بين الشعر والفلسفة

بين الشعر والفلسفة …
هل بينهما شيء؟
هل يلتقيان على شيء؟

مشكلة كبيرة ومحيرة، فماذا عسى أن يجمع بين الفلسفة التي تخاطب العقل والوعي، وتتوسل بالحجة والبرهان، وبين الشعر الذي يتجه إلى القلب والشعور، ويوحي بالصورة والاستعارة والرمز العميق والتشكيل الفني للغة والإيقاع الملون المنغم للكلمات وللأصوات؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة شاعرية، وأن يكون الشعر فلسفيًّا؟ هل يمكن أن يحدث هذا دون أن تفقد الفلسفة طابعها ووظيفتها، أو يضيع الشعر روحه المرفرفة الغامضة، ويتحوَّل إلى حكمة جافة أو نظم تعليمي؟

كلنا يعرف أسماء العديد من الشعراء الفلاسفة والفلاسفة الشعراء في أدبنا العربي أو في غيره من الآداب القديمة والحديثة. وما من مثقف مهتم بالشعر والفلسفة إلا وقد قرأ أو سمع — على سبيل المثال لا الحصر — عن زهير بن أبي سلمى والشعراء الصعاليك، وأبي تمام والمتنبي وحكيم المعرة والصوفية الذين كتبوا الشعر كالحلاج وابن عربي وابن الفارض، وشعراء في العصر الحديث دمغوا بخاتم الفلسفة مثل جميل صدقي الزهاوي، وبعض شعراء المهجر مثل جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وبعض المجددين في شعرنا الحديث كالبياتي — شاعر الغربة والمنفى — وصلاح عبد الصبور، الذي تلفع بعباءة الحكيم في «أقول لكم»، وبخرقة الصوفي الثوري المحبط، والعدمي اليائس في مأساة الحلاج، وفي العديد من قصائده المتأخرة، وأدونيس في عالمه الزاخر بغرائب التجريب والتحول.

وكلنا قد قرأ أو سمع عن شعراء فلاسفة وفلاسفة شعراء في الآداب الأخرى: الخيَّام في الأدب الفارسي، وطاغور وإقبال في الأدب الهندي، هوميروس أب الشعراء الإغريق، وشعراء التراجيديا من إيسخيلوس إلى سوفوكليس ويوريبيدز مرورًا بلوكريس صاحب القصيدة الفلسفية الكبرى عن طبيعة الأشياء، ودانتي في قصيدته الكونية الكبرى «الكوميديا الإلهية»، وشيكسبير في قصيدتيه المأساويتين الملك لير وهاملت، وهلدرلين وبعض الشعراء الرومانطيقيين الأُول في الأدبين الألماني والإنجليزي مثل نوفاليس وشيلي وكيتس، وتيار كامل من الشعراء الميتافيزيقيين في القرن السابع عشر في الأدب الإنجليزي بوجه خاص (مثل جون دون ومدرسته)، وإن كان من الممكن التوسع في هذا التيار — كما يذهب إلى ذلك الشاعر الميتافيزيقي الحديث ت. س. إليوت — ليبدأ من دانتي في القرن الرابع عشر عندما انهارت وحدة العالم المسيحي والكنسي، ويمتد إلى المجددين في الشعر الغربي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر من بودلير وأتباعه الرمزيين — خصوصًا مالارميه إلى رلكه، والشاعر الأيرلندي ييتس وإليوت نفسه — حتى بعض الشعراء الأوروبيين والأمريكيين المعاصرين الذين أثرت عليهم ظروف عصرنا المضطرب من تغير في الرؤية العلمية النسبية للعالم، وتمزق في الحياة الاجتماعية، وفوضى في الحياة السياسية، وانهيار للقيم التقليدية والنظم الفلسفية الشامخة، وتفتت لوحدة الواقع المادي والوجود الإنساني، بحيث أصبحت كلمة «جون دون» في القرن السابع عشر حقيقة تتردد في أسماعنا: «إن الفلسفة الجديدة تبعث على الشك في كل شيء. انطفأ عنصر النار تمامًا، ضاعت الشمس وضاعت الأرض، وعقل الإنسان عاجز عن هدايته للبحث عنه.» ولا شك أن هذه الكلمات كانت رد فعل للآلية الديكارتية وضياع صورة العالم الحي عند الإغريق وتمزق دائرة الكمال في عصر النهضة.

أما الفلاسفة الشعراء أو القريبون من روح الشعر، فيصعب حصرهم أو الاتفاق على أسمائهم. فهناك الفلاسفة قبل سقراط الذين كتب أحدهم — وهو بارمنيدز — فلسفته عن الوجود الواحد في شكل قصيدة، وعبر أحدهم — وهو هيراقليطس — عن فلسفته في التحول والصراع الدائم في نثر شاعري غني بالصور والاستعارات الغامضة غموض الوحي المتدفق على ألسنة الكهنة والعرافين. وهناك أفلاطون سيد الفلاسفة الشعراء الذي وقف كما نعلم موقفًا عدائيًّا من الفن والشعر ونصح — في الكتاب العاشر من الجمهورية — بطرد الشعراء من جمهوريته أو مدينته المثالية، ومن أفلاطون إلى اليوم تقابلنا وجوه اقترب أصحابها من عالم الشعر، وقربوا بين العقل والوجدان، وذلك من أوغسطين إلى جوردانو برونو — شهيد عصر النهضة وبطله الذي انتهى على المحرقة — ومن شوبنهور ونيتشه (الذي لم يقتصر على أن ينظر للعالم نظرة فنية وشعرية، وإنما كتب فلسفته بلغة شعرية متوهجة كما كتب بعض الأناشيد «الديثيرامب» التي يناجي فيها ديونيزوس مثله البطولي والرمزي الأعلى)، حتى كيركجور أب الوجودية المسيحية الذي تمنَّى لو ولد شاعرًا وعد نفسه أدبيًّا يكتب قصصًا عن الوجود الذاتي الحميم، وفلاسفة الوجود الذين لم يتركوا لنا شعرًا حقيقيًّا، وإن كانوا قد اهتموا بشعر الوجود، ودرسوا شعراءه (فهيدجر قد كتب عن هلدرلين، وسارتر درس بودلير).

هذا التمهيد السريع عن الشعر والفلسفة يدفعنا من ناحية أخرى إلى طرح سؤال مهم: هل يمكن أن نجد خلفية فلسفية لكل شعر حقيقي وكل أدب عظيم؟ إن الأمر لا يحتاج إلى دراسة عميقة لكي نؤكد هذه الحقيقة، كما أن تأكيدها لا يعطينا الحق في تحويل الشعراء والأدباء العظام إلى فلاسفة، لكن نظرة واحدة إلى إنتاج من ذكرنا الآن من الأدباء والشعراء تبين لنا أن في كل أدب عظيم فلسفة، وفي كل فلسفة عظيمة أدبًا. وليس من الصعب أن نعثر في النقد الغربي — وإلى حد أقل في النقد العربي — على أعمال تبرز «المعادل الفلسفي» — إن صح هذا التعبير — لإنتاج كبار الشعراء والأدباء، وأن نجد الصور النثرية والشعرية التي تكثف بطريقتها أفكار الفلاسفة: هوميروس وآراؤه الفلسفية عن أصل الكون، ومصير النفس بعد الموت، ونماذج الخير والشر والبطولة والخسة في ملحمتيه، سوفوكليس والحس المأسوي الفاجع بمصير الإنسان، وإيثار عدمه على وجوده، يوريبيدز والنقد السفسطائي والسقراطي والتشاؤم الإغريقي بوجه عام، أبو تمام والمتنبي وتأثير العقلانية اليونانية والمنطق الأرسطي، أبو العلاء المعري وفلسفة الشك والشكاك، دانتي الذي لا يمكن فهم كوميدياه الإلهية بغير فلسفة توماس الإكويني وبنائه الميتافيزيقي والمسيحي (وقد وصف دانتي نفسه كوميدياه بأنها رسالة في الفلسفة الأخلاقية)، فولتير وديدرو وفلسفة عصر التنوير، وحدة الوجود العضوي الحي الفعَّال عند «جوته»، ووحدة الوجود عند أفلوطين وواحديته عند اسبينوزا، فريدريش شيلر والمثالية الكانطية التي تميز عالم الظواهر عن عالم الحقائق، وعالم الحس عن عالم الحرية والضمير والغايات، دستويفسكي والروحانية الصوفية الروسية، إقبال والكانطية الجديدة فضلًا عن الفلسفة الحيوية عند نيتشه وبرجسون وفلسفة الإسلام ورؤيته للحياة والإنسان، هلدرلين شاعر الغربة وهيدجر الذي درسه ودعم به فلسفته في زمن المحنة والاغتراب عن حقيقة الوجود والانصراف عن الإصغاء لصوته والاستجابة لندائه، جبران ونيتشه، ميخائيل نعيمة والتصوف الشرقي، توفيق الحكيم والثنائية الأفلاطونية والديكارتية بين الجسد والروح، والوهم والحقيقة، والطبيعة والفن، والواقع والفكر المثالي المتعالي، نجيب محفوظ والثورية الاشتراكية جنبًا إلى جنب مع الحس الفاجع بالتدهور والانهيار الذي يذكرنا بتشاؤم شوبنهور ونيتشه وفرويد وعبثية الوجود ولعنته عند ألبير كامي وسارتر.

