الفصل الثالث

الديمقراطية غير الرسمية

أثنى توكفيل على الديمقراطية الرسمية في أمريكا التي تُفعِّل مبدأ سيادة الشعب؛ فقد مَدَح النظمَ الدستورية، كما تصوَّرها واضعوها بكل ما فيها من تعقيد مقصود، كما مَدَح النظام البسيط والطبيعي للبلدات الذي نُقِل لأمريكا على يد البيوريتانيين، وفن الارتباط الذي هو أساس كل هذا. أتاحت تلك النظم للشعب حُكْم أنفسهم على نحو فعال؛ ومن ثَمَّ العيش على نحو متزن والانتعاش اقتصاديًّا، وجعلت الحرية السياسية ممكنة لأنها هي الحرية السياسية، وهي حرية تُمارَس وليست حرية نظرية. وبحكم الشعب الأمريكي لنفسه، شَعَر بالفخر الذي يتلاءم مع الشعور بالحرية، وفي نفس الوقت أنجَحَ الديمقراطيةَ.

سلطة الأغلبية

أشار توكفيل إلى أن هناك ديمقراطية غير رسمية أقوى من الديمقراطية الرسمية؛ فنظم الارتباط توفِّر بنية — تسلسل هرمي وإجراءات — تمكِّن أفراد الشعب من العمل معًا، لكن تلك القنوات أو أدوات التمكين تُعَدُّ أيضًا حواجز تؤخر — أو عقبات تمنع — إرادة الشعب من تحقيق ما تريد على الفور؛ فقد تؤدي لإحساس محبَط بالفخر بدلًا من الإحساس بالفخر حال الإنجاز. في القسم الثاني من الجزء الأول من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، أعلن توكفيل عن تحول في عَرْضه من مبدأ أو مُعتقَد سيادة الشعب (الذي عرض له في الفصل الرابع من القسم الأول) إلى حُكْمه الفعلي. بدأ القسم الثاني بفصل عنوانه «كيف يمكن للفرد أن يقول بحسمٍ إن الشعب في الولايات المتحدة هو الذي يحكم؟» ذَكَر أن «آراء الشعب الأمريكي وتحيزاته واهتماماته وحتى رغباته» لا توجد أمامها أيُّ «عقبات دائمة» من أجل الوصول لغايتها؛ فالشعب يحكم من خلال حكومة تمثيلية، لكنه يختار ممثِّليه على نحو دوري ويوجِّههم ويُبقِي على اعتمادهم عليه. بالإضافة إلى ذلك، يرجع «الشعب» لأغلبية تحكم باسمه، لا لكيان رسمي لا يتحرك أبدًا.

الديمقراطية غير الرسمية هي تمامًا ما حاولَتِ الليبرالية التقليدية الكلاسيكية أن تستبقها من خلال فكرتَيِ التمثيل والفصل بين السلطات. تصوَّرَ هوبز ولوك وجودَ ديمقراطية رسمية في الحالة الطبيعية، لكنها تستمر لفترة قصيرة — إنْ وُجِدت — والغرض منها هو إضفاء الشرعية على الحاكم الذي سيحكم باسم الشعب؛ أيْ بدلًا منه. عندما وجد لوك ومونتسكيو أن ممثلي الشعب من الممكن أن يكونوا غير أمناء، صاغَا مفهومَ الفصل الرسمي بين السلطات الذي سيجبر الحكومة على الحذر في اتخاذ القرار. كما أن الوثيقة الفيدرالية قد أحكمت صياغة هذين الشكلين الرئيسيين من الحكومة الحرة، بحيث يكون الدستور الأمريكي بالكامل ذا طابع تمثيلي في كل فرع من فروعه، كما يوجد توازن جديد ومحسن بين السلطات التي تم الفصل بينها، إلى جانب نظام الفيدرالية الجديد. صِيغَت تلك الإجراءات بعناية من أجل «تنقيح وتوسيع نطاق» إرادة الشعب عبر الانتخابات، وإن لم يحدث هذا، فمن أجل توفير «إجراءات احترازية إضافية» للتعامل مع الحكومة التي تخرج عن جادة الطريق أو الشعب الذي ينفلت، بما يوجِّه عقول أفراده للتحكُّم في رغباته.

اعترض توكفيل على هذا، وليبراليتُه التي «من نوع جديد» تخلت عن أمل الليبرالية التقليدية الذي يرى أن البداية الديمقراطية، في ظل الحالة الطبيعية، يمكن أن تتجَّنب النهايةَ الديمقراطية في الحكومة الناتجة؛ فالنظم الليبرالية المصمَّمة للتحكُّم في سيادة الشعب سيتم ببساطة إسقاطها. ويوحي قول توكفيل إنه لن تكون هناك عقبة «دائمة» أمام تحقيق الشعب إرادته، بأنه ربما يمكن كَبْح النزعات الفورية، وربما لا. إنها فكرة أقرب لفكر روسو (الذي يُعَدُّ أحدَ معلمي توكفيل باعترافه) من فكر الليبراليين الذين انتقدهم أيضًا روسو لاستراتيجيتهم المعقدة، التي تقوم على تمثيل الشعب بدلًا من قيامه بالحكم. لكن توكفيل لم يقبل ولم يلمح إلى اقتراح روسو بالاستعاضة عن الحكومة التمثيلية الليبرالية بشكل جديد من أشكال العقد الاجتماعي؛ فأيًّا كانت النظم التي يقدِّمها المُنظرون، فإن الشعب الديمقراطي سيفعل ما يريده في النهاية.

بعد تأكيد توكفيل على أن الشعب الأمريكي يحكم بالمعنى الدقيق للكلمة، انتقل إلى الأدوات غير الرسمية لهذا الحكم، وأولها الأحزاب السياسية. والأحزاب في واقع الأمر غير معنية بالهوية العِرقية (كما سنوضح)، وإنما بالاختلافات حول المصالح المشتركة التي تؤثِّر على كل المجموعات على نحوٍ متساوٍ. إنها شر كامن في الحكومات الحرة، بحسب قوله، متفق في ذلك مع الازدراء التقليدي لها، وهي ربما تنقسم إلى أحزاب كبيرة، أحزاب لها مبادئ مثل الحزب الفيدرالي والحزب الجمهوري الجيفرسوني، وأحزاب صغيرة ليست لها أفكار همها فقط شغل المناصب. غير أنه حتى الأحزاب الصغيرة مثل الحزب الديمقراطي الجاكسوني في وقت زيارة توكفيل لأمريكا، كانت لها «رغبتان سريتان» ترجعان لأعظم حزبين ظهرَا في كل المجتمعات الحرة، وهاتان الرغبتان تتمثلان في الرغبة الديمقراطية في توسيع نطاق سلطة الشعب والرغبة الأرستقراطية في تقييد الشعب. على نحو غير رسمي، وحتى في الديمقراطية؛ حيث يكون الشعب هو مَن يحكم، يكون هناك حزب يرغب في تقييد سلطات الشعب، كما لو كان الطابع الأرستقراطي — حتى عندما تغيب الأرستقراطية عن المشهد — يستحيل كبح جماحه في الطبيعة الإنسانية.

