مقدمة

خصائص الفلسفة اليونانية

بدايةً أوضح أن مصطلح الفلسفة اليونانية أو الإغريقية هو تسمية خاطئة؛ حيث لا وجود لفلسفة لها هذه الخصوصية، لقد استحدث المصريون القدماء مذهبًا دينيًّا شديد التعقيد سُمِّي نظام الأسرار، والذي كان أيضًا أول مذهب عن الخلاص.

ويرى هذا المذهب أن جسد الإنسان سجن النفس التي يمكن لها أن تتحرر من قيودها البدنية، وذلك عن طريق التمرس على فروع المعرفة، من فنون وعلوم؛ وبذا ترتقي وتسمو من مستوى الوجود الفاني إلى مستوًى إلهي خالد، وكان هذا هو مفهوم الخير الأسمى الذي يتعين على جميع الناس أن ينشدوه وأن يطمحوا إليه؛ كما أصبح أساسًا لجميع المفاهيم الأخلاقية. وكان نظام الأسرار المصري نظامًا يتوخى السرية، كما كانت العضوية فيه رهن المبادرة الشخصية والتعهد بالحفاظ على السرية. ويتلقَّى المؤمن أو المريد المبتدئ التعاليم شفاهة، وتتدرج هذه التعاليم وفق مراتب متصاعدة. وطوَّر المصريون — في ظل ظروف السرية والتكتم هذه — نظمًا سرية للكتابة والتعليم؛ وحظروا على أعضائها تدوين ما يتلقونه.

وبعد الحظر الذي فرضه المصريون قرابة خمسة آلاف سنة على دخول الإغريق مصر سمحوا لهم بدخولها بغرض تلقي العلم، واستطاع اليونانيون الدخول — لأول مرة — عن طريق الغزو الفارسي لمصر، ثم عن طريق غزو الإسكندر الأكبر. ومن ثَم فإن اليونانيين القدماء، منذ القرن السادس ق.م. وحتى موت أرسطو (۳۲۲ق.م.) استثمروا — إلى أقصى حدٍّ — الفرصة التي أتيحت لهم لتعلُّم كل ما يستطيعون تعلُّمه من الثقافة المصرية، وتلقَّى غالبية التلاميذ تعاليمهم مباشرة من الكهنة المصريين. ولكن عقب غزو الإسكندر الأكبر لمصر تم نهب وسلب المعابد والمكتبات الملكية غنيمة. وحولت مدرسة أرسطو مكتبة الإسكندرية إلى مركز أبحاث، ولهذا لا غرابة؛ إذ يتأكد لنا أن الإنتاج الوفير — على نحو استثنائي وغير مألوف — من الكتب المنسوبة إلى أرسطو أمر مستحيل تمامًا من حيث القدرة الطبيعية طوال حياة فرد بذاته.

إن تاريخ أرسطو أساء إليه أكثر مما نفعه؛ إذ حرص على تجنُّب أي إشارة إلى زيارته مصر، سواء لحسابه الخاص أو في صحبة الإسكندر الأكبر حين غزا مصر. وإخفاء هذا التاريخ يثير الشك فيما يتعلق بحياة أرسطو وإنجازاته. قيل إنه قضى عشرين عامًا تلميذًا يتعلم بين يدَي أفلاطون، الذي كان الإغريق يعتبرونه فيلسوفًا آنذاك، وإلى أن تخرج أرسطو ليُوصَف بأنه أعظم علماء عصره في الزمن القديم، بيد أن بالإمكان أن نطرح هنا سؤالين:

  • (أ)

    كيف استطاع أفلاطون أن يعلِّم أرسطو علومًا لم يكن أفلاطون نفسه يعرفها؟

  • (ب)

    لماذا تعيَّن على أرسطو أن يقضي عشرين عامًا يتعلم على معلم صفر اليدين لن يتعلم منه شيئًا؟

إن هذه الرواية التاريخية غير قابلة للتصديق، ونلحظ، مرة أخرى، ورغبة في تجنب أسباب الشك في عدد الكتب الاستثنائي المنسوبة إلى أرسطو، يروي لنا التاريخ أن الإسكندر الأكبر منح أرسطو أموالًا ضخمة للحصول على الكتب، وهنا أيضًا تبدو رواية التاريخ بعيدة عن التصديق، مثلما يتعيَّن أن نوضح النقاط الثلاث التالية:

  • (أ)

    إن شراء كتب في العلم يعني أنها متداوَلة؛ بحيث يستطيع أرسطو ضمان حصوله عليها.