لا يمكننا أن ننساق وراء هذه التمهيدات التي تغري بالمزيد. ولا بد أن نمضي إلى سؤال أهم وأكثر تحديدًا: متى تصبح القصيدة فلسفية؟ كيف تعبر عن بعض الحقائق الكبرى مع المحافظة على شروط الشعر وإمكاناته الفنية والجمالية؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال أود أن أذكر بعبارتين مشهورتين سنعود إليهما بشيء من التفصيل بعد قليل. العبارة الأولى لأرسطو في كتابه «فن الشعر»: «إن الشعر أكثر تفلسفًا وأهم من التاريخ؛ لأن الشعر يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات.»١ والعبارة الثانية لمارتين هيدجر عن أبيات مشهورة للشاعر هلدرلين: «إن أحب الأحباب يسكنون على جبلين منفصلين، وإن كانا متجاورين.»

ونعود إلى سؤالنا السابق فنقول: إن القصيدة تكون فلسفية بأحد معنيين؛ فقد تكون أداة تستخدم لتوصيل حكمة أو تعليم فلسفي مستقل عن القصيدة نفسها، ويمكن تبعًا لذلك أن يترجم إلى مجموعة متسقة من العبارات التقريرية دون تشويه للمعنى أو فقدان له. ومعظم القصائد التعليمية من هذا النوع، كما تندرج فيه بقصيدة لوكريس المطولة عن طبيعة الأشياء، والمقال عن الإنسان ﻟ «ألكسندر بوب» وقصيدة بريدج «وصية عن الجمال».

ويمكن من جهة أخرى وعلى نحو أعمق مما سبق أن تعتمد القصيدة على الأدوات اللغوية والفنية والإيقاعية لتزيدنا بصيرة بالقيم والعلاقات والدلالات الممكنة على القضايا الكبرى في حياتنا (كالحب والموت والمصير)، بحيث يستحيل التعبير عن كل ذلك بصورة وافية لو تحولت القصيدة إلى عبارات نثرية تشوه بنيتها الأصلية، وتضيع جمالها ورنينها. في هذا النوع الأخير تدخل قصيدتا شيكسبير المسرحيتان «هاملت» و«الملك لير»، وقصيدة كيتس «أنشودة إلى مزهرية إغريقية»، و«الأرض الخراب» أو «الرباعيات الأربع» لإليوت.

فالفلسفة في النوع الأول فلسفة صريحة، و«القصيدة» تأتي بقضايا عامة توشك أن تكون صورة مكررة من القضايا العامة المجردة في تلك الفلسفة. عندئذٍ لا نستطيع في الحقيقة أن نتكلم عن شعر ولا قصيدة؛ لأن عباراتها قد اتحدت تمامًا مع الفلسفة، ولأن الجزئيات التي قد تصوَّرها لا تخرج عن أن تكون أمثلة أو رموزًا شفافة عن تلك الفلسفة.

بيد أن التعميم هنا غير جائز؛ إذ لا يخلو الأمر من قصائد فلسفية صريحة نجحت في أن تنقل إلينا فلسفة معينة، وأن تبقى في نفس الوقت شعرًا جيدًا. فقصيدة لوكريس السابقة الذكر تنجح في بعض أجزائها في التأليف بين الفلسفة والشعر باللجوء إلى وسائل شعرية لا منطقية، واستخدام لغة الأفكار والآراء الكامنة فيها وتضفي عليها حيوية. إن «طبيعة الأشياء» تعبر كما نعلم عن المذهب الذري عند ديموقريطس وأبيقور، ولكنها تحييه وتنفخ فيه الدفء بصور لا ننساها مثل صورة الاستحكامات الملتهبة للعالم أو روابط الحب التي تشد فينوس بها الذرات بعضها إلى بعض. وهذه الروابط التي تعبر عنها كلمة، Foedus وجمعها Foedera توحي بمعنى القوانين الرومانية الصارمة التي كان الرومان يلتزمون بها، ويقسمون على طاعتها والخضوع لها، أكثر مما توحي بمعنى الضرورة الآلية العمياء التي فرضها ديمقريطس على ذراته. وهكذا تعبر الصورة السابقة عن خشوع الشاعر في حضرة الكون، ورهبته لجلاله، وإشادته بالروابط التي تباركها ربة الحب. وهذا ما يتجلى في أول بيت تتفتح به تلك القصيدة: «إيه يا أم جنس إينياس، يا من تثيرين الرغبة في البشر والآلهة.» وينجح هذا البيت الأول في إضفاء النغمة الرومانية على القصيدة المعبرة عن فلسفة إغريقية، والإهابة برمز أو نموذج أولي راقد في أعماق اللاوعي هو فينوس الأنثى التي تؤلف بين قلوب المحبين، والأم التي تنتج الحياة الكونية وتحافظ عليها.
ربما يعزز ما قلناه عن التمييز بين الفلسفة الصريحة والفلسفة الكامنة في القصيدة أن نورد التفرقة التي أقامها الشاعر الناقد ت. س. إليوت — في مقاله المشهور عن دانتي — بين الوضوح العقلي والوضوح الشعري، بين المعتقدات الفلسفية من ناحية والتصاعد والسمو الشعري من ناجية أخرى. فالموقف الاعتقادي الذي يتخذه القارئ من الكوميديا الإلهية لدانتي لا بد أن يكون مختلفًا عن الموقف الذي يتخذه من المجموع اللاهوتي لتوماس الإكويني أكبر فلاسفة العصر الوسيط، على الرغم من أن المعتقدات الفلسفية واحدة في كلا العملين. والسبب في هذا أن الكوميديا قد بنيت — على العكس من المجموع اللاهوتي — على أساس «منطق للحساسية» يمثل «سلمًا كاملًا يعبر عن العواطف والانفعالات البشرية من أدناها إلى أعلاها». لهذا لا ينفصل السمو الشعري عند دانتي — الذي يعكس موقفه الاعتقادي بأكمله — عن الصور والأخيلة التي لم تعد عنده مجرد صيغ بلاغية عتيقة، بل صارت وسائل وأدوات عملية جادة لإبراز الجوانب الروحية في صورة مرئية.٢

هكذا نرى أن القصيدة الشعرية يمكن أن تنطوي على فلسفة كامنة، وأن تعبر عن الحقائق الكبرى في الكون والحياة من خلال طبيعتها الشعرية الخاصة. وأول من صرح بهذا الرأي هو أرسطو في عبارته الشهيرة التي ذكرناها من قبل: «إن الشعر أكثر تفلسفًا من التاريخ؛ لأن الشعر يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات».