تُعَدُّ الصحافة الحرة في أمريكا سلاحًا في يد أحزابها، وأيضًا عاملًا غير رسمي من عوامل سيادة الشعب؛ فتولِّي الشعب الحكمَ معناه أن يمارس الحكم بآراءٍ اختارها، ودور الصحافة يكمن في تشكيل الآراء التي يختارها الشعب؛ هذا هو دور المثقفين، لكن في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن هناك رصيد فكري مكافئ لذلك الموجود في باريس، وكان المثقفون متفرقين بحيث لا يمكنهم بسهولة مخاطبة الأمة بأكملها. إن طابع الصحافة في أمريكا على عكس فرنسا — التي تلعب فيها دورًا أكبر — كان يقوم على الهجوم الشديد على الآخرين، واللعب على وتر المشاعر، وعدم مراعاة المبادئ، ونشر الفضائح. الخلاصة أن الصحافة الحرة لها محاسن ومساوئ ويجب قبولها كما هي؛ حيث لا يوجد طريق وسط مقبول بين الصحافة التي تتمتع بحرية كاملة، وتلك المقيَّدة والخاضعة.

تُعَدُّ الجمعيات السياسية جانبًا آخر من جوانب الديمقراطية غير الرسمية، يجمع أيضًا بين ما هو جيد وما هو سيئ. يتمتع الأمريكيون بحُرية مطلقة فيما يتعلَّق بإنشاء الجمعيات السياسية التي تُعَدُّ خطيرة حتى من وجهة نظر الليبراليين في أوروبا؛ غير أنه في بعض الأحيان يحدث، بحسب قول توكفيل، أن الحرية المطلقة يمكن أن تصحِّح حالات إساءةِ استخدامِ الحرية. حدث هذا في أمريكا حيث كان هناك تسامح كبير مع المعارضة، كما كان الحال في الأزمة الدستورية التي ألمح إليها توكفيل، والتي حدثت في عام ١٨٣٢ (بسبب إعلان ولاية ساوث كارولينا بطلانَ التعريفتين الجمركيتين الفيدراليتين اللتين أقرهما الكونجرس في عامَيْ ١٨٢٨ و١٨٣٢)، لكن مثل هذا الفعل يأتي عادةً على حساب التضحية باستقلالية الفكر داخل الجمعية عندما تسعى لتشكيل جبهة موحدة. إن مثل تلك الجمعيات تُحْسن صنعًا بفعلها هذا؛ لأنها بسعيها للتغيير «تُضعِف الإمبراطورية الأخلاقية للأغلبية»، غير أنها بسعيها للحصول على استحسان الأغلبية، فإنها أيضًا تدعم قوتها الأخلاقية. إن سيادة الشعب تعني تَساوي الجميع في الأهلية والقوة الأخلاقية، لكنها في واقع الأمر تعني حكم الأغلبية على الأفراد باسم الكل.

استبداد الأغلبية

تناول توكفيل هذا القسم من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» برويَّة، كما لو أنه قد أراد نقل الأخبار السيئة بالتدريج؛ فقد تحدَّث عن الاستبداد في النصف الأول من الجزء الأول حيث أثنى على نظم الحكم في أمريكا، لكنه لم يُثْنِ قطُّ على الأغلبية. ظهر مصطلح «استبداد الأغلبية» في الفصل الخاص بالجمعيات السياسية، ثم برز من خلال عنوان الفصل السابع الذي تناول «السلطة المطلقة» للأغلبية، التي قال عنها ضمن هذا الفصل إنها «استبداد» الأغلبية، ثم قال في النهاية إنها شكل جديد من أشكال الاستبداد والطغيان. هذا هو الشبح الذي يتوارى وراء مبدأ سيادة الشعب، والذي كان، وصولًا إلى تلك النقطة، قد استفاض في عرضه والثناء عليه.

إن السلطة المطلقة، بحسب قول توكفيل، آمنة وهي في يد الرب؛ لأن حكمته وعدله مساويان لقدرته، لكنها عندما تكون في يد البشر الذين يعتريهم النقصان، يصبح الأمر مختلفًا؛ فالسلطة المطلقة التي تكون في يد حاكم بشري تؤدي إلى الاستبداد، وهذا لا يحدث بالضرورة ولكن يُحتمل أن يحدث، ما لم يكن هناك ضمان لمنع حدوثه. لم يُرِدْ توكفيل للشعب الحاكم أن تكون له السيادة غير المنقوصة التي للرب كما تشير المبادئ الليبرالية لهوبز وسبينوزا ولوك.

لكن ما الضمان الذي يَحُول دون استبداد الأغلبية في الولايات المتحدة؟ يشكل الرأي العام الأغلبيةَ؛ فالسلطة التشريعية تمثل وتطيع الأغلبية، وهكذا الحال بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، كما أن الجيش يمثِّل الأغلبيةَ في قالب عسكري، ويمثِّل نظامُ المحلفين الأغلبيةَ التي تُصدِر أحكامًا قضائية. وسيادة القانون ليست ضمانًا يَحُول دون استبداد الأغلبية، كما أوضح توكفيل صراحةً في عبارته «استبداد القوانين». لقد عرَّف الاستبداد بأنه الحكم على نحوٍ يتعارض مع صالح المحكومين، وهذا يختلف عن التعسف في ظل عدم وجود قوانين؛ لذا يمكن للقانون أن يكون أداةً لاستبداد الأغلبية، والحكمُ المتعسف يمكن استخدامه في صالح المحكومين، بالرغم من أنه إذا كان مطلقًا، فمن غير المحتمل أن يكون في صالحهم. الاستبداد يعني حكم الفرد، إلا عندما تتصرف الأغلبية على نحو استبدادي؛ أيْ إنها تفكر وتتحرك كما لو كانت رجلًا واحدًا. في أمريكا، الأغلبيةُ تداهنها حاشيتها، وهي «تعيش في حالة دائمة من الإعجاب بذاتها»، تمامًا كما كان الحال بالنسبة إلى لويس الرابع عشر.

إن استبداد الأغلبية يتسم بطابع جديد في الديمقراطية؛ ففي ظل النظام الملكي (أو «الحكم المطلق لشخص واحد»)، سيضرب الاستبدادُ جسمَ الضحية من أجل أن يصل لروحه، أما استبداد الديمقراطية، فإنه «يترك الجسم ويتجه مباشَرةً للروح.» إن استبداد الديمقراطية — وذلك بحسب تعبير توكفيل في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» — عبارة عن «استبداد هادئ»، لا يقوم بالتعذيب والإعدام، وإنما يسعى للهيمنة الأخلاقية والفكرية، وهو استبداد ليس خشنًا بل ناعم، غير أنه ليس ناعمًا جدًّا. في حاشية، أعطى توكفيل مثالين لاستبداد الأغلبية: في بلاتيمور، قُتِل صحفيان عارَضَا حرب عام ١٨١٢ على يد حشدٍ من مؤيدي الحرب، وفي فيلادلفيا، تعرَّضَ العبيدُ المحرَّرون من السود لحالة من التخويف الشديد؛ الأمر الذي أدَّى إلى إحجامهم عن ممارسة حقهم الانتخابي. والمثال الثاني الذي يدور حول التمييز العنصري تناوَلَه توكفيل باستفاضة في فصل مهم عن الأجناس الثلاثة الموجودة في أمريكا في تلك الفترة، وهم: البِيض، والسود، والهنود.

