضية الأولى من الكتاب الأول؛ فأجاب طلبه مع الارتياح، وأخذ الكتاب وأعاد الجملة التي وقف فيها سقراط، والتي أراد سقراط استحضار ألفاظها حتى يدخل في مناقشة المعاني: «إذا كانت الموجودات متعددة لزم عليه أن تكون متشابهة وغير متشابهة في آن واحد فيما بينها، وهذا مستحيل؛ لأن غير المتشابه لا يمكن أن يكون متشابهًا، وما هو متشابه لا يمكن أن يكون غير متشابه أيضًا.» وابتدأ الجدال وقتئذ؛ فكرر سقراط قضية زنون، وسأله إذا كان هذا حقًّا هو ما يريده؛ فأكد زنون أن ذلك هو غرض كتابه.

فالتفت سقراط إلى برمينيد وقال له: «أرى واضحًا أن زنون متصل بك لا بصلات الصداقة فقط بل بكتاباته، فالواقع أنكما تقولان جميعًا معنى واحدًا، وإن اختلفت العبارة، فإن أحدكما يثبت أن الكل هو واحد، ويثبت الآخر أن التعدد ممتنع.» فاعترف زنون بأن الحق في جانب سقراط، وأنه ما كتب كتابه إلا انتصارًا لمذهب برمينيد ضد أولئك الذين يبغون جعله سخريًّا، وأن كتابه جواب على نصراء التعدد، وأن الغرض منه أن يبيِّن لهم أن مذهبهم نفسه له نتائج أسخف من المذهب المضاد. وزاد على ذلك زنون بقوله: «إني ألَّفت هذا الكتاب مدفوعًا بدافع المجادلة، فسرق مني قبل أن أسائل نفسي عما إذا كان ينبغي نشره أو لا ينبغي، على هذا كنت يا سقراط تخدع نفسك إذ اعتقدت أن هذا الكتاب إنما أملته عليَّ رغبة رجل ناضج بدلًا من أن تنسبه إلى شاب يميل به ما لطبع الشباب من حب المغالبة.»

واستمر حديثهم دائرًا على موضوع الوحدة والتعدد بما هو معروف لديهم من المواربة والمغالطة مما أكفُّ عن الاسترسال فيه؛ فحسبنا هذه التفاصيل دلالة على أن زنون وبرمينيد لما جاءا من إيليا إلى غرب إغريقا الكبرى كان في بلدهما كتب كما في آتينا، وأن هؤلاء المتناظرين كانوا يتخذون الكتب لما نتخذه نحن من الأغراض؛ يقرءونها ويعيدونها ويقفون ببعض جملها للتحقق منها. ونحن في شأننا لا نقلب إلا على مثالهم صفحات ما لدينا من الكتب التي في حجم الثمن أو الاثني عشرى التي ليست بأكثر مطاوعة للتقليب من كتبهم.

وفي مقدمة فدر الرشيقة قابل سقراط ذلك الشاب الذي خرج يتنزه في الخلاء بعد أن مضى صباحه قاعدًا. فيم قضى فدر صبحه إذن؟ في استماع قطعة كان يقرؤها له ليزياس بن سيفال، وما زال مأخوذًا بما قرئ عليه، وقد كان ليزياس أتى خصيصًا لهذا الغرض من بيره إلى مونيشيا، فطلب سقراط من صديقه الشاب أن يفسر له ذلك الكلام العجيب، فامتنع فدر بفكرة أنه أقل علمًا من أن يكرر مثل تلك العبارات الجميلة، ولكن سقراط الذي كان عليمًا بشغف صاحبه رقيق الحاشية أكَّد له أنه لا بد أن يكون قد حفظ تلك القطعة عن ظهر قلب؛ لأنه لا بد أن يكون استعاد من مؤلفها أن يقرأها عدة مرات، وأنه لم يقنع بذلك بل لا بد أن يكون أخذ الكراسة المكتوبة فيها حتى يقرأها على خلاء، وأن ذلك كان شغله الشاغل الذي ألهاه عن الخروج صبيحة يومه، فأخذ فدر يتنصَّل بحجج ضعيفة، ولكن سقراط ألحف في المسألة؛ فأظهره فدر على الرسالة المخطوطة التي كانت بيده مخبأة تحت طرف ردائه.

وأخذ الصاحبان يبحثان وهما سائران على شاطئ الألصوص — حيث كان يغمر فيه سقراط قدميه ليبترد — عن مكان يناسب القراءة بالراحة حتى وصلا إلى مجلس تحت شجرة ساج عالية ظليلة بجانب شجرة كف مريم يعطِّر نورها الهواء على مسمع من خرير عين صافية بين التماثيل والأصنام القائمة للحور ولنهر أخلاوس، فجلس فدر وسقراط في الظل على الحشيش الغض وقرأ الشاب كتاب ليزياس في النسخة التي معه.

فأثنى سقراط على بلاغة ليزياس، ولكنه لم يصل إلى حد إعجاب صاحبه الشاب وقال له: إن هذا الموضوع قد كتب عليه الحكماء في الأزمان القديمة بما لا يقل إجادة عن هذا، وحسبك منهم الحسناء سافو الشاعرة أو الحكيم أنقريون، بل حسبك أي كاتب من الكتاب، فلم يصدق فدر من ذلك شيئًا، وسأله أن يأتي بأحسن مما أتى به ليزياس، وإن لم يفعل على الفور فلن يقرأ له شيئًا بعدها؛ فأخذ سقراط لفوره في مسابقة ما ظنها مستحيلة عليه، وأعاد كلام ليزياس في نفس الموضوع على ما فيه من الشطط والإشكال، ولكنه ارتقى كثيرًا عن هذه المنافسة التافهة في موضوع مطروق، وانتهز هذه الفرصة ليعطي الشاب درسًا في الخطابة والذوق.

إن ليزياس يكتب أكثر مما ينبغي فيجب تعلم الحكم على مؤلفاته حتى لا تُعطَى من القيمة أكثر مما تساويه في الحقيقة، وإن رجال السياسة البصراء يربئون بنفوسهم عن تأليف مؤلفات تكون بعدهم موضوعًا لانتقاد الخلف انتقادًا قاسيًا، فإذا كتبوا بالمصادفة شيئًا كتبوه بكل عناية حتى لا يعاب عليهم. وهذا بيريكليس — أخطب الخطباء وتلميذ أنكساغوراس العظيم — لم يترك شيئًا مكتوبًا.

وبينما سقراط يرسم قواعد الخطابة الحقيقية إذا به يصل إلى اختراع الكتابة والكتب، على حسب أسطورة محفوظة في نقراطس — إحدى مدائن الدلتا — ربما كان سولون قد رعاها من هناك، أن الكتابة من اختراع الإله توت وهو أفضى بها إلى الملك طاموس الذي كان يحكم في طيبة. ولم يعجب طاموس بهذا الاختراع كما أعجب به مبدعه، وخشي على المصريين من الكتابة التي يبعد عليها أن تصيِّرهم أكثر حكمة، بل تضرهم متى جعلتهم يعتقدون أنهم يعلمون ما يقرءونه قراءة سطحية في كتبهم.

قال سقراط معضدًا رأي طاموس: «يكون الإنسان» من البساطة بمكان إذا تصور أنه يمكن إبداع أي فن من الفنون في الكتب، وأنه «يمكن تعلمه منها، كما لو كان قد خرج يومًا من الكتب شيء بيِّن متين، إلا ما يكون» من تنشيط الذاكرة عند الذي كان يعلم من قبل ما تحويه الكتب، وإن محصلات الكتابة أشبه بمحصلات الرسم. سل لوحات الرسم تجبك بسكوت جليل، وسل «الكتب تجبك دائمًا بهذا الجواب. وقد تعتقد عند استماع ما فيها أنها عليمة، ولكن مقالًا متى كتب دار في كل ناحية؛ فيقع في أيدي من يفهمونه كما يقع في أيدي الذين لم يكتب لأجلهم، وإنه لا يعرف لمن يتكلم وأمام من يلزم الصمت». فإذا احتقره أو عابه أحد بغير حق التجأ إلى أبيه ليساعده؛ لأنه لا يستطيع أن «يقاوم ولا أن يساعد نفسه».

فسقراط يحط من شأن هذه المقالات الميتة في طي الكتابة التي يحويها ويرفع فوقها قدر المقال الذي ينقشه العلم في نفس الذي يتعلم، ذلك المقال الحي المليء بالحياة هو الذي يبقى في الذهن، وما منزلة المقال المكتوب منه إلا الشبح الباهت، هذا هو ما ينصح لفدر أن يكثر العناية بمزاولته. إن الشاعر والناثر يصححان ويحرران ألف مرة ما قد كتبا، يزيدان عليه أو ينقصان منه، ولكن يلزمهما قبل كل شيء أن يهتمَّا بما في نفسيهما ويرعياه حق رعايته، تلك هي الوسيلة لاستحقاق ذلك اللقب الجميل: لقب الفيلسوف. ذلك هو الرأي الذي يمكن أن يعطيه فدر إلى ليزياس، وذلك هو الرأي الذي يعرف سقراط كيف يجعل أصحابه الشبان يتذوقونه، وعلى الأخص إيزقراط الجميل الذي عليه مخايل النبوغ.

أنا لا أناقش رأي الحكيم الآتيني مهما ظهر لي منه عدم ائتلافه مع ذوقه السليم المعروف، ولكن أيًّا كانت قيمته فإنه ينتج منه أن سقراط وفدر وجميع أصحابهما يستعملون الكتب كما نستعملها نحن، يكتبون مقالاتهم ومؤلفاتهم كما نفعل نحن، ويدرسونها ويصححونها ويهذبونها كما نفعل نحن، وينتج من هذا فوق ما تقدم أنه منذ زمن أفلاطون كان ينسب اكتشاف الكتابة واختراع الكتب إلى مصر. ولا شك في أن أفلاطون — وهو من ذرية سولون — يجب أن يعلم أكثر من غيره شأن تلك الأسطورة التي جاء بها جده الأمجد من البلد الأجنبي.

وعلى هذه الوقائع القاطعة نزيد وقائع من العصر ذاته. لما وصل إكسينوفون رئيس تقهقر عشرة الآلاف من بيزنطة إلى سلميدس آخر نقطة وصل إليها في الشمال، حكى أنه عند دخوله في البحر الأسود وجد سفنًا كثيرة جانحة في الرمل تحت جرف الشاطئ، وأن أهل تراقيا — سكان تلك المنطقة — يسارعون إلى نهب أولئك الغرقى التعساء ويقاتلون على أيهم يسرق من السلب أكثر من غيره؛ ولذلك توجد منقولات كثيرة على هذا الشاطئ الخبيث ينقلها الملاحون في صناديق من الخشب، ومن بينها كتب لا شك في أن أولئك المتوحشين ما كانوا يفهمونها، ولكنهم يحفظونها ليبيعوها.٢٢ ونظرًا إلى أنه كان يوجد عدد عظيم من الجاليات الإغريقية في تلك الجهات — بيزنطة وغيرها — فليس مستحيلًا أن فكر أولئك الملاحون في الاتجار بالكتب، وربما كانوا ينقلونها من الشواطئ الآسيوية ومن آتينا والمدائن الأخرى لليونان النازلين والمهاجرين الذين مع بعدهم عن وطنهم تتوق أنفسهم إلى الاقتباس من نوره الذي هم أحوج ما يكونون إليه في غربتهم.
لا أقول بأنه في زمن أفلاطون، بل فيما قبله، لم يكن يوجد في آتينًا أصلًا كتبية يبيعون الكتب ويشترونها؛ فذلك محتمل جدًّا، ولكنه ليس عندنا على ذلك شهادات تقارن في قدمها ذلك الزمن؛ فإن أول شهادة من هذا النوع تنسب إلى زنون الستيومي، فإن زنون قبل أن يترك مدينة ستيوم — وهي مستعمرة فينيقية في قبرص — اشترى حمولة من الأرجوان ليربح فيها في آتينا، وذهب يستفتي الهاتف عن أحسن طريقة للعيشة، فنصح له الهاتف أن يصير في لون الموتى، وفسَّر زنون هذه النصيحة بأنه يجب عليه أن يعكف على قراءة كتب الأقدمين حتى يشحب لونه، فلما وصل إلى آتينا بعد غرق محزن دخل عند كتبي وأخذ يقرأ بلذة شديدة الكتاب الثاني من مذكرات إكسينوفون على سقراط، فسأل الكتبي وهو مسحور بلذة ما قرأ أين يمكنه أن يقابل المؤلفين الذين يكتبون مثل هذه الملح؟ فأشار له الكتبي بإصبعه إلى «قراطيس» الذي كان مارًّا وقتها في الشارع، فعجل زنون إلى الأستاذ يتعقَّب خطاه حتى وصل إليه وتتلمذ عليه، ولكن لما لم يستطعم ذلك الجفاء الغليظ اعتزل قراطيس؛ إذ أصبح في قدرته أن يضع مؤلفات لا تقل عن مؤلفات أستاذه، وأخصها كتابه على فيثاغورث.٢٣ وكان عمر زنون وقتئذ ثلاثين عامًا، وعلى الاحتمال الغالب أن أرسطو وقتها كان لا يزال حيًّا، فإن ذلك كان في آخر ملك إسكندر.

أقص حادثة أخيرة أستعيرها من نظريات أرسطو؛ يتساءل المؤلف: لماذا قطع الكتب يعطي هيئات مختلفة على حسب ما إذا كان هذا القطع مستقيمًا أو بانحراف؟ أترك التفسير إلى ناحية؛ لأنه لا يهمنا هنا، ولكن ذلك يبين أن أرسطو كان لديه كتب من جنس كتبنا وعلى الأقل من جهة كونها مقصوصة على صورة منتظمة قليلًا أو كثيرًا. بعد ذلك في الفصل الثامن عشر يبحث أرسطو: لماذا تنيم القراءة بعض الناس؟ ولماذا بعضهم على الضد من ذلك يتناول الكتاب حين يريد أن يبقى ساهرًا؟ كل ذلك يعين استعمالات للكتب أشبه ما تكون بما نفعل نحن. كان في آتينا بعضهم يقرأ في سريره وليس معدومًا فيها هذا الصنف من الناس الذين يأتون هذه البدعة عندنا.

من أين جاءت هذه الكتب؟ وعلى أي مادة كانت مكتوبة؟ لا أتأخر في الجواب: كانت مكتوبة على ورق البردي، وكان البردي يجيء من مصر منذ أقدم الأزمان، كان بين مصر وبين إغريقا روابط مستمرة، ومن باب أولى كان بين مصر وآسيا الصغرى. وإن أقدم الهجرات التي اتبع فيها سبيل أناخوس وسكروفس وكثير غيرهم إنما عادت من شواطئ النيل جالبة معها إلى الهلين في عداد ما جلبته لهم أسماء جميع آلهتهم المتنوعة إلى اللانهاية، وبعد ذلك ضاعفت العلاقات دواعي التجارة والحروب. وفي تلك القرون التي نحن بصددها كانت مصر متدخلة دائمًا لمصالح شتى في سياسة جميع الأمم المجاورة لها، وعلى الأخص سياسة المدائن الإغريقية التي على الشاطئ. ولما أن فتح الفرس مصر صارت هذه العلاقات أكثر توثقًا واستمرارًا؛ فإن أسطول المصريين وجيوشهم كانت تشهد كل حين وقائع البر والبحر، ومن البديهي أن الأمم المختلطة على هذا النحو تتبادل كثيرًا من الأشياء بحكم الضرورة. وكانت مصر وقتئذ الوحيدة تقريبًا في إنتاج البردي؛ فكانت تصدِّر منه كميات وفيرة إلى بقية العالم.

قد كان من السهل على مصر وهي التي اكتشفت الكتابة، وهي التي تخرج البردي وتستعمله تلك الاستعمالات الصادرة عن المهارة والذكاء، أن تتصور أيضًا إنشاء المكاتب، فإن الكتب متى كتبت وجب جمعها وحفظها لحفظ الذكر لكل ما اشتملت عليه، وعلى الرغم من قول طاموس وأفلاطون وسقراط فقد ظهر أن تلك المحفوظات مفيدة ونفيسة جدًّا. ذلك ما كان هو الواقع؛ فإن أوزيمندياس — أحد ملوك مصر — يعتبر أنه أول من اقتنى مكتبة أو من أوائل من اقتنوا مكاتب.