لا شك أن هذه العبارة تبدو مخيبة للآمال، وربما تسببت للوهلة الأولى في قدر كبير من سوء الفهم. فكيف يمكن أن يتعامل الشعر مع الكليات، وهي كما نعلم تصورات عامة وتجريدات ذهنية من الجزئيات المحسوسة؟ هل يتوقع الناس من الشعر أن يقدم لهم أفكارًا عامة ومعاني مجردة أم كلمات تنطق بالصور الحية وتنقل المواقف الشعورية والأشكال الجمالية الموقعة؟ لا بد إذًا من أن نصحح فهمنا لهذه العبارة المظلومة بتصحيح فهمنا لنظرية المحاكاة المشهورة عند المعلم الأول. فلا شك أنه كان يرد على موقف الأفلاطونيين من الشعر والفن بوجه عام، وموقفهم من عالم الطبيعة والواقع الذي نحيا فيه. إن هذا العالم في رأيهم ظلٌّ أو نسخة ناقصة من عالم واقعي وحقيقي آخر هو عالم المثل أو الصور الثابتة والنماذج الخالدة، أي عالم المعاني الكلية والقيم المطلقة. فالموجودات الحسية في عالمنا تعبر تعبيرًا ناقصًا عن تلك المثل والمعاني الكاملة. وما دامت الفنون المختلفة — ومنها الشعر — تصور العناصر التي تلتقطها من العالم الطبيعي، وتعبر عنها بوسائطها العديدة، من كلمات وإيقاعات أو رسوم وأشكال، فهي تبتعد مرتين عن ضوء الحقيقة والواقع والحق، ولا تنتج إلا نسخة من النسخة.

غير أن أرسطو يرى رأيًا آخر. فعالم الطبيعة ينطوي في اعتقاده على إمكانات جميع الأشياء، ويسعى — بدرجات متفاوتة — إلى تحقيقها ونقلها من القوة إلى الفعل. ولهذا يقول في كتاب «الطبيعة»، ويكرر قوله في نصوص أخرى من كتبه أن الفن يحاكي الطبيعة من جهة، ويكمل من جهة أخرى ما تركته ناقصًا. وإكمال ما تركته الطبيعة ناقصًا أو مشوهًا نتيجة لتدخل المصادفة التي تعوقها عن تحقيق إمكاناتها هو على التحديد ما يجعل من الفن عملية فلسفية؛ إذ لا بد للخلق أو الإبداع الفني — باعتباره محاكاة — من أن يرمز للطبيعة أثناء قيامها بفعل الخلق أو الإبداع. ولهذا ذهبت التفسيرات المتأخرة لعبارة أرسطو إلى أن الكليات التي يعبر عنها الشعر تمثل الطبيعة الطابعة — أي أفعالها الإبداعية الممكنة — ولا تمثل الطبيعة المطبوعة أو الأشياء المتحققة والموجودات الظاهرة المحسوسة. وهكذا تفيد العبارة أن الفن يعبر عن «روح» الطبيعة لا عن جسمها، ويمثل الكليات العينية لا الكليات المجردة، ويصور الدوافع الخلاقة لا المنتجات الجاهزة، كما تفيد أن الشعر يعكس فاعلية الخلق والإبداع وينميها، سواء تمثلت هذه الفاعلية المبدعة في عمل الطبيعة أو في عمل الفنان.

وجدير بالذكر أن شاعر الألمان الأكبر جوته (١٧٤٩–١٨٣٢م) قد أخذ برأي أرسطو وطبَّقه في كتاباته الشعرية والأدبية والنقدية. فهو يذهب إلى أن الغائية الكامنة واضحة في نشوء الكائنات العضوية الحية وتطورها وفي الأفعال الإنسانية المبدعة في الفن سواءً بسواء. وليس على الذهن أو الفهم أن يفرض مبادئه وقوانينه على عالم الحس أو عالم الظواهر الغريب عنه (كما فعل كانط في كتابه نقد العقل الخالص)، وإنما يقوم دوره الحقيقي على التفكير من خلال الموضوعات واكتشاف ألوان التجانس والتناظر بين الإبداع في الطبيعة والإبداع في الفن، وبذلك يتوصل إلى المُثل أو النماذج والظواهر الأولية الكامنة في كلٍّ منهما. هذه المُثل أو النماذج والظواهر الأولية كما يسميها «جوته» ليست متميزة عن الموجودات الجزئية والفردية التي تجسدها، ولا هي منفصلة عنها كما يرى أفلاطون، وإنما توجد في الجزئيات وتحيا بداخلها، ولن يستطيع أن يعرفها أو يكشف عنها إلا من يفتح بصره وسمعه وقلبه على العالم الحسي الحي، ويلمس فعل الفعال الأبدي المبدع، ويستعيد تجربته الحية في كل ما يتجلى فيه «سره المكشوف» للعين القادرة على الرؤية. ولهذا ينطوي الشعر بطبيعته على الكشف؛ لأنه حين يتناول «الجزيء» المفرد في طابعه الحي إنما يستبصر في الوقت نفسه استبصارًا ضمنيًّا بالكلي الفعال المبدع في كل شيء حي.

ونأتي إلى الحركة الرومانطيقية، فنجد عددًا من أعلامها الأُول — وبخاصة في ألمانيا وإنجلترا — يؤكد الطبيعة الفلسفية للشعر، أو يؤكد أن الشعر في جوهره فلسفي. فالأخوان شليجل (أوجست وفريدريش)، والشاعر توفاليس، والفيلسوف شيلنج يتوسعون في مفهوم الشعر، بحيث يشمل — بتعبير فريدريش شليجل — «الشعر الذي لم يتخذ شكلًا معينًا، والشعر اللاشعوري الذي ينبض في النجوم والكواكب، ويسطع في الضياء، ويتوهج في صدور النساء» (عن حديثه عن الشعر ١٨٠٠م). ويدعم أوجست رأي شقيقه بالحجة المنطقية، فيقول إن كل الأشياء في الطبيعة مترابطة، بحيث يدل كل شيء على نحو من الأنحاء على كل شيء عداه، وبذلك يعكس الكل. ولما كان الوعي الشائع وسطًا مضطربًا يعتم رؤية الكل، فإن الخيال ينفذ خلال هذا الوسط، ويغوص بنا في العالم الحقيقي، حيث لا يوجد ثمة شيء ساكن أو منعزل، بل يشارك كل شيء في كل شيء في حالة تحول مستمر. ويتفق نوفاليس وشيلنج على أن قوة الخلق والإبداع في الطبيعة هي الحب الذي هو الشعر الطبيعي بأسمى معانيه — كما يقول نوفاليس — وهو روح الطبيعة التي لا تتكلم معنا إلا عن طريق الرموز، كما يعبر شيلنج.

ولا شك أن الرومانطيقية الجديدة كان لها تأثيرها على فيلسوفين ساهما في فلسفة الشعر بأوفى نصيب. هذان الفيلسوفان هما شوبنهور (١٧٨٨–١٨٦٠م) ونيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م). يذهب الأول إلى أن الإرادة، لا الحب، وراء كل أفعال الطبيعة، وأن تمثلات هذه الإرادة أو مستوياتها الطبيعية المختلفة من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان تميزها المثل أو الأفكار التي تعبر عن فعل الإرادة في مستوًى معين. والفن، بما في ذلك فن الشعر، هو ذلك النوع من المعرفة المتعلق بالأفكار، وهدفه الوحيد هو توصيل المعرفة. والمهم في هذا كله أن الفن بأسمى صوره ومعانيه والشعر كذلك بأسمى صوره ومعانيه شيء واحد؛ لأنهما يبلغان بنا تلك الحال التي يختفي فيها الألم، وتتوقف عجلة الصيرورة، ونشعر بالتحرر والخلاص من الإرادة الشريرة، ولو في لحظات الإبداع أو لحظات التذوق والاستمتاع.

وتتخذ الإرادة صورة أخرى إيجابية عند نيتشه، فتصبح هي إرادة القوة أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة. إن عنف العاصفة، وانبثاق النبات، وبزوغ الجنين من الرحم، ونشوة المحارب البطل بالمعركة، وحساسية الفنان المبدع ونسك الناسك والقديس … كلها مظاهر للإرادة الحية التي لا تتوقف عن الخلق. وإرادة الخلق والإبداع عند الفنان تعبر عن الصراع المزدوج بين المبدأين المصطرعين في الوجود، ألا وهما المبدأ الديونيزي نسبة لديونيزوس إله النشوة والخلق والتدمير المأسوي والبعث المتجدد. والمبدأ الأبوللوني نسبة لأبوللو إله الفن والتشكيل والوهم الجمالي، وكلاهما يفضي إلى عاطفة العلاء على الذات التي يتحد فيها الحكمة الفلسفية والإبداع الفني، وينصهران في كيان واحد.

