الباب التاسع

لما أنه توجد أشياء كائنة وقابلة للدثور، وأن كل ما يتولد ويكون يوجد في المكان الذي يحيط بالمركز، فيلزم بديًا الكلام على كون الأشياء مأخوذًا في كل عمومه وبيان عدد مبادئه ومن أي طبع هي. وبهذه الطريقة ندرس بطريقة أسهل الحوادث الجزئية بعد أن نكون قد حصلنا على معرفة الحوادث العامة.١
وتلك المبادئ هي ها هنا من حيث العدد والجنس على ما هي عليه المبادئ التي تكتشف في الموجودات الأزلية والأول. وأحد هذه المبادئ هو كهيولي والآخر هو كصورة، ولكنه يلزم منها زيادة على ذلك ثالث ينضم إلى هذين الاثنين الآخرين؛ لأن هذين الاثنين ليسا أقدر على تكوين شيء ها هنا منها في الأول.٢
وعلى هذا إذن إنما هي الهيولي التي فيما يتعلَّق بالموجودات الكائنة، هي العلة في أنها يمكن أن توجد وألا توجد. فمن بين الأشياء ما توجد بالواجب، مثال ذلك الجواهر الأزلية، ومنها ما يجب ألا توجد، فبالنسبة للأولى من المحال ألا توجد، وبالنسبة للأخرى من المحال أن توجد؛ لأنه لا يمكن أن شيئًا يكون على خلاف ما يقضي به الواجب. ولكن هناك أشياء أخرى يمكن أن توجد وألا توجد على السواء، وهذه هي على التحقيق كل ما هو كائن وهالك؛ لأن هذه الأشياء تارة توجد وتارة لا توجد، فحينئذ الكون والفساد لا يتعلَّقان إلا بما يمكن أن يوجد وألا يوجد.٣
وذلك بما هو هيولي إنما هو علة الأشياء الكائنة، ولكن بما هو غرض غائي فالعلة إنما هي الصورة والنوع. وهذا هو حد الماهية لكل شيء.٤
ولكنه يجب أن يضاف إلى هذين المبدأين مبدأ ثالث، هذا المبدأ لا يظهر على الفلاسفة أنهم لَمَحُوه إلا كما في الحلم، ولم يتكلم عنه ولا واحد منهم بنوع من الضبط، فقد ظن بعضهم كسقراط في «الفيدون» أن طبع المثل قد يكفي لتعبير كون الأشياء؛ لأن سقراط — وهو يعيب على الآخرين أنهم لم يقولوا شيئًا في هذا الصدد — يفترض أن من الأشياء التي توجد بعضها هي المثل والأخرى تتلقى هذه المثل التي تشاركها؛ وأن كون كل شيء هو مسمى بحسب مثاله، وأن الأشياء تتكون متى تتلقى هذا المثال، وأنها تفسد متى تعدمه. وبالنتيجة إذا كان كل هذا حقًّا فيكون سقراط يرى أن المثل هي بالضرورة علة كون الأشياء وفسادها، وآخرون على الضد قد ظنوا أنهم يرون هذه العلة في المادة نفسها؛ لأنه منها على رأيهم تصدر الحركة.٥
ولكن ليس الأولون ولا الآخرون على حق؛ لأنه إذا كانت المثل هي في الحق عللًا، فلماذا لا تكون دائمًا بطريقة مستمرة؟ ولماذا هي تكون تارة ولا تكون تارة أخرى مع أن المثل تبقى دائمًا هي والأشياء التي يمكن أن تشركها؟ زد على هذا أنه يوجد أشياء يرى جليًّا أن العلة فيها إنما هي شيء آخر غير المثال، فإنما الطبيب هو الذي يعمل الصحة، وإنما العالم هو الذي يعمل العلم مع أن الصحة ذاتها والعلم ذاته موجودان هما والكائنات التي يقومان بها. كذلك الحال أيضًا في جميع الأشياء المصنوعة بحسب الفن الذي يمكن أن يتمَّها.٦
ومن جهة أخرى حينما يدعي أن المادة هي التي تكون الأشياء بالحركة التي تعطيها إياها، فلا شك أن هذا الرأي هو أكثر موافقة للطبع من نظرية المثل؛ لأن ما يحيل الأشياء ويغير أشكالها يمكن أن يظهر أكثرَ من غيره بمظهر العلة في كونها. وعلى العموم في كل كائنات الطبيعة كما في كل كائنات الفن ينظر عادة إلى كل ما يعطيها الحركة كأنه هو الفاعل لها.٧