ذلك الفصل — وهو الأخير في الجزء الأول من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، والذي يُعَدُّ خاتمةَ تناوُله مبدأَ سيادة الشعب — هو الأطول إلى حد كبير. والموضوعات المغطاة فيه تتعلَّق بأمريكا على وجه الخصوص، بحسب قول توكفيل، وهي تتناول الأجناس الثلاثة ومستقبل أمريكا. لكن الهدف الأعمق لتوكفيل من هذا الفصل هو الكشف عن طبيعة استبداد الأغلبية وما يمكن فعله لمنع هذا الاستبداد، وذلك عن طريق تحليله للإحساس بالفخر والحرية.

كانت الإبادةُ شبهُ التامة للهنود واستعبادُ السود — ولا يزالان — المثالين الأكثر بشاعةً على استبداد الأغلبية في أمريكا، وقد درس توكفيل الأجناس الثلاثة، وليس فقط جنسَيِ المحكومين؛ لأنه أراد أن يوضح آثارَ الاستبداد على المستبِد وعلى الضحايا على نحوٍ سواء؛ فالاستبداد الذي وصفه بأنه الحكم «على نحوٍ يتعارض مع صالح المحكومين» ظهر في الشعوب الحديثة خصوصًا لأنهم رُبُّوا على الإيمان بالسلطة المطلقة للحاكم وليس للرب؛ أيِ «الحق والقدرة على فعل أي شيء.»

لم يَقُلْ توكفيل شيئًا عن الأفضلية الفطرية أو الطبيعية لجنس معين، بدلًا من ذلك، فرَّقَ بين الأجناس الثلاثة فيما يتعلَّق بإبدائهم الإحساسَ بالفخر من عدمه. وصَفَ توكفيل الرجلَ الأبيض أو الأنجلو أمريكي في العالم الجديد بأنه «السيد»؛ لأنه يعامل الجنسين الآخرين كما يعامِل الإنسان الحيوان، تمامًا كما يسود الطبيعة. فهو يمارس الاستبداد على الجنسين الآخَرين اللذين يحكمهما، واللذين يمثِّلان طرفَيِ النقيض؛ فالرجل الهندي في استقلاليته البربرية يمثِّل الطرفَ المتطرِّفَ في الفخر والحرية، في حين يمثِّل الرجلُ الأسود الطرفَ الآخر في العبودية وتقليد سادته. إن سلوك هذين الجنسين مختلف تمامًا؛ فالسود يقبلون حضارةَ البِيض ويحاولون الانضمام لمجتمع البِيض الذي يرفضهم ويلفظهم، في حين أن الهنود الفخورين بأجدادهم والواثقين بكرم الطبيعة، يرفضون حضارةَ البِيض ويسعون للانعزال عنهم. يعرف الهنود معنى الحرية، لكنهم نظرًا لأنهم يعيشون في وَهْم نُبْل أصلهم، فهم لا يستطيعون التحكم في أنفسهم، ولا يستطيعون الحفاظ على حياتهم. يعرف السود كيف يحافظون على حياتهم، لكنهم يشعرون بأن كرامتهم منقوصة لأنهم مملوكون لأشخاص آخرين؛ ولذلك لا يحاولون تطوير أنفسهم حتى يصبحوا أحرارًا. إن كلا الموقفين المتطرفين يُظهِران النتيجة المترتبة على استبداد الأغلبية في صورة إحساس متطرف بالفخر؛ فالفخر الشديد يؤدِّي إلى عدم مرونة مواقف الهنود، والفخرُ شبه المنعدم يؤدِّي إلى خضوع السود، ودون وضع الفخر في إطاره الصحيح، يمكن أن تعاني الأغلبية البيضاء من نفس حالة البؤس الشديدة التي تفرضها على ضحاياها. يجب أن يصاحب الفخرَ التعقُّلُ حتى تتحقَّق الحرية؛ حيث إنه في الديمقراطية يمكن أن يبدو دائمًا أنه من المعقول التضحية بالحرية من أجل الكفاءة الإدارية، لكن الفخر يحتاج إلى التعقُّل للتحكُّم في أوهامه، ولجعله خاضعًا للحضارة؛ للحضارة، هكذا أوضح توكفيل، وليس فقط للخبرة.

في تأييد توكفيل للإحساس بالفخر، اختلف ثانيةً عن الليبرالية الكلاسيكية كما وضعها توماس هوبز، التي تدَّعي أن الإنسان يجب ألَّا يكتفي فقط بكبح جماح فخره، وإنما عليه أن يتخلى عنه حتى تتحقق الحضارة؛ ففي الحالة الطبيعية، يعيش الإنسان في حالة حرب — حرب الكل مع الكل — وفي تلك الحالة يجب أن يمحو خوفُه، من أجل الحفاظ على نفسه، أوهامَ غرورِه. وبعد تلك التجربة، سواء في الواقع أم الخيال، يكون الإنسان مستعِدًّا لأن يكون معاونًا ومراعيًا، وربما خاضعًا، لأقرانه في المجتمع المتحضِّر. بالنسبة إلى هوبز وعدد كبير من أتباعه، الحريةُ والإحساسُ بالفخر يكونان في صراعٍ كلٌّ منهما مع الآخَر، والخلاصة أنه على الأفراد المتحضرين أن يتعلموا كيفية مراعاة شعور الآخرين والانسجام معهم.

fig6
شكل ٣-١: لوحة رسمها جوستاف دي بومون — صديق توكفيل ورفيقه في رحلته لأمريكا — لنفسه ولتوكفيل (الذي يستند في الصورة إلى شجرة ساقطة)، وللمرشد الهندي الذي كان يقودهما عبر البرية في ميشيجان.

أخذ توكفيل مسارًا مختلفًا عن المسار السابق الذي أَوْضحه في نفس هذا الفصل؛ فبدلًا من وجود عقد اجتماعي يفرض المقايضة بين الإحساس بالفخر والحضارة، لم يُرِدْ أن يفصل إحساس المرء بالفخر عن إحساسه بالحرية؛ فيجب دمج الحرية البدائية التي لدى الهنود، في الرغبة في التحضر التي لدى السود، لتكون النتيجة شخصًا أبيض يحافظ على حريته لأنه يحافظ على كبريائه وحياته؛ لأن كرامته ليست قائمة على الوهم. بالطبع، إن مثل هذا الشخص لا يجب أن يكون أبيض بالمعنى العنصري، وإنما بمعنى أنه يجب أن يتخلَّى عن تحيُّزه ضد الجنسين الآخَرين الخاضعين له؛ وهو أمر يظنه توكفيل مُستبعَدًا.

عندما تجتمع العبودية مع العِرق، كما في أمريكا وفي نظام العبودية الحديث بوجه عام، يُوسم العبد للأبد بلونه؛ فالرجل الأبيض بتحيزه ضده يقلِّل من مكانته في الإنسانية، واضعًا إياه في مرتبة بين الإنسان والحيوان. ربما يدَّعِي الليبراليون — وربما يؤكد إعلان الاستقلال — أن كل البشر خُلِقوا متساوين، لكن هذا الادعاء جعل إلغاءَ العبودية أكثر صعوبةً؛ لأن البِيض لا يرون أن السود بشر كاملون. يمكن لمستبدٍّ أن يلغي العبودية في أمريكا، كما ألغتها السلطات الأوروبية في مستعمراتها.