هكذا يصبح الشعر والفلسفة شيئًا واحدًا بالذات، وتكون بروق الرؤية الشعرية — لا البراهين العقلية والحجج المنطقية — هي الطريق إلى الحقيقة.

أما في إنجلترا، فكان التوحيد بين الشعر والفلسفة في أثناء الحركة الرومانطيقية من الموضوعات الأثيرة والمألوفة. فالشاعر شيللي يعبر عن هذا بقوله: «إن الشعراء فلاسفة بلغوا أسمى درجة من القوة، وأن الشعر هو مركز كل معرفة ومحيطها.» ويضيق كولريدج أن الشاعر فيلسوف على نحو ضمني غير صريح. ولا عجب بعد ذلك أن يقيم هو والشاعر «ورد زوورث» رأيهما عن طبيعة الشعر الفلسفية على نظرية في الخيال مستمدة إلى حدٍّ ما من الفيلسوف كانط. ويفسر ورد زوورث الخيال تفسيرًا يتأثر فيه بكانط، وبالكلمة الألمانية الأصلية التي تفيد الخيال (وهي كلمة Einbildungskraft أي قوة التشكيل أو ملكة التكوين) فيقول إنه — أي الخيال — هو الملكة التي يصوِّر بها الشاعر، وينتج أشكالًا مفردة تتجسد فيها أفكار كلية أو تجريدات. ويخطو كولريدج خطوة أبعد من زميله، فيميز بين خيال أولي أو ميتافيزيقي وهو القوة الحية الفعالة في كل إدراك بشري، وخيال ثانوي أو فني وهو انعكاس للخيال الأولي يوجهه الهدف الفني ويتحكم فيه. وكلاهما في نهاية الأمر يكرران في العقل المتناهي ذلك الفعل اللامتناهي الخلاق الذي يتم في الكينونة اللامتناهية، وبذلك تتأكد الصلة الوثيقة بين الرؤى الفلسفية عند الشاعر وبين إبداعاته الشعرية.

حتى إذا وصلنا أخيرًا إلى الشعر الحديث وجدناه رد فعل مضاد للرومانطيقية. ولقد كان من نتائج النزعة الحديثة للتجرد من الرومانطيقية والعواطف البشرية تأكيد انفصال الشعر عن الفلسفة. إن القصيدة — حسب تعبير الشاعر إرشيبالد ماكليش — لا ينبغي عليها أن تعني شيئًا، وإنما ينبغي عليها أن تكون. وعلى الشاعر نتيجة لذلك أن يتخلى عن دور الرائي أو المتنبئ ليصبح صانعًا. وجاء النقاد — خصوصًا ريتشاردز — فعززوا طلاق الشعر من الفلسفة، وأكدوا أن الشعر صياغة للمشاعر والمواقف الوجدانية وتعبير عنها (ريتشاردز في كتابه عن النقد العملي ١٩٢٩م). ثم تدخل بعض الفلاسفة — وبخاصة أصحاب التجريبية أو الوضعية المنطقية — فزعموا أن العبارات الشعرية والأخلاقية ليست إلا أشباه عبارات لا تحتمل الصدق ولا الكذب، وإنما تدل على مواقف ومشاعر وجدانية. ومع ذلك فإن بعض الدراسات الحديثة في علم الدلالة قد بدأت تصحح هذا الموقف العدائي من الشعر، وتقرب بين المعنى والوجود، والفكرة، والعاطفة، وتحاول تفهم الدور الذي يؤديه المعنى والاعتقاد في الشعر، وتبين أن من الخطأ وصف التعبير الشعري بأنه شبه تعبير؛ لأن الأجدر به أن يسمى تعبيرًا عميقًا ينطلق من عبارات عميقة ثرية بالمعاني والدلالات والمفارقات، مختلفة تمام الاختلاف عن العبارات أو القضايا العلمية والمنطقية المحددة المعاني والإشارات.

تتعدد مواقف الشعراء الفلسفية أو الفكرية من الكون والإنسان، من الحياة والموت، من الزمان والتاريخ والتراث، من المكان والمدينة والمجتمع. كل هذه المواقف التي يمكن أن تتفاوت عند الشاعر الواحد من مرحلة من العمر إلى مرحلة، ومن قصيدة إلى قصيدة، بل ربما تفاوتت في القصيدة الواحدة، يمكن أن تلقي شيئًا من الضوء على فلسفته أو وجهة نظره. وسوف نقتصر على مشكلة فلسفية واحدة تكثر الكتابة والحديث عنها في الغرب والشرق على السواء، ألا وهي مشكلة الغربة أو الاغتراب.

ونعود فنذكر بعبارة هيدجر السابقة «إن أحب الأحباب — أي الشعر والفكر — يسكنون على قمة جبلين متباعدين، وإن كانا متجاورين.» محاولين النظر في هذه المشكلة الفلسفية. وسنكتفي بأمثلة قليلة من شاعر كلاسيكي مغترب هو «فريدريش هلدرلين» لنرى كيف «فلسفة» هيدجر، ثم ننظر في أمثلة أخرى قليلة من شعرنا العربي الحديث تبين أصداء هذه المشكلة، واستجابة الوجدان العربي لها.

ولكلمة Alienation في اللغات الأجنبية منذ أصلها اللاتيني تاريخ طويل يصعب أن نتتبعه في هذا المقام، ويكفي أن نقول إنها كانت تدل على معانٍ متعددة كالبيع، والتنازل للغير، وانتقال الملكية من شخص إلى آخر، والانفصال والابتعاد، والضلال واختلال العقل. ثم استعملها أصحاب العقد الاجتماعي مثل هوبز وروسو للدلالة على تنازل الأفراد عن حقوقهم وحريتهم سواء للحاكم أو للجماعة كشرط للعقد الاجتماعي. ولم تأخذ الكلمة معناها الفلسفي الحقيقي إلا منذ هيجل واليسار الهيجلي — فويرباخ وماركس — حتى الفلسفة المعاصرة.

وللاغتراب عند هيجل صور ومظاهر عديدة يتخذها الروح المطلق على طريق تحقيقه لذاته أو وعيه لذاته؛ إذ تتخارج هذه الروح المطلقة أو يغترب عن ذاتها في الطبيعة والتاريخ والوعي، وفيما ينشئه الإنسان من علوم وحضارات. وهو عند فويرباخ إفقار لمعنى الإنسان لإغناء معنى الألوهية؛ إذ يغترب الإنسان عن ذاته (في المسيحية واليهودية) عندما يتخلى من جوهره ليسقطه على موجود أسمى مفارق تحرر في تصوره من حدود البشرية وقيودها، وأصبح موضوعًا يجله ويعبده، وكأنه مستقل عنه. ولهذا يجب عليه أن يسترد حقيقته التي خلعها على الله، ويتحول من الإيمان بالله إلى الإيمان بالإنسان والإنسانية التي هي الديانة الحقة. وأخيرًا نجد ماركس — خصوصًا في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لسنة ١٨٤٤م — يطبق فكرة الاغتراب في مجال العمل والإنتاج، ويبين كيف يكتسب المنتج قوة مستقلة تجاه العامل الذي أنتجه، ويصبح سبب شقائه واستغلاله من قبل صاحب العمل، أي سبب اغترابه عن ذاتيته وحريته وإنسانيته، بدلًا من أن يؤدي إلى تحرره وإشباع حاجاته وتحقيق إنسانيته. ولا سبيل لرفع هذا الاغتراب إلا بإلغاء الملكية الخاصة والثورة على المجتمع الرأسمالي، وإنهاء الصراع الطبقي بين المستغِلين والمستغَلين.

وتتعدد مفاهيم الاغتراب ومظاهره مع التطور التاريخي والعلمي والآلي كما تتعدد محاولات قهره والتغلب عليه. ويمكننا على كل حال أن نحدده في هذه الصور والأشكال المتداخلة: اغتراب الإنسان عن العالم والكون، وهو اغتراب ميتافيزيقي أو اغتراب أساسي ملازم لوعيه بوجوده وتناهيه، واغترابه عن الجماعة التي ينتمي إليها بما لها من ماضٍ وقيم وتقاليد، ثم اغترابه عن ذاته، ولعله أن يكون أخطر هذه الأشكال الثلاثة وأهمها، سواء بالنسبة للشاعر أو الفيلسوف أو عالم النفس.