ومع ذلك فإن هؤلاء الفلاسفة الأخيرين ليسوا على حق؛ لأن الانفعال والتحرك إنما هما الخاصتان اللتان تتعلَّقان بالمادة، في حين التحريك والفعل يختصَّان بقوة مغايرة تمامَ المغايرة. وهذا هو ما يمكن مشاهدته أيضًا في كل ما يعمله الفن كما في كل ما يعمله الطبع؛ إذن فليس الماء نفسه هو الذي يوجد الحيوان الذي يخرج من باطنه (بل هو الطبع). كذلك ليس الخشب هو الذي يصنع السرير بل هي الصناعة؛ ومن ثم يمكن استنتاج أن هؤلاء الفلاسفة لم يحسنوا هم أيضًا التعبير، وخطؤهم آتٍ من أنهم أغفلوا العلة الأهم من جميع العلل بحذفهم الماهية والصورة.٨
وينتج منه فوق ذلك أنهم ينسبون إلى الأجسام قوًى يجعلونها بها تتوالد بحالة ميكانيكية أكثر مما ينبغي بتركهم إلى ناحية العلة التي ترجع إلى النوع. ولما أنه تبعًا لقوانين الطبيعة كما يقولون الحار يفرق والبارد يجمد، ولما أن كل واحد من العناصر الأخرى يفعل وينفعل على طريقته؛ فإن ذلك كافٍ عندهم في التقرير بأنه أيضًا من هذا أو بهذا يكون سائر الأشياء ويفسد، ويظهر لهم أن اليار نفسها تقبل الحركة وتنفعل.٩
يوشك أن يكون هذا الخطأ هو عينه خطأ من يذهب إلى اعتبار المنشار وما أشبهه من الآلات الأخرى العلةَ الحقة لكل ما تصنع ويرجعه إليها بحجة أنه بمجرد ما ينشر يلزم ضرورة أن يقطع الخشب، وبمجرد ما يصقل بالفارة، فهناك ضرورة أيضًا أن ينصقل اللوح، وهلم جرًّا. وبالنتيجة مع أن النار هي أفعل العناصر وأنها توصل الحركة الأقوى؛ فإنهم لا يرون كيف أنها تفعل وأنها أردأ من الآلات العادية.١٠
أما نحن فلما أننا تكلمنا فيما سبق على العلل على العموم لم نتصدَّ ها هنا إلا لدرس الهيولي والصورة.١١

هوامش

(١) (ب٩ ف١) كل ما يتولد ويكون: النص يقول بعبارة أكثر عمومًا أيضًا: «التولد». يوجد في المكان الذي يحيط بالمركز: هذا التعبير على جانب من الغرابة؛ فإنه يدل فقط على أن الأجسام المختلطة التي يمكن مشاهدتها توجد على سطح الأرض المعتبرة مركز العالم. ومع ذلك فإن هذه العبارة لم تظهر لفيلوبون على شيء من الصعوبة فلم يشأ أن يفسرها. على كون الأشياء: الملاحظات السابقة. الحوادث الجزئية … الحوادث العامة: هذا ليس هو النمط العادي لأرسطو، وإنه ليتمشى من الحوادث الجزئية إلى الحوادث العامة لا من هذه إلى تلك. وليس النص من الضبط بقدر ما عليه ترجمتي إياه.
(٢) في الموجودات الأزلية والأول: إنما الأجرام السماوية هي المعتبرة أزلية وغير قابلة للتغير، وإنها أوائل كل الأجسام. هو كهيول: حفظت نظم النص، ولكن يمكن ترجمته هكذا: «يقوم مقام الهيولي … مقام الصورة.» ينضم إلى هذين الاثنين: زدت هذه الكلمات لأحصل كلَّ قوة العبارة الإغريقية. وهذا المبدأ الثالث إنما هو العلة المحركة أو بالأولى العلة الفاعلة، ويلزم أن يقارن بهذه النظريات نظريات الكتاب الأول من الطبيعة ب٨ ص٤٧٣ من ترجمتنا. ليسا أقدر: الهيولي والصورة كلاهما عقيم بدون المبدأ الثالث الذي يجيء فيعطيهما الفعلية بأن يجمعهما.
(٣) هي العلة في أنها يمكن أن توجد وألا توجد: وقد يمكن عكس القضية، فيقال: «إن إمكان الوجود وعدم الوجود هو من حيث المادة علة الموجودات الكائنة.» فمن بين الأشياء: أو «من بين الجواهر» أو «من بين الموجودات». الجواهر الأزلية؛ يعني «الأجرام السماوية»: يمكن أن توجد وألا توجد على السواء، أو بعبارة أخرى كل الموجودات الممكنات. كل ما هو كائن: أو «ما هو مخلوق» وهالك كما هو أكثر الموجودات الخاضعة لمشاهدتنا.