وتذكار هذا الحادث العجيب نقله إلينا ديودور الصقلي الذي زار مصر في الأولمبية ١٨٠ كما كان زارها هيرودوت من قبله بأربعمائة وخمسين عامًا، ورأى بعينيه كل ما يتكلم عنه تقريبًا، بعد أن قال كلمة عن قبور الملوك التي كان عددها سبعة وأربعين على رواية الكهنة، والتي لم تكن إلا سبعة عشر حين زارها ديودور.٢٤ وصف بغاية التفصيل الأثر الشهير لأوزيمندياس، ومن بين العمائر التي تنسب إلى هذا الملك دار الكتب المقدسة المنقوش على وجهتها «دواء النفس».
ولا يستنتج من كلام ديودور نفسه أن هذه المكتبة كانت لا تزال قائمة في زمنه، فأما أنها وجدت فذلك ما لا يكاد الشك يتطرق إليه. ولقد كان لدى الكهنة المصريين كتب بالغة في القدم مسجَّل فيها تاريخ البلاد سنة فسنة تسجيلًا منتظمًا والوراثة غير المنقطعة على عرش مصر لأربعمائة وسبعين فرعونًا وخمس ملكات، ولم يشأ ديودور أن يكرر بالنسبة لعهد كل فرعون ما كانت تحويه هذه الكتب التي يظهر أنه اطلع عليها، ولكنه وضع خلاصتها، وعلى تلك الوثائق بنى عمله، فإذا لم تكن هذه المكتبة موجودة قبل المسيح بخمسين عامًا فلا أقل من أن يكون ذكرها واردًا في تلك السنويات الرسمية التي كان لا يزال يمكن الاطلاع عليها مهما كان مبلغها من الضبط قلة أو كثرة.٢٥

وعلى رأي علمائنا المشتغلين بالآثار؛ فإن أوزيمنديوس الذي كان يسميه الإغريق أوزيمندياس هو فرعون من العائلة السادسة عشرة. وهذه العائلة يقترن عهدها تقريبًا بعهد أناخوس؛ أي بتاريخ نحو ألفي سنة قبل الميلاد؛ فإن الهكسوس أو عرب الرعاة تكون العائلة السابعة عشرة.

مثل هذه الأحاديث ربما كانت تظهر لنا حديث خرافة؛ إذ لا يمكن التصديق بوجود كتب في زمن بالغ من القدم حد الغاية، إذا لم نكن حاصلين الآن في متاحفنا على الأدلة التي لا تقبل التهم، المثبِتة لهذه الحوادث؛ ففي باريس وفي طورينو وفي ليدن وفي برلين … إلخ أوراق البردي والمخطوطات التي يصل تاريخها إلى ثلاثة عشر وأربعة عشر قرنًا قبل الميلاد المسيحي، بل إلى أبعد من ذلك، ولكل أن يراها، ولمعرفة تاريخها ليس عليه إلا أن يستفتي شمبوليون ودي روجي ومارييت وأميدي بيرون وليمانس ولبسيوس … إلخ.

إن بردية طورينو الشهيرة التي تكلم عنها شمبوليون في خطابه إلى دي بلاكاس (ص٤٢) هي على الأقل من القرن الثالث عشر قبل المسيح كما بيَّنه لبسيوس (تودتنبوخ ص١٧). وفي كتاب الملوك نقل لبسيوس (لوحة ٦) مخطوطة يصل تاريخها إلى العائلة الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وذلك ما يبلغ بنا أقصى مما ذكرنا. ووصف مارييت في مذكرته عن دار الآثار ببولاق (ص١٤٨) برديًّا وُجِد في طيبة في نحو المترين طولًا يتعلق بإحدى الثلاث العائلات الأولى للإمبراطورية الجديدة، وهذه المخطوطة لا يقل عمرها عن ١٢٨٨ سنة قبل الميلاد يمكن أن تكون من سنة ١٧٠٠، ومخطوطة أخرى (ص١٥٣) طولها أربعة أمتار ونصف على ٠٫٣٥ ارتفاعًا، وهي من متعلقات العائلة الثامنة عشرة، فتكون من سبعة عشر قرنًا قبل الميلاد.

ويمكن إيراد أمثلة من هذا النوع إلى ما يشاء، ولكن حسبنا ما أوردناه، وما أظن بنا حاجة إلى المجاوزة بالإيضاح إلى أبعد من ذلك؛ فقد كمل.

أكثر من ذلك، قد وجد بجانب المخطوطات الأدوات التي تصلح لكتابتها فناجين تحوي المادة الملونة وقصب الأقلام، وذلك ما يعدل عندنا المحابر والريش، والمصاقل التي تصقل البردي قبل الكتابة عليه، والمقالم التي توضع فيها الأقلام. وفي دار الآثار بليدن توجد ألواح الكتابة ومعها دوي فيها يميز المرء بغاية الوضوح الحبر الأسود أو الأحمر وقد جف في باطنها ودوي من البرونز … إلخ. وكل هذه الآثار إنما هي سابقة على العائلة السادسة عشرة على رأي ليمانس (ص١٠٨ ف٢٤٥). وفي دار الآثار ببولاق توجد ألواح الكتاب، ومعها كل لوازمها، وهي كما قرر مارييت سابقة لعهد إبراهيم (ص٢٠٩)؛ وعلى ذلك يكون عمرها من ٣٥ إلى ٤٥ قرنًا. وفي باريس في متحفنا المصري أيضًا جميع الأدوات اللازمة للكتاب (القاعة المدنية — دولاب p درج x)، وكذلك في قاعة الموتى (درج L M) ترى المخصوطات إما على ورق البردي أو على القماش، كل ذلك غير أوراق البردي الكبيرة المنشورة المحبوكة بالأطر المغطاة بالزجاج، والتي تبلغ أطوالها عدة أمتار. وفي ليدن مخطوطات تبلغ أطوالها إلى اثني عشر مترًا. والواقع أنه كان يمكن صنع ورق البردي إلى طول غير متناهٍ؛ لأن العرض وحده هو المحدود، ولا يكاد يزيد عن ٣٠ سنتيمترًا.

من التفاصيل التي تقدمت، والتي يمكننا أن نزيد في إيضاحها عند الحاجة أظن أننا نستطيع استنتاج النتائج الآتية التي هي كذلك — كما يظهر لي — حوادث ثابتة: إن فلاسفتنا للقرن الخامس والسادس قبل الميلاد كتبوا مؤلفاتهم، سواء في آسيا الصغرى أو في إغريقا الكبرى، وقد وصل إلينا بعض أجزاء هذه المؤلفات من خلال الصعوبات التي كانت تقترن بنقل الكتب قبل اكتشاف المطبعة واختراع الورق من القطن ومن الكتان أو استعمال الرق. وإن كتب إكسينوفان وميليسوس، بل ربما كتب طاليس وفيثاغورث أيضًا كلها كتبت كما يكتب كل الناس وقتئذ على ورق البردي المصري. ولا بد أن تكون صورها على شكل ورق البردي المحفوظ في دور الآثار. ومن الممكن أن تكون أوراق البردي رتبت — منذ عهد قديم وبالتحقيق منذ عهد أرسطو — بحيث يكون شكلها كشكل كتبها الحاضرة؛ ومن ثم تيسر جمع الكتب في المكاتب. فأما المكاتب التي ينسبونها إلى بوليقراطس وبيزيسطراط فلم تكن بلا شك إلا تقليدًا للمكاتب المصرية التي كان أشهرها دار الكتب التي أنشأها أوزيمندياس.

ما الذي بقي علينا تعرُّفه؟ ربما كان شيئًا واحدًا هو الذي تقتضيه نفوسنا الطلعة بحكم عاداتنا الجديدة في دقة التحري، وهو صنع البردي المخصص للخطابات ولمؤلفات الكتاب. ومن محاسن المصادفات أن بلاين الذي ليس أقل منا حبًّا للاطلاع قد نقل إلينا هذه المعلومات؛ إذ يقول لنا كيف كان يصنع ورق البردي في زمنه. ومن المفهوم ضمنًا أن هذه الصناعة قد نالها بعض التحسين بمرور الزمن الطويل الذي يبتدئ من عهد أوزيمندياس إلى القرن الأول للميلاد، ولكن الأصول الرئيسية لهذه الصناعة لا بد أن تكون قديمة جدًّا، بل الظاهر أنه لم يكد يدخل عليها أقل تغيير.٢٦

وقد عُني بلاين عناية كبرى بوصف هذا القصب المسمى برديًّا؛ نظرًا إلى «أن المدنية وتذكار الأشياء مرتبطان باستعمال الورق، وبهما يتعلق تخليد ذكرى الرجال.» أما فرون فإنه لم يبلغ بتاريخ استعمال الورق إلى أبعد من عهد إسكندر الأكبر وتأسيس مدينة الإسكندرية. وقد يكون ذلك صحيحًا فيما يتعلَّق باستعمال الورق في روما، ولكننا قد رأينا آنفًا أنه لا يمكن أن يكون صحيحًا بالنسبة إلى مصر ولا إلى إغريقا، وبلاين لا يشاطر رأي فرون مهما كان معتبرًا، وهاك ما يقوله في ذلك النبات النفيس الذي يريد درسه:

ينبت البردي في المستنقعات أو مياه النيل الراكدة على عمق لا يزيد على ذراعين، جذره المعوجُّ في ثخن الذراع تقريبًا، وساقه مثلثة الأضلاع، ويندر أن يعلو أكثر من عشرة أذرع، يتناقص سمكه من تحت إلى فوق، فأما جذره فيستعمل وقودًا، وقد تتَّخَذ منه بعض الآنية، وأما ساقه الحطبي فتتخذ منه القوارب، ومن قشرته تنسج الشرع٢٧ والحصر والملابس والأغطية والحبال. وذلك ما قرأناه آنفًا عن تيوفراسط ونقله عنه بلاين بلا شك، وإن بردي مصر في كل الاستعمالات التي ذكرناها خير من كل بردي آخر؛ فإن البردي الذي ينبت في سوريا أو على شواطئ نهر الفرات بقرب بابل بعيد عليه أن يساوي البردي المصري، خصوصًا في صنع الورق.

ولصنع الورق يقسَّم البردي إلى أشرطة رقيقة جدًّا وعريضة بقدر الممكن. وأحسن شريط منها هو شريط قلب النبات، ثم الذي يليه على هذا الترتيب. وبهذه الطبقات الداخلية وحدها كان يصنع ورق الكتب المقدسة، وسمي الورق من ثم باسم هييراتي، وبعد حين أعطي لأعلى درجة من الورق المنقَّى بالغسل اسم أغسطس، كما سميت الدرجة الثانية من الورق باسم ليفي امرأة أغسطس، وكان الهييراتي إذن في الدرجة الثالثة، وورق الدرجة الرابعة سمي أنفتياتري نسبة إلى المكان الذي كان يُصنع فيه، ومن أنواعه المتدركة إلى أسفل ورق سايس الذي يصنع من قراطه البردي، ثم وراق الطينيوطيقي من مدينة قريبة من سايس ويباع بالوزن، ثم ورق الأنبوريتيك أو ورق المتجر، ولا يصلح إلا للظروف أو لف البضائع، وبعد هذه الأشرطة تأتي قشرة البردي، وهي أشبه ما تكون بقشرة الخيزران لا تصلح إلا لصنع الأحبال التي لها خاصة البقاء في الماء.

كل أنواع الورق كانت تصنع بطريقة واحدة ولا يكون الاختلاف إلا في مادة الورقة، ومتى أخذت الأشرطة بعناية تنشر على نحو خوان مندى بماء النيل؛ فإن هذا السائل الحامل للطمي يصلح كلزاق لتقوية الأشرطة وضمها بعضها إلى بعض. وعلى هذا الخوان الممال نوعًا تلزق الأشرطة على طولها، وتقرض من نهايتها حتى تصير منتظمة ومتساوية في الطول، ثم يؤتى بأشرطة أخرى توضع بالعرض على شكل تعريش، ولوقاية الورق من التمزق كانوا يضعونه تحت المكبس فيحصلون منه على الورق الذي يعرضونه بعد ذلك للشمس ليجفَّ، ثم يضعون هذه الأوراق بعضها فوق بعض لتكون منها فرائد الورق التي لا تتجاوز عدة الواحدة منها عشرين ورقة. وكان الورق مختلف العروض، وأحسن ما كان في عرض ثلاثة عشر إصبعًا، والهييراتي لم يكد يتجاوز عرضه الأحد عشر، وقال فانيوس إن هذا الورق الهييراتي الذي اشتق اسمه من اسم ذلك الصانع الماهر الذي أبدعه لا يتجاوز العشرة. والورق المتجري كان في عرض ستة أصابع، وكان يمكنهم أيضًا أن يصلوا الأوراق أطراف بعضها ببعض؛ ليحصلوا على ورق لا نهاية لطوله كما عندنا.

وكانوا يقدرون الورق كما نقدره نحن برقته ومتانته وبياضه وصقله. وقد اهتمَّ الإمبراطور كلود بتحسين ورق أغسطس الذي كان يجده أرقَّ مما يلزم وأكثر شفافية؛ فجعل منه ورقًا جديدًا بأن جعل السدى من أشرطة الدرجة الثانية واللحمة من أشرطة الدرجة الأولى، وبهذه الطريقة زيد في عرض الورق؛ إذ بلغ عرضه ذراعًا في الفرخ الكبير، وكانوا يفضلون ورق كلود في الكتب ويستعملون ورق أغسطس في المخاطبات.

وكانوا يصقلون الورق بقطعة من العاج أو بمحارة ناعمة، ولكنه كان من اللازم الوقوف بهذه العملية عند حد معين، وإلا زلق الحبر فلا يأخذ في الورق وتكون الحروف المكتوبة معرضة لأن تنمحي عما قريب، وذلك هو الذي يحصل في ورقنا حين يجاد صقله أكثر مما يلزم. ربما يكون حسنًا في مرأى العين، ولكنه لا يطيب الانتفاع به. وقد كان يحدث ماء النيل الحميء ضررًا من هذا النوع متى صب من غير احتراس في ابتداء العملية؛ إذ يجعل الورق غير قابل للكتابة، بل يترك فيه رائحة يعرفونها له وبقعًا كان يلزم لإزالتها أن يخرقوها من مواقع البقع ويرقعوها بغاية الدقة حتى لا يفطن لها المشتري — لحسن سبك الغش فيها — إلا بالاستعمال؛ إذ يشرب الورق الحبر في مواضع الرتق ويجعل الحروف سائحة لا تقرأ إلا قليلًا.

لذلك قال بلاين إنه لتوقِّي تلك العيوب المختلفة كان يلزق الورق بكيفية تجعله أطرى من قماش الكتان نفسه، ووجد أن هذه الطرائق فعالة جدًّا. قال إنه رأى عند أحد أصحابه — وكان مغرمًا بخطوط المؤلفين — مخطوطات لشيشيرون ولأغسطس ولفرجيل على ورق من هذا النوع، بل رأى عنده مخطوطات لطيبريوس وقايوس غراكوس مضى عليها مائتا عام؛ مما يدل على أن لصق الورق كان من الجودة بحيث يقاوم كرَّ الزمان.

وبعد أن أورد بلاين هذه التفاصيل عاد ينقضُ رأي فرون في أن استعمال الورق حديث في إيطاليا، وحاول أن يثبت — ضد مذهب ذلك العالم — أن الكتب كانت معروفة منذ زمن «نوما بومبليوس»؛ فقد عثر في تابوت هذا الملك الذي وجد في زمن قنصلية سيتيغوس وبيبيوس طنفيلوس، بعد موته بخمسمائة وخمس وثلاثين سنة، على كتب من الورق، كذلك ثلاثة كتب جاءت بها العرافة إلى طرخان الأجل كانت مكتوبة على ورق حرقت منها اثنين، والثالث الذي قبله هذا الملك البصير قد حفظ إلى عهد سيلا، ثم باد في حريقه روما.