وشاعرنا الذي اغترب عن ذاته ومجتمعه وعصره وراح يتغنى بأناشيد الحنين إلى «ديوتيما» رمز حبه الضائع، واشتياقه لبعث الروح اليونانية في شعبه ووطنه ووجوده، بحيث يصبح هذا الوجود شعريًّا ومسكنًا للشعر، هذا الشاعر الذي اغترب كذلك عن ذاته وعقله ما يقرب من نصف حياته هو فريدريش هلدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣م) الذي درسه فيلسوف الوجود الأكبر في عصرنا مارتن هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م)، وسماه شاعر الشعر، واستخلص من شعره الغامض الموحي ماهية الشعر نفسه، كما قرأ فيه فلسفته هو عن الوجود.

ولكن هل يكشف شعر هلدرلين عن حقيقة الوجود؟

هل يتردد فيه ذلك النداء الذي لم يمل الفيلسوف من ترديده لعلنا نستمع إليه، فننفتح على نور الوجود، ونؤسس وجودنا الأصيل عليه؟ وهل نطق هلدرلين بلغة هذا الوجود وفكر فيه وجعله مسكن الشعر ومسكنه؟

إن الشاعر يحيا في زمن المحنة، وهو لهذا يسأل:

لست أدري ماذا أفعل وأقول،
ولمَ الشعراء في الزمن الضنين؟

ولماذا صار الزمن هو زمن المحنة، وحل الظلام والشقاء على الأرض والإنسان؟ لأن السماويين كما يسميهم أو الآلهة المباركين قد ارتحلوا عنه، وما عادوا يحفلون به، فاغتربت الأرض واغترب الإنسان عنها وعن نفسه. ومتى ترتفع هذه المحنة وتزول الغربة؟ عندما يسطع نور وجودهم الحق، ويستمع الإنسان إلى صوتهم. وأين يتجلى هذا النور ومن ينطق بكلمتهم؟

يتجلى في أغنية الشاعر، الشاعر الرائي والملهم؛ لأن أغنيته هي شعر الوجود الحق، ولأن الوجود يسكن سكنًا شعريًّا في قلبه وكلمته التي يبلغها لإخوته من البشر. لنستمع إلى هذه الأبيات من المقطع السابع من قصيدته الكبرى «خبز ونبيذ»:

لكننا يا صديق قد أتينا جد متأخرين …
صحيح أن الآلهة حية،
لكنها تحيا فوق رءوسنا هنالك في عالم مختلف.
هنالك يكون فعلهم بغير حدود،
ولا يبدو عليهم أنهم يحفلون كثيرًا بوجودنا،
فهكذا يرأف السماويون بحالنا؛
إذ ليس بوسع إناء هش أن يحتويهم،
ولا يقدر الإنسان أن يحتمل وجودهم إلا في بعض الأحيان.
ولهذا كانت حياتنا حلمًا يطوف بهم.
غير أن المحنة والليل يجعلاننا أقوياء.
حتى ينمو عدد كافٍ من الأبطال في المهد الحديدي،
وتصبح الأفئدة في قوتها شبيهة بالسماويين،
هنالك يأتون بصوت الرعود …
لست أدري عندئذٍ ماذا أفعل وأقول،
ولمَ الشعراء في الزمن الضنين؟
إنهم — كما تقول — مثل كهنة رب الخمر المقدسين،
الذين سروا في الليل المقدس
من بلد إلى بلد …

الشعراء إذن هم الذين يكشفون عن حقيقة الوجود؛ لأنهم وحدهم الذين يؤسسون ما هو باقٍ. والباقي هو الوجود نفسه الذي يتجلَّى في نوره كل موجود. كيف يفعلون هذا؟ عن طريق القول الحقيقي أو الجوهري الذي يسمى الآلهة والأشياء، وبهذه التسمية يوجدها ويؤسسها في الوجود ويضعها في نوره. تلك هي أمانة الشعراء وعهدهم حين يغنون وحين يقولون. هذا القول الجوهري هو الشعر. والشاعر ينطق بواسطته عن حقيقة الوجود. ولذلك فمعرفتنا لماهية الشعر هي معرفة لحقيقة الوجود؛ لأن اللغة في الأصل هي لغة الوجود نفسه، وهي ميدان تكشفه. ولن نعرف ماهية اللغة حتى نبدأ بماهية الشعر. ولهذا لا يصح أن نعد اللغة مجرد أداة للتواصل والتوصيل، بل علينا أن نلتمس حقيقتها عند الشعراء المفكرين الذين «شعروا» الوجود وفكروا فيه، وبذلوا لنا تجربته التي نقيم عليها وجودنا التاريخي في الزمان:

لقد خبر الإنسان أمورًا كثيرة،
ووضع أسماءً لعديد من السماويين
منذ أن كنَّا حوارًا،
واستطاع بعضنا أن يسمع من البعض الآخر.

فاللغة حوار، ونحن البشر حوار، والحوار بدأ شعرًا أي قولًا جوهريًّا تجلى فيه الواحد الذي بفضله اتحدنا، وكنا أنفسنا حقًّا. ولهذا كانت اللغة هي أخطر النعم وأوفرها حظًّا من البراءة. كانت هي الشهادة على حقيقة وجودنا، وكانت هي مسكننا الشعري على الأرض:

هناك فحسب، حيث توجد لغة، يوجد عالم (…)
وهناك فحسب، حيث يوجد عالم، يوجد تاريخ.

فاللغة نعمة بمعنى أشد أصالة. أما أنها نعمة وضمان لهذا العالم وهذا التاريخ، فمعناه أنها تضمن أن يكون في استطاعة الإنسان الوجود بوصفه كائنًا تاريخيًّا (هلدرلين وماهية الشعر، الفقرة الثالثة).

ونسأل الآن: هل استطاع هيدجر أن ينصف شعر هذا الشاعر المغترب أم جعله مناسبة لعرض فلسفته؟ هل ترك الشعر ينطق بنفسه عن فكر صاحبه أم قسره على الدخول في قالب غريب عليه؟ إن نقاد الأدب يتهمون الفيلسوف على كل حال بأنه لم يجعل القصيدة نفسها «تكون» كما زعم ذلك مرارًا، وإنما حملها تفسيرات ومواقف وأفكارًا لا تنبع من لغتها وبنائها وصورها وعالمها، بقدر ما تنبع من عالم آخر هو عالم «هيدجر» نفسه وفلسفته في الوجود.

لقد طالما عرف الشعر الغربي موضوع الغربة والاغتراب، واشتد إحساس الشاعر الرومانطيقي بغربته عن مدينة المال والتجارة والصناعة والزحام والقسوة، فلجأ إلى الطبيعة أو إلى الحنين للماضي «الشعري» أو مناجاة الذات. ومع بداية الشعر الحديث منذ بودلير حتى عصرنا الحاضر ورد الفعل العنيف على الرومانطيقية، برزت أشكال أخرى من الغرب والاغتراب ساعد عليها تعقد الواقع وتفتته في نفس الوقت، وانهيار القيم التقليدية والأنساق المثالية الشامخة، وتغير صورة العالم الأكبر والعالم الأصغر، كما رسمها العلم الحديث، واكتشاف أعماق الباطن واللاوعي، والتحول الذي طرأ على مفاهيم الواقع والزمن والتراث واللغة والشعر نفسه مما زاد من وحدة الشاعر مع لغته التي صارت مجال إبداعه وتأمله، وتجربته المستمرة. ويكفي أن نطلع على شعر المعاصرين الكبار، سواء أكان هذا الشعر ينتمي للتيار الديونزي — تيار الباطن واللاوعي — أم للتيار الأبوللوني — المهتم بالشكل والصنعة والعمل العقلي — ويكفي أن يختار القارئ شيئًا من شعر أنجارتي أو سان — جون — بيرس أو إلوار أو جين أو ت. س إليوت أو أرشيبالد مكليش؛ ليرى صور الاغتراب وأسبابه وأبعاده المختلفة (ومن شاء فليرجع لكتابي المتواضع عن ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر)، وسوف أختار قصيدة لشاعر نحبه في البلاد العربية، ونشعر بصلته الحميمة بوجداننا وتأثيره على بعض المجددين من شعرائنا. هذا الشاعر هو «لوركا» الذي يقول في قصيدة مشهورة بعنوان قرطبة:

قرطبة،
وحيدة وبعيدة.
فرس أسود صغير، قمر كبير.
حبات زيتون في حقيبة سرجي.
أعرف الطرق حقًّا
غير أني لا أبلغ قرطبة أبدًا،
عبر المدى الفسيح، عبر الريح،
فرس أسود صغير، قمر أحمر.
الموت يحدق فيَّ
من أبراج قرطبة.
آه، ما أطول الطريق!
آه، يا فرسي الشجاع!
آه، الموت يخطفني!
قبل أن أبلغ قرطبة،
قرطبة،
وحيدة وبعيدة.

