الفصل الثامن

فقه إلهيات ممفيس

أساس جميع المبادئ الهامة في الفلسفة اليونانية

تاريخ ووصف مدرسة ممفيس

فقه إلهيات مدرسة ممفيس هو نقش على حجر محفوظ الآن في المتحف البريطاني، ويحتوي على آراء المصريين القدماء بشأن الإلهيات والكوزمولوجيا (نظرية عن أصل الكون وبنيته ونواميسه) والفلسفة. وسبق أن أشرنا إليه في معرض تناولنا مبادئ أفلاطون. ولكن نجد لزامًا أن نكرره هنا لبيان أهميته الكبرى والشاملة، كأساس لمجال الفلسفة اليونانية عامة. ويرجع تاريخه إلى عام ٧٠٠ق.م.، ويحمل اسم فرعون مصري يقرر فيه أنه استنسخ نقشًا لأسلافه. وأمكن التحقق من هذا الرأي على أساس اللغة ونظام ترتيب النص. ولهذا يرجع التاريخ الأصلي لفقه إلهيات مدرسة ممفيس إلى فترة مبكرة جدًّا من التاريخ المصري، أي الزمن الذي أقامت فيه الأسر الأولى عاصمتها الجديدة في ممفيس: مدينة الإله بتاح فيما بين ٤٠٠٠، ٣٥٠٠ق.م. (انظر [٦٨]، ص٥٥).

(١) النص

يتألف من ثلاثة أجزاء متكاملة، وسوف نعالج كلا منها مستقلًّا عن الآخرين، سواء من حيث التعاليم، وأيضًا من حيث التطابق مع الفلسفة اليونانية.

يمثِّل الجزء الأول آلهة العماء البدائي، ويمثِّل الجزء الثاني آلهة النظام والترتيب عند الخلق. ويمثِّل الجزء الثالث كبير الآلهة، أو رب الأرباب (اللوجوس)، الذي يرجع له إنجاز عملية الخلق.

(أ) نص الجزء الأول

بتاح كبير الآلهة حمل في قلبه كل ما هو موجود، وبكلمته خلقهم جميعًا، ظهر أولًا من مياه المحيط الأزلي نون في صورة تل سرمدي، وعقب التل مباشرة ومرادف له. وإلى جواره ظهر أيضًا الإله أتوم من المياه، واستوى فوق بتاح (التل). وبقي في الماء أربعة أزواج من الأرباب الذكور والإناث، وهم الثماني الربوبي الموحد Ogdoad ويحملون الأسماء التالية:
  • (١)

    نون ونونيت أي محيط المياه الأزلي والسماء المقابلة.

  • (٢)

    هوه وهوهيت أي اللامحدود وضده.

  • (٣)

    كوك وكوكيت أي الظلمة وضدها.

  • (٤)

    آمون وآمونيت أي الخفي وضده.

(انظر [٥٦]، ص۲؛ [٦٨]، ص۲۱).

(ب) فلسفة الجزء الأول

بتاح له الصفات التالية:

  • (أ)

    كبير الآلهة أو رب الأرباب.

  • (ب)

    اللوجوس، أي الفكر وكلمة الخلق والقوة (انظر [٥٦]، ص٢٣).

  • (جـ)

    إله النظام والصورة.

  • (د)

    الإله الصانع والخزاف.

(انظر [٦٢]؛ [۲۲]؛ [٢٤]، ك١، ص۳۱۸، ۳۳۹).

ويجب الإشارة هنا إلى أنه، في الوقت الذي استوى فيه إله الشمس أتوم فوق بتاح التل الأبدي أنجز، سبحانه، عمل الخلق. غير أن فقه إلهيات مدرسة ممفيس يرجع إلى٤٠٠٠ق.م. في وقت لم يكن أحد يعرف شيئًا عن الإغريق (انظر [٥٠]، ص٥، ٥٣، ٥٥، كتاب الموتى، ص۱۷).