وإذا أريد برهان دامغ غير منقطع الأثر على استعمال الورق في الزمن القديم فما على المريد إلا أن يتصفَّح رسائل شيشيرون فيجد فيها المعلومات المضبوطة القوية في هذا الموضوع؛ فإن الناس ما زالوا يستعملون الأوراق مع السهولة القصوى، ويسرفون في استعمالها إلى الغاية. كتب شيشيرون إلى أطيقوس كل يوم بل مرات عديدة في كل يوم تارة رسائل طويلة، وتارة أخرى تذاكر بسيطة يرسل إليه مع رسوله بعض أسطر أو صحيفة إذا لم يكن لديه ما يقوله أكثر من ذلك أو سلسلة من الصحائف لا آخر لها إذا انطلق قلمه يتدفق أو إذا حضرته مناقشة مسائل هامة.

ومتى كان موضوع الكتاب يهم عدة أشخاص عُمِل منه نسخٌ بعددهم، أو صرح للمرسل إليه بإتيان هذا العمل، أما إذا كان موضوع الكتاب دقيقًّا يشطب الكاتب غير مرة العبارات الناقصة عن تأدية المعنى المراد تمامًا، ويرجع مرات على ما كتب ويهذِّبه ويحرِّره. وإذا كان الكاتب قد أخذ منه التأثر مأخذًا يُبكيه ترك دموعه أحيانًا تمحو الكتابة، ومتى فرغ من الكتاب طواه وختمه.

فإذا نسي الكاتب شيئًا أو أهمل تفصيل معنى من المعاني فتح الكتاب من جديد؛ فإن كانت الورقة لا محل فيها كتبت الزيادة بالعرض، ومتى قرأ الكتاب المرسَل إليه وكان لا يتضمَّن شيئًا يراد حفظه مزَّقه، ولا يتساهل في ذلك إذا كان المرسل قد أوصى بحفظ سره، فإذا طرح الكتاب مطرحًا من غير أن يمزقه فيمكن رده إلى مرسله إذا طلب رده إليه، فإذا لم يجد أحدهم ورقًا مسح الكتابة من على ورقة أخرى وكتب عليها بعد غسلها أو كشطها متى فرغ الكاتب من كتبه جمعها وسلمها إلى البريد يوصل كل كتاب إلى المرسل إليه بغاية الأمانة. وقد تنتهز الفرصة فيكتب إلى أصحاب متعددين في جهة واحدة، فإذا فك المرسل إليه الصرة وزَّع الكتب على المرسل إليهم، وعند الحاجة قد ترسل الرسل إلى الأشخاص البعيدين.

ويمكن أن يتحمل الإنسان بنفسه كل هذا التعب؛ يكتب كتبه بيده ويختمها ويرسلها، وقد يتخذ له سكرتيرًا يكل إليه كل ذلك، يُملي عليه الكتاب ويوقع عليه بتوقيعه؛ فإذا كان المرء متعبًا، وعلى الأخص إذا كان به رمد اضطر إلى تكليف غيره، وفي هذه الحالة يعتذر لصاحبه بعجزه عن أن يمسك القلم، كما نقول نحن في هذا المقام. وهؤلاء السكاترة هم محل أمانة بالضرورة متى كانوا يطلعون على أسرار العائلة والأعمال الخصوصية والسياسية. وفي الغالب يستحقون هذه الكرامة التي يؤتون إياها، ولكنهم أحيانًا يخونون سادتهم ويفرون بما معهم من الأوراق. ولما أنهم عادة من الأرقاء يقتفى أثرهم ويقبض عليهم إلا إذا أبعدوا في فرارهم بحيث لا يمكن الوصول إليهم، ويخلف الخادم غير الأمين أو العاجز خادم أكثر أمانة وأوفر كفاءة، كل ذلك على عجل بحيث لا ينقطع سير المراسلة زمنًا طويلًا.

وإذا كان استعمال الكتابة في الشئون الخصوصية من السرعة والسهولة على ما وصفنا، فقد كان استعمالها في الشئون العامة لا يقلُّ عن ذلك الوصف؛ فإن تحرير جميع العقود الرسمية يحصل بغاية السهولة. ومتى استكملت هذه العقود الشرائط المطلوبة عمل منها نسخ بقدر عدد المنتفعين بها. كذلك الأوامر تصدر إلى الموظفين القائمين بالأعمال التنفيذية من كل الطبقات والمخاطبات الإدارية تحصل بوسائل سريعة مأمونة يظهر أنها تشبه على الأقل ما هو عندنا الآن. فإلى أقاصي حدود الجمهورية تصل الأوامر العالية التي يصدرها مجلس الشيوخ ويُتَّخَذُ من هذه الأوامر صور رسمية تحفظ بمحافظ السجلات، ولولا المحن المتنوعة التي قلبت حال العاصمة الرومانية الخالدة من فتن داخلية ونهب وحرائق وحروب خارجية وهجوم وغارات … إلخ؛ لولا ذلك كله لكان المرجح أن تكون بين أيدينا تلك الوثائق التي هي أنفس للتاريخ منها لإرضاء حبنا الاطلاع على ذخائر الفن؛ فإن المادة التي كتب عليها كل ذلك يمكن حفظها بدون أن تتغير مدة ثلاثين قرنًا، كما تشهد به أوراق البردي المحفوظة في دور الآثار عندنا. فإذا أصابنا ما أصابنا من فقد معالم من ذلك القدم المحترم المخصب فإنما كان ذلك من خطايا الناس لا من خطيئة الزمان.

كذلك كان استعمال الكتب منتشرًا عامًّا في عهد شيشيرون كاستعمال الخطابات كما هو الحال في أيامنا، فلم يكن أحد من الأهالي ذو ميسرة وعلى شيء من العلم إلا له مكتبة على شكل المكاتب التي كانت لأهالي الإسكندرية وفي سائر مدائن الإغريق من قبل ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون.٢٨

كان لكل امرئ في روما مجموعة من الكتب يختارها لنفسه بنفسه أو بواسطة صديق له عوضًا عنه إذا كان لهذا الصديق من مركزه مكنه من ذلك أو كان معترفًا له بحسن الذوق في هذا النوع. وقد كان من شيشيرون أن كلف أطيقوس إذ كان في آتينا أن يرسل إليه تماثيل وزخارف ليزين بها مكتبته التي كان يسميها الأكاديمي. ولما كان أطيقوس يريد أن يتخلَّص من بعض كتب نسخها ويريد بيعها رجاه شيشيرون في ألا يبيعها من غيره؛ لأنه كان معجبًا بمكتبة أطيقوس؛ وكانت مؤلفة بعناية خصوصية، فطلب إليه تلك النسخ ليجعلها أساسًا لمكتبته، ولا يكون عليه بعد ذلك إلا أن يكملها على حسب ما تقتضيه حاجته ودراسته وهواه، كان ذلك في سنة ٦٨٦، ولم تكن سن شيشيرون تجاوز الأربعين، ومع ذلك يفكر في أن ينزوي من ميدان العمل إلى مسكن جميل هادئ يعيش فيه مع كتبه «تلكم الصحب القدماء» التي يحب مخالطتها حبًّا جمًّا، كما كان يقول ذلك لفرون الذي هو أيضًا يفوق شيشيرون في الشغف بالعلم والأبحاث المتنوعة في قديميات وطنه وقديميات الأمم الأجنبية.

حين تمكَّن شيشيرون من بعض ساعات الراحة والعزلة حبس نفسه في مكتبته التي زخرفها وزيَّنها، واختفى وسط كتبه حتى كان يجعل منها ركامًا عظيمًا يحيط به من كل ناحية. ومتى لم يكن لديه ما يرغب في مراجعته استنسخه عند أحد أصحابه، فإذا كان لبعض الأصحاب مثل هذه الحاجة قضاها لهم على خير وجه فيكلف كتبته ومقربيه وسكاترته بنسخ الكتاب المطلوب، ويجد لذة في إهدائه كما كان يسرُّه أن يتقبَّل كتابًا يُرسل إليه. وكان من الجاري في عرفهم أن الرجل يهدي إلى صاحبه الكتاب الذي يعرف أن له فيه رغبة مستترة أو كان له به حاجة من غير أن يطلبه، وإذا زار أحدهم آخر فوجد كتابًا يوافقه أعير إياه فيرده بعد أن يقضي منه حاجته … إلخ.

يمكنني أن أضاعف هذه التفاصيل إلى غير نهاية، ولكن ما الفائدة في ذلك والناس يعلمون أن الرومان في آخر الجمهورية وقبل بلاين الذي أجاد لنا في كيفية صنع الورق بمائة وخمسين عامًا كانوا قد اتخذوا من البردي كل ما نتخذه الآن نحن من الكتان ومن القطن، فكان الناس يكتبون في روما بمقدار ما نكتب نحن في الأغراض الاجتماعية عينها وبنفس السهولة والحدة، بل مع تشابه تام في الشهوات والمباراة. كانت المادة مختلفة ولكن الموضوع واحد، ولا أجد بين الحالين خلافًا إلا الخلاف الكبير الذي هو المطبعة التي لم تكن لتستكشف إلا بعد ذلك بخمسة عشر أو ستة عشر قرنًا.

كان نسخ الكتب والأوامر الإدارية والخطابات أمرًا غاليًا وبطيئًا، وذلك يستتبع أن تكون تلك النسخ قليلة العدد وفي غاية التعرض للضياع. جاءت المطبعة فجعلت النشر والنقل والحفظ ألف مرة أكثر أمانًا وألف مرة أكثر سرعة وألف مرة أرخص ثمنًا. بيد النساخ استبدل ضبط المكينة المعصوم وقوتها التي لا تعرف حدًّا ورخصها الذي لا ينافَس، ولكن ذلك لم يكن مهما قيل فيه إلا تغييرًا ماديًّا صرفًا، فإن المقصود متوفر في الأزمان الغابرة.

على ذلك يكون المخترع الحقيقي الكبير لا يزال هو الشيخ توت أو أي ساحر آخر من السحرة المصريين، الذي أنطق البردي والحروف التي رسمها عليه قلم الكاتب مغمورًا في مادة ملونة. وعلى الرغم مما كان يفكر فيه البصير طاموس فإن المقالة المكتوبة في الذهن لم تكن لتكفي إلا الذي يحملها في طيات نفسه؛ لأنها منعزلة وشبه صماء، وما كانت المقالة لتعيش إلا بالكتابة، ويمكنها أن ترجو من العمر ما لا ينبغي للفرد الفاني أن يرجوه أبدًا؛ فإن أوراق البردي لا تزال تكلمنا، وسوف تكلم أحفادنا أزمانًا طوالًا مع أن طاموس قد حبس عن الكلام منذ أربعين قرنًا.

من ذا الذي كان يعرف ما افتكره لو لم يكن أحد الكتبة الأقل حذرًا منه قد سجَّل لنا أقواله التهكُّمية على صفحات البردي التي شد ما كان يستهين بشأنها ذلك الفرعون الحكيم المسرف في الحكمة.

بعد أن ثبتنا فلاسفتنا في نصابهم من حقيقة الحوادث التي كانت تعتور حياتهم في حال الدراسة أو في حال الحرب، في حال الإقامة أو في حال التشريد، وبعد أن بينا الظروف الحسية التي ألفوا فيها مؤلفاتهم صار جائزًا لنا عن بينة وشيء من الاطمئنان أن نتساءل إلى أي حد كانت أصلية هذه الفلسفة؟ إنها كما يظهر لنا نبتت نحو القرن السابع قبل الميلاد في آسيا الصغرى المرتبطة بروابط وثيقة مع جميع البلدان المحيطة بها، فبأي شيء هي مدينة لها؟ وهل استعارت منها شيئًا؟ أم هل هي مستقلة تمام الاستقلال لم تتبع سواها؟ وهل لم تنهل شيئًا من غير مناهلها الذاتية؟ أكانت مذاهب طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان محض إبداع لها من الأصلية ما لشعر هوميروس وسافو وأرخيلوكس والكايوس؟ وبعبارة أخرى هل الغرب الذي فتح صدره للحياة العلمية يدين بشيء للشرق الذي هو مخالط له والذي هو معتبر أنه متقدم عليه بكثير في هذا الطريق الوعر الذي حده النهائي هو الفلسفة؟

أجيب من غير تردد بالسلب وأن إغريقا لم تدن لأحد غيرها، وأن المساعدات التي وردتها تكاد تكون من خفة الوزن بحيث يمكن الجزم بأن إغريقا في العلم أيضًا كانت ذات إحداث وإبداع، شأنها في بقية الأشياء الأخرى، وإذا كانت تلقَّت شيئًا عن جيرانها، فما هو إلا أصول عديمة الصور، فصورتها هي، وبلغت من تصويرها حد التمام بحيث يمكن القول بحق إنها هي التي أوجدتها في الواقع.

وعليَّ أن أقرر بادئ ذي بدء ماذا يُعنى بالفلسفة؟ وحسبي حدها وهو: «اتجاه العقل اتجاهًا نزيهًا إلى العلم.» المشاهدة لأجل العلم من غير غرض آخر إلا فهم العالم الذي نعيش فيه وظواهره وأصله ونهايته. هذا هو المعنى الذي تولَّد وقتئذ لأول مرة في العقل الإنساني، والذي — من طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان إلى عهدنا — لا يزال ينمو من قرن إلى قرن، والذي ينمو في المستقبل بلا انقطاع ما دامت القرون وما دام الزمن الذي يقاس بها على بقاء النوع الإنساني. ذلك هو ما أجادت الفلسفة في بداية أمرها عمله: أن اعتنقت جميع العلوم بلا استثناء، وما هو إلا بسبب ضعف عقلنا وضرورات البحث العام أن انفردت العلوم الخصوصية شيئًا فشيئًا، وانعزلت أمها الفلسفة عن أولادها، ولكنها ما زالت تغذِّيها وتتوكأ عليها، ولم تلبث الفلسفة أن حددت دائرتها الخاصة المتوزعة أجزاؤها في العلوم المختلفة التي هي الفلسفة أصلها وتمامها، ولكنها في تلك الأيام الأولى كانت مختلطة بجميع العلوم؛ لأن العلوم لم تكن بعدُ قد خرجت منها.

من هذا سمت نفسها بذلك الاسم الجميل المتواضع؛ فإن فيثاغورث لما سأله ليوز طاغية الفلياز (سيقونيا) أجاب بأنه فيلسوف، وهو اسم لم يُسمع من قبل.

الفيلسوف ليس إلا صاحب الحكمة؛ أي صاحب العقل، ذلك العقل الذي يدرس الأشياء ويدرس نفسه أيضًا، وقد كان فيثاغورث يقول: حال الناس في الحياة يسعون فيها يشبه حال الجمهور يتقاطرون إلى الأعياد الرسمية. ففي جمعيات الجمهور الفسيحة لكل واحد من الساعين إليها أغراض مختلفة؛ أحدهم يقصدها ليبيع فيها بضائعه مدفوعًا بحب الكسب، وآخر لا يقوده إليها إلا حبُّ المجد والرغبة في أن ينال قَصَبَ السَّبق في القوة أو في المهارة، وطائفة أشرف من هؤلاء لا يظهرون فيها إلا لمشاهدة جمال محال تلك الاجتماعات وعجائب الصناعة المعروضة لأنظار الجميع. كذلك في الحياة، للناس الذين تضمهم الجمعية الإنسانية مشاغل متباينة؛ فمنهم المجرورون بجواذب الثروة والتمتع التي لا تُقاوم، وآخرون مملوك عليهم أمرهم بالطمع في السلطان والشرف، وهما لا يُنالان إلا بالحروب الحادة والمنافسات التي تسفك الدماء، ولكن الغرض الأسمى للرجل هو إمعان النظر فيما في هذا الكون من الجمال المتنوع الذي يقدمه لأنظارنا، وبذلك يستحق عنوان فيلسوف. فمن الحسن أن ينظر المرء إلى أقطار السماوات الفسيحة يتتبع سير الأفلاك التي تتحرك فيها على قدر غاية في النظام، ولكنه لا يستطاع فهمه جيدًا إلا بالمبدأ المعقول المجرد الذي يسير الكون ويحصي كل شيء عددًا ومقياسًا.