(٤) الأشياء الكائنة: والهالكة. بما هو غرض غائي: عبارة النص هي بالضبط من حيث هو «لماذا». إنما هي الصورة والنوع: النوع يتَّحِد مع «المثال» كما سيرى بعد. حد الماهية: أو «علة الماهية».
(٥) أن يضاف … مبدأ ثالث هو العلة الفاعلة — إلا كما في الحلم — الانتقاد على جانب من الشدة والاستهانة، ر. الكتاب الأول ما بعد الطبيعة ترجمة كوزان ب٤ و٥. في «الفيدون»: ر. فيدون أفلاطون ترجمة كوزان ص٢٨٣. طبع المثل: أو «الأنواع»؛ لأن الكلمة هي بعينها أنهم لم يقولوا أشياء: هذه العبارة قد تدل على السواء، إما على أن الفلاسفة الذين يطعن عليهم سقراط قد لزموا الصمت أو أنهم لم يقولوا شيئًا يعتدُّ به. بعضها هي المثل … إلخ: تلخيص صحيح للفيدون. كون كل شيء هذا هو نظم النص بعينه. إذا كان كل هذا حقًّا: في هذا القيد نوع من النفي ومن الانتقاد. وآخرون: لم يقل فيلوبون من هم هؤلاء الفلاسفة الآخرون، ولكن من المحتمل أن يكون المقصود ديمقريطس ومدرسته: على رأيهم زدت هاتين الكلمتين.
(٦) ليس الأولون ولا الآخرون: يعني لا أفلاطون ولا الماديين. عللا: كذلك عبارة النص مبهمة أيضًا. غير المثال: زدت هاتين الكلمتين. الذي يعمل الصحة: ربما كان يلزم أن يزاد «في الجسم» لتوفية قوة العبارة الإغريقية. الصحة ذاتها: يعني مثال الصحة. العلم ذاته: يعني مثال العلم. هما والكائنات التي يقومان بها: على ذلك يلزم خلاف مثال الصحة، ومثال المريض وجود الطبيب وخلاف مثال العلم، والتلميذ يلزم المعلم الكفء لتلقين ما يعلم. بحسب الفن الذي يمكن أن يتمها: ليس النص على هذا القدر من الصراحة.
(٧) ومن جهة أخرى: إلى أنصار المادة يوجه أرسطو القول هنا بعد أن أجاب على أفلاطون. من نظرية المثل: ليس النص على هذا القدر من التعيين. ما يحيل الأشياء: ربما يلزم أن يحمل هذا التعبير على معنى أوسع قليلًا من المعنى الذي يعبر به أرسطو عادة.
(٨) الانفعال: أو «القبول». بقوة مغايرة تمام المغايرة: هذه هي ألفاظ النص بعينها، ويمكن ترجمتها أيضًا «بقدرة مغايرة». الذي يخرج من باطنه: ليس النص على هذا القدر من الضبط. (بل هو الطبع): وضعت هذه العبارة بين قوسين لأنها لا توجد إلا في بعض المخطوطات وليست ضرورية، وشرح فيلوبون يدل عليها بالاقتضاء. الماهية والصورة: قد يكون لازمًا أن يقال «الماهية الدائمة».
(٩) ميكانيكية أكثر مما ينبغي: هذه عبارة الأصل بحروفها وليست غاية في البيان، ر. الفقرة التالية. ويظهر أن هذا الرد يكاد يدخل بتمامه في غضون الرد المتقدم كما نبَّه إليه أهل جامعة كويمبرا. أما فيلوبون فإنه بناءً على رأي إسكندر الأفروديزي يظن أن هذا الانتقاد موجه على الخصوص إلى برمينيد. الحار يفرق: مثلًا حينما يصهر بعض الجواهر. والبارد يجمد: هذا حق في بعض الأحوال ولكنه ليس حقًّا في جميعها. من العناصر الأخرى: ليس النص على هذا القدر من التعيين: النار نفسها: التي تعتبر أفعل العناصر تصير منفعلة في هذا المذهب. تقبل الحركة: أو «تتحرك».
(١٠) يذهب إلى اعتبار المنشار: ر. ما سبق في أول الفقرة التاسعة، فتلك هي المبادئ الميكانيكية التي إليها ينسب الفلاسفة كون الأشياء. ويرجعه إليها: ليس النص على هذا القدر من الصراحة. فهناك ضرورة أيضًا: ليس النص على هذا القدر من الصراحة. أردأ: أي بنظام أقل. العادية: زدت هذه الكلمة.
(١١) فما سبق: يظن فيلوبون أن المراد هنا كتاب الطبيعة، ولكن الأولى بالمراد هو الكتاب الأول من ما بعد الطبيعة الذي فيه أرسطو قد درس العلل. لم نتصدَّ ها هنا إلا لدرس: ليست عبارة النص على هذا القدر من الصراحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