لكنَّ الأمريكيين الديمقراطيين يفخرون بالمساواة بين البِيض فقط، بينما في الوقت نفسه (وحتى في الشمال) يخافون من تمرُّد العبيد عليهم. إن الفخر العنصري الذي يُبدونه غير مفهوم من قِبَل النظرية الليبرالية التي تتجنَّب الحديث عن مسألة العِرق، والخوف الذي يبدونه يتناقض مع المساواة العنصرية بدلًا من أن يعمل لصالحها، وذلك كما تفترض النظرية الليبرالية. يوضِّح سلوك الفخر لدى الهنود، والذي يرفض أسلوب حياة البِيض وحكمهم، أن النظرية الليبرالية تَعتبر انجذابَ المرء للحضارة أمرًا مسلَّمًا به، ولا تفهم أن عليه أن يخضع للحضارة. إن تحيُّز البِيض ضد السود برفضهم إياهم يوضِّح أن الإحساس بالفخر لا يختفي على الرغم من تعارُض الديمقراطية معه، وأنه يجب التعامُل معه ومع كل الأشياء المفيدة المرتبطة به. إن الإحساس بالفخر الذي يبديه الكثير من الأمريكيين في تحيُّزهم يجب أن يتحوَّل لصالح الإحساس بالفخر بحُرية الحكم الذاتي؛ فلا يمكن للمرء أن يساوي بين كل أشكال الإحساس بالفخر لديه في الحالة الطبيعية، ويتجه نحو عقد اجتماعي، كما يفترض الليبراليون عادةً في نظرياتهم.

اتفق توكفيل مع النظرية الليبرالية في زعمها الذي يقول إن العبودية أمر غير طبيعي، لكن ليس بسبب أننا نُولَد جميعًا أحرارًا ومتساوين في حالتنا الطبيعية. وتَعجَّبَ على نحو ساخط قائلًا إننا نرى في العبودية «النظام الطبيعي وقد أصبح معكوسًا.» غير أنه في إطار معنًى آخَر للمقصود بما هو طبيعي، كان من الطبيعي جدًّا بالنسبة إلى الأوروبيين أن يستعبدوا جنسًا آخَر اعتبروه أقلَّ منهم منزلةً؛ الأمر كان مفهومًا. إن النظام الطبيعي يسعى من أجل الأفضل، لكن الأفضل لا يتحقق على نحو تلقائي؛ في واقع الأمر، هو يواجه عقبات بسبب الإحساس بالفخر الذي هو إحساس طبيعي لدى البشر. تعتقد النظرية الليبرالية أنها قهرت الإحساس بالفخر في الحالة الطبيعية، وأنها ربطت النظام الطبيعي (القانون الطبيعي) بأقوى شعور إنساني؛ ألا وهو الخوف من أجل حفظ الذات. بالنسبة إلى توكفيل، هذا حل ذكي لكنه مبسط للغاية؛ فرؤيته للديمقراطية لا تحاول استبعاد الفخر، وهو لا يركِّز فقط على مقاومة التحيُّز وضرورة التخلِّي عن الإحساس الزائف بالفخر، كما نفعل اليوم بسهولة، وإنما على المهمة الأكثر صعوبةً المتمثِّلة في إيجاد حل ﻟ «نقص» الإحساس بالفخر؛ فالديمقراطية ليست على وفاق مع ادعاءات الفخر التي دائمًا ما تنطوي على نوع من عدم المساواة، لكنها بحاجة إلى أن يكون هناك فخر يستند إلى الشعور بالأهمية والإنجاز كما يتجلى في السياسة على وجه الخصوص.

مباشَرةً بعد أن عرض توكفيل لمفهوم استبداد الأغلبية، تَحدَّث عن «السلطة التي تمارسها الأغلبية على الفكر»، وقال على نحو مباشِر وحاسم: «لا أعرف أي دولة تسود فيها بوجه عام استقلاليةُ فكرٍ وحريةُ تعبيرٍ أصيلةٌ أقل من أمريكا.» ليست القضية أن المعارض يخشى التعرض للاضطهاد أو الإعدام حرقًا على خازوق، وإنما القضية أنه «لن يستمع أحدٌ لما يقوله» وسيصبح منبوذًا، وفي النهاية سيتوقف عن المعارضة. إن هذا عنف «فكري» يؤدي إلى توقف العقول عن التفكير، بل حتى إلى توقُّف الكُتَّاب عن التفكير في نشر آراء معارِضة لرأي الأغلبية، وهو أمر أكثر سوءًا مما كان يجري في محاكم التفتيش التي كانت مهمتها قمع المهرطقين. ذكر توكفيل دليلًا على تلك الحقيقة مفاده أن «أمريكا حتى الآن ليس لديها كُتَّاب عظام.»

بالطبع، تُرجِم كتابُ توكفيل ونُشِر في أمريكا بعد فترة قصيرة جدًّا من ظهوره في فرنسا، ويبدو أن هذا تم بغضِّ النظر عن رأي الأغلبية، لكنه في مواضع كثيرة من الكتاب أظهر نفسه وكأنه يخشى أن يُنظر إليه باعتباره معاديًا لأمريكا أو للديمقراطية، وخاصةً في بداية الجزء الثاني؛ حيث أعلن عن عدم استعداده لمداهنة الأحزاب الكبيرة أو الفصائل الصغيرة التي كانت موجودةً في عصره. بالإضافة إلى ذلك، قد يَردُّ أيُّ قارئ معاصِر قائلًا إن كُتاب أمريكا الكبار، بالرغم من عدم عِظَم مكانتهم، سرعان ما ظهروا، ومن بينهم ناثانيال هوثورن بعمله المعروف «الحرف القرمزي» الذي ظهر في عام ١٨٥٠، وهرمان ملفيل بعمله المعروف «موبي ديك» الذي ظهر في عام ١٨٥١، كما أن عمل جيمس فينيمور كوبر «آخر الموهيكان» (١٨٢٦) ظهر في وقت مناسب بحيث يستطيع توكفيل أخذه في الاعتبار وهو يُصدِر حكمه؛ ومع ذلك، لن يرغب أحد في معارضة نقده الشديد للأمريكيين الذين — بحسب قوله — لا يمكنهم تحمُّل أقل نقد يُوجَّه لبلدهم.

في الفصل الذي تناوَلَ فيه توكفيل حريةَ الصحافة، أشار إلى أن هناك ثلاثة أنواع من الرأي؛ وهي: الإيمان، والشك، والاعتقاد العقلاني. إن النوع الأخير لا يصل إليه سوى عددٍ قليل جدًّا من الناس؛ فمعظم الناس يعيشون في حالة إيمان وذلك في العصور التي يسود فيها الدين، أو في شكٍّ وذلك في عصر الديمقراطية. هنا تكمن إحدى مفارقاته البارعة؛ قال إنه في أوقات الإيمان، يغيِّر الناسُ آراءَهم عندما يتدينون، لكنهم في أوقات الشك يتمسَّكون بآرائهم. لماذا هذا الموقف الأخير؟ عندما يشك الناس، يرون أنه لا يوجد رأي أفضل من رأيهم، ويشعرون بأنه لا توجد مصلحة غير مصلحة واحدة، من المرجح أن تكون مصلحة مادية، تتوافق بسهولة مع العناد والتحيُّز والثبات على الرأي.