إن هذا الترتيب، الذي يحدثنا عنه فقه الإلهيات لمدرسة ممفيس، لا يعني شيئًا سوى أن مقومات العماء الأزلي كانت تشتمل على عشرة مبادئ أساسية: أربعة أزواج من المبادئ المتضادة مع اثنين آخرين من الأرباب: بتاح، ويمثِّل العقل والفكر وكلمة الخلق. هذا بينما يربط الإله أتوم نفسه بالإله بتاح، ويعمل باعتباره الصانع الأول Demiurge وينجز عمل الخلق. من خلال تنظيم الكون، على هذا النحو، نصبح في وضع يسمح لنا باستنتاج الفلسفات التالية:
  • (أ)

    الماء مصدر كل شيء حي.

  • (ب)
    الخلق إنجاز تحقق بفضل وحدة مبدأين خالقين: بتاح وآمون، أي وحدة العقل (نوس Nous) مع لوجوس (كلمة الخلق).
  • (جـ)

    أتوم هو الصانع الأول أو الإله الوسيط في عملية الخلق، وهو أيضًا إله الشمس أو إله النار.

  • (د)

    المبادئ المتضادة تحكم حياة الكون.

  • (هـ)
    عناصر الخلق هي النار (أتوم) والماء (نون) والتراب وبتاح أو تا-تجينين Ta-tjenen والهواء. وبذا يعتبر الجزء الأول من فقه إلهيات مدرسة ممفيس المصدر الصحيح لهذه الفلسفات، ولكن الغريب أن الإغريق زعموا أنه من إنتاجهم، وهو قول غير صحيح بالمرة.

(ﺟ) فلاسفة اليونان اللذين نُسِب إليهم — كل على حدة — تأليف أجزاء من فلسفة فقه إلهيات ممفيس

نذكر من هذه المبادئ، مبدأ الماء مصدر كل الموجودات، والمنسوب إلى طاليس ([۲]، ص۳۸)، واللامحدود أو اللانهائي، والمنسوب إلى أناكسيماندر ([۲]، ص٤٠)، ومبدأ «الهواء أساس الحياة»، ومنسوب إلى أناكسيمانز ([۲]، ص٤٢)، علاوة على هذا مبدأ النار أساس حياة الكون، ومنسوب إلى فيثاغورس، الذي حدَّثنا عن وظائف النار المركزية والنار المحيطية، وهو منسوب أيضًا إلى هيرقليطس الذي تحدَّث عن تحول النار إلى العناصر الأخرى، ثم تحولها بعد ذلك إلى نار ثانية. كذلك ديمقريطس الذي تحدث عن ذرات النار التي تملأ الفضاء باعتبارها عقل أو نفس العالم، وتحدث عنها أيضًا أفلاطون، الذي قال إن نفس العالم تتألف من ذرات نارية ([۳]، ص٤٢؛ [۲]، ص٥٣، ١٤٩، [۲۱]، ۳۰أ؛ [٥]، ص٤٠).

كذلك نسب مبدأ الأضداد إلى فيثاغورس، الذي تحدث عن عناصر الوحدة بين الفردي والزوجي من الأعداد، ونسب المبدأ — ذاته — أيضًا إلى كل من: (أ) هيرقليطس الذي تحدث عن وحدة الأضداد المتحاربة. (ب) بارمينيديس الذي تحدث عن التمييز بين الوجود والعدم. (ﺟ) سقراط الذي تحدث عن أشياء تتولَّد عن أضدادها. (د) أفلاطون الذي تحدث عن المثل العليا، والأشياء في ذاتها باعتبارها حقيقية وكاملة، أما الظواهر فهي غير حقيقية وناقصة (انظر [٦٦]، ص٢٥٠؛ [٧٤]١٣٢ د؛ [٤٤]، ١، ٦؛ [۳۸]؛ [۲] ص٥١، ٦١، ٦٨؛ [۲۱]، ص۲۸).

