الباب الرابع

بعد أن بيَّنَّا فيما سبق أن الأجسام البسيطة يكوِّن بعضها بعضًا على طريق التكافؤ، وأن المعاينة الحسية تدلنا على أنها تتكون بهذه الطريقة؛ لأنه إن لم يكن كذلك فقد لا توجد استحالة، ما دامت الاستحالة لا تنطبق إلا على كيفيات الأشياء التي يمكن لمسها، فيلزمنا أن نقول بأي طريقة يحصل تغيير العناصر بعضها إلى بعض وما إذا كان ممكنًا أن كل عنصر يتولَّد من كل عنصر، أو إذا كان هذا ممكنًا فقط بالنسبة للبعض ومحالًا بالنسبة للبعض الآخر.١
فإذا كان ثم أمر بديهي فذلك هو أن كلها يمكن بالطبع أن تتغير بعضها إلى بعض؛ لأن كون الأشياء يروح إلى الأضداد ويجيء من الأضداد. وكل العناصر لها تقابل بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر؛ لأن فصولها أضداد، وحينئذ في بعض العناصر الفصلان هما ضدان، ومثال ذلك في الماء والنار؛ فإن أحدهما يابس وحار في حين أن الآخر سائل وبارد. وبعض العناصر الأخرى ليس لها إلا واحد من الفصلين كالهواء والماء؛ فإن أحدهما هو سائل وحار والثاني بارد وسائل.٢
وحينئذ فمن البيِّن أنه على العموم كل عنصر يمكن بالطبع أن يأتي من كل عنصر، وليس من الصعب الاقتناع بهذا بأن يشاهد كيف تحصل الظاهرة بالنسبة لكل عنصر على حدته؛ لأنه سيرى أن كلها تأتَّى من كلها. والفرق الوحيد إنما هو أن التغير يتكون بكثير أو قليل من السرعة وبكثير أو قليل من السهولة. وكلما كان بين العناصر نقط ارتباط تحوَّلت بعضها إلى بعض سراعًا جدًّا، وما ليس بينها نقط ارتباط تتغير ببطء، وعلة ذلك أن شيئًا واحدًا بمفرده يتغير بأسرع من عدة. وعلى ذلك فالهواء يأتي من النار بتغير أحد الكيفين ليس إلا، ما دام أن أحدهما يابس وحار والثاني حار وسائل. وينتج منه أنه إذا كان اليابس مغلوبًا بالسائل فيتكون الهواء، ثم إنه من الهواء يتكون الماء إذا كان الحار هو المغلوب بالبارد؛ لأن أحدهما كان سائلًا وحارًا والثاني كان باردًا وسائلًا؛ فيكفي إذن أن الحرارة وحدها تتغير لأجل أن يتكوَّن الماء.٣
وبهذه الطريقة عينها أيضًا إن الأرض تأتي من الماء وإن النار تأتي من الأرض؛ لأن هذين العنصرين أيضًا لهما أحدهما قبل الآخر نقطة جمع ووصل؛ فإن الماء سائل وبارد والأرض هي باردة ويابسة بحيث إنه إذا كان السائل هو المغلوب تتكون الأرض. ومن جهة أخرى بما أن النار يابسة وحارة والأرض يابسة وباردة؛ فإذا فسد البارد فمن الأرض تتكون النار، فيرى حينئذ أن كون الأجسام البسيطة يحصل بالدور وطريقة التغير هذه أسهل الطرق؛ لأن العناصر التي تتعاقب لها دائمًا بينها فقط جمع ووصل.٤
والماء يمكن أيضًا أن يأتي من النار والأرض من الهواء وبالعكس يمكن أن يأتي أيضًا الهواء والنار من الماء ومن الأرض. ولكن هذا التحول هو أصعب؛ لأن موضوع التغير أشياء أكثر عددًا. وفي الواقع لأجل أن تأتي النار من الماء يلزم أن يفسد أولًا البارد والسائل، وكذلك لأجل أن يأتي الهواء من الأرض يلزم أن البارد واليابس يفسدان. وهذا اللزوم واجب أيضًا لأجل أن الماء والأرض يأتيان من النار ومن الهواء؛ لأنه يلزم حينئذ أن يكابد الكيفان التغير.٥
وأيضًا الكون الذي يحصل بهذه الطريقة هو أبطأ. ولكن إذا فسد أحد كيفيْ كل واحد من الاثنين فيكون التحول أسهلَ، غير أن هذا التحول لا يحصل بعدُ حينئذ من الواحد إلى الآخر على طريق التكافؤ. غير أنه من النار ومن الماء تأتي الأرض والهواء، ومن الهواء ومن الأرض تأتي النار والماء. وفي الواقع إذا فسد بارد الماء ويابس النار يتكوَّن الهواء؛ لأنه لا يبقى بعد إلا حار أحدهما وسائل الآخر، ولكن إذا فسد حار النار وسائل الماء تتكون الأرض؛ لأنه لا يبقى حينئذ إلا يابس أحدهما وبارد الآخر.٦