إن قرطبة في قصيدة لوركا ليست هي المدينة الإسبانية المعروفة. إنها مدينة شعرية مستحيلة، يعرف الشاعر أنه لن يصل إليها أبدًا، وأنه فقد الأمان، ولن يعود إلى بيته؛ لأن الموت يترصده من أبراجها وينتظره في السهول الشاسعة التي تعصف فيها الرياح.

هذا مثل واحد كما قلت. فإذا اتجهنا إلى شاعرنا العربي الحديث وجدنا موقفه أكثر تعقيدًا من موقف الشاعر الغربي. فغربة شاعرنا مضاعفة، واغترابه عن الزمن والتاريخ والمجتمع والمدينة يبلغ حد التمزق والثورة والرفض المطلق في بعض الأحيان. وقد لا يقتصر على رفض الواقع، وإنما يرفض ذاته ويعذبها ويسخر منها. وقد درس الدكتور إحسان عباس أبعاد هذه العلاقة المعقدة، ومواقف بعض شعرائنا الكبار من الزمن والتراث والحب والمدينة والمجتمع، وحلل الاتجاهات الفكرية الكامنة وراءها، وعكف على القصائد نفسها، وحلل بناءها وصورها وألفاظها تحليلًا دقيقًا. وسنكتفي هنا بنماذج قليلة تصور المشكلة التي نحن بصددها، وتبين الفلسفة الكامنة وراء كل منها، وتأثيرها المحتمل على شخصية الشاعر وفهمه لطبيعة الشعر ووظيفته، ثم نستخلص ملاحظات قليلة حول العلاقة بين الشعر والفلسفة بوجه عام.

لننظر في قصيدة واحدة من شعر «البياتي» المبكر، وهي قصيدة «مسافر بلا حقائب» من ديوانه «أباريق مهشمة»:

من لا مكان
لا وجه لا تاريخ لي. من لا مكان
تحت السماء وفي عويل الريح أسمعها تناديني
«تعال» …
عبر التلال
وأنا وآلاف السنين
متثائب، ضجر، حزين.
من لا مكان
تحت السماء
في داخلي نفسي تموت بلا رجاء.
وأنا وآلاف السنين
متثائب، ضجر، حزين.
سأكون، لا جدوى، سأبقى دائمًا من لا مكان،
لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان.

إن الشاعر هنا يعاني الاغتراب المطلق، وهو بلا هوية ولا مكان ولا تاريخ. وتتردد في القصيدة كلمات معجم الوجودية التي كانت تيارًا سائدًا عند كتابتها «كالسأم واللاجدوى»، ومع ذلك فلا يصح أن نتسرع فندمغها بخاتم وجودي؛ لأن بعض أبياتها وكلماتها ومشاعرها توحي كذلك بالتأثر بالاتجاه الماركسي الذي كان منتشرًا كذلك في الخمسينيات:

لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين
— وحل وطين —
وعيون آلاف الجنادب والسنين،
وتلوح أسوار المدينة، أي نفع أرتجيه
من عالم ما زال والأمس الكريه
يحيا، وليس يقول «إيه».
يحيا على جيف معطرة الجباه
نفس الحياة.

لا شك أن الشاعر هنا يحاكم مدينة عربية وتاريخًا عربيًّا يسميه «مستنقع التاريخ»، وواقعًا حضاريًّا متخلفًا يموت ويميت الشاعر معه. فإذا كان اغترابه ميتافيزيقيًّا أو وجوديًّا يوحي بالتأثر بعالم سارتر وكامي، فإنه كذلك اغتراب ثائر على مجتمعه وواقعه ومدينته. وقد تجاوز البياتي هذه الصورة من صور الاغتراب بعد ذلك في شعره، وتداخلت فيه تيارات واتجاهات عديدة، ولكنه بقي مغتربًا ثائرًا مع اختلاف الأصوات والأقنعة (كالمتنبي والمعري وعائشة) على حضارة تغرق وتسقط، كما بقي أشبه بطائر الرعد المحلق فوق مدن منهارة، ونحو مدن مستحيلة:

مدينة مسحورة
قامت على نهر من الفضة والليمون،
لا يولد الإنسان في أبوابها الألف ولا يموت،
يحيطها سور من الذهب،
تحرسها من الرياح غابة الزيتون.

ولكن الشاعر المغترب لا يكتفي برفض واقعه، وإنما يتجاوز ذلك إلى رفض ذاته. لقد توالت الهزائم والإحباطات على ذاته الجماعية التي هو جزء منها، فلم يجد أمامه إلا هذا النوع من «تعذيب الذات» والسخرية بها كأنها شيء غريب عنه مفروض عليه. وهذا هو صلاح عبد الصبور يمعن في تعذيب ذاته التي لم تطمع طول عمرها إلى أكثر من أن تكون ذات شاعر بسيط، حتى أدركت — بعد انهيار الذات الجماعية في حرب الأيام الستة — أنها لم تكن إلا لتابع صغير في حاشية السلطان، موقفه «في آخر الممر» مع مهرج البلاط والمؤرخ الرسمي والعراف، وكلهم «بدون أسماء ولا سيوف»، وكلهم «مؤجر بالقطعة»، وبينهم «صداقة عميقة كالفجوة». ولهذا يواجه واقعًا سقطت عنه أقنعة الزيف ويدلي باعتراف تأخر عن أوانه:

كنت أحس، سادتي الفرسان،
أنكمو أكفان،
وكان هذا سر حزني.

ولكنه لا يكتفي برفض ذلك الواقع المنهار، وإنما يدخل عصر الرفض من أحلك أبوابه ألا وهو رفض الذات:

أصبحنا مثل الطين بقاع البئر،
لا يملك أن يتأمل صفحة وجهه.

فهل وقفت وظيفة الشاعر في عصر الرفض والاغتراب الكامل عند رؤية الطين الذي لا يملك أن يرى فيه صفحة وجهه، ورفض ذاته التي هي جزء من هذا الطين؟ ألم يبقَ عند الشاعر سوى هذا المغني الحزين والفارس المهزوم الذي انكسرت قوادم أحلامه، والصوفي المحبط الذي صُلبت كلمته؟ بلى! إن الشاعر نفسه يبحث عن «وردة الصقيع»، وينتظر نبيًّا يحمل سيفًا، وينثر كلماته في الريح السواحة لعل فؤادًا من أفئدة وجوه الأمة يلتقطها، فيوفق بين الحكمة والقدرة، ويحلم بمدينة الضياء، وإن كان يشك في الوصول إليها أو الحياة في ظلها.