فالحكمة تنحصر في التعرف بقدر الممكن لهذه الظواهر الإلهية الأبدية الأولية التي لا تتغير. والفلسفة ليست إلا التتبع المستمر لهذه الدراسة الشريفة التي تنير الناس وتصلحهم.٢٩

منذ البداية قد علمت الفلسفة ما كانت تفعل، منذ خمسة وعشرين قرنًا لم تبحث الفلسفة إلا في تحقيق الفكرة التي قامت بها عند خطواتها الأولى بالتدرج تحقيقًا كاملًا، وما زالت حكمة فيثاغورث هي حكمتنا وإن كانت العلوم قد رقت رقيًّا كبيرًا جدًّا، ولكن الفيلسوف لم يتغير؛ فإنه سيبقى دائمًا هو الذي يتأمل في الأشياء ويلاحظها ليفهمها وليفهم نفسه، هذا هو معنى العلم والفلسفة الذي أنسب شرفه إلى إغريقا دون سواها؛ فمن إغريقا تلقيناه من غير أن يكون افتكره أحد من قبلها في هذا الشرق الذي كانت تعتقده ويعتقده غالب أهل زماننا ينبوع كل نور وحكمة.

ممن كانت تستطيع إغريقا أن تستعير هذا المعنى وقتئذ؟ أمن مصر أم من فينيقيا أم من الفرس أم من الهند؟ لا أرى غير هذه الأمم أحدًا كان يستطيع أن يعلِّم الإغريق شيئًا، وأقول: إن هذه الأمم ولو أنها علمتهم أشياء كثيرة فلم تعلِّمهم الفلسفة أصلًا. لا شك في أن كثيرًا من فلاسفتنا — وفيثاغورث على الأخص — ساحوا سياحات طويلة في تلك البلاد، وأنهم ذهبوا إليها ليتعلموا؛ فإن فيثاغورث الذي ربما كان يدلي إلى فينيقيا بعائلته ذهب إلى مصر كما فعل طاليس من قبل وكما فعل هيرودوت بعده بقرن، وأقام فيها. ويقال إنه لقن الأسرار الخفية، وقد يمكن تصديق ذلك بسهولة؛ لأن سولون ذهب إليها أيضًا، والظاهر يدل على أنه لم يقف عند محادثة كهنة سايس٣٠ في أمر الأطلانديد.

ومن المحتمل أيضًا أن فيثاغورث جاوز مصر إلى كلدة، وتحادث مع المجوس كما كان قد تحادث مع الكهنة المصريين، والفضل في ذلك يرجع إلى الطريق الملكي الذي أنشأه دارا يصل به المسافر من سرديس إلى صوص في أعماق فارس وراء دجلة والفرات من غير مشقة إلا طول السياحة التي تقطع في ثلاثة أشهر. وليس يرى لماذا لا يدفع حب العلم إلى إزماع مثل هذه السياحات في حين أن السياسة — حتى قبل فتح ذلك الطريق — كانت تقتضي كل وقت علاقات من هذا النوع.

وقد كان حكماء الإغريق مشوقين دائمًا إلى زيارة مصر وفينيقيا وكلدة، وهي البلاد الشيقة التي كانوا يَؤُمونها ليجدوا فيها كنوز العلم. والواقع أنهم جابوا تلك الأقطار الشاسعة مع ما عليه الوصول إليها من المشقة.

ماذا جلبوا منها؟ الآن وعلى أثر الاكتشافات اللغوية والأثرية التي جاء بها قرننا الحاضر، والمعلومات الهيروغليفية، والكتابات، وأوراق البردي المصرية، وكتب زورواستر، وكتب الهند المقدسة، ودين البراهمة والبوذيين، نقول إن طريق الجواب مفتوح أمامنا، ونستطيع أن نرى فيه أحسن مما رأى الإغريق، نرى ماذا كانت حكمة الشرق المزعومة. تلقاء الآثار المفسرة بالضبط الكافي — إن لم يكن بالكل فعلى الأقل بالجزء — نعلم ماذا تساويه وماذا يمكنها أن تؤتيه، يبحث فيها عبثًا عن الفلسفة وهي عنها غائبة، فكيف يكون الإغريق حتى مع تناول الأسرار الخفية قد وجدوا الحكمة فيها ما دامت لم تكن فيها.

نطرح إلى جانب فينيقيا ويهودة جميعًا؛ فإن التوراة أثر ذو قيمة لا تقدر، إن بما تشتمل عليه وإن بما خرج منها، ولكني لا أرى أن إغريقا استعارت منها شيئًا أيًّا كان، وإذا كانت كتب اليهود المقدسة قد وصلت إليها بأية طريقة كانت، فلماذا تخفي ذلك وهي قد أعلنت إعلانًا عاليًا بل عاليًا فوق ما يلزم حكمة مصر وحكمة المجوس؟ أي عقبة اعترضتها في إطراء الحكمة العبرانية إذا كانت عرفتها؟ يمكن أن يؤسف على أنها جهلتها، وأنا أظن أيضًا أن إغريقا التي كانت مستعدة للرقي بنفسها كانت تجد من دراسة كتب موسى مساعدة قوية، ولكنها ما علمت منها شيئًا. والقول بضد ذلك يمكن أن يكون دليلًا على إيمان حاد، ولكنه ضلال مبين لا ينهض واقفًا أمام أدلة الحوادث. فلما ترجم التوراة السبعون بعد ذلك؛ أي في عهد بطليموس الثاني فيلادلفي (٢٧٥ قبل الميلاد) أمكن الإغريق أن يقرءوها، وليس يرى أنهم تحركوا لها ولا استناروا بها، ولو قرئت عليهم في زمن طاليس وفيثاغورث لكان أثرها أقلَّ من ذلك أيضًا، ولو فسرت لهم لما كادوا يفهمونها ولا يصغون إليها. والواقع أنها لم تفدهم شيئًا.

أقول عن مصر ما قلته عن فينيقيا ويهودة تقريبًا؛ فمن عهد الاكتشاف العظيم الذي أتاه شمبوليون، ومن كل الأعمال التي تبعته وأيدته يعلم ماذا كانت أرض الفراعنة القديمة، فقد يكون الإنسان واثقًا من أنه لن يصادف فيها ما يدل على الفلسفة إلا بيانات غير منتظرة من نوع جديد. كانت الاعتقادات الدينية مستفيضة فيها، وكانت عريقة في أصليتها جميلة على ما فيها من شذوذ، ولكن العلم بالمعنى الخاص لم يكن بها، وكل شيء ساعد على إثبات أنه لم يكن فيها أصلًا، بل لم يكن ممكن الوجود بها على رغم ما عليه أهلها من الذكاء الحقيقي. إن ذلك لا يقلل من أهمية دراسة مصر، ولكنه لا ينبغي أن ننتظر منها ما ليس فيها، لها سنويات وليس لها تاريخ. يمكن أن يكون لها مشاهدات مضبوطة لبعض الحوادث الطبيعية والفلكية على الأخص، ولكنها ليس لها علم، لها مذاهب دينية وليس لها فلسفة، حالها كحال فينيقيا جارتها وحال يهودة التي كانت خاضعة لها وتخلصت منها منذ عهد موسى. يمكن أن يكون لها معلومات كبرى ولكنها لم تمذهبها ولم تركزها على مبادئ معينة.

وللحكم على مجوس كلدة لدينا ما ذكره هيرودوت وما كتبه الكتاب المعاصرون وما تعلِّمنا إياه الكتب الدينية المجوسية التي فتح لنا مغالقها حديثًا علماء اللغات، وفي مقدمتهم إيجين بورنوف.

أما على قول هيرودوت الذي يظهر أنه رأى المجوس عن كثب، فإنهم لا يكادون يكونون إلا عرَّافين. عندما أراد أصطياغ — ملك الميديين — أن يفسر الحلم الغريب الذي رأته ابنته مندان قصد إلى المجوس المحترفين بتعبير الرؤيا واتبع نصيحتهم مع التحرج، إذ أمر بقتل حفيده قيروش، وعندما يريد قمبيز أن يزمع حملته الجنونية على مصر يعهد إلى مجوسي القيام بأعباء الدولة مدة غيابه فيسيء المجوسي في ثقة الملك به ويجلس على العرش أخاه سمرديس الكاذب، ولكن الفرس غاظهم هذا الاغتصاب الذي يفضي إلى خضوعهم للمجوسي، فاتفق سبعة منهم تحت إمرة الفارسي دارا بن هستاسب وذبحوا الأخوين اللذين تبوَّآ المُلك غصبًا، وهم هم المجوس الذين يفسرون حلم إكزاركزيس؛ إذ يهم بمحاربة إغريقا وعلى رأيهم يمشي، وبينما هو في الطريق على ضفاف الستريمون، إذا بالمجوس يذبحون الخيل البيض يستفتحون بها باب النصر، فلما شتت الأسطول (٤٨٠ قبل الميلاد) بريح عاصف على شاطئ تراقيا في رأس سبياس، غير بعيد من أطوس حيث هلك أسطول آخر قبل ذلك بعشر سنين، إذا بالمجوس يقربون قرابين للريح ليهدئوا ثائرته في اليوم الرابع. وبالجملة لا يقرب قربان إلا بحضرة مجوسي لينشد ما يسميه هيرودوت تيوجوني (أنشودة الآلهة) ليتم بذلك الاحتفال الديني.

من أجل ذلك كانت في إغريقا القديمة وعلى الخصوص في روما شهرة للمجوس وكراهة لهم في آن واحد، ومن اسمهم اشتق اسم ذلك الفن الخفي الذي هو «السحر»، وهو مخوف عند العامة وطالما غرر بهم. وقد أنحى عليه بلاين بالسخط فوق ما قد يستحق.٣١ ومنذ عهد أرسطو كانت تلصق هذه التهم بمجوس الفرس والكلدان، فإن هذا الفيلسوف قد أفرد مؤلفًا خصيصًا بذلك وسماه «الماجيك»٣٢ ليدفع عنهم التهم التي ظهر له فسادها. وفي كتابه المسمى «في الفلسفة» ظن أن من الواجب عليه أن يشتغل بأمر المجوس الذين يعتبرهم أقدم عهدًا من كهنة مصر. ولما وصل إلى لاهوتهم تكلَّم عن الأصلين اللذين يعترفون بهما: الحسن والقبيح «أوروماز وأريمان».
ومن الكتاب المتأخرين عن أرسطو من جعل المجوس آباء الجمنوزوفست (فلاسفة الهند المتريضين)، بل آباء اليهود أيضًا. وفي كتاب دانيال الذي كتب في عهد دارا أن مجوس بابل ليسوا إلا منجمين وسحرة ومفسري أحلام، ومع ذلك كانوا يلقبونهم بالحكماء، ولكن الخدم التي تطلب منهم لا تكاد تدل على أنهم أرفع درجة من المحتالين والسحرة الدجالين، فهل هم أنفسهم أولئك الذين كان لهم أرصاد فلكية في بابل قدرها أرسطو خير تقدير.٣٣

ولكن المجوس إذا كانوا فلكيين مهرة فليسوا فلاسفة، وكتبهم الدينية (زند) التي نعرفها الآن بطريقة أكيدة تبيِّن لنا ذلك بغاية الوضوح؛ فإن الفنديداد واليسنا واليشت وجميع القطع المنسوبة إلى زورواستر (زاراتسترا) تشتمل على آثار من ديانة ظاهر عليها الجلال والقوة في خلال تلك الظلمات، ولكنها لا تشتمل على مذهب فلسفي. وهذه الكتب هي كل ما يمكن إسناده إلى مجوس كلدة؛ فإذا كان فيثاغورث قد اطلع عليها بالمصادفة فإنه لم يدخل منها شيئًا في مذهبه الخاص: صلوات وأدعية وأناشيد وعقائد مبهمة وغير مستقرة وآثار من سير مقدسة، وخرافات ليست هي خرافات الفيداس وليست كذلك من خرافات الإغريق، ذلك على الأخص هو كل ما يمكن أن يقرأ في كتبهم. وهذا في الحقيقة لا ينقص من أهميتها الكبرى؛ فإن تاريخ الديانات يمكن أن يكتشف فيها الأصول النفيسة للغاية، ولكن تاريخ الفلسفة لا يجد فيها شيئًا يجنيه، وعلى ذلك لم يكن المجوس ولا المصريون قد أوحوا إلى إغريق يونيا شيئًا.

أفتكون الهند؟ ولا هي أيضًا.

ليل حالك لا يزال يغشى الأصول الهندية وأخبارها، ولأن هذه البلاد ما كتبت قط تاريخها نصادف أكبر العناء في ترتيب الحوادث والوقائع المتنوعة التي تتعلق بها. كذلك الحوادث الخاصة بالعلوم والآداب لا تخرج عن هذا الخفاء العام، ومع ذلك يبين لنا — وسط هذا الاختباط الذي يكاد لا يخلص أبدًا — بعض الأصول الرئيسية الحقَّة على ما فيهما من شدة الإبهام، فيمكن الجزم بأن آثارًا بعينها من آثار العقل الهندي أقدم أو أحدث عهدًا من بعض آثاره الأخرى. من ذلك أن أنواع الفيدا وعلى الأخص الفيدا التاريخي الذي لقب مع التسامح بلقب «الريك» هي متقدمة على سائر البقية وجماعة الفيدا أو على الأقل تلك المتقدمة لا يكاد يقل عمرها عن خمسة عشر قرنًا قبل الميلاد، غير أن هذه الأناشيد الشعرية ليس فيها شيء من الفلسفة.

أما الخرافات الفيَّاضة النامية فيها فإنها تشبه الخرافات اليونانية، كما أن بين لغتي اليونان والهند البرهمانية مشابهة أخوة، ولكن الطابع الفلسفي معدوم منها بالمرة. وأما الأوبانيشاد التي يمكن أن يوجد فيها هذا الطابع بعد البرهمانيات فمن المؤكد أنها متأخرة عن الأزمان التي نحن بصددها، فمع أن طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان هم من القرن السادس قبل المسيح فإن الأوبانيشاد لا يمكن إبلاغ أقدمها إلا إلى القرن الرابع.

وعلى ذلك لم يكن الإغريق ليستعيروا شيئًا من الهند مع افتراض أنه كان من الممكن في ذلك الزمان أن يكون لهم مخالطة مستمرة بحكماء شواطئ الهندوس، بله حكماء أواسط شبه جزيرة الهند أو شرقيها، وما عرف العالم الإغريقي بجماعة الجمنوزوفست إلا بتجريدة الإسكندر وسفارة ميغاستين، ولكن الإسكندر وميغاستين هما متأخران بمائتي عام عن حكماء سموس وملطية وكولوفون.

حق أن الهند — خلافًا لمصر ويهودة وفارس — لها فلسفة حقيقية نعرفها في مجموعها ونعرف منها آثارًا تفصيلية. وريثما ندرسها دراسة تامة نقرر منذ الآن أننا نعلم أن هذه الفلسفة مستوفية كل الشرائط اللازمة للعلم على النحو الذي نعنيه نحن اليوم، والذي كان يعنيه الإغريق دائمًا. إنها لمستقلة تمام الاستقلال، وغرضها كغرض حكمة الإغريق تفهُّم العالم والإنسان. ولا شك في أنها درست كليهما على غير الوجه المفيد، ولكنها جعلتهما شغلها الوحيد، فينبغي أن يكون لها بمذاهبها الستة التي تتقاسمها وتؤلفها مركز عظيم في التاريخ العام للعقل البشري.

ما هو تاريخ هذه الفلسفة؟ وإلى أي زمن تنتسب؟ ذلك هو كل ما يهمنا في هذا المقام.