وكما هو الأمر في الهواء والأرض يكون في تكون النار والماء؛ لأنه إذا فسد حار الهواء مع يابس الأرض، يتكون الماء ما دام أنه سيبقى سائل أحدهما وبارد الآخر، ولكن حينما يكون المنعدم هو سائل الماء وبارد الأرض تتكون النار؛ لأنه يبقى حار أحدهما ويابس الآخر، وهما الكيفان الخاصان بالنار.٧
وهذا الإيضاح لكون النار يتفق جدًّا مع الحوادث التي يشهد بها الحس؛ لأنه إنما هو اللهب الذي هو على الأخص نار، واللهب ليس إلا الدخان المحترق والدخان يتركب من هواء وأرض.٨
في العناصر التي تتوالى وتتعاقب ليس ممكنًا متى كان أحد الكيفين قد فسد في واحد أو في الآخر أن يحصل مرور وتحول للعناصر إلى أي جسم آخر؛ لأن البواقي التي تبقى في الاثنين هي إما متماثلة أو متضادة. وحينئذ لا من بعضها ولا من الآخر يمكن أن يتحصَّل جسم. مثال ذلك إذا فسد يابس النار وإذا فسد أيضًا سائل الهواء، لا توجد نتيجة ممكنة ما دامت الحرارة هي التي تبقى من طرف ومن آخر. وكذلك الحال فيما إذا كانت هي الحرارة التي تنعدم من الاثنين؛ فإنه لا يبقى بعد إلا ضدان، وهما اليابس والسائل، ويجري هذا المجرى في جميع الأحوال الأخرى ما دام أنه في الأحوال التي من هذا القبيل يبقى دائمًا تارة الكيف المماثل وتارة الكيف المضاد، وعلى هذا فمن البين حينئذ أنه لأجل تكوين العناصر مارة ومتغيرة من واحد إلى واحد يكفي أن كيفًا واحدًا يفسد. ولكن بالنسبة للعناصر التي تمرُّ من اثنين إلى واحد فقط، هنالك يحتاج إلى فساد عدة كيفيات.٩
وعلى جملة من القول، فإنه قد وضح أن كل عنصر يتولَّد من كل عنصر، وقد بين بأية طريقة يحصل تحول بعضها إلى بعض.١٠

هوامش

(١) بعد أن بيَّنَّا فيما سبق: ر. كتاب السماء ك٣ ب٧ ف١ ص٢٦٥ من ترجمتنا. ويظهر بناءً على هذه الفقرة أن كتاب السماء كان في فكرة المؤلف مرتبطًا بهذا الكتاب كما يعتقد المفسرون؛ إذ وضعوا الكتابين أحدهما تلو الآخر. المعاينة الحسية: عبارة النص «الحس»؛ لأنه إن لم يكن كذلك فقد لا توجد استحالة، الدليل ليس جيد البيان؛ إذ إن الاستحالة مختلفة عن الكون وإنها تقتضيه؛ فإنه يلزم أن يوجد الشيء قبل أن يستحيل، ولكن وجود العنصر لشيء لا ينتج منه أن هذا العنصر يأتي من عنصر آخر. التي يمكن لمسها: ر. ما سبق ب٢ ف١. تغير العناصر بعضها إلى بعض: يمكن مراجعة كتاب السماء وكتاب الميتورولوجيا أيضًا ك١ ب٢ و٣ من ترجمتنا.
(٢) أمر بديهي: بالتدليل أكثر منه بالمشاهدة. يروح إلى الأضداد: حفظت عبارة النص على فرط إيجازها، ومع ذلك فهي مفهومة بسهولة بعد التفاصيل التي تقدمت؛ فإن الشيء بتكونه يذهب من اللاوجود إلى الوجود، وعلى ضد ذلك بفساده يذهب من الوجود إلى اللاوجود، فهو يجاوز ضدًّا ليذهب إلى الضد الآخر. لها تقابل: اتخذت لفظًا أعم من لفظ النص الذي هو «تضاد». فصولها أضداد: ر. ما سبق ب٢ ف٢. فإن أحدهما هو سائل: قد اضطررت للاحتفاظ بلفظ «سائل» المطبق على الهواء كما هو أيضًا في النص.
(٣) بأن يشاهد: وصية جديدة بنمط المشاهدة. نقط ارتباط: ربما كان أضبط أن يقال «تركيب» ممكن؛ فإن الحد المستعمل في النص فيه تفاوت لم أستطع تحصيله مباشرة، ر. الفقرة الآتية. تحولت: أو «مرت من واحد إلى الآخر.» أحد الكيفين: ليس النص على هذا القدر من الصراحة. كان: قد حافظت على أسلوب النص، وهذا يتعلق بالنظريات التي بسطت آنفًا. يابس وحار … حار وسائل: أي إن كيفي الحار يجتمعان ما داما متماثلين، فلا يبقى للتغير إلا اليابس والسائل. كان سائلًا: حفظت صيغة الماضي الناقص كما هي في الأصل.