لذا، فإن الصحافة الحرة لا تحث الناس على الوصول للاعتقاد العقلاني أو الحقيقة. ثمة ادعاءات تزعم اليوم — فيما يتعلَّق بالصحافة — أن الناس من حقها أن تعرف كل ما يمكن معرفته. لكن معظم الناس لا يعيشون على أساس المعرفة، وإنما على أساس الرأي القانع. إنهم متشكِّكون؛ وكأن لسان حالهم يقول: «لا يمكن أن تصدق ما تقرؤه!» ونحن نقول اليوم إن وسائل الإعلام دائمًا ما تسيء فَهْم الأمور. بناءً على ذلك، نحن نؤمن بأننا على حق، وأنه لا توجد سلطة أعلى منَّا تقول لنا إننا مخطئون. يحب الديمقراطيون الفخرَ باستقلالية فكرهم، وهو بالضبط أقل أنواع الاستقلالية التي يتمتعون بها. أشار توكفيل لميزتين خفِيَّتين للصحافة الحرة؛ وهما استغلالُ طموح الكُتَّاب الموهوبين في هجوم بعضهم على بعض، واستقرارُ الرأي الناتج عن البلبلة التي تجعل الناسَ لا يثقون فيما يقال لهم أو يستبعدونه.

في الجزء الثاني، ناقَشَ توكفيل سلطةَ العلم التي تحاول خلق اعتقادٍ عقلاني من نوعٍ ما لدى الناس؛ اعتقادٍ وسط بين المعرفة الكاملة والرأي غير المطلع. لكنه في هذا النقاش ركَّز على «الأهمية العظيمة» للصحافة الحرة، وفي نفس الوقت على الاستبداد اللاعقلاني لدى الأغلبية التي تعزِّزه باسم التنوير. وبتميُّزها بالاعتدال، قيَّمها مقارَنةً بالصحافة التي توجد رقابة عليها، وهو مقابل معتاد بالنسبة إلى الليبراليين، وأيضًا مقارَنةً بالعقل في أسمى معانيه، وهو مقابل غير معتاد. وكانت النتيجة صورة مختلفة تمامًا عن الثناء الشديد على «حرية الفكر والتعبير» الموجود في كتاب جون ستيوارت ميل «عن الحرية» المنشور في عام ١٨٥٩، وهو العام الذي توفي فيه توكفيل.

كان ميل صديقًا لتوكفيل وأحد أتباعه الأوائل بمراجعته لكتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكنهما اختلفا اختلافًا بيِّنًا في رأيهما بشأن العلاقة بين العقل والإحساس بالفخر؛ اعتقد ميل أن تحيُّز الناس العاديين يمكن التغلب عليه بواسطة أشخاص نسميهم الآن «المفكرين»، الذين يمكنهم توجيه المجتمع دون أن يحكموه على نحو فعلي. وقد اعتبر الإحساس الإنساني بالفخر عائقًا أمام تقدُّم المعرفة، والحرية السياسية وسيلة لإحداث هذا التقدم. على الجانب الآخَر، كان توكفيل يعتقد أن الإحساس بالفخر يفيد الديمقراطية ويضرها في نفس الوقت؛ فهو يضرها عندما يمجد تحيُّزَ الأغلبية الديمقراطية، ويفيدها عندما يساعدها على تصحيح هذا التحيُّز في «المدرسة المجانية» التي تقدِّمها الحرية السياسية؛ فبالنسبة إليه، يمثِّل العقل في أسمى معانيه «الملاذ الأخير» للإحساس الإنساني بالفخر، وبالرغم من أن الاكتشافات النظرية قد تؤدِّي إلى تطوير المجتمع، فإنه يجب أن تكون هي نفسها هدفًا في حد ذاتها. يتميز الإنسان عن الحيوان بعقله؛ هذا هو الأساس المنطقي للإحساس بالفخر، ويجب أن يُحترم هذا الأساس لدى الأشخاص القادرين على استخدام عقولهم بفاعلية كبيرة، لكن معظم الناس يستخدمون عقولهم معظمَ الوقت للفخر بدفاعهم عن تحيُّزاتهم. إنَّ نَشْر التحيُّز هدف ومهمة أي صحافة حرة.

المساواة والتشابه

تقوم المؤسسات غير الرسمية على السيادة غير الرسمية للرأي العام. وفي هذا، اتفق توكفيل مع ميل، لكنه كان أقل تفاؤلًا بكثير منه. اعتقد ميل أن الرأي العام يمكن قيادته من خلال مفكرين مثله هو شخصيًّا؛ ممَّا يؤدي إلى مزيد من التنوير، لكن توكفيل — بالرغم من أنه اتفق مع ميل على أن قلةً من الناس يكونون أكثر استنارةً من غالبية الناس — اعتقد أن هناك احتمالًا أكبر لأن يقود الرأيُ العام المفكرين وليس العكس، وأنهم لن يُصغَى إليهم إذا حاولوا أن يَعظوا وينصحوا الناس متبعين أسلوبَ ميل؛ أيْ إنهم سيكونون مجبرين على خدمة الرأي العام. يميل المفكرون الديمقراطيون من أمثال ميل لأن يكونوا أكثر ديمقراطيةً من الأفراد الديمقراطيين، مع الاحتفاظ باستثناء لأنفسهم باعتبارهم معلمين للناس. هذا صحيح؛ فتوكفيل نفسه كان يسعى ﻟ «تعليم الديمقراطية»، كما قال في مقدمة كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، لكنه كان يفعل هذا من خلال تحليل صريح لمزاياها وعيوبها، ممزوجًا بثناء مكبوت، بدلًا من الدفاع عن الديمقراطية واللوم على معارضيها. ومن دون ضجر، قارن بهدوء بين النظامَين الديمقراطي والأرستقراطي.

للرأي العام سلطة أعلى في النظام الديمقراطي مقارنةً بسلطته في النظام الأرستقراطي؛ لأن الكل في ظل النظام الديمقراطي متساوون أو من المفترض أنهم كذلك. فلا يوجد فرد — أو جماعة — له سلطة أعلى من الشعب؛ ومن ثَمَّ لا يمكن لأحد أن يتحداه على نحو صريح، وهو الأمر الذي يحدث بسهولة في أي نظام أرستقراطي. إن سيادة الرأي العام تتفق مع الحالة الاجتماعية الديمقراطية، وهو المفهوم الذي وضعه توكفيل الذي يرى أنه سابق للسياسة ويتحدد من خلالها. وعلى الرغم من أن الرأي العام في واقع الأمر يسود في النظام الديمقراطي، فلا يبدو أنه يسود لأنه ليس له ممثل محدَّد يُرجع إليه؛ فهو بالتأكيد يتشكَّل على يد مفكرين وسياسيين وصحفيين، لكن حيث إن كلَّ هؤلاء يزعمون أنهم يتبعونه، فلا أحد يتحمل مسئوليته. وعندما يتغير الرأي العام، معتبرًا حُسْنَ الصنيعِ سوءَ صنيعٍ أو العكس، فإنه يفعل هذا دون تفسير؛ حيث إنه لا يوجد أحد مسئول عنه يمكن محاسبته. ربما يحاول البعض تأويل الرأي العام، لكن الرأي العام لن يحدد إن كان هذا التأويل صحيحًا أم لا؛ فقراراته السيادية ليست خاضعة للعقل، ولا يمكن لأحد الاعتراض عليها نظرًا لكونها متضارِبةً أو قصيرةَ النظر. سيتم الاستماع والالتزام بما يقوله الرأي العام، لكنه لن يستمع لأحد عندما لا تكون لديه الرغبة في ذلك.