  • (ب)

    إذا كانت الكتب متداوَلة قبل شراء أرسطو لها، مع افتراض أنه لم يزُر مصر أبدًا، فلا بد وأن تكون هذه الكتب متداولة بين فلاسفة اليونان.

  • (جـ)

    وإذا كانت الكتب متداولة بين فلاسفة اليونان، فإننا نتوقع أن يكون موضوع هذه الكتب معروفًا قبل زمن أرسطو؛ ومن ثَم لا يمكن أن نصدق أنه هو صاحبها، أو أنه أضاف أفكارًا جديدة عن العلم.

نقطة أخرى لها أهمية كبرى يتعين أن نضعها في الاعتبار، وهي موقف حكومة أثينا تجاه ما يُسمَّى الفلسفة اليونانية، والتي اعتادت أن تنظر إليها باعتبارها فلسفة أجنبية المنشأ، وتعاملت معها على هذا الأساس. ونحن لسنا بحاجة سوى إلى دراسة موجزة للتاريخ تبيِّن لنا أن فلاسفة اليونان — قديمًا — كانوا مواطنين غير مرغوب فيهم، وأنهم كانوا — طوال فترة بحوثهم — ضحايا اضطهاد شرس على أيدي السلطة الحاكمة في أثينا. فها هو أناكساجوراس أودعته السلطات السجن ثم نفته. وأُعدِم سقراط وبِيع أفلاطون في سوق النخاسة، وقُدِّم أرسطو للمحاكمة ثم نُفي. أما أسبقهم جميعًا، وهو فيثاغورس، فقد طردته السلطات، وأبعدته من كروتون إلى إيطاليا … هل نتخيل بعد ذلك أن اليونانيين القدماء تحولوا فجأة، وزعموا أنهم أصحاب ذات التعاليم التي اضطهدوها أول الأمر ونبذوها صراحة؟ إنهم كانوا يعرفون — يقينًا — أنهم يعمدون إلى نهب ما ليس لهم، وما لم ينتجوه، وسوف نكتشف، ونحن نتقدم في دراستنا هذه خطوة بعد خطوة، المزيد من الدلائل والبراهين التي تفضي بنا إلى نتيجة محددة مفادها أن فلاسفة اليونان لم يكونوا أصحاب الفلسفة اليونانية، وإنما أصحابها هم الكهنة المصريون وشرَّاح النصوص المقدسة والرموز السرية.

مات أرسطو عام ۳٢٢ق.م. أي قبل سنوات غير طويلة منذ أن ساعده الإسكندر الأكبر على ضمان الحصول على الكتب العلمية من المكتبات الملكية ومن المعابد في مصر. ولكن على الرغم من هذا الكنز الفكري العظيم كانت وفاة أرسطو علامة على موت الفلسفة بين الإغريق الذين لم تكن لديهم — على ما يبدو — القدرة الطبيعية على النهوض بهذه العلوم والتقدم بها. وترتب على ذلك، حسب رواية التاريخ، أن اضطر اليونانيون إلى دراسة علم الأخلاق الذي اقتبسوه — بدورهم — من مفهوم أو مبدأ الخير الأسمى Summum Bonum المصري.