(٤) نقطة جمع ووصل: ترجمت هنا بوضوح معنى الكلمة الإغريقية التي هي خاصة بالأشياء التي يمكن جمع أجزائها لتؤلف كلًّا بعد أن فصلت. هو المغلوب: بالكيف الآخر الذي هو أقوى منه؛ فإن السائل المغلوب يتلاشى ولا يبقى في الكيفين إلا البرودة التي هي الكيف المشخص للأرض. فمن الأرض تتكون النار: كل هذه النظريات تظهر لنا غريبة في هذه الأيام، ولكن يجب الرجوع إلى زمن أرسطو. وقد كانت هذه النظريات مقبولة بلا نزاع إلى القرن السادس عشر. العناصر التي تتعاقب: ليس في النص إلا كلمة واحدة غاية في عدم التحديد؛ فإن العناصر المتعاقبة هي التي لها كيفيات مشتركة. جمع ووصل: ر. ما سبق في أول هذه الفقرة.
(٥) والماء يمكن أيضًا أن يأتي من النار: ليس بين الماء والنار نقطة مشتركة ما؛ فلأجل أن يتغير أحدهما إلى الآخر لا بد من الوسطاء، وها هنا الهواء هو الذي له نقط مشتركة بينه وبين الماء من جهة وبينه وبين النار من جهة أخرى. هذا التحول: عبارة النص أشد إبهامًا. البارد والسائل: اللذان هما كيفا الماء. البارد واليابس: كيفا الأرض الخاصان. الكيفان: لفظ النص غير محدد.
(٦) الكون: كون العنصر الجديد الناتج من تحول العناصر الأخرى. لا يحصل بعد حينئذ من الواحد إلى الآخر: وحينئذ يوجد جسم ثالث مكون من الكيوف الباقية. ينازع فيلوبون في صحة هذه النظرية التي هي مع ذلك — كما يقول هو — كانت مقبولة عند الإسكندر الأفروديزي. غير أنه من النار ومن الماء: لا يظهر أن المعاني متعاقبة تمامًا. يتكون الهواء عنصر مخالف للنار والماء اللذين أنتجاه. تتكون الأرض: الملاحظة عينها. يابس … وبارد: اللذان هما كيفا الأرض.
(٧) سائل أحدهما: السائل يظهر أن استعماله خاص بالماء دون سواه، ولكن في هذه النظريات يلزم قبوله أيضًا بالنسبة للهواء؛ لأن لفظ رطب يظهر أنه أحسن استعمالًا في بعض الأحوال، ويمكن أيضًا أن تستعمل كلمة «لطيف» للهواء، ولكن هذه الكلمة لا توافق تمامًا كلمة النص. وهما الكيفان الخاصان بالنار: ر. ما سبق ب٣ ف٢.
(٨) وهذا الإيضاح لكون النار: ليس النص على هذه الصراحة. يتفق جدًّا مع الحوادث: لا يظهر أن هذا الاتفاق تامٌّ كما يظن المؤلف، ولكن هذا لا يمنع من أن النمط الذي يوصى باتِّباعه، وحق ولو أنه لم يحسن تطبيقه. الدخان يتركب من هواء وأرض: لأن الدخان على رأي أرسطو هو تبخر الخشب، ر. الميتورولوجيا ك٤ ب٩ ف٤٢ ص٣٣٩ من ترجمتنا.
(٩) التي تتوالى وتتعاقب: مثال ذلك الهواء بعد النار، والماء بعد الهواء، والأرض بعد الماء، ما دامت العناصر الأربعة مرتبة على هذا النظم. مرور وتحول: ليس في النص إلا كلمة واحدة. البواقي التي تبقى في الاثنين: ليس النص على هذه الصراحة. نتيجة ممكنة: يعني جسمًا ثالثًا مخالفًا للجسمين اللذين أنتجاه. الحرارة هي التي تبقى: وفي هذه الحالة هي النار. ضدان: يترافعان ولا يمكنهما أن يجتمعا ما دام أنهما يتفاسدان على التكافؤ، مارة ومتغيرة: ليس في النص إلا كلمة واحدة. من واحد إلى واحد: التعبير ليس بَيِّنًا جدًّا، ولم أزد على أن حصلته بعينه. كيفًا واحدًا: الكيف المضاد، والنص ليس على هذا القدر من الضبط. عدة كيفيات: كلمة النص في غاية الإبهام.
(١٠) وعلى جملة من القول: عبارة النص هي بالبساطة: «حينئذ».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