يقوم الرأي العام الديمقراطي على المساواة، لكن طبيعة هذه المساواة تحتاج لأن يتم النظر فيها. كيف تتعامل الديمقراطية مع جوانب عدم المساواة الطبيعية الواضحة؟ ففي أي ديمقراطية، يعتقد كل شخص أنه ينعم بالمساواة مع غيره؛ ففكرة المساواة أقوى من حقيقة اللامساواة؛ لأنها يمكن أن تخلق مساواةً في حالة عدم وجودها. فربما يكون جارك أكثر ثراءً منك، لكن إذا اعتقدتَ أنه مساوٍ لك، فإنه سيصبح على هذا النحو. استخدم توكفيل مفهومَ الشبيه أو النظير للإشارة إلى القوة الإبداعية للرأي العام الديمقراطي؛ فجارك ليس مساويًا لك تمامًا، لكنه شخص يشبهك، على الرغم من أنه أكثر أو أقل ثراءً أو جمالًا أو ذكاءً منك؛ لذا يمكنك التعامل معه على أنه مساوٍ لك؛ مما يعني أن جوانب عدم المساواة بينك وبينه لا تمنح أيًّا منكما سلطةً على الآخر.

يجب أن نطبِّق مفهوم الشبيه على عبارة توكفيل التي تقول إن الثورة الديمقراطية تؤدِّي إلى مساواة أكبر في الأوضاع، وهي عبارة يعترض عليها بعض القراء؛ لأنها تُغفِل على ما يبدو جوانبَ عدم المساواة الواضحة التي تستمر فيما نسميه «الديمقراطية». لكن ما «نُطلق» عليه ديمقراطية «يكون» ديمقراطية؛ فالديمقراطية هي سيادة الكل المتساوين منهم وغير المتساوين؛ حيث إن جميعهم يَعتبرون أنفسهم متشابهين. فالناس الذين يُنظَر إليهم على أنهم متساوون يكونون متساوين في الواقع، على عكس تساويهم من الناحية النظرية، وهي مساواة نادرًا ما تُلاحَظ، هذا إن حدثَتْ، ويَعتبرها المُنظِّرون الليبراليون الحالةَ الطبيعية. استبدل توكفيل بالمساواة الطبيعية المزعومة للبشر المساواةَ العرفية التي يرى فيها الناس أن الآخرين مشابهون لهم. غير أن المساواة العرفية بين المتشابهين ليست اعتباطية تمامًا؛ فهي تقوم على أساس الفخر بالطبيعة الإنسانية التي بموجبها يعتقد الفرد أنه مهم؛ حيث يمكن للفرد أن يشعر بالفخر بأنه لا يوجد مَن هو أعلى مكانةً منه (كما في الديمقراطية)، كما يشعر بالفخر بأنه أعلى مكانةً من الآخرين (كما في الأرستقراطية).

عندما تذعن للرأي العام، فإنك لا تذعن لشخص أو جماعة قد يبدو أن لها سلطة عليك؛ فغموض الرأي العام لا يحميه فقط من الاتهام أو تحمُّل المسئولية، وإنما يسمح له أيضًا بأن يصبح بمنزلة سلطة؛ فالتشابه داخل شعب ديمقراطي يجعل الديمقراطية تبدو طبيعية، بالرغم من أنها إلى حد كبير عرفية. وعلى الرغم من إقرار توكفيل بوجود فارق بين الطبيعة البشرية والعرف البشري، فإنه لم يحاول توسيعَ هذا الفارق كما فعلت النظرية الليبرالية، التي عارضت الاثنين كما لو كان كلٌّ منهما معاديًا للآخر، لكنه بدلًا من ذلك مزج بين ما هو مُعطًى وما هو مصطنع.

إن الإحساس بالفخر يتم الثناء والهجوم عليه في نفس الوقت في ظل الرأي العام الديمقراطي؛ فعندما يقارِن فردٌ نفسَه بآخَر، يَشعر بالفخر لأنه متساوٍ مع الآخرين، لكنه عندما يقارن نفسَه مع «مجموع كل المشابهين له»؛ أيْ جمع كبير من الناس، يغلبه شعور بالضآلة وعدم الأهمية؛ لذا فإن الرأي العام «يضغط على نحو كبير على عقل كل فرد»، فيحاصره ويوجِّهه ويقهره. وكلما زاد تشابه الأفراد بعضهم لبعض، زاد شعور كلٍّ منهم بالضعف في مقابل الآخرين كلهم، ويبدأ في عدم الثقة والتشكك في نفسه عندما يجد نفسه مختلفًا مع الأغلبية؛ وهكذا فإن الأغلبية «ليست في حاجة إلى قهره، وإنما هي فقط تقنعه.» وهذا هو سبب ندرة الثورات الكبيرة في الديمقراطية، بحسب اعتقاد توكفيل؛ فالشعوب الديمقراطية ليس لديها الوقت ولا الميل للبحث عن آراء جديدة، فهي لا تحيد عن الآراء الشائعة بالرغم من الأخطاء الموجودة بها دون النظر لشعورها بالخضوع لأنها تذعن لرأي الأغلبية.

الرفاهية المادية

يقوم الرأي العام على الرغبة في «الرفاهية المادية»، بحسب تعبير توكفيل. في المرة الأولى التي استخدم فيها توكفيل هذا المفهوم، كان يتحدَّث عن تأثيره على الآراء السياسية؛ هذا التأثير الذي يتجلى على نحو خاص لدى الأجانب الذين يأتون إلى أمريكا وتزدهر حياتهم. هناك صديق فرنسي لتوكفيل قابله في رحلته لأمريكا كان داعيًا معروفًا لمفهوم التوزيع العادل للثروة في فرنسا، لكنه تَعلَّم من خلال نجاحه في أمريكا — مع تغيُّر آرائه بسبب زيادة ثروته، ومع تخلِّيه عن الدعوة للعدالة في توزيع الثروة — أن يتحدَّث عن حق الملكية تمامًا كما يفعل الاقتصاديون أو الماديون، ومن هنا، بدأ توكفيل الربط — الذي قد يبدو توسُّعًا — بين المذهب الفلسفي للمادية والرغبة العامة في الرفاهية المادية. إن كلًّا من المذهب والرغبة له سلطة غير رسمية في أمريكا؛ مما يؤدِّي إلى أداء عادي لا بريقَ له، غير مفسد للأخلاق في مراحل عديدة من الحياة الديمقراطية. خصَّصَ توكفيل سبعةَ فصول متتالية في الجزء الثاني من كتابه لتناول تلك الرغبة، لكنه أدانَ المذهبَ بعنفٍ قبل ذلك في مقدمته للجزء الأول، ووَصَف مَن يحاولون «تحويلَ الإنسان إلى مادة»، بأنهم سفهاء ومغتصبون للسلطة ولا قيمة لهم.