هنالك إذًا رؤية ﻟ «الإنقاذ» من هذا الاغتراب الذي تتعدد صوره وألوانه القاتمة. قد تكون في العودة إلى «جيكور» شعرية خلدها السياب، أو في الانبعاث وتجدد «السندباد» الجواب عند خليل حاوي في «طفل تخضر به الأنقاض»، ويسترجع الخصب المغني، أو في التحول الدائم، وهدم الواقع القائم والبنية الثقافية التقليدية، وإبداع عالم فني يتصور «أدونيس» أنه موازٍ له وبديل عنه، أو في استرداد الأرض الجريحة السليبة التي يحملها محمود درويش على كفه في أسفاره ومنافيه ويصونها سميح القاسم داخل قلبه وإبداعه في سجنه الكبير …

من هذا العرض السريع المخل لمشكلة فلسفية واحدة في الشعر الحديث، وللعلاقة بين الفلسفة والشعر يمكننا أن نستخلص الملاحظات السريعة التالية:
  • (١)

    إن الفكر والشعر مرتبطان، فالقصيدة فكرة عيانية مجسدة في كلمات وإيقاعات وعلاقات وصور لها خصوصيتها النابعة من داخلها ومن تراثها اللغوي والأدبي، ومن شخصية صاحبها ومواقفه واتجاهاته المختلفة باعتباره ذاتًا تاريخية تكون رؤاها وتجسدها لذوات تاريخية تتلقاها منها. وقد اهتمت الفلسفة منذ أرسطو بتوضيح ماهية الشعر وبنيته ووظيفته وتأثيره، واهتم الفلاسفة المسلمون بشرح كتاب أرسطو وتلخيصه، كما أثر على البلاغيين العرب مثل (قدامة وعبد القاهر وحازم القرطاجني)، وعلى الشعراء كأبي تمام والمتنبي. بيد أننا لم نهتم بعد الاهتمام الكافي بتأسيس «فن شعر» أو فلسفة للشعر العربي الحديث ولا باستخلاص الاتجاهات الفلسفية في مواقف شعرائنا من الواقع والحياة والزمن والمجتمع (باستثناء كتاب الدكتور إحسان عباس عن اتجاهات الشعر العربي المعاصر الذي يعد بداية طيبة على الطريق الطويل، وبعض بحوث الدكتور شكري محمد عياد ومقالاته الأخيرة عن الشعر الحديث).

  • (٢)

    إن مواقف الشعراء من الاغتراب متعددة يصعب إدراجها تحت تيار أو اتجاه فلسفي بعينه؛ لأنها تختلف من شاعر لآخر كما تختلف عند الشاعر الواحد مع تطوره، وقد يتداخل أكثر من تيار أو اتجاه فلسفي في القصيدة الواحدة. ولهذا ينبغي التزام الحذر عند استخلاص الأفكار الفلسفية من القصيدة، كما يجب علينا أن نقترب بتأنٍ وخشوع من البنية الحية التي نسميها القصيدة، ولا ننسى أبدًا أن الشعر الحديث بوجه عام يوحي أكثر بكثير مما يفهم، ويكون أولًا قبل أن يعني شيئًا، كما أن إيحاءه وغموضه وغرابة بنائه ولغته وصوره جزء من فلسفته وفلسفة الواقع الحديث المضطرب.

  • (٣)

    إن الشعر العربي المعاصر كان أجرأ من كل فنون القول الأدبي والفكري على كشف الواقع والتنبيه إلى السقوط والانهيار والتمزق في محنة الوجود العربي في السنوات الثلاثين الأخيرة. والتحليل الفلسفي لهذا الشعر سيساعد على بلورة الاتجاهات الفلسفية التي أثرت عليه وعلى العقل والوجدان العربي في الثلث الأخير من هذا القرن، وموقفنا من هذه الاتجاهات — وهو موقف غلب عليه التأثر والترديد وندر فيه النقد أو انعدم — وربما يكون في ذلك نوع من المراجعة النقدية للاتجاهات الفلسفية الوافدة أو السائدة، ونوع من الاستقلال عنها نتعلمه من شعرائنا الكبار الذين اتسمت استجاباتهم لها بالأصالة والتحرر والتفرد.

  • (٤)

    لقد كان الشعر العربي المعاصر — كما قدمت — أعمق تبصرًا بأزمة التاريخ العربي من كل فنون القول الأخرى، والشعر بوجه خاص والأدب بوجه عام — هو في أعمق أعماقه أو في بنيته الأعمق رسالة أو دعوة لتغيير الوعي الجماعي والسلوك الاجتماعي — (وإن كان ذلك لا يتم عند الأديب والشاعر المبدع إلا بطريقة معقدة وغير مباشرة ولا واعية). فماذا كانت رؤية شعرنا الجديد لوعينا الاجتماعي وواقعنا التاريخي منذ انطلاقته الحاسمة في الخمسينيات؟ إن الدراسة الفلسفية يمكن أن تساعدنا على التبصر بهذا الواقع وأزماته وسبل إنقاذه إذا استطعنا أن نترجم حدوس الشعراء وصورهم ورموزهم إلى أفكار منسقة، ولعلها تساعد كذلك على تجديد الحياة الفلسفية، وتخليصها من الانغلاق والعقم المدرسي.

    ومن يدري؟ فربما تعجل بميلاد فلسفة عربية لا تزال في المخاض، أو تعينها — إذا كانت قد ولدت بالفعل — على أن تحبو خطواتها الأولى، وتسعى إلى مدارج الشباب والنضوج.