علاوة على هذا مبدأ العقل أو Nous أو قوة فاعلة عاقلة مسئولة عن الخلق منسوب إلى أنكساجوراس، وأيضًا إلى سقراط الذي تحدث عن وجود أشياء مفيدة يمثِّلها نشاط العقل. ومنسوب إلى أفلاطون، الذي تحدث عن نفس عالمية أو عقل باعتباره علة الحياة والمعرفة في الكون، ومنسوب إلى ديموقرايطس، الذي أعطاه نفس المعنى ([۲]، ص۸۰، ٨٥؛ [۳]، ص٨٢، ١٠٩).
ومبدأ اللوجوس منسوب إلى هيرقليطس الذي تحدث عن النار باعتبارها اللوجوس أو المبدأ الخالق في الطبيعة. أما مبدأ الصانع الأول Demiurge أو الإله الوسيط، الذي خلق العالم، فهو منسوب إلى أفلاطون (انظر [۳]، ص٥٥، ۱۰۸).

(أ) نص الجزء الثاني

آلهة النظام والترتيب في الكون يمثِّلها تسعة آلهة في وحدة ربويبة واحدة يُسَمون التاسوع. هنا الإله أتوم مصدر الثماني الربوبي الموحد Ogdoad.
وهو أيضًا مصدر أرباب النظام والترتيب، ويسمى أتون Atum أو Atom أربعة أزواج من أعضاء جسده هو، وبذا يخلق ثمانية أرباب، بحيث يؤلفون معه تاسوعًا.

وهذه الآلهة الثمانية هم آلهة مخلوقة، وهم أول المخلوقات في هذا العالم، وأتوم الإله الخالق أو الإله الصانع البارئ الذي حدثنا عنه أفلاطون، والآلهة الذين صورهم أتوم من أعضاء جسده هم:

  • (١)

    شو أو الهواء.

  • (٢)

    تفنوت أو الرطوبة.

  • (٣)

    جب أي الأرض.

  • (٤)

    توت أو السماء.

ورُوي أنه تولَّد عن هذه الآلهة أربعة آلهة آخرين:

  • (٥)

    أوزيريس (إله الوجود في الكل والمعرفة المحيطة بالكل).

  • (٦)

    إيزيس (زوج أوزير ومبدأ أنثوي).

  • (٧)

    ست (مضاد الخير).

  • (٨)

    نفتيس (مبدأ أنثوي في العالم الخفي).

(انظر [٣٢] إيزيس وأوزيريس، ٣٥٥أ، ٣٦٤ج، ۳۷۱ب؛ [٥٠]، ص٦٦، ٦٧).

(ب) فلسفة الجزء الثاني

ونحن نطالع نص الجزء الثاني نجد أن أتوم إله الشمس، الذي كان موجودًا في العماء الأزلي، كان موجودًا كذلك مع استحداث وتطور الترتيب المنظم للكون. وفي هذه المرحلة يضطلع أتوم بدور خالق جميع الأرباب، فيما عدا بتاح، رب الأرباب، ثم يشرع — بعد ذلك — في إنجاز هذا النمط الخاص من الخلق على النحو التالي: يأمر ثمانية آلهة بالصدور عن جسده — سبحانه — حسب أسماء تلك الأعضاء الثمانية:

(و) أسفرت عملية الخلق هذه في رؤية الإنسان لها عما يُسمى:

  • (أ)

    التاسوع أو وحدة الأرباب التسعة في ربوبية واحدة.

  • (ب)

    مبدأ الصانع البارئ، على نحو ما هو مبين في الجزء١.

  • (جـ)

    مبدأ الأرباب المخلوقة.

  • (د)

    مبدأ المحرك غير المتحرك.

  • (هـ)

    مبدأ الأضداد.

  • (و)

    الحضور في الكل، والمعرفة المحيطة بالكل.

وسوف نتناول، من بين هذه المبادئ، مبدأ «التاسوع»، ونعرض له في موضع آخر؛ وحيث إننا تناولنا — في السابق — مبدأ الصانع مع المبدأ ج أي الأرباب المخلوقة، فسوف أناقش هنا مبدأ المحرك غير المتحرك باعتبار أنه مؤسَّس على عملية الخلق ذاته.