ويتعين أن نذكر هنا الفيلسوفيْن الأثينيين الآخرين، أعني سقراط وأفلاطون؛ إذ اشتهرا — في التاريخ — كفيلسوفين ومفكرين عظيمين. ويعرف كل تلميذ الآن أنه حين يسمع أو يقرأ عبارة «اعرف نفسك» إنما يسمع أو يقرأ كلمات نطق بها سقراط. غير أن الحقيقة هي أن الجدران الخارجية للمعابد المصرية تحمل نقوشًا موجَّهة إلى المريدين الجدد، من بينها وصية تخاطب كلًّا منهم قائلة «اعرف نفسك»، ونَقَل سقراط هذه الكلمات عن المعابد المصرية، ولم يكن هو صاحبها. والملاحَظ أن جميع معابد نظم الأسرار المصرية الموجودة، سواء داخل أو خارج مصر، تحمل هذه النقوش، تمامًا شأن النشرات الأسبوعية التي تصدرها الكنائس الحديثة.

وبالمثل، يعتقد كل تلميذ أنه حين يسمع أو يقرأ أسماء الفضائل الأربعة الرئيسية إنما يسمع أو يقرأ أسماء الفضائل التي حددها لنا أفلاطون، ولكن لا شيء أكثر تضليلًا من هذا؛ ذلك لأن نظم الأسرار المصرية اشتملت على تسع فضائل. واقتبس أفلاطون، من هذا المصدر، ما عُرِف باسم الفضائل الرئيسية الأربعة: العدالة، والحكمة، والاعتدال، والشجاعة. وإنه لأمر مثير للدهشة حقًّا أن يظل العالم الغربي يزجي المديح والثناء إلى اليونانيين القدماء — على مدى القرون — لإنجازات فكرية تخص — دون شك — المصريين أو شعوب شمال أفريقيا.

خاصية أخرى للفلسفة اليونانية لافتة للنظر، وهي أن غالبية فلاسفة اليونان اتخذوا من تعاليم فيثاغورس مثالًا لهم، ومن ثَم لم يضيفوا جديدًا في مجال الفلسفة. واشتمل مذهب فيثاغورس على مبادئ:

  • (أ)

    الأضداد.

  • (ب)

    التناغم.

  • (جـ)

    النار.

  • (د)

    العقل، والذي يتألف من ذرات نارية.

  • (هـ)

    الخلود، والذي يتمثل في تناسخ الأرواح.

  • (و)

    الخير الأسمى أو غاية الفلسفة.

وتبدَّت هذه المبادئ — بطبيعة الحال — في مذاهب كلٍّ من هيرقليطس وبارمينيديس وديمقريطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو.

الخاصية الثانية للفلسفة اليونانية هي استخدامها في الأدب، أي أن تكون مادة في عمل أدبي للانتفاع بها؛ ذلك أن نظام الأسرار المصري كان أول نظام أسرار عرفه التاريخ؛ وكان نشر تعاليمه ممنوعًا منعًا باتًّا. ويفسر لنا هذا السبب في أن مريدين مبتدئين، من أمثال سقراط، لم يكتبوا فلسفتهم، ولماذا أحجم البابليون والكلدانيون، وقد كانوا وثيقي الصلة بالمصريين، عن الإفصاح عن هذه التعاليم ونشرها.

وهكذا يبين — بوضوح تام — مدى سهولة أن تزعم أمة طموحة، بل وغيورة، أنها صاحبة مجموعة من المعارف غير المكتوبة، والتي تجعلها عظيمة في أعين العالم البدائي. ويتكشف لنا بطلان الزعم بسهولة إذا ما تذكرنا أن اللغة اليونانية القديمة كانت أداة لترجمة العديد من منظومات التعاليم التي عجز اليونانيين عن أن ينسبوها إلى أنفسهم. ومن هذه التعاليم ترجمة الكتب المقدسة العبرية إلى اليونانية القديمة، والمسماة الترجمة السبعينية١  Septuagunt، وترجمة أناجيل العهد الجديد، وأعمال الرسل إلى اليونانيين، والتي لا تزال تحمل اسم العهد الجديد اليوناني. والملاحظ أن الفلسفة المصرية غير المكتوبة، والتي تمت ترجمتها إلى اليونانية القديمة، هي وحدها فقط التي لقيت هذا المصير البائس؛ تراث سرقه الإغريق.