قد كان يظن أن أحد هذه المذاهب الذي هو مذهب سعنخيا الملحد من كبلا كان سابقًا على البوذية. ولما أن بوذا مات سنة ٥٤٣ قبل الميلاد يكون سعنخيا معاصرًا لطاليس ومعاصريه الآخرين. وكانوا يقفون مذهب سعنخيا بالمذاهب الأخرى على ترتيب معين لا يخلو من التحكم كثيرًا أو قليلًا باعتبار أن كل هذه المذاهب متأخرة عنه، وبالتبع تكون متأخرة عن فلسفة آسيا الصغرى، ولكن يظهر أن هذا الترتيب أصبح الآن معدوم النصير؛ لأن أغزر البراهمة علمًا متفقون على ترتيب سعنخيا بعد البوذية بزمان طويل. إن الفلسفة لم تظهر في الدين القديم إلا لاستئصال شأفة الإلحاد أو على الأقل لتفل من غر به. وإن مذهب سعنخيا الذي هو ملحد وروحاني معًا ما يكون إلا طليعة التوفيق بين اعتقادات الدين الجديد وبين الاعتقادات الجائية من فيدا، ويكون «النيايا» أو المنطق جاء نفسه قبل سعنخيا لحاجات المناظرة، وتكون الفيدعنتا متأخرة عن الاثنين.٣٤

ليس بي من حاجة إلى الدخول في مناقشات من هذا النوع، ولا أريد أن أجاوز بالبحث حدود ما قدمته من القول، وإلا كانت إفاضة في العبث؛ فإن من البين أننا حتى إذا وضعنا سعنخيا في الترتيب الوجودي قبل ظهور البوذية وجدنا أن الإغريق لم يكن في وسعهم أن يعرفوا من مذهبه شيئًا عندما أخذوا يفلسفون لأول مرة. ومع افتراض أن سياحة فيثاغورث بلغت به بابل وصوص، فإنها لم تعلمه مذاهب لم تكن خلقت في بنجاب أو على شطوط نهر الجنج.

ينبغي أن يُزاد على هذا أن «داراسانا» الفلسفة الهندية على ما هي معروفة عندنا منذ كولبروك وما تلا مذكراته المشهورة من المعلومات ليس بينها وبين الفلسفة الإغريقية في تلك الأزمان الأولى علاقة مشاركة، فلا في طاليس ولا في فيثاغورث ولا في إكسينوفان يمكن العثور على أثر للمشابهة أو التقليد، وهذا مفهوم بالبداهة ما دام الظاهر كله يدل على أن الفلسفة البرهمانية لم تتم إلا بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة.

ومتى خرجنا بالهند من الموضوع صار من العبث أن نبلغ بالبحث الصين؛ فإن لاونسو معتبر أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن الفلاسفة الإغريق الأُوَل لو كانوا قرءوا الثاوتي كنج وهو كتاب الطريق والفضيلة لما استطاعوا أن يجدوا فيه ما يصلح لهم.٣٥

على ذلك لا الصين ولا الهند ولا فارس ولا مصر نفسها لم تلهم الإغريق شيئًا من فلسفتهم. وسأبين فيما يلي أي حظ من التأثير كان للمذاهب المصرية في مذهب فيثاغورث، ولكنه يمكن الجزم بصورة عامة أن الفلسفة الإغريقية باعتبار أنها في مهدها فلسفة بالغة في الأصلية غايتها، وبأن معنى العلم على الصورة التي صورتها بها هذه الفلسفة وقتئذ كان باكورة فهم العقل البشري للعلم، تلك هي نتيجة كبرى أعترف بغاية الارتياح أنها ليست أمرًا جديدًا، كما قد يبين من الاعتبارات التي تقدمت، بل قد تقدمني بزمان رجال ارتأوا هذا الرأي من غير أن يكون قد توفر لديهم كل ما لدينا من الأدلة.

فإن العالم المحقق بروخر كان يكتب منذ قرن كامل في هذا الموضوع، وقبل أن يصل إلى الفلسفة الإغريقية بحث عن بدايات الفلسفة في الأرض جميعها، فراح يستجوب على التعاقب العبرانيين والكلدانيين والفرس والهنود العرب والفينيقيين والمصريين وطائفة من أمم أخرى، فلم يعثر فيها على الفلسفة التي ينشدهم إياها عبثًا، حتى بلغ الإغريق فقال: «الآن لنبلغ الإغريق هذه الأمة المشهورة منذ كانت صبية في المهد بدرس الحكمة والفنون، والتي عندها وجدت الفلسفة مقرها الذي بَغَتْهُ زمنًا طويلًا بعد أن تلقَّت هذه الأمة عن المتوحشين بعض الجراثيم من المعارف الإلهية والبشرية.»

ثم بعد أن درس النظريات القديمة لأنساب الآلهة التمثيلية والفلسفة السياسية للحكماء أضاف هذا العالم الرصين مؤرخ الفلسفة إلى ما تقدم ما يلي محدثًا عن مدرسة يونيا:
إلى هنا لم نقدر فلسفة الإغريق إلا وهي صبية ترت في مهدها، ولكنا قد بلغنا الآن منها الطور الذي فيه بدأ العقل البشري يزاول الفلسفة الحقة، ويظهر بالأفكار المرتبة مظهر المشغوف بالنفوذ في حقيقة الأشياء، فإلى العبقرية الإغريقية ينبغي أن ننسب هذا المجد كما بينته آنفًا، وفي أول هذا التاريخ عند البحث في الأصول الصحيحة للفلسفة.٣٦

وأما أنا من جانبي فلا أزيد على ترديد عبارة بروخر، وأعدني سعيدًا باستنادي إلى هذا الحجة المحترم المتين الذي تقدم بمائة عام ما لدينا في هذا العصر من المعلومات البينة. نتيجتي كنتيجته، نعم إغريقا أصيلة على الإطلاق، أعطت كل العالم ولم يعطها العالم شيئًا إلا ما ربما يكون من بذور كانت عقيمة في غيرها فعرفت هي وحدها أن تنبتها.

لن أتوسع في الكلام على مذاهب طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان، بل أفترض أنها معروفة بمقدار ما يمكن أن تعرف من القطع النادرة التي نجت من البلي، وأقف عند بعض الملاحظات العامة إلى غاية العموم. من البيِّن أن أكمل هذه المذاهب الثلاثة على نسبة كبيرة هو مذهب فيثاغورث، ونحن لا نستطيع أن نتعرَّفه إلا من خلال الشروح التي وضعتها عقول قليلة التفوق جاءت بعد المصنف بستة أو سبعة قرون، ولكنها مع ذلك كافية في بيان أن الدراسة التي كان يزاولها حكيم سموس شَدَّ ما كانت أفسح ميدانًا وأكثر ضبطًا من دراسات معاصريه، فيها الفلسفة بتمامها تقريبًا مع أجزائها الأصلية التي تتألف هي منها، وفوق ذلك فإن دراسة العلوم وعلى الأخص العلوم الرياضية بلغت فيها شأوًا بعيدًا. ومن البلية أن شخص فيثاغورث كمذهبه لا يزال يحيط به من الظلام حجاب لا شيء يمزِّقه، ولا شك في أن هذا الحجاب العظيم إنما جاء كبره من السكوت الذي التزمه فيثاغورث وألزم إياه تلاميذه الذين بقوا محتفظين بتنفيذ أمره مدة عدة أجيال، وكان فيلولاوس السابق لأفلاطون بقليل هو أول من علم القاعدة — على ما يؤكدون — ونشر المذهب، بل ربما نشر كتب الأستاذ أيضًا.

ومما لا يقل عن هذا مطابقةً للواقع هو أن فيثاغورث على فلسفته كان يحتفظ في نظرنا بشيء من النحو الديني إن لم يكن في أفكاره فعلى الأقل في الجمعية التي ألفها والتي لا يدخل إليها إلا بعد امتحان قاسٍ يجوزه المريد، فليست الفيثاغورية مفتوحة للكافة كالمذهب الطبيعي لطاليس، ولا كمذهب ما وراء الطبيعة لإكسينوفان. لفيثاغورث تلاميذ، ولكنهم بعض أعضاء لجمعية منتظمة خاضعة لملاحظة شديدة ومحصورة في حدود لا تجتاز. إنها نوع من مدينة فلسفية دينية سياسية قاسية وضيقة الحدود، فلم تلبث أن ارتاب في أمرها جيرانها فخربوها بالحديد والنار، وما كان أسهل عليهم ذلك نظرًا إلى أن هذه الجمعية من الوداعة بمكان.

ومن البديهي أن نظام المدرسة الفيثاغورية كان على مثال مدارس الكهنة المصريين، وربما كانت على مثال مدارس المجوس أيضًا، وإن تناسخ الأرواح هو عقيدة شرقية صرفة لم تتأقلم في العالم الهليني مع أن أفلاطون وضعها تحت إشرافه. كان فيثاغورث مؤسس مدرسة ورئيس جمعية معًا ومبدع مذهب لا يتلقاه إلا أشياعه، وبهذه المثابة كان بين فلاسفة الإغريق وحيدًا في هذا الباب، وينبغي أن يرجح أن سياحاته في مصر وكلدة هي التي أوجدت في نفسه مقاصد من هذا النوع فنقلها إلى بلاد قلما توافقها وتنجح فيها، ولكنها مع ذلك جعلت لفيثاغورث مركزًا قدسيًّا علميًّا معًا، فبقي به علمًا فردًا متميزًا عمن قبله وبعده، مذهبه العلمي غير تام، ولكنه عظيم جليل، ومذهبه الأخلاقي طاهر لا غبار عليه، حتى إن مذهب أفلاطون مع كونه أشد منه تعمقًا لم يرجع عليه في طهره.

ولندع إلى جانب شخصيات الفلاسفة وننبِّه إلى أن الفلسفة الإغريقية بتمامها كانت موضوعة في وضع استثنائي أفادها جدًّا، وهو أنها لم يكن أمامها أبدًا ديانة مبنية على كتب مقدسة، وقد كان الأمر على ضدِّ ذلك في مصر ويهودة وفارس وفي الهند حيث لم تكن الحال قاصرة على أن الدين قد سبق الفلسفة في تلك البلاد، كما هو الحال عادة في كل زمان، بل إنها اعتمدت فوق كل ذلك على أسس معتبرة أنها إلهية، ومع ذلك أقامت قرونًا طوالًا كافلة لسد الحاجات الأدبية والأخلاقية في تلك الأمم؛ وبعد ذلك خرجت الفلسفة من المحاريب، فمثلًا في بلاد الهند البرهمانية أو البوذية استطاعت الفلسفة أن تنمو نموًّا كبيرًا متحللة من القيود الأولى، وإن كان نجاحها لم يكن عظيمًا. أما في بلاد الإغريق فلم يكن ما يشبه ذلك؛ لأن الإغريق لم يكن لهم كتب إلهية ولا موحى بها.

وقد كان أرفي ولينوس وسائر المرتلين الأقدمين الذين كانوا ينشدون آيات الأسرار الأولى كلهم ما كان يتكلم إلا باسمه هو دون أن يسند ما يقول إلى الإله. ولما كان الإشراك بالله متغير الصور منثورًا في البلاد لا ينتظمها على حال واحد لم يستطع الوصول إلى تأليف جسم من المذاهب قد يصير ديانة ذات قوام خاص، فلم يكن للكهنة نقابة قوية ذات سلطان، وكان الناس يحترمونهم ولكن لا يُطيعونهم، ولم تكن الروابط بين الهيئتين إلا مفككة العرى؛ لأنها إنما تبحث عن معتقدات عامة يغير من عمومها في كل جهة أساطير محلية لا نهاية لها، وعن بعض احتفالات عامة لم تكن إلزامية، وهواتف يستشيرها الناس وقتما يريدون؛ وألعاب عمومية. والكتاب الوحيد الذي أخذ بمجامع قلوب الإغريق إنما هو قصيدة حماسية.

إن قصيدة من شعر الحماسة تسحر العقول ولكنها لا تهديها، تأخذ بالقلوب ولكنها لا توجب الإيمان، إنها تنمِّي الإحساسات الشريفة بما تقدم من التذكارات الوطنية، ولكنها لا تسوي سبل السلوك، فما قصيدة حماسية بالتوراة ولا هي بالزاندافستا ولا بمنتراس البراهمة ولا بالقربان المثلث عند البوذيين، فالواقع أن الفلسفة كانت هي وحدها دين الهلين.

وما تنسب عظمة الفلسفة الإغريقية التي لا تزال تدهشنا ونتعلم منها بعد خمسة وعشرين قرنًا إلا إلى استقلالها المطلق. ولو أنها كانت تحت وصاية ديانة حسنة النظام أفكانت تظهر قواعدها بهذه السهولة التي ظهرت بها؟ أو كانت تحيا تلك الحياة الطيبة القوية؟ أو كانت تلد للعالم تلك الملح من التآليف وتؤتي ذلك الثمر اللذيذ؟ من ذا الذي يعرف ذلك؟ لا شك في أن الجنس الهليني كان عجيب الاستعداد؛ فقد نجح في ميدان الفلسفة، كما نجح في ميادين الأعمال الأخرى، ولكن أما كانت تذبل هذه الخواص العجيبة لو أن العصارة التي تغذيها جرت في قنوات أخرى من قبل، وخصوصًا في قنوات الديانة!

ولم يكن تاريخهم الخرافي إلا لعبًا تلعب به الملكات، فكانت الخواص العليا للنفس في سعة من أن تتخذ لها نحوًا جديًّا آخر وتبحث عن غذاء لها أغزر مادة وأدخل في باب الحق، بعيد عليَّ أن أنكر نعم الديانات على الناس، وأرى أن من الخير أن تكون قد سبقت الفلسفة دائمًا، وعند جميع الشعوب، ولكني لا أستطيع أن أحجم عن القول بأنه إذا كانت ديانة الهلين أكثر جدية مما كانت عليه لأوشكت فلسفتهم وعلومهم أن تكون أقلَّ في الجد مما كانت عليه بكثير، وتلك خسارة لا تعوَّض على الإغريق وعلينا أيضًا؛ لأننا نحن أبناؤهم ومظهر استمرار حياتهم.

ولئن أنسب إلى آسيا الصغرى وتلك الجمهوريات الإغريقية الصغيرة التي كانت مقيمة على شواطئها كلَّ المجد الطارف في اختراع الفلسفة والعلم والشعر والموسيقى وكثير من الفنون الأخرى، فإني لا أقصد إلى أن أَغْمِط آتينا حقًّا من المجد المقطوع النظير؛ ذلك لأنه من آتينا خرج في زمن قدروس أهل بعض هذه المستعمرات التي جمعت بين النشاط والذكاء والشاعرية والحربية، وفي آتينا اجتمع اليونان. بل يمكن القول بأن آتينا أعطت من دمها ومن روحها تلك الجاليات التي لم تستطع أن تظلها تحت سمائها بعد أن أقاموا بها زمنًا طويلًا، ثم إن تلك المستعمرات لم تستطع أن تحفظ في أوطانها جراثيم للفلسفة التي تمخضت هي عنها، فإنه إذا كان طاليس بقي في ملطية فإن فيثاغورث قد هاجر من سموس إلى سيباريس وقروطون، وإكسينوفان ترك كولوفون إلى إيليا، فلما نفيت الفلسفة مؤقتًا من إغريقا الكبرى بما فيها صقلية وجدت سلطانها الحقيقي في آتينا آخر مطافها، وجدته بسقراط وأفلاطون في عهد أنكساغوراس وبيريكليس وفيدياس وسوفكل.

على ذلك تكون آتينا قد حوت أسمى مظهر للذكاء الإغريقي، وتكون الأم المخصبة التي ولدت الملح من كل نوع؛ فإن الفلسفة لما اقتلعت مرتين رجعت إلى الأرض الأولى التي منها خرجت المستعمرات اليونانية لتؤتي فيها أجمل زهرها وأنضج ثمارها. ولم تكن الفلسفة في آسيا الصغرى إلا عارضًا جاءت به المصائب السياسية، فأقامت فيها قليلًا ولكن بعد أن انبعث نورها الساطع. فلما استقرت بآتينا مكثت بها أكثر من ألف سنة من عهد بيريكليس إلى عهد جستنيان، فهي معلمة روما وجدة الإسكندرية ومنافستها الجديرة دائمًا بالاحترام.