نعرف، حسب فقه إلهيات مدرسة ممفيس عند المصريين القدماء، أن أتوم خلق ثمانية آلهة، صدروا عن ثمانية أعضاء من جسده، سبحانه، واستوى بعد ذلك فوق بتاح التل الأزلي، وبقي ثابتًا لم يتحرك. وأصبح الإله أتوم في عملية الخلق هذه هو المحرك غير المتحرك. وعلى الرغم من أن فقه إلهيات مدرسة ممفيس هو المصدر المباشر لهذه المبادئ، إلا أنهم نسبوا إلى أفلاطون مبدأ خلق الأرباب، ونسبوا إلى أرسطو القول بالمبدأ «المحرك غير المتحرك». يقينًا إن العالم لم يقع فريسة لمثل هذا التضليل أبدًا.

وهنا نجد — لزامًا — أن نوضح — بجلاء — أن مبدأ الصانع أو البارئ Demiurge في الخلق يشتمل على مبدأين: مبدأ الأرباب المخلوقة، ومبدأ المحرك الذي لا يتحرك.

لقد كانت وظيفة الإله الصانع الأول أن يخلق الكون، وأول عمل له — في هذا الصدد — خلق الأرباب الذين أصبحوا — بالتالي — أول المخلوقات.

ولكن الطريقة التي خلق بها الإله الصانع البارئ الأول Demiurge الأرباب هي عملية إصدارهم من جسده هو سبحانه.

وطريقة الخلق هذه تجعل — بوضوحٍ — الإله الصانع المحرك غير المتحرك.

ولكن تاريخ الفلسفة اليونانية عزا تأليف مبدأي الإله الصانع والأرباب المخلوقة إلى أفلاطون، كما عزا تأليف مبدأ المحرك غير المتحرك إلى أرسطو.

ولكن هذا المبدأ، الموسوم بالمبدأ الأفلاطوني، مؤلف من ثلاثة أجزاء، لا انفصال بينها:

  • (أ)
    الإله الصانع أو البارئ Demiurge.
  • (ب)

    وظيفة الإله الصانع.

  • (جـ)

    طريقة العمل: وهي وحدة تناقض الزعم بأن أرسطو هو مؤلف ما ليس في الواقع سوى استنتاج مباشر من مبدأ زعموا أنه نشأ على يدي أفلاطون.

(انظر أسطورة الخلق، كما رواها أفلاطون في محاورة طيماوس؛ وانظر [۳] ص۱۰۹، ۱۱۰؛ [۲]، ص۱۹۲؛ [۳] ص١٤٢).

بيد أننا سبق أن ناقشنا مبدأ الأضداد في الجزء الخاص بفقه الإلهيات مدرسة ممفيس، إن أحد أزواج الآلهة المخلوقة، وهما أوزيريس وإيزيس، استخدم لتمثيل مبدأي الذكورة والأنوثة في الطبيعة، وأوزيريس له، علاوة على هذا، صفات أخرى خاصة، ويمكن فهمها من الاشتقاقات التالية:

(أ) أوش OSH وتعني الكثير. (ب) أيري IRI وتعني أن أفعل. (ج) وتعني عينًا.
ومن ثَم، فإن أوزيريس لم يكن صدوره إلى الوجود ليعني — فقط — البصير بعيونه الكثيرة أو الحاضر في الكل، بل ويعني أيضًا الكلي القدرة، أو ذا القدرة المكين بغير حدود. وهنا، وكما سبق أن لاحظنا في جميع الأمثلة التي عرضناها، فإنه، على الرغم من حقيقة أن فقه إلهيات مدرسة ممفيس هو مصدر الفلسفة اليونانية، إلا أن مبدأ العلة العاقلة أو العقل المفكر والمدبر Nous المسئول عن حياة العالم وتدبير شئونه نسبَتْه الفلسفة الإغريقية إلى أناكساجوراس وسقراط — وأيضًا — إلى أفلاطون الذي قال إن نفس العالم تتألف من ذرات نارية، شأنه في هذا شأن نفس العالم عند ديمقريطس (انظر [۲۱]، ۳۰، ۳۰؛ [٥٢]، ١، ٤، ٢؛ [۳]، ص٦٣).