سيبدو من مثال الصديق الفرنسي الذي لم يحدد توكفيل اسمه أن الرغبة في الرفاهية المادية في أمريكا تَسبَّبت في ظهور المذهب بشكله السائد هناك؛ بحيث يتحدد الرأي الاقتصادي من خلال الطبقة أو المصلحة الاقتصادية، كما في الماركسية. لكن توكفيل لم يتبع هذا المسار؛ فقد أكَّدَ على أن الرغبة في الرفاهية المادية (التي أطلق عليها أيضًا في الجزء الثاني «المُتَع المادية») نابعةٌ من الديمقراطية؛ فهي لها سبب سياسي لا اقتصادي، وهي ليست ناتجة عن الرأسمالية أو روح الرأسمالية كما اعتقد ماكس فيبر، فما هي إذن تلك الرغبة؟ تحدَّثَ توكفيل عن طابع تلك الرغبة وربَطَها بمقابلها الواضح؛ أَلَا وهو الروح؛ حيث للرفاهية المادية جانب غير مادي في الديمقراطية الأمريكية؛ فالروح الديمقراطية لها طبيعتها المضطربة المستمَدة من الرغبة في هذا الشيء على الخصوص.

إن الأمريكيين في واقع الأمر لديهم رغبة في الحصول على الأشياء المادية النابعة من وضعهم الاستثنائي غيرِ الموجود في كل الأمم الديمقراطية، وقد استغل توكفيل هذه الفرصة لينفي أن أمريكا ستكون هي المثال الذي يجب أن تحذو تلك الأممُ حذوَه في هذا الشأن؛ فأمريكا متطرِّفة جدًّا في تلك الرغبة، لدرجة أن المرء يجب أن يذهب إلى هناك حتى يتعرَّف على مدى تأثير تلك الرغبة، وهو الأمر الثاني — بعد البراعة في إنشاء الجمعيات — الذي قال عنه توكفيل إن على المرء أن يشهده بنفسه حتى يقدِّر أهميته. وفي تناوله للأجناس الثلاثة، قال إن البِيض في الشمال يَعتبرون الرفاهيةَ المادية الهدفَ الأساسي لوجودهم، وهذا يدل على أن تلك الرغبة ليست واحدة في كل أمريكا، غير أنه بالرغم من تلك الصفات، أكَّدَ على أن المساواة، من خلال «قوةٍ خفيةٍ» ما، تجعل الشغف بالمتع المادية (وليس فقط الرغبة فيها) و«التفضيل الحصري للحاضر» الذي يصاحب تلك الرغبة؛ يسيطران على قلب الإنسان.

ما هي تلك القوة الخفية؟ في الفصل الذي تناول فيه توكفيل الرغبةَ في الرفاهية المادية في الجزء الثاني، قارَنَ ثانيةً بين الديمقراطية والأرستقراطية؛ فالرجل الأرستقراطي يحتقر الرفاهيةَ المادية، ويمكن أن يستغني عن الأساسيات، في حين أن الرجل الديمقراطي لا يمكن أن يعيش دون تلك الرفاهية. في عصرنا الحالي، يُعتبَر نظامُ السباكة الحديث ضرورةً في كل الدول الديمقراطية؛ فالرفاهية المادية توجد في المنتصف بين الفقراء والأغنياء؛ فالفقراء يريدونها والأغنياء لا يبالغون في التفاخُر بها؛ فهي تنتشر مع نمو الطبقة الوسطى. إنها تحتاج لمجهود في الوصول إليها، ودائمًا ما يحيط بها القلق. فهي رغبة عنيدة وحصرية وعامة، لكنَّ لها أهدافًا بسيطة تتشبث بها الروح. وعلى الرغم من أنها تشجع الشعوب الديمقراطية على الإفراط، فإنها مقيَّدة، وقال توكفيل إن لومه للمساواة لا ينبع من أنها تجعل الناس يسعون من أجل الحصول على مُتَع محظورة، وإنما في أنها تجعلهم ينشغلون بالكامل في البحث عن مُتَع غير محظورة؛ فبحسب قوله: «هم يقعون فريسة للدعة لا للإغواء.» فالرغبة في الرفاهية المادية صادقة ومقبولة، فقط لأنها تفتقد الطموح الكبير: «من الصعب الخروج عن المسار العام، سواء من خلال الرذائل أم الفضائل.»

إن وجود رغبة مقبولة لحيازة مُتَع هذا العالم هو الشغف السائد في أمريكا، لكنه ليس الشغف الوحيد. عرض توكفيل فجأةً نقاشًا حول الروح في هذا السياق، موضحًا الشغف الآخر المضاد للشغف السائد ومبينًا قوته الخفية. بالنظر إلى الصورة التي رسمها توكفيل للواعظين المتجولين، الذين وجدوا جماهيرهم في البرية في الغرب ونقلوا إليهم «روحانيات سامية» غير موجودة في أوروبا، نجد أنه كشف عن إحدى حقائق الطبيعة الإنسانية؛ فالإنسان، بحسب قوله، لديه رغبةٌ في اللانهاية وحبٌّ للخلود. إن هاتين الغريزتين الساميتين ليستَا من ابتكار عقله، لكنهما من الأسس الثابتة في طبيعته، بحيث يمكن إعاقتهما أو تشويههما لكن لا يمكن أن يختفيا؛ فالروح لا ترضى بالمتع التي تأتي من الحواس؛ فهي لها احتياجات خاصة بها يجب أن يتم إشباعها، ولا يمكن شغلها عن ذلك لفترة طويلة قبل أن تشعر بالملل والاضطراب والقلق. إن الأمريكيين يشعرون بالاضطراب والحيرة على نحوٍ يذكِّرنا بفلسفة باسكال، أحد الكُتَّاب المفضلين لدى توكفيل.

ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلى الرؤية الأمريكية الخاصة بالمصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد؟ عند الحديث عن حب الخلود في الطبيعة الإنسانية، ألمح توكفيل إلى أن الفرد لا يمكن أن يرى أن كل شيء مصدره الذات؛ فالطبيعة هي مصدر هذا الحب، والطبيعة وليس الإنسان هي التي صنعت تلك الذات. علاوة على ذلك، يبدو أن حب الخلود بمنزلة امتداد للشغف السائد؛ لأن الرغبة في التملُّك تصبح حبًّا للخلود عندما تُكسَر «الأغلال المقيدة التي يرغب الجسد في فرضها» بسبب عدم الرضا عن الجانب المادي. وهكذا، تتحرك المصالح المادية من خلال القوة الكبرى لما يرغب في أن يطلق عليه «المصالح غير المادية للإنسان»، التي هي امتداد مهم لجزء «المفهومة على نحو جيد» من المصلحة الشخصية. والمصلحة الشخصية بهذا المعنى الواسع ترتبط بالذات من خلال «روابط مادية»؛ أيِ السياق الإنساني، لكن حقيقتها غير المادية تكون متجاوزةً للذات. بل إن الأمريكيين أنفسهم يدركون على نحو ضمني أن شغفهم بالأشياء المادية لا يمكن أن يُؤدِّي بهم إلى الشعور بالرضا، على الرغم من أن تجربة السمو فوق المادية يمكن أن تكون مقتصرة على القليل من الأشخاص. والروح لها احتياجات لا يفهمها الأمريكيون؛ ولذا عندما تنفصل الروح عن المصالح المادية، لن تستطيع أن توقفها أيُّ حدود، وستتجاوز الفطرة السليمة إلى اللانهاية.