من أجل ذلك يظهر لنا أن آتينا ويونيا أو بلفظ واحد إغريقا كان لها على مَنْ عداها فضل وسؤدد لا يطاول، ومن أجل ذلك نضع منزلتها في سماء المجد في أوجها، لا يقاربها فيه ولا على مسافة كبرى تلك الأمم التي حاربتها ومزقتها، ولكنها لم تقهرها مع أنها تربى عليها في العدد ألف مرة، فمن ذا الذي يقام له وزن بجانب الإغريق في باب الشعر والفنون والعلم والفلسفة؟ لست أعني السيتيين ولا سائر تلك الشعوب الرحل في شماليها، ولكنما أعني الفرس والهنود، بل المصريين أيضًا، ماذا عسى أن تكون القرون الأولى لولا الهلين؟ ما هي تلك المعارف الإنسانية التي ليس لهم فضل في أمرها؟

ولقد أراد مؤرخو الإنسانية، ومنهم هردر أن يتلمَّسوا أسباب هذا التفوق الخارق للعادة من ظروف وأوضاع كلها مادية كشكل أرضهم وحال جوهم وحاجات تجارتهم … إلخ، ولكن مع أن تأثير هذه الظروف لا ينكر إلا أنها لا تستطيع أن تحل لنا مشاكل هذه النظرية الدقيقة ولا أن تفسِّر لنا سر هذا التفوق تفسيرًا مقنعًا؛ فإن شواطئ آسيا الصغرى وضفاف بحر إيجه وأطيقا، وبيلوبونيز وإغريقا الكبرى لم تتغير عن أصلها، ومع ذلك أين هي تلك الروح التي كانت تنعش الهلين في تلك العصور الخصيبة؟ ماذا صارت روح تلك الشعوب التي لم تتغير أوطانها المخصبة الجميلة منذ ذلك العهد إلى اليوم؛ فإن أخلافهم لا يعدون الآن شيئًا فيما يتعلق بارتقاء المدارك الإنسانية؟

لا نكاد نجد لهذا السؤال جوابًا ممكنًا إلا الواقع نفسه، فإنا لنرى كيف كانت إغريقا فوق كل الأمم حتى بالبقايا القليلة التي وصلت إلينا من أعمالها، ولكن لماذا اصطفى هذا الشعب الصغير في زمن معين خلال قرون عديدة ليكون عنوان النور الأبدي الهادي لجميع الأمم فيما يتعلق بالمعقولات؟ ذلك سر من أسرار العناية الإلهية ليس لنا بالنفوذ في كنهه يدان، بل هو كسائر أسرار الله تنال إعجابنا ولا ينالها فهمنا.

إن الإغريق الذين لم يكن لهم على النوع الإنساني سعة النظر التي تقدمها لنا اليوم فلسفة التاريخ مدعمة بشتى الملاحظات، قد حاولوا مع ذلك أن يفسروا لأنفسهم أعجوبة عبقريتهم. وإني أوثر أيضًا في هذا المقام أن أستجوبهم بدل أن أُجيب عنهم في هذه المسألة، أولئك هم ثلاثة شهود عدول من عصر واحد تقريبًا؛ وهم بقراط وأفلاطون وأرسطو، يشهد أحدهم باسم علم وظائف الأعضاء، والثاني باسم الفلسفة والوطنية، والثالث باسم السياسة، ولا بأس من أن نتخذ بجانب هؤلاء شاهدًا على الشعر إيشيل الذي كان يقاتل في مرطون.

فمن كتاب بقراط إلى الأهوية والمياه والأماكن، ذلك الكتاب الذي يتخيل قارئه كأنما مدده فيما أتى به من النظريات هو العلم الحديث، استطرد فيه المؤلف بحكم ضرورة استيفاء موضوعه إلى المقارنة بين الجنسين والوطنين اللذين يعرفهما حق المعرفة؛ لأنه عاش فيهما فقال:

أريد بالمقارنة بين آسيا وأوروبا أن أبيِّن كيف أن كلتيهما تخالف الأخرى في كل شيء، وأنه ليس بين الأمم التي تقطن كلتيهما أية مشابهة في البنية، وقد يكون من التزام ما لا يلزم تعديد جميع الفروق، بل أكتفي بأكثرها أهمية، وأشدها بروزًا للعيان، لأعرض رأيي الذي ارتأيته في ذلك، فأقول: إن آسيا تختلف عن أوروبا اختلافًا عظيمًا بطبيعة حاصلاتها جميعًا، سواء فيها ما تخرج الأرض وما يخرج من ظهور الناس الذين يزرعونها، فكل ما يتولَّد في آسيا يفضل ما يتولد في أوروبا فضلًا كبيرًا في الجمال وفي بسطة الجسم؛ جوها أكثر اعتدالًا، وأممها أدمث أخلاقًا وأسهل قيادًا، والعلة في ذلك هي التوازن التام بين الفصول … فإن الماشية التي ترعى في أرض آسيا حسنة المنظر خصبة التكاثر إلى حد مدهش، وتربيتها ناجحة إلى الغاية.

وأما الناس فيها فنموهم عظيم يمتازون عن الأجناس الأخرى بجمال صورهم وفضل قامتهم، ولا يختلف بعضهم عن بعض في الرواء ولا في الصورة، ويمكن أن يقال: إن مثل هذه الجهة بينها وبين الربيع نسب يكاد يكون متصلًا بالنظر لتأليف فصول السنة ولطف آثارها، ولكن لا شجاعة الرجولة ولا مصابرة المشاق ولا إجهاد النفس في العمل ولا شدة البأس؛ كل هذه الصفات لا تنمو في مثل هذه الطبيعة، سواء فيه الوطنيون والمستوطنون، بل إن حب الملاهي عندهم يتغلب على ما عداه من الميول الأخرى.

أما من جهة ضعة النفس وعدم الشجاعة فإن الآسيويين إذا كانوا أقل ميلًا للحرب وأكثر سلامًا في الطبع من الأوروبيين فعلة ذلك إنما هي على الخصوص في حال إقليمهم؛ حيث لا توجد تقلبات شديدة لا في الحر ولا في البرد، بل قليلًا ما يشعر بتغير الجو، وحيث لا يعتري العقل صدمات ولا يعرو الجسم تغيرات، وتلك انفعالات من شأنها أن تكسب الخلق وحشة وتمزج به ميلًا للجماح والعصيان أكثر مما تفعل الحال الجوية دائمة التماثل. ألا إنها التغيرات من النقيض إلى النقيض هي التي تنبِّه العقل الإنساني وتمنعه من أن ينام في ظلال السكون، تلك هي الأسباب التي يتعلق بها على ما يظهر لي ضعة نفوس الآسيويين.

ينبغي أن يضاف إلى ذلك حال النظامات، فإن جزء آسيا الأكبر خاضع للملوك، وحيثما كان الناس لا يملكون حرية أشخاصهم لا يعنيهم المرون باستعمال السلاح، بل يصرفون كلَّ عنايتهم في أن يظهروا بمظهر العجزة غير الصالحين للخدمة العسكرية، ذلك بأن الخطر ليس مقسومًا بينهم قسمة عادلة؛ إذ يسعى الرعايا إلى خوض غمار الحرب يذوقون فيها من المتاعب ألوانًا يموتون فيها من أجل أسيادهم بعيدين عن أبنائهم وعن نسائهم وعن كل ما هو عزير عليهم.

وفي حين أن كل ما يأتونه من ضروب النشاط والبسالة إنما يجني أسيادهم ثمرته، يكبر به قدرهم وتشتدُّ به عصيتهم، فإن أولئك المحاربين لا يجنون من وراء كل ذلك إلا الأخطار والهلاك، وفوق ذلك فإن هؤلاء الرعايا لا بد لهم من أن يروا في الغالب دخول الأعداء وانقطاع الأشغال سببًا لجعل غيطانهم حصيدًا جرزا. بهذه المثابة ترى الذين آتتهم الطبيعة في هذه الأمم قوة في القلب وميولًا حسنة قد تمنعهم تلك النظامات السياسية من الانتفاع بها. وإن أكبر برهان على ما أقدم هو أن في آسيا جميع الأمم الإغريقية والمتوحشة المتحللة من نير السيادة والتي تضع قوانينها بنفسها لنفسها وتشتغل لحسابها هي أكثر الأمم الآسيوية ميلًا إلى الحرب. ولما أنها كانت تتعرَّض لأخطار الحروب لحسابها الخاص فكانت تتمتع بثمرة شجاعتها أو تحتمل سوء نتائج جبنها، ليسوا كالآسيويين المحكومين بالملوك؛ فإن الشجاعة تفقد وجودها بالضرورة في قلوب الرجال الخاضعين لحكم الملوكية، نفوسهم مستعبدة فلا يكادون يهتمُّون بمعاناة الأخطار بمحض إرادتهم من أجل توسيع سلطان غيرهم، ولكن الأمر على ضد ذلك إذا كان الإنسان غير خاضع إلا إلى قوانينه الذاتية، وإذا كان يعرِّض نفسه للخطر من أجل منفعته الخاصة لا من أجل منفعة غيره. مَنْ هذا شأنُه يقتحم المخاوف طائعًا مختارًا، ويلقي بنفسه بكل قلبه في جميع مهاوي المصادفات؛ لأنه سيجني لنفسه ثمرة انتصاره، من أجل ذلك كانت القوانين مساعدة عن سعة على تكوين الشجاعة.

تلك هي المقارنة العامة التي يمكن تقريرها بين أوروبا وآسيا في كل الأشياء.٣٧
ذكر أفلاطون في كتابه المينكسين حيث لا يريد سقراط على أن يكرر مقالات أسباسيا الشاعرة الملطية تمجيدًا للإغريق الذين قهروا قبائل آسيا ما نصه:
لما جاء الفرس الذين هم سادة آسيا وحكامها يسعون لإذلال أوروبا، قابلهم آباؤنا أبناء هذه الأرض فقهروهم ودحروهم، ولتقدير قيمة هذا العمل العظيم ينبغي أن ننتقل بالفكرة إلى العصر الذي كانت فيه آسيا كلها خاضعة إلى ملكها الثالث،٣٨ فأولهم قيروش الذي لما مكنته عبقريته من تحرير مواطنيه الفرس أخضع إليه سادتهم الميديين، وحكم بقية آسيا إلى حدود مصر، ثم فتح ابنه مصر وسائر الأقطار الأفريقية التي استطاع أن يصل إليها، وثالثهم دارا قد بسط حدود مملكته ومدها إلى سيتيا بفتوحات جيشه البري، وأما أساطيله فجعلته سيد البحر والجزر، وإذ كان لا يجرؤ أحد على مقاومته قد ذلَّت له هامات الأمم، فكم من أمة قوية حربية ألقت عنانها إلى الفرس ودخلت تحت نير سلطانهم …!

إذا استحضر الإنسان هذه الظروف في ذهنه أمكنه أن يقدِّر حقًّا البسالة التي أتاها يوم مرطون أولئك المقاتلون الذين صبروا على مهاجمة المتوحشين، وعاقبوا تبجح آسيا وكبرياءها، والذين أثبتوا للإغريق بما جاءوا به من الأنفال والغنائم أن قوة الفرس لا تستعصي على المقاومة، وأنه لا شيء من كثرة العدد ولا من سعة الثروة يقف أمام الشجاعة … لذلك ينبغي أن يسند ثناء هذا النصر الأول إلى أولئك المقاتلين، وأما الثاني فثناؤه مسند إلى الظافرين في الوقائع البحرية بسلامين وأرطيميس. وقد ضرب أبطال مرطون مثلًا للإغريق عامة أن فئة قليلة حرة تكفي لرد غارة جيوش المتوحشين البرية، مهما كانت لا تحصى عددًا، ولكنه لم يكن ليثبت أن ذلك ممكن أيضًا في البحر كما أمكن في البر حتى وقعت الواقعات البحرية فاستحقَّ بها أولئك البحارة المهرة ما أحرزوا من المجد لتخليص الإغريق من الخوف الأكبر، ولأنهم صيروا الأساطيل الفارسية لا تزيد مهابة على الجنود الفارسية.

أما الواقعة الثالثة من وقائع الاستقلال الإغريقي من حيث الترتيب التاريخي ومن حيث شدة الإقدام فهي واقعة بلاتة، وهي أول واقعة اشترك فيها اللقدمونيون والآتينيون وباءوا بمجدها جميعًا، وقد كان اللقاء فيها حرجًا والخطر محيقًا، فتغلبوا على كل شيء، ويا له من فصل يستأهل مدائحنا ومدائح قرون المستقبل!

إلى أي شيء في الإغريق نسبت إستاسيا هذه الشجاعة وهذا المجد؟ إلى علة واحدة، إلى الحرية التي كانت تتمتع بها آتينا، قالت: «ها أنتم هؤلاء ترون كيف أن أجداد هؤلاء المقاتلين وأجدادنا وهؤلاء المقاتلين أنفسهم الذين ولدوا بالطالع المسعود وربوا في مهد الحرية، قد أتوا هذه الفعال الجميلة العمومية والخصوصية لغرض واحد هو خدمة الإنسانية.»٣٩

وما كان هذا النشيد إلا أليق ما يكون بالأعمال التي يشدو بها، وحقيق بأسباسيا أن تمتدح آتينا وأبناءها. ولما قام مينكسين يشكر سقراط عند انصرافه لم يتمالك نفسه من أن يجهر بهذا القول: «وحق المشتري إن أسباسيا لسعيدة بأنها وهي امرأة تقدر على كتابة مثل هذه المقالات.»

ولا شك في أن هذا الشاب قد أصاب فيما قال، إلا أنه فاته أن هذه المرأة كانت من ملطية، وأن أجدادها، مع أنهم كانوا لا يزالون أضعف من الآتينيين، قد حاربوا الفرس غير مرة من قبل أن تتولى آتينا أمر قهرهم.

وأخيرًا فإن أرسطو يشرك أفلاطون وبقراط في رأيهما، فإنه لما تكلم على الصفات المطلوبة في سكان المدينة في حكومة منظمة قال:

لكي يلم المرء بهذه الصفات ما عليه إلا أن يطرح نظره إلى أشهر المدائن الإغريقية وإلى بقية الأمم المختلفة التي تتقاسم سطح الأرض، ليرى أن الأمم التي تسكن الأقاليم الباردة حتى في أوروبا هي على العموم مملوءة بالشجاعة، ولكنهم على التحقيق أقلُّ ذكاءً في العقل ومهارة في الصناعة، وبهذه المثابة يحتفظون بحريتهم خير احتفاظ، ولكنهم من الجهة السياسية غير قابلين للنظام، ولم يستطيعوا مطلقًا أن يقهروا جيرانهم. أما في آسيا فالأمر على ضد ذلك، فإن أممها أكثر ذكاءً وقابلية للفنون، ولكنهم تنقصهم قوة القلب، ويصبرون على البقاء تحت نير العبودية المؤبدة.

أما الجنس الإغريقي الذي هو بموقعه الجغرافي وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فإنه يجمع صفات الطرفين ويجمع بين الذكاء والشجاعة، يعرف كيف يجمع بين حفظ الحرية وبين تأليف حكومات غاية في النظام، فهو جدير إذا توحدت كلمته في حكومة واحدة أن يفتح العالم.٤٠

هذا رأي ثلاثة رجال، أولئك هم أرسطو وأفلاطون وبقراط في عبقرية اليونان، إنهم لم ينفوا عن الإغريق المؤثرات الخارجية التي آثارها أظهرُ من أن تخفى، ولكنهم اهتموا على الخصوص بالأسباب الأخلاقية، وما ضلوا فيما ذهبوا إليه؛ لأننا نحن الآن أكثر تنورًا، بما أصبنا من التجربة الطويلة، لا نستطيع أن نزيد شيئًا على هذه الاعتبارات الصادقة المستمدة وجودها بنوع ما من الحس، فلتبقَ إغريقا إذا ما كانت في العصور الأولى مدفونة في طيات مجدها، ولكن خالدة ما خلدت أعمال الإنسان التي تقع في يوم من الأيام ثم تتلقفها أيدي البلى مهما كان موضعها من الجمال والكمال.