(أ) نص الجزء الثالث

في الجزء الثالث من فقه إلهيات ممفيس، نجد كبير الآلهة ممثلًا في بتاح: الفكر واللوجوس والقوة الخالقة صاحبة النفوذ فوق جميع المخلوقات، إنه ينقل القوة والروح إلى جميع الأرباب، ويدبر حياة جميع الموجودات، بما في ذلك الحيوان والإنسان، من خلال فكره وأوامره سبحانه، أو بعبارة أخرى، إن جميع الموجودات فيه — سبحانه — تحيا وتتحرك وتملك وجودها الخالد.

(ب) فلسفة الجزء الثالث

نستنتج من الجزء الثالث المبادئ التالية:

  • (أ)

    جميع الموجودات خلقها بتاح، رب الأرباب بفكره وأمره وكلمته .

  • (ب)

    نحن — جميعًا — نحيا ونتحرك ونملك وجودنا الخالد من خلال فكر بتاح وأمره أو كلمته.

  • (جـ)

    بتاح هو الخالق والحافظ، وانتقلت قوى بتاح — بوسائل سحرية — إلى أتوم الذي باشر عملية الخلق (انظر [٦٨]، ص٥٢–٦٠).

(٢) فقه إلهيات ممفيس هو مصدر المعرفة العلمية الحديثة

  • (أ)
    التاسوع والفرض السديمي.١
  • (ب)
    تطابق أتوم إله الشمس Atum والذرة Atom في العلم.

(أ) تطابق التاسوع والفرض السديمي

مثلما أن فقه إلهيات ممفيس هو مصدر الفلسفة اليونانية أو العلم البدائي، كذلك فإنه — أيضًا — أساس العقيدة العلمية الحديثة، إن أرباب النظام والترتيب في الكون يمثِّلها تسعة آلهة في ربوبية واحدة تُسمَّى التاسوع. ذلك أن أتوم Atum أو Atom الإله الشمس أو إله النار يخلق ثمانية آلهة آخرين صدروا إلى الوجود حين سمَّى أربعة أزواج من أعضاء جسده، وكانت أسماء الأرباب المخلوقة هي شو وتفنوت أو الهواء والرطوبة، وجب ونوت أو الأرض والسماء، وزوجان آخران من الأضداد، أوزيريس وايزيس وست ونفتيس، الذين كان — من المفترض — أنهم — جميعًا — أول المخلوقات في هذا العالم (انظر [٦٨]، ص٥٤).
والآن إذا ما قارنَّا هذه الكوزمولوجيا (نظرية نشأة الكون وبنيته ونواميسه) المصرية مع الفرض السديمي الذي قال به لابلاس؛ سنجد أوجه تشابه مذهلة بين النصين؛ إذ يقضي الفرض السديمي أن نظامنا الشمسي الراهن كان في السابق سديمًا غازيًّا منصهرًا، ودار هذا السديم على محور بسرعة مهولة، ثم تقلصت الكتلة مع البرودة وتولدت سرعة أكبر، وأسفر هذا عن انتفاخ عند خط الاستواء، وانفصال تدريجي لحلقات غازية، تشكَّلت ذاتيًّا إلى كواكب، وأطلقت هذه الكواكب — بدورها — حلقات غازية، تشكلت هي الأخرى ذاتيًّا في صورة أجرام أصغر حجمًا إلى أن أصبحت الشمس — أخيرًا — البقية الباقية من السديم الأب الأصلي. ويبدو — واضحًا — من هذا النص أن السديم المنشأ الأصلي كان النار أو الشمس، وأنه إذ أطلق أجزاء من نفسه خلق بعض الكواكب، التي أطلقت — بدورها — أجزاء منها وخلقت غيرها. ويذهب نص فقه إلهيات ممفيس إلى أن الإله الخالق هو الإله الشمس أو الإله النار أتوم Atom أو Atum الذي سمَّى أربعة أزواج من أعضاء جسده، وصدرت عنها فورًا الأرباب.٢

ولكن أتوم ألَّف — مع الأرباب الثمانية المخلوقة — التاسوع أو الربوبية التساعية الواحدة. وفي هذا تشابه مذهل مع العلم الحديث، الذي يعلمنا بأن هناك تسعة كواكب رئيسية. ويمكن تلخيص أوجه التشابه هذه فيما يلي:

  • (أ)

    الإله الخالق، وهو الشمس أو النار عند المصريين، وفي الكوزمولوجيا الحديثة.