١  نص هذه العبارة كما وردت في كتاب الشعر لأرسطو (من ترجمة الدكتور شكري محمد عياد، كتاب أرسطو طاليس في الشعر، الفقرة التاسعة، ص٦٤، القاهرة، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م).
«وظاهر مما قيل أيضًا أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة، فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور (فقد تصاغ أقوال هيرودتس في أوزان، فتظل تاريخًا سواء وزنت أم لم توزن)، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع، على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه. ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ؛ لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات، والكلي هو ما يتفق لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله في حال ما مقتضى الرجحان أو الضرورة، وذلك ما يقصده الشعر حين يضع الأسماء للأشخاص؛ أما الجزئي فهو — مثلًا — ما فعله الكبياديس أو ما حل به.»
وواضح من هذا النص الشهير أن أرسطو يقارن بين الشاعر والمؤرخ، وينكر أن يكون التاريخ شعرًا، ولو وضع في لغة موزونة؛ لأن التاريخ يثبت الحوادث الجزئية التي وقعت لأشخاص معينين، على حين أن الشعر يثبت الحوادث التي يمكن أن تقع للناس عامة.
والشعر ينشد موافقة القوانين العامة للحياة، على حين أن التاريخ ينشد موافقة الحقائق الجزئية. ومعنى هذا أن الشعر لا يستهدف تصوير كائن مفرد، بل يستهدف تقديم صورة جديدة تتجسد فيها حقيقة كلية، شريطة ألا يفهم من هذا أن الشعر يصوغ نماذج عامة للشخصية الإنسانية مجردة من الملامح التفصيلية الجزئية التي تجعل الناس — سواء في عالم الحقيقة أو في دنيا الخلق الأدبي — أقرب إلى نفوسنا وأحب إلى قلوبنا. فليست مهمة الشعر أن يعمم الأحكام ويقرر الحقائق الكلية، كما فهم بعض النقاد خطأً، ظنًّا منهم أن الحقيقة الكلية التي قال أرسطو إن الشعر ينشدها لا تكون كذلك إلا من حيث هي حقيقة تصدق على أشياء مفردة كثيرة في آن واحد، وفاتهم أن للحقيقة الكلية جانبًا آخر هو المقصود من كلامه ألا وهو «ضرورة الحدوث»، ومن هذا الجانب نستطيع أن ننظر إلى التاريخ على أنه وصف للحوادث التي تنبهم الرواية السببية بينهما، بحيث لا نرى رؤية واضحة كيف تجد الحادثة الفلانية علة أو معلولًا للحادثة الفلانية، بسبب كثرة التفصيلات التي تكتنف المواقف وتلفها في ضباب الغموض. وأما الشعر، والتراجيديا بصفة خاصة، فيصور الرابطة الضرورية المحتومة التي تجعل مصير الإنسان نتيجة لازمة عن شخصيته وطرائق سلوكه (راجع التقديم الذي كتبه الدكتور زكي نجيب محمود لكتاب شكري عياد السابق الذكر).
ولو رجعنا إلى فهم ابن سينا لهذه الفقرة نفسها كما تصورها من ترجمة متى بن يونس لوجدناه يقارن بين الشعر والأمثال والقصص والخرافات، وبين الشاعر وصاحب كليلة ودمنة. وهو يخرج هذه الأمثال والخرافات من الشعر وإن نظمت؛ لأن الغرض منها ليس التخييل — أو المحاكاة التي هي مهمة الشعر الأولى — بل إفادة الآراء، ولأن سبيلها اقتصاص أحوال تنسب إلى أمور ليس لها وجود، فهي إذًا تأخذ مادتها من أمور مخترعة غير ممكنة، ولا تصور هذه المادة في صورة مخيلة على عكس الشعر الذي يأخذ مادته من أمور موجودة أو ممكنة، ويُحدث فيها تخييلًا وابتداعًا.
والواقع أن الحديث يطول عن موقع كتاب الشعر عند الفلاسفة المسلمين (من الكندي الذي ضاع تلخيصه له إلى الفارابي الذي بقيت لدينا أجزاء كبيرة من تلخيصاته وشروحه، كما ندين له بمصطلح التخييل ترجمة لمصطلح المحاكاة في ترجمة متى، إلى ابن سينا الذي شرح ما فهمه من ترجمة متى شرحًا يتسم بالمرونة والوضوح والتبسيط، إلى ابن رشد الذي انفرد بتطبيق مفاهيمه على الشعر العربي في المشرق والمغرب)، ومجمل القول في هذا الموضوع المتشعب الجوانب أن الفلاسفة المسلمين نظروا إلى الشعر في إطار نظرتهم العقلية الفلسفية، فجعلوه فرعًا من فروع المنطق، وقياسًا يأتي في الترتيب في آخر درجة من درجات سلم الأقيسة الذي يبدأ بالبرهان يليه الجدل فالسفسطة فالخطابة فالشعر.
فإذا كان البرهان هو القياس العلمي الذي يبدأ من مقدمات يقينية لينتهي إلى نتائج يقينية لا شك فيه، وكان المراد بالجدل هو إقناع الغير اعتمادًا على المقدمات الذائعة المقبولة عند العلماء، وبالخطابة إقناع الغير اعتمادًا على المقدمات المقبولة عند الجمهور، فكذلك الشعر يراد به إيقاع المعاني في نفوس السامعين، ومِن ثَم يصبح التخييل أو التصوير الشعري نظير التصديق الجدلي والخطابي، وإن لجأ كلٌّ منهما إلى أدوات وطرق تختلف باختلاف طبيعته الخاصة ومهمته وغايته المعرفية والأخلاقية والجمالية. وإذا كانت صناعة الجدل وصناعة الخطابة تخاطبان الفكر، فإن صناعة الشعر تخاطب الجانب الانفعالي للإنسان، فالنفس تذعن للكلام المخيل، وما يثيره فيها من «تعجيب» و«لذة» إذعانًا انفعاليًّا غير فكري، فتنقبض عن أمور وتنبسط عن أمور، من غير روية وفكر واختيار.
الحديث يطول كما قلت عن تأثير كتاب أرسطو على مفهوم الشعر عند فلاسفة المسلمين، ومدى توفيقهم في تمثيل معانيه وأفكاره أو اختلاط بعضها عليهم، ثم مدى تأثير شروحهم وتلخيصاتهم على البلاغة والنقد العربي عند قدامة وعبد القاهر وحازم القرطاجني بوجه خاص، ودوره في إيجاد نظرية متكاملة للشعر ومهمته ولغته وأدواته تخييله أو تغييره من تشبيه واستعارة وتقديم حسي للصورة إلى وحدته وصياغته للفظ والوزن والموسيقى … إلخ، مما يخرج عن النطاق المحدود لهذه المحاضرة. راجع في ذلك كله الكتاب السابق الذكر للدكتور شكري محمد عياد، ورسالة الدكتورة ألفت كمال الروبي عن نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد (دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ١٩٨٢م) لتجد فيها تفصيلات بالغة العمق والاستقصاء.
٢  هل من الضروري أن يحمل الشعر الجيد فكرًا أو فلسفة؟ إن الذين يقولون بهذا الرأي هم في الغالب من أهل الفكر والمشتغلين بالفلسفة، وقد استطاع بعضهم أو حاول على الأقل أن يستخلص من شعر الشعراء الكبار — مثل دانتي وشيكسبير وجوته والمعري والخيَّام — نسقًا فكريًّا منظمًا، وأن ينسبه إلى نزعة أو اتجاه فلسفي بعينه. ومما يدعو للتأمل ومراجعة الفكرة التي تقوم عليها هذه المحاضرة أن نجد شاعرًا لا يختلف اثنان على أنه شاعر مفكر — وهو الشاعر توماس إليوت — يؤكد أن الشعر الحقيقي لا مكان فيه للفكر الفلسفي، وأن ما نسميه فكرًا ليس في الحقيقة غير شعر واضح دقيق، يقول إليوت في مقال له عن الشعر والفلسفة إن من المألوف أن ننسب التفكير الفلسفي إلى شاعر كشيكسبير أو دانتي أو لوكريتس، وننفيه عن شاعر مثل سوينبرن أو تنيسون، ولا يرجع هذا الزعم في رأيه لاختلاف في نوع الفكر بين طائفتين من الشعراء، وإنما يرجع لاختلاف في نوع الشعر. فالشاعر «المفكِّر» هو الشاعر الذي يستطيع أن يعبر عن المعادل الشعوري لمادة الفكر دون أن يكون ملزمًا بتركيز اهتمامه على الشعر نفسه. ومهما تكن آراء المعجبين بشاعر مثل شيكسبير كفيلسوف كبير، فهي على كثرتها عاجزة من أن تعين له أية نزعة فكرية أو أية نظرية كلية أو أي نظام أو نسق فلسفي متبع.
ويواصل إليوت كلامه فيقول إنه يشك فيما إذا كان شيكسبير قد فكَّر في شيء على الإطلاق، وأنه على يقين من أنه (أي شيكسبير) كان منهمكًا في صوغ الأعمال الإنسانية شعرًا: «ليس في مسرحيات شيكسبير أية فلسفة، ولكني لا أعني بذلك تجريد هذه المسرحيات من كل فكر. فالشعر الرفيع يوهمك كله بأنه يتضمن نظرة إلى الحياة. ونحن إذ نلج عوالم هوميروس وفرجيل ودانتي وشيكسبير نجنح إلى الاعتقاد بأننا نفقه شيئًا يمكن التعبير عنه فكريًّا، ذلك أن ما دق من الشعور واتضح، يستوي وحقيقة الفكر عند التعبير، وأن ما نسميه فكرًا ليس في الواقع غير شعور واضح.» ولا يرى «إليوت» موجبًا للاعتقاد بوجود فلسفة شيكسبيرية ولا دانتية، والذين يتصورون أن شيكسبير قد شغله التفكير الفلسفي هم قوم لا يعالجون صناعة الشعر، لكنهم لا محالة ممن يعنون بشئون الفكر، وربما يطيب لهم الاعتقاد بأن مشاهير الرجال كانوا مثلهم من المفكرين ليس لشيكسبير أو دانتي أي تفكير فلسفي؛ لأن هذا التفكير نفسه لم يكن ليشغل أحدًا منهما. أما القيمة النسبية للفكر السائد في عصريهما (والمراد هو مذهب توماس الإكويني في ذروة العصر الوسيط وفلسفة عصر النهضة، وكلاهما يمثل المادة الفكرية المعروضة على دانتي وشيكسبير ليستخدمها مطية لمشاعره) فليس لها أهمية كبيرة؛ لأنها لا تجعل من دانتي شاعرًا أكبر، ولا تعني ما نتعلمه منه يفوق ما قد نتعلمه من شيكسبير. وحين يقول دانتي: «في مشيئته سلامنا»، أو حين يقول شيكسبير: «وكالذباب بالنسبة للصبية، كذلك نحن بالنسبة للآلهة … يقتلوننا تلهيًا بنا»، فقد نظن أن في قولهما فلسفة عظيمة. والواقع أنه شعر رائع يفيض قوة وصدقًا، لا لأن فيه فلسفة عظيمة، بل لتعبيره بلغة مثلى عن بعض الدوافع الإنسانية الخالدة (راجع كتاب الشعر بين نقاد ثلاثة، ترجمة الدكتور منح خوري، بيروت، دار الثقافة، ١٩٦٦م، ص٣٥–٣٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