تحوِّل المساواةُ البشرَ إلى سلع مادية؛ لأنها تطيح بأي سلطة أرستقراطية تهيمن عليهم أو تجبرهم على تحويل انتباههم للمستقبل، أو التضحية بمصالحهم المادية من أجل هدف طويل الأجل. يركز الديمقراطيون على الأجل القصير؛ فهم يوجِّهون انتباههم للحاضر. وما الشيء الموجود في الحاضر الواضح للجميع دون حاجة إلى تعليم أو تضحية؟ إنه السلع المادية. تكمن المشكلة في أن السلع المادية التي يمتلكها الفرد تزيد التطلع لديه من أجل المزيد؛ مما يؤدِّي إلى عدم الرضا بدلًا من الرضا. في أي ديمقراطية، يكون لدى الفرد الحرية في تغيير مكانه ووظيفته ومنزله، وحيث إن الأمريكيين يوجِّهون انتباههم باتجاه الأشياء الجيدة في هذا العالم، ويسعون دائمًا من أجل المزيد، فيجب أن يكونوا دائمًا في حركة دءوبة؛ فلا قانون ولا عُرْف يجعلهم يقفون في مكانهم؛ لذا فإن الأمريكيين يشعرون بالحزن والكأبة، ولا يمكنهم الحصول على ما يريدونه؛ فالحياة قصيرة جدًّا، وهناك عدد كبير جدًّا من الاختيارات.

على الرغم من أن الأمريكيين يجمعون بين رغبتهم في الرفاهية المادية وحب الحرية والاهتمام بالشأن العام، لا يوجد ارتباط لازم بين هذه الأشياء؛ فمن غير الملائم عادةً أن تمارِس حقوقَك السياسية بحيث يمكن أن تؤدِّي مصلحتُك الشخصية إلى تجاهل اهتمامك الأساسي في هذه الحياة، وهو أن تبقى سيد نفسك في ظل سيادة الشعب. إن السعي من أجل الرخاء مشروعٌ، لكنه عندما يؤدِّي بالإنسان إلى عدم «استخدام أكثر مَلَكَاته سموًّا»، فهو برغبته في تحسين كل شيء من حوله يحطُّ من شأن نفسه؛ فبحسب تعبير توكفيل، «اللؤلؤة هناك وليست في مكان آخَر.»

صاحَبَ عرْضَ توكفيل لهذا الموضوع نقاشٌ للمادية؛ فالمادية، بحسب قوله، «داء خطير للعقل الإنساني في كل الأمم»، لكن على نحوٍ خاص في أي أمة ديمقراطية؛ لأنها تجتمع مع «أكثر الرذائل المألوفة للقلب». إن المادية في حد ذاتها ليست ديمقراطية، وبالطبع هناك ماديون في العصور الأرستقراطية. هاجَمَ توكفيل كل الماديين؛ لأنه وجد أن المادية ضارة، وأن الماديين أنفسهم مثيرون للاشمئزاز في فخرهم. يُعلم المذهب الناس ألَّا يهتموا بالسياسة أو الأخلاق، حتى على الرغم من أن المادية الحديثة تصاحب الديمقراطية. ربما نحاول أن نستخلص من المادية درسًا مستفادًا مقبولًا ظاهريًّا نُخبِر الناسَ من خلاله أنه لا يوجد ما يميِّز المادةَ التي خُلِق منها الإنسان عن أي مادة أخرى؛ ومن ثَمَّ يجب ألَّا يغترَّ الإنسان كثيرًا بنفسه. لكن بدلًا من ذلك، يفتخر الماديون على نحوٍ مبالغ فيه بالإعلان أن البشر ما هم إلا همج، يتصرفون «بفخر مبالغ فيه كما لو كانوا تأكَّدوا أنهم آلهة.»

إن أساس مهارة أي مُشرِّع، بحسب قول توكفيل، يكمن في تقدير النزعة الأساسية للمجتمعات الإنسانية بحيث يحدِّد الجوانب التي يدعم فيها جهود المواطنين وتلك التي يكبحها فيها. وفي أي نظام ديمقراطي، يجب على المشرِّعين وكل الرجال الأمناء والمستنيرين أن يَسْمُوا بأرواح إخوانهم المواطنين، وأن يحوِّلوا انتباههم للآخرة، تمامًا كما يفعلون في أمريكا، وذلك بحسب اعتقاد توكفيل. ويجب أن يفعلوا ما في وسعهم من أجل سيادة الأفكار الروحية، لكن هذا ليس بالمهمة السهلة؛ لقد انتصر سقراط وأفلاطون على الماديين القدماء، وترجع شهرتهما — وحتى بقاء كتاباتهما مقارَنةً بالمقتطفات القصيرة التي وصلَتْ إلينا من أعمال الماديين القدماء — إلى التقدير الذي يُبدِيه الناس للجانب غير المادي من الإنسان. إن هذا ليس دليلًا على صحة المذهب الروحاني، ويبدو من خلال تناوُل توكفيل أن هذا المذهب سيثبت صحته على أفضل نحوٍ من خلال حقيقة أن الناس يؤمنون بصحته؛ أيْ من خلال سردٍ للطبيعة الإنسانية وتطلُّعها للحياة أو هدف العيش، فيما يتجاوز الجانب المادي إلى الجانب الروحاني.

والآن الوسيلة البسيطة والعامة والعملية الوحيدة لتعليم الإنسان أنَّ له قيمةً خاصة ومسئولية خاصة، هي تعليمه أنَّ له روحًا، وعلى وجه الخصوص أن تلك الروح خالدة؛ يعني هذا تعليمه الدين. لكن باعتبار توكفيل ليبراليًّا، أراد فقط أن يرفع من مكانة الدين وأن يُعلِي من شأن الجوانب الروحية فيه، وألَّا يؤسس لنظرية فلسفية أو كنيسة رسمية؛ فعندما تصبح الكنيسة ذات طابع سياسي، تصبح لها مصالح دنيوية وتفقد سلطتها الأخلاقية، ومعها أيضًا سلطتها السياسية. وللحفاظ على المسيحية، قال توكفيل قولته المشهودة: «أفضِّل تقييدَ القساوسة بسلاسل في معتزلهم، عن السماح لهم بتركه.» تكون النتيجة في الديمقراطية هي الخلاف أو الصراع بين الرغبة في المتع المادية والدين. يريد توكفيل لهذا الخلاف أن يبقى موجودًا؛ لأنه نابع من قلب الإنسان الذي به مساحةٌ لكلٍّ من «الرغبة في متع الدنيا وحب متع الآخرة.» يجتاز قلب الإنسان الفرق بين الديمقراطية والأرستقراطية، ويوفر المبرر لعداء توكفيل للمادية الموجودة في الديمقراطية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