  • (ب)

    الإله الخالق في كلتا النظريتين عن نشأة الكون ونواميسه (الكوزمولوجيا) يخلق الأرباب من أعضائه.

  • (جـ)

    عدد الأرباب تسعة، وهو ما يتطابق مع عدد الكواكب التسعة الرئيسية، وتوضح لنا أوجه التشابه هذه أن لابلاس استمد فرضيته من فقه إلهيات ممفيس، أو من مصادر مصرية أخرى.

وطبيعي أن فقه إلهيات ممفيس، وحسب رواية فرانكفورت في كتابه «المغامرة الفكرية للإنسان القديم»، ص٥٤، لم يذكر شيئًا عن خلق الكواكب. ومع هذا فحيث إن الطريقة المصرية تمثَّلت في إخفاء الحقيقة عن طريق استخدام الأساطير وحكم وأمثال تلخص مبادئ سحرية «المنهج العلمي البدائي، وفلسفة العدد واللغة المقدسة الهيروغليفية»؛ فإن بالإمكان أن نتبين — في سهولة ويسر — أي الطرق التي استخدمت قبل أن نصل إلى ترجمة أفضل لفقه إلهيات ممفيس.

وعلى أية حال، فإن البنية العامة لفقه إلهيات ممفيس هي — في مجملها — بنية فلكية، وأي شيء يمكن أن يكون طبيعيًّا أكثر من توقع تأويل فلكي؟ ومن ثَم، فقد يبدو مقبولًا — عقلًا — النظر إلى التاسوع باعتباره نظامًا عن مركزية الشمس في التاريخ. أتوم الإله الشمس خلق ثمانية آلهة آخرين، أو الكواكب من جسده، وذلك باعتباره المحرك الذي لا يتحرك، وهذه رؤية منسوبة — زيفًا — إلى أرسطو.

(ب) التطابق بين أتوم Atum الإله الشمس المصري، وبين أتوم Atom الذرة في العلم الحديث

شيئان أود أن أبرزهما، فيما يختص بالعلاقة بين أتوم Atum الإله الشمس المصري، وبين الذرة Atom في العلم الحديث، هذان هما:

(۱) تشابه الصفات. (۲) تشابه منطوق الأسماء.

(١) تشابه الصفات

الإله المصري القديم أتوم يعني خالق ذاته بذاته، وخالق الوجود والعدم، وجماع المبادئ الأساسية السالبة والموجبة.

المحيط بكل شيء والفراغ، الصانع البارئ مالك قوى الخلق، الشمس الخالقة (انظر [٦٨]، ص٥٣؛ [۸۲]، ص۱۸۲).

وأتوم تعني — أيضًا — الكل، والذي لم يصبح وجودًا بعد ([۸۲]، ص١٦٨)، ويمثِّل أتوم Atum من حيث هو إله مبدأ الأضداد، وكذلك الذرة Atom في الفلسفة اليونانية هي أساس المادة. وحدد ديمقريطس معناها بقوله إنها حركة ذلك الذي أصبح موجودًا داخل ذلك الذي لم يصبح موجودًا بعد، أو لنقل إنها حركة الموجود وسط العدم. وهي — لذلك — تمثِّل مبدأ الأضداد، وتبين التطابق بين الإله الشمس المصري وبين قوام المادة. علاوة على هذا، فقد تحدد معنى الذرة بأنها «الملء والفراغ»، الوجود والعدم ([۲]، ص٣٨) وتتطابق هذه التعريفات مع كل الوجود والعدم والمحيط بكل شيء والفراغ، وهي صفات الإله الشمس المصري.