كنت أريد أن أفرغ من هذه المقدمة التي طالت أكثر مما ينبغي، ولكنها من هنا لا تكون كاملة إذا لم أرجع بها إلى الكلام على الكتابين اللذين تتقدمهما، وإذا لم أبسط القول على المسألة الكبرى التي تشبَّثت بها مدرسة إيليا، تلك المدرسة التي يمثلها إكسينوفان وميليسوس، أعني بها وحدة الموجود وعدم تغيره. وما أدراك ما هي تلك المناقشة التي ثار ثائرها في بداية الفلسفة وقام بها رجال تقلَّبوا في الأعمال الحيوية من حرب وسياسة وسياحة واستعمار؟ وإذ نراهم فلاسفة ونظريين نراهم جميعًا يزاولون المقاصد العملية بهمة مدهشة، وأنى لنا إدراك التوفيق بين الحالين إذا لم نلمَّ بالأخلاق والعادات والضرورات التي كانت في تلك الأزمان المضطربة! كان طاليس في جيش الياط، وكان أحد المؤتمرين في البانيونيوم، وفيثاغورث يجوب البلاد الأجنبية زمنًا طويلًا على كثرة الأخطار وبُعد الشقة، وإكسينوفان الذي نفى نفسه طوعًا من وطنه المقهور بالفرس يذهب للانضمام إلى الفوكيين فيما وراء البحار، وميليسوس يدافع عن سموس ضد الآتينيين بعزمة لم يتغلب عليها بيريكليس إلا بعد طول العناء.

أولئك قواد وساسة يشتغلون بما وراء الطبيعة! أمر شديد الندرة دائمًا! وفوق ذلك فإنهم يظهر عليهم أنهم فنوا في دقة التدليل، تلك الخاصة التي كانت تتهم بها عن بينة مدرسة إيليا. إذا سلَّمنا بما ذكره أفلاطون في كتابه المسمى «برمينيد» فإن ذلك الانتقاد والتهمة كانا من الصحة بمكان، ولا شك أن من الغريب أن تملك التدقيقات المنطقية على مثل هؤلاء الرجال عقولهم، غير أنه يجب التنبيه إلى أن برمينيد مع كونه تلميذ إكسينوفان وخليفته قد شرع لنفسه طريقًا غير طريقه، فمسخ من أفكاره وغلا فيها، وربما كان ذلك أثرًا من آثار الروح العامة المنتشرة وقتئذٍ في إغريقا الكبرى، تلك الروح التي كانت وقتئذ تبدع في صقلية فن الخطابة، والتي غلت في نظريات فيثاغورث على العدد إلى حد الإفراط.

ليست تلك روح إكسينوفان التي تتجلَّى في المقطوعات التي بقيت لنا من آثاره، وفي الكتاب الذي أترجمه الآن في هذا المجلد. وعلى رأيي أن هذه النقطة هي التي ينبغي أن نوجه النظر إلى الإمعان فيها للإصابة في تقدير قيمة هذه المذاهب الناشئة وقتئذ، والتي لم تكن لتأخذ بعد مركزًا ثابتًا في العقل الإنساني في بداية هبوبه من سباته.

أول نظرة في الطبيعة التي تحيط بنا تظهر لنا بادئ الأمر وحدة الوجود، وما يكون إلا بعد ذلك بالزمان أن نميز بالجهد والتحليل أجزاءً مختلفة في هذا المجموع العام الذي يسحر جلاله أبصارنا ويُعيِي إدراكنا. ولم تستطع الهند لا قبل الفلسفة الإغريقية ولا بعدها أن تخرج من تأثير فكرة الوحدة، بل فنيت فيها بكليتها، وبقي العلم على المعنى الخاص غريبًا عنها على الإطلاق طول حياتها، كان لها نظريات للتهجم فيها نصيب قليل أو كثير، وتصورات للعقل فيها حظ وفير أو ضئيل، كلها قائمة على الأصل العام للأشياء، ولكن لم يكن فيها دراسة خاصة وضعية للظواهر الطبيعية، ذلك هو أساس العبقرية الهندية وعظمتها؛ لا يوجد شيء أكثر من ذلك في الفيدا والبرهمانا والأوبانيشاد، والأناشيد الحماسية والقوانين في الدراسات الفلسفية.

أما العبقرية الإغريقية فإنها اتقت أن تسحرها ظواهر النظرة الأولى في الوجود، ودفعت بذلك الخطر عن نفسها، ولئن كانت قد اتَّجَهت وقتًا ما إلى فكرة الوحدة فإنها قد عرفت لحسن الحظ كيف تتخلَّص منها لتدرس عن قرب دراسة منتجة بعض الأجزاء الأصلية لهذه الوحدة التي ليست في الواقع إلا صورة اللانهاية عينها.

ذلك هو الواقع، حتى إن طاليس حين بحثه في التعبير عن ماهية العالم كان يدرس الأصل المادي الذي تكوَّن منه، ومع أنه قد أخطأ هذا الأصل الذي ظنه الماء فإنه على كل حال كان يعتمد على ما يشاهد بالحس في الطبيعة ليتعرَّف أسرار الأشياء؛ يشتغل بالهندسة ويتتبع جريان الكواكب في أفلاكها ما دام أنه كان على وشك أن يتنبَّأ بكسوف الشمس. وعلى رأي أرسطو، وشهادته قاطعة في هذا المعنى، أن طاليس كان يسلِّم بأن العالم مملوء بالآلهة القائمة بأمر النفس وبالحركة، وليس فيثاغورث بأقل استمساكًا بفكرة الوحدة مع أنه كان يجزِّئها، ولم تلهِهِ استكشافاته الرياضية والفلكية لحظة واحدة عن النظر في توافق النظام العالمي، فكان يعترف بوجود طوائف متخالفة في هذا النظام، ولكنه مع ذلك يعترف على وجه الخصوص بوحدة عجيبة، وعلى رأيه أن الأضداد اثنين اثنين تكوِّن كلًّا واحدًا يكون أرقى منها، وأن الوحدة هي الأصل الحقيقي في العالم المادي كما هي في العدد، وبذلك ارتقى فيثاغورث إلى تعريف الله دون أن يميِّزه تمييزًا تامًّا عن العالم الذي ينظِّمه ويسيره.

أما عند إكسينوفان فإن فكرة وحدانية الله وقدرته هي ظاهرة بغاية الوضوح دون أن يتعمق فيها كما تعمَّق فيها أفلاطون من بعده، وكما هو الحال على الخصوص في اللاهوت المسيحي، وأظن أن هذه النظرة الأولى في الوحدة الإلهية هي التي ألقت جلالها الباهر وخفاءها في نظريات مدرسة إيليا، وعندى أن ذلك هو الذي يفسِّر أغلاط هذا المذهب الشريف. إن نظر إكسينوفان لم يكن بعيد المدى — إن شئتم — ولكنه على الأقل لا يضل. أما برمينيد فإنه به ميلًا إلى السفسطة التي حملت تلميذه ذنون على أن ينكر الحركة، وحملت غرغياس على تأييد أبعد مذاهب العدمية ضلالًا وأقلها تنزهًا. وأما ميليسوس فإنه لزم الحد الوسط بين الأستاذ صاحب المذهب وبين الذين غلوا به حتى وقعوا في المحال. وإني مقارب بين إكسينوفان وميليسوس وذاكر الفروق الأساسية بينهما على ما يظهر لي: لقد كان إكسينوفان مليئًا باحترام هذا المذهب الذي لم يدركه أحد من قبله بمثل ما أدركه هو من الوضوح والجلاء؛ لذلك نفى عنه خيالات الشعراء اللطيفة التي تحط من مقامه كما نفى عنه الأنتروبومورفيزم الجافي الذي هو مذهب العوام «تصور ذات الله تعالى على صورة الإنسان»، تعالى الله عما يصفون من النقائص وعن صور الكائنات الفانية وعن صور هؤلاء التعساء الذين يجعلونه على صورتهم. ليس كمثله شيء في الوجود؛ لأنه لماذا يكون المثيل خالقًا بدلًا من أن يكون مخلوقًا؟

وإن الله الذي لا يمكن أن يأتي من موجود يشابهه لا يمكن من باب أولى أن يأتي من شيء يكون دون مقامه. إذا هو لم يخلق من شيء فيكون بالضرورة أزليًّا. وأخذًا بنتيجة ليست أقل ضرورية من الأولى يكون قديرًا على كل شيء، لو كان آلهة متعددون لكانوا أقوى أو أضعف بعضهم من بعض، وعلى ذلك لا يكون إله؛ لأن خاصة الإله أن يملك كل شيء ولا يملكه شيء أيًّا كان. ولما كان الله أزليًّا قديرًا على كل شيء لزم على ذلك أن يكون واحدًا؛ لأنه لو كان له منافسون لما أمكنه أن ينفذ أحكامه ويحقق إرادته العليا.

من ذلك ترى أن في إكسينوفان بعضَ مبادئ جليلة لم يرفضها اللاهوت المسيحي، بل تقبَّلها بالعناية قبولًا حسنًا، ولكن نظر إكسينوفان قد اضطرب في هذه النقطة، وليس في ذلك ما يوجب الاستغراب. ولقد أراد أن ينفذ نظره عن حقيقة الذات الإلهية فأخذه العثار في هذا الطريق الوعر الذي ضلَّ فيه كثير غيره، فإنه يقول: الله الذي لا يشابهه شيء من الحوادث هو على الأقل يشبه ذاته، وهو هو في جميع أجزائه، وهو بكله هو في كل جزء منها. قد يكون ذلك مقبولًا، ولكن إكسينوفان لما وقع في الاستعارات التي لا تساوي قيمتها إلا ما تساويه الأنتروبومورفيزم التي انتقدها بحقٍّ أَخَذَ يشبه الله بفلك، وكانت النتيجة عنده أن الله لا يمكن أن يكون لا لامتناهيًا ولامتناهيًا، وأنه لا يمكن أن يكون له حركة ولا سكون، كما أنه لا أول له ولا وسط ولا آخر. ومع ذلك فإن إكسينوفان لم يخدع نفسه في أمر الصعوبات غير المتناهية التي تقف في حل هذه المسألة، ودليل ذلك ما قاله في هذه الأبيات الجميلة التي نقلها إلينا سكستوس أمبيريكوس:

لا أحد من الكائنات الهالكة يستطيع أن يرى جليًّا في هذه الأعماق، ولن يستطيع أحد أن يعرف حقيقة ماهية الآلهة والعالم، تلك الماهية التي أحاول الكلام عليها؛ فإذا لقي أحد يومًا بالمصادفة الحقيقة التامة لما عرف هو نفسه أن يقدر ما وصل إليه منها، وليس في كل ما يقال في هذا الشأن إلا محض تشبيه وتقريب.

والظاهر أن برمينيد لم يتمشَّ بالبحث في هذا الموضوع الكبير إلى الحد الذي وصل إليه أستاذه. وأما ذنون — تلميذ برمينيد وواضع فن الجدل — فإنه، على ما قال ديوجين اللايرثي نقلًا عن أرسطو، قد وصل في هذا الموضوع إلى لاأدرية غلا فيها غرغياس إلى أقصى حد، ولكني أكرر أني لا أشتغل بذنون ولا ببرمينيد، بل أتخطاهما إلى ميليسوس؛ فهو الذي أقصد درسه بعد إكسينوفان.

مع أن ميليسوس يفصله عن رئيس المذهب ثلاثة أو أربعة قرون، فإنه أحرص الناس على أن يحذو حذوه ويلتزم تعاليمه، إلا أنه — عوضًا عن أن يبقى متمسكًا بإله إكسينوفان الواحد الأزلي القادر على كل شيء، بل والمدرك لكل شيء أيضًا — زاغ عن الطريق، ووضع الموجود موضع الإله؛ فاشتغل بالموجود آخذًا إياه في كل تجرده وفي كل عقمه. غير أن التأملات الميتافيزيقية مهما قلَّ فيها الضبط، فإن ذلك لا يقلل من جمالها ولا من تعمُّقِها الاستثنائي.

الموجود لا يأتي من الموجود وإلا لزم عليه أن يتقدَّم نفسه وهذا تناقض، ومثل ذلك في التناقض أن يتولَّد الموجود من المعدوم. على ذلك لم يكن الموجود قد وجد في زمن ما، وعليه يكون الموجود أزليًّا، وفوق ذلك لا يعتريه الفساد ولا الانتهاء؛ لأنه إما أن يتغير إلى معدوم وهذا محال، وإما أن يتغير إلى موجود آخر وإذن فلا يكون منعدمًا؛ فالموجود على ذلك كان دائمًا ويكون دائمًا، وما دام أنه لم يوجد من العدم فهو لا أول له، وما دام لا يمكن فناؤه فهو لا آخر له، وما دام لا أول له ولا آخر له فهو حتمًا لامتناهٍ، وما دام لامتناهيًا فهو واحد؛ لأن اللانهاية منافية للتعدد؛ إذ لا يمكن تصور اثنين أو عدة لامتناهية، ومتى كان الموجود أبديًّا واحدًا لامتناهيًا كان بالنتيجة غير متحرك ولا قابل للتغير؛ لأنه في أي مكان غير ذاته يمكنه أن يتحرك؟ ولما كان موصوفًا بالوحدانية المطلقة فأي تحول أو تبدُّل أو تغير يمكن أن يلحقه؟ ولو أمكن أن يتبدل بغيره أيًّا كان لانتَفَى أن يكون شبيه نفسه، ولانعدمت صورته الأولى وجاءته صورة أخرى.

ومع تقدم الزمن ينعدم هذا الموجود الأبدي واللانهائي ويتحوَّل إلى لاشيء. ولما كان الموجود أبديًّا لامتناهيًا واحدًا كان لا يمكن أن يكون له جسم، فلا يمكن أن يكون ماديًّا؛ لأنه إذا كان ذلك لزم عليه أن يكون ذا أجزاء متميزة بعضها عن بعض، وهذا ينافي وحدانيته وأبديته. لا شيء كائن حقيقة إلا الموجود، وجميع الأشياء التي تؤكد لنا حواسنا وجودها ليست إلا مظاهر خداعة متحولة كثيرًا أو قليلًا، فهي غير موجودة بالمعنى الخاص ما دامت متغيرة وما دام أنها تهلك بعد أن تولد. أما الموجود الحقيقي فإنه لا يتحوَّل ولا يتغيَّر أبدًا، ولو أن الأشياء التي تظهر أمام حواسنا كانت موجودة كما نظنها للزم على ذلك أن تكون غير قابلة للتغير وأبدية كالموجود نفسه، فلا شيء بموجود إلا الوحدة، وأما التعدد فلا وجود له أصلًا. أما أنا فإني أجد أفكار ميليسوس هذه خليقة به، وبالمدرسة التي هو أحد أعضائها. ولا شك في أنها متناقضة من بعض الوجوه، ولكننا من خلال هذه الرسوم البالية والمقطوعات القليلة نشعر لها بعظمة وقوة لم يوفهما تاريخ الفلسفة حقهما من حسن التقدير، وربما كان هذا الغمط منذ أرسطو.

وإني أعترف بأن أنكساغوراس مفهوم خير فهم بعد إكسينوفان وميليسوس، فإن أنكساغوراس الذي هو معاصر لقائد سموس (ميليسوس) هو الذي جلا الغوامض عن علم الطبيعة وقواعد نظام الكون في عصره بأن أدخل عليها تلك الفكرة الصالحة: أن العالم يديره العقل المدبر.