وفي ضوء الأسباب سالفة الذكر وجدتني مضطرًّا إلى تناول موضوع هذا الكتاب على النحو الذي التزمت به؛ أعني:

  • (أ)

    أن أعيد وأكرر مرارًا، وسبب ذلك أن منهج الفلسفة اليونانية هو استخدام أساس مشترك لتفسير مبادئ مذهبية عديدة ومختلفة.

  • (ب)

    اقتباس وتحليل المبادئ المذهبية؛ ذلك لأن هدف هذا الكتاب الإبانة وتأكيد المنشأ المصري، وهو ما لا يتم — على نحو مُرضٍ — دون عرض وإبراز المبادئ المذهبية.

إن الفلسفة اليونانية أشبه بنوعٍ من الدراما، أبطالها الإسكندر الأكبر ومعه أرسطو وخلفاؤه في المدرسة المشائية، والإمبراطور الروماني جوستنيان. لقد غزا الإسكندر الأكبر مصر، واغتصب المكتبة الملكية في الإسكندرية ونهبها، واصطنع أرسطو مكتبة لنفسه من الكتب المنهوبة؛ بينما شغلت مدرسته المبنى واتخذته مركزًا للبحث. وأخيرًا ألغى جوستنيان، الإمبراطور الروماني، المعابد والمدارس المختصة بالفلسفة، وهو اسم آخر لنظام الأسرار المصري الذي زعم اليونانيون القدماء أنه إنتاجهم، وأنهم هم أصحابه؛ وبفضله تلقَّوا — زيفًا وبهتانًا — الثناء والتكريم من العالم على مدى قرون طويلة باعتبارهم أعظم المفكرين والفلاسفة. إن أصحاب هذا الإسهام الحضاري هم — حقًّا وصدقًا — المصريون والقارة الأفريقية، وليسوا الأوروبيين والقارة الأوروبية. ونحن نتساءل، أحيانًا، في دهشة: لماذا يستشعر أبناء القارة الأفريقية أنهم في مثل هذا المأزق الاجتماعي؟ غير أن الإجابة واضحة تمامًا.

إنه لولا هذه الدراما عن الفلسفة اليونانية وممثليها لأصبح لقارة أفريقيا شهرة أخرى مغايرة؛ ولحظيت بمكانة مرموقة ومحترمة بين أمم العالم. غير أن هذا الوضع التعس للقارة الأفريقية ولشعوبها هو — على ما يبدو — ثمرة تشويه الحقائق وحرفها، والذي اتخذ دعامة أقيم فوقها الانحياز العرقي، أعني الرأي العالمي التاريخي الزاعم أن القارة الأفريقية متخلفة، وشعوبها متخلفة، وحضارتهم — كذلك — حضارة متخلفة.

أخيرًا فإن التضليل في حركة الترويج للفلسفة اليونانية يبدو سافرًا وفاضحًا إلى أقصى مدًى عند الإشارة — عمدًا — إلى أن نظرية المربع المقام على وتر المثلث قائم الزاوية هي نظرية فيثاغورس؛ وهو زعم أخفى الحقيقة قرونًا عن أعين العالم، وهو قمين بأن يعرف أن المصريين هم الذين علَّموا فيثاغورس واليونانيين الرياضيات التي عرفوها.

وأود أن أذكر هنا أنه من بين الكتب الكثيرة التي أعانتني على إنجاز كتابي هذا الكتب التالية:

  • Henri Frankfort:
    – The intellectual Adventure of Man.
    – The Egyptian Religion.
  • Eva Sandford:
    – The Mediterranean World in Ancient Times.
جورج جي إم جيمس
١  الترجمة اليونانية للعهد القديم، وقام بها ۷۲ عالمًا يهوديًّا في ٧٢ يومًا. (المترجِم عن قاموس المورد)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