ولقد أعجب سقراط بهذا المذهب مع أنه يرى أن أنكساغوراس لم يكن ليستقصي كل نتائجه، كما أننا نعلم ما صرح به أرسطو من الثناء الجميل على أنكساغوراس إذ يقول: لقد جاء أنكساغوراس بعد كثير من الضلالات، أشبه ما يكون برجل سليم العقل يتكلم وسط المجانين.٤١ فمن البغي أن ينتقص فضل أنكساغوراس أو أن ينازع فيه بعد ما كان من شهادة سقراط وأرسطو، فإن له الفضل الأوفى في هذا المذهب، وليس شاذًّا عن المألوف أن كلمة من عبقري تكشف القناع عن المغيبات العلمية. قد يقال إن إكسينوفان وميليسوس هما اللذان وطَّآ لهذا المذهب بنظرياتهما التي هي أقرب ما يكون منه، ولا مشاحة في ذلك فإن لهما نصيبهما الوافر من ذلك الفضل.

ذلك هو المعنى الحقيقي لمذهب الوحدة في مدرسة إيليا التي طالما حجب من نورها وصغر من قدرها على نسب غير مضبوطة، وما الوحدة الإيلية إلا الله طلبوا معرفته يتلمسونها بين حجب الجهالة الأولى ويدرسونها، كما يمكن أن تدرس في تلك الأزمان؛ إذ العلم والمشاهدة العلمية لا يزالان في بدايتهما. فلم تكن تلك الوحدة قد وصلت بعد إلى ما قرره أنكساغوراس من الإدراك الإلهي ولا ما قرره سقراط وأفلاطون من العناية الربانية. غير أن تقرير تلك الوحدة مع ذلك كان الجرثومة الأولى لكل هذه المذاهب. ومهما يكن من صدق الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى المذهب الذي يرأسه إكسينوفان، فلا شك في أن تلك التوجيهات السليمة هي التي آتته عظمته وخطره في تاريخ الفلسفة.

أقف عند هذا الحد وألخِّص بيان أوفى تلك المعاني التي جئت على إيضاحها بشيء من الضبط ربما كان أقل مما كنت أريد.

قد ظهر لي أن مجيء الفلسفة إلى عالمنا الغربي حادثة من الخطر بحيث أردت أن أحيطها بكل ما يجلو خفاءها معتمدًا في ذلك على استجواب التاريخ عن الأمم وعن الظروف التي اعتورت هذه الحادثة. ومما ينبغي التنبيه إليه أن هذه الحادثة إنما كانت من احتكاك أوروبا بآسيا، وإن كان ذلك قد حصل من قبل في حرب طروادة إلا أن ظروف هذه الحرب مطروحة جانبًا لأنها خرافية أو لقلة العلم بها، ذلك الاختلاط حصل في بقعة من الأرض ليس فيها من السعة إلا بمقدار ما يلزم لتحرك الجاليات الإغريقية وفي عصر يعتبر نسبيًّا عصر توحش، ولكنه كان مملوءًا بالخصب الذي لم يتجدد بعدُ من وقتئذ إلى الآن. على ذلك كانت آسيا الصغرى هي السابقة على آتينا التي فاقتها من بعض الوجوه، كما يشهد بذلك هوميروس، ولكن آسيا التي حملت بهذا الأصل العجيب تحت تأثير أمم غريبة عنه لم تستطع تعهده وإنماءه، فعاد منها يستكمل قوته وكماله إلى الأرض العتيقة التي كان قد خرج منها منذ خمسة أو ستة قرون.

ولقد تصديت فوق ذلك لتبيين أن العبقرية الإغريقية هي التي دانت العالم بهذا النفع العلمي الجليل دون أن تكون مدينة فيه لغيرها، فإذا كانت الشعوب المجاورة لها آتتها شيئًا من العلم فما هو إلا مدد مبهم غاية في الإبهام. لا مراء في أن المصريين والكلدان والهنود لهم في ماضي الإنسانية مقام كبير، ولكنهم مع ذلك في الفلسفة أو في العلم بعبارة أعم ليسوا شيئًا مذكورًا في جانب الإغريق الذين لم يكونوا ليتعلموا منهم. ولقد أثبتت مقارنة اللغات في أيامنا هذه أن لغة الإلياذة ولغة الفيدا كانتا في الأصل لغة واحدة، وأن اللسان الإغريقي والسنسكريت أَخَوَان ولدتهما أم واحدة، ولكنه إذا كان الأصل الذي اطرح في أزمان ما قبل التاريخ واحدًا، فإن ما قدر على الأخوين كان مختلفًا جد الاختلاف؛ لأن العالم الإغريقي قد أنتج الآداب والعلوم والفنون التي ننسج الآن على منوالها، وشاطر بحظ عظيم في تقدم المدنية المسيحية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، في حين أن العالم الهندي ما أنتج إلا البرهمانية والبوذية، فهو نازل عنا بمراحل على الرغم من المزايا المتعددة التي يكون من الظلم عدم الاعتراف له بها.

بين العالم الإغريقي وبين العالم الهندي تأتي بلاد فارس التي توسطت بين العالمين في المكان كما هي في الزمان، ولكنها لم تشغل مركزًا يُذكر لها، ولم تستفد منها الإغريق إلا المجد الخالد الذي أحرزه أمثال ملتياد وليونيداس وطيمستوكل والإسكندر.

ومع ذلك فإن الهند وفارس وإغريقا ومصر ويهودة نفسها، مهما كانت الفروق بينها في المعقولات، كلها هي الخمسة فروع متفرعة عن جنس واحد؛ فإن علم أنساب الشعوب ووصفها الذي لا ينبغي أن يكون له أهمية عظمى في هذه الأبحاث، لكنه مع ذلك لا ينبغي أن يغفل أمره فيها قطعًا، هذا العلم قد كشف الغطاء عن مشابهة تامة بين هذه الشعوب منطوية تحت فروق في الأخلاق وفي العقل وفي اللغة، وهذا الجنس الرفيع الذي يجمع الخمسة الشعوب المذكورة هو ما يسمونه بالجنس الهندي القوقازي.

وإن الأمم السامية نفسها متفرعة منه أيضًا كالأخرى، وإن كانت قابلياتها تخالف قابليات الأخرى على الإطلاق، فهي قوية فيما يتعلق بالدين عقيمة فيما عداه تقريبًا، ولكن في هذه العائلة الكبرى الجميلة التي كأنها احتكرت لنفسها الذكاء الحقيقي يقف الإغريق بجملتهم في صفها الأول. وحينما كانوا يسمون من عداهم بالمتوحشين لم تكن كبرياؤهم بالغة في السوء الحد الذي كان يظن بهم.

ومع أنه كان خيرًا أن يكونوا أكثر تواضعًا، فإن الهلين المدفوعين إلى هذه الكبرياء بدواعي غرائزهم الصادقة لم يكونوا مخدوعين على شرف مقامهم أكثر مما ينبغي. والآن ونحن في وسعنا أن نحكم حكمًا خلوًا من الغرض نقول إنهم أحقُّ من سواهم بقصب السبق. ومهما يكن من حال المستقبل فليس من الهين عليه أن ينزعهم من هذا المقام. أما أنا فلست أتردد في إسناد هذا المجد إليهم، مع أني لا أنكر ما كان لمنافسيهم من العظمة، بل من التفوق في بعض الوجوه، ولكن من الذي يمكننا أن نضعه في حلبة المجد في مستوى فوق مستوى الهلين وقد جاءونا يقدمون بين يدي دعواهم الشعر والآداب والفنون والعلوم والفلسفة والتاريخ؟

ولقد بيَّنت — على مهد الفلسفة الناشئة — مقام مدرسة إيليا وما لإكسينوفان وميليسوس من الأهلية الخاصة بين طاليس وفيثاغورث.

ينبغي أن نكرر أن كل ما نسرده من هذه الحوادث التاريخية إنما هو تاريخنا، ولو كان منذ خمسة وعشرين أو منذ ثلاثين قرنًا؛ ذلك بأننا أبناء الإغريق، ولولاهم لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه؛ فإن إغريقا هي التي علمت روما، وبواسطة روما وإغريقا فتحت المسيحية بلادنا ومدَّنتنا بعد أن انتفعت بكل ما تقدمها ومهد لها السبيل. وإن العلم على جميع صوره كان معدومًا في الشرق، فاخترعه الإغريق ونقلوه إلينا.٤٢ وما كان من روما والعالم الحالي بتمامه منذ إغارة المتوحشين إلا أن اقتفوا هذا الأثر الذي عفا رسمه أحيانًا ولكنه لم ينعدم أبدًا.

وإني إذ عنيت بإيضاح هذه الآثار الأولى أردت أن أوفي أجدادنا حقهم وأن أذكر بما علينا من الواجب نحوهم بأن بيَّنت مراكزهم وخدماتهم للإنسانية. إن العقل الإنساني بطيء في سيره فيحسن به وهو سائر في طريقه غير المتناهي أن يلقي نظره الوقت بعد الوقت إلى الوراء ليرى من أين ابتدأ سيره وليسدد خطاه في المستقبل غير المحدود الذي ينتظر قدومه!

هوامش

(١) راجع مقدمة تاريخ الفلسفة لفكتور كوزان؛ الدرس الثاني من دروس سنة ١٨٢٨، والتأريخ العام للفلسفة؛ الدرس الثالث ص١٠٢.
(٢) فيدون لأفلاطون، ترجمة فكتور كوزان ص١٩١ و١٩٣.
(٣) تيديمان «روح الفلسفة النظرية» سنة ١٧٨١ ج١ ص١٣٩، النسخة الألمانية.
(٤) ر. كتاب فيلمين على عبقرية بندار ص١٠١ وما يليها، ر. أيضًا تاريخ الآداب الإغريقية الذي ألَّفه أوتفريد موللر، ترجمة إيليبراند ج١ ص٢١٨ وما يليها.
(٥) من بين المؤرخين الحديثين أستند على الخصوص في تاريخ إغريقا إلى ج. جروت الذي هو أتم وأحسن ما أعرف.
(٦) أتبع في ذكر هذه المدن الترتيب الذي وضعه هيرودوت، ولكن أخذًا من الجنوب إلى الشمال يجب أن ترتب هكذا: طمنوس، نيونيتكوس، لاريسا، كومة، إيفاي مورينا غروناي، بيطاني، كيلا. ولا يعرف مكان الأخيرتين.
(٧) ر. هيرودوت ك١ ب١٢، وأفلاطون، الجمهورية ك٢ ب٦٩، ترجمة فكتور كوزان.
(٨) هيرودوت ك١ ب٧٤.
(٩) بلاين. التاريخ الطبيعي ك٢ ب٩ ص١٠٦ طبعة وترجمة ليتري.
(١٠) ر. م. ج. جروت. تاريخ اليونان ج٣ ص٣١١.
(١١) ولقد جلا الشك في هذه النقطة فكتور كوزان. راجع القطع الفلسفية والفلسفة القديمة طبعة سنة ١٨٦٥ ص٣ و٤.
(١٢) ديوجين اللايرثي، حياة فيثاغورث ف٦ ك٨ ب١. وإن الرسائل بين أنكسيمين وفيثاغورث ربما لا تكون منتحلة، ديوجين اللايرثي فيما كتبه عن حياة ذينكم الفيلسوفين.
(١٣) السنة ٢٣٠ من تأسيس روما أو ٥٢٣ قبل الميلاد على رأي بلاين ك٣٣ ب٦ ص٤٠٣ طبعة ليتري.
(١٤) هيرودوت ك٤ ب٩٥.
(١٥) ألح ج. جروت إلحاحًا شديدًّا في بيان الأهمية الكبرى لهذه المعاهدة (تاريخ الإغريق ج٥ ص٤٥١ وما بعده).
(١٦) هيرودوت ك١ ب١٢٣ وما بعده.
(١٧) هيرودوت ك٣ ب٤٠ وما بعده.
(١٨) هيرودوت ك٣ ب١٢٦ وما بعده.
(١٩) طوكوديدس ك١ ب١٢٨ وما بعده.
(٢٠) هيرودوت ك٥ ب٥٩ وما بعده.
(٢١) تيوفراسط وتاريخ النباتات ك٤ ب٩.
(٢٢) إكسينوفون، أناباز، ك٧ ب٥ ف٤ ص٣١٣ طبعة فرمان ديدو.
(٢٣) ديوجين اللايرثي ك٧ حياة زنون الستيومي.
(٢٤) نزلت إليها بنفسي في السنة ١٨٥٤ عند سياحتي في مصر، ووجدت أن إعجاب ديودور كان أقل من حقيقة الواقع بكثير (ر. رسائل على مصر طيبة وقبلي ص٢٧٤ وما بعدها، بارتلمي سانتهلير).
(٢٥) يتكلم ديودور على الأقل مرتين أو ثلاثًا على سياحته في مصر (ر. المجموعة التاريخية ك١ ب٤٤ ف١. ب٤٦ ف٧، وفيما يتعلق بمكتبة أوزيمندياس راجع الكتاب عينه ب٤٩ ف٣). وإذا ما حادث سولون كهنة سايس ذكروا له كتبهم المقدسة، وفيها سنويات البلد منذ ثمانية آلاف عام (رطيماوس ترجمة فكتور كوزان ص١٠٩).
(٢٦) بلاين، التاريخ الطبيعي ك١٣ ب٢١ وما بعده ترجمة وطبع ليتري.
(٢٧) وهذا ما كان يبصره هيرودوت حينما كان يسيح في مصر ك٢ ب٩٦، وعندنا في متحف اللوفر نعال من البردي.
(٢٨) نقل سويتون أن قيصر كلف فرون بإنشاء مكتبات عامة فيها الكتب الإغريقية واللاتينية. وقد وضع فرون مؤلفًا خاصًّا بالمكتبات ولكنه مفقود مع الأسف. راجع كتاب جستون بوازيير ص٢٢، ٤٧ على فرون.
(٢٩) يمبليك، حياة فيثاغورث ب٧ ف٥٨، ٥٩ طبعة فرمان ديدو على أثر ديوجين اللايرثي، فبكل هذه الوثائق: وثائق يمبليك وفرفريوس، يمكن جمع حياة فيثاغورث المهمة ونبذة تامة عن مذاهبه الأصلية.
(٣٠) راجع طيماوس أفلاطون ترجمة فكتور كوزان ص١٠٧ وما بعدها.
(٣١) بلاين التاريخ الطبيعي ك٣٠ المخصص كله لهذه المسألة.
(٣٢) ديوجين اللايرثي في مقدمته ف٨.
(٣٣) أرسطو كتاب السماء ك٢ ب١٢ ف١ ص١٧٨ من ترجمتي.
(٣٤) ر. مؤلف بنرجا «حوار على الفلسفة الهندسية» لندن١٨٦١ في قطع الثمن، ص٥٠ وما بعدها. وكان الأستاذ بنرجا أستاذًا في مدرسة بيشوب بكلكتا أهدى مؤلفه إلى جون موير.
(٣٥) راجع مؤلف استاليسلاس جوليان «لاو-نسن-أتي-يكنج» المطبعة الملكية سنة ١٨٤٢.
(٣٦) بروخر تاريخ الفلسفة سفر (١) ص٣٦٤، ٤٥٧.
(٣٧) بقراط كتاب الأهوية والمياه والأماكن ب١٢، ١٦، ٢٣، ص٥٣، ٦٣، ٨٧ طبعة ليثري ج٢.
(٣٨) إيشيل، «الفرس والبيت ٧٦٥ وما يليه» بذكر عدد آخر يرى أن آسيا في عرف إيشيل وأفلاطون كان حدها الشرقي أرض فارس.
(٣٩) مينكسين أفلاطون، ترجمة فكتور كوزان ص١٩٦ وما بعدها. ذلك هو الذي ذكره أيضًا إيشيل على لسان جماعة المنشدين يجيبون أتوسا أم إكزاركسيس: «لا يستطيع مخلوق أن يقول إن الآتينيين عبيده أو رعاياه.» الفرس البيت ٢٤٢.
(٤٠) أرسطو، السياسة ك٤ ب٦ ف١ من ترجمتي ص٢١٧ من الطبعة الثانية.
(٤١) أرسطو الميتافيزيقا ك١ ب٣ ترجمة فكتور كوزان، وقطع فلسفية، الطبعة الخامسة ص٢٠٤.
(٤٢) راجع مقدمتي لكتاب السماء لأرسطو ص٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