(٢) تشابه الأسماء بين الإله الشمس المصري أتوم وبين الذرة «أتوم» في العلم

والآن ونحن نتحدث عن التشابه بين هذين الاسمين حري بنا، أولًا أن نتذكر أن لكليهما صفات متطابقة، على نحو ما أشرنا من قبل. ومن ثَم نحن مضطرون إلى استنتاج أن ذرة العلم هي الاسم المطابق للإله الشمس المصري: أقدم الآلهة، فيما عدا الإله بتاح، الذي كان موجودًا مع أتوم عند الخلق. والشيء الثاني، الذي يتعين علينا أن نتذكره، هو حقيقة أن اسم الإله أتوم (الذي يُكتَب أحيانًا Atom بمعنى ذرة، وأحيانًا أخرى Atum) خاص بكوزمولوجيا أو بنظرية تفسير نشأة الكون ونواميسه، في فقه إلهيات ممفيس، والذي يرجع تاريخه إلى ٤٠٠٠ق.م. ولم يكن الإغريق معروفين في ذلك التاريخ. وبناءً عليه، لا مناص من استنتاج أن الإغريق حصلوا على الاسم الأصلي، وعلى صفات الإله الشمس أتوم من المصريين.

إضافة إلى ما سبق، لم يكن لدى الإغريق دراية باللغة المصرية خلال الفترة التاريخية الخاصة بما يُسمى الفلسفة اليونانية، والتي يرجع تاريخها إلى القرن السادس ق.م. ونتيجة لذلك، فقد نقلوا منطوق أحرف الكلمات المصرية، دون اعتبار لمشتقاتها القبطية. ونورد، فيما يلي، روايات هومير التي تؤكد صحة ممارسة الإغريق لعملية نقل منطوق أحرف الكلمات المصرية، وانتحال الأساطير المصرية.

  • (أ)

    يروي هومير أن بروتيوس كان إلهًا بحريًّا يطعم بلدته فوكاي على الشاطئ المصري، وأنه كان يتمتع بموهبة التنبؤ بالغيب الذي كان يمارسه اضطرارًا، ولكن بروتيوس كان فرعونًا مصريًّا ارتقى العرش خلفًا للفرعون فيرون بن سيزوستريس عقب وفاته، وكان بروتيوس معبودًا في ممفيس، والملاحظ أن الإغريق لم يكتفوا بترجمة منطوق أحرف اسم هذا الملك المصري، بل انتحلوه في الأسطورة ([۳۱]، ص۱۱، ۱۱۲).

  • (ب)
    وهناك بالمثل قصة يو الأميرة الأرجوسية (نسبة إلى أرجوس، وهي مدينة قديمة تقع في الجنوب الشرقي من بلاد اليونان. (المترجم)) التي تحوَّلت إلى بقرة صغيرة، وبعد تطواف — على غير هدى — وصلت إلى مصر، حيث أنجبت إلهًا، وحيث عبدوها هناك باعتبارها الإلهة إيزيس. هذه القصة تشير — بوضوح — إلى دخول عبادة الإلهة إيزيس أو أثور مرموزًا إليها ببقرة خلال فترة قديمة من تاريخ المدينة أرجوس. ويتعين أن نوضح هنا أن الاسم يو io هو الاسم القبطي للقمر، وأن الكلمة ذاتها بقيت في لهجة أرجوس، دون أي علاقة لها بأي جذر إغريقي. وكانت عادة الإغريق إضفاء الصبغة الهللينية على الكلمات المصرية، وذلك بنقل منطوق الأحرف المصرية وفقًا للنطق الإغريقي، وإضافتها إلى مفردات اللغة اليونانية.
  • (جـ)
    واستمرت عادة استعارة كلمات من البلدان المجاورة حتى زمن العهد القديم. ففي أعمال الرسل في العهد الجديد اليوناني، الإصحاح ١٣: الآية ١، نجد كلمة نيجر Niger (أي إنسان أسود) ضمن اسم سيمون الزنجي هي كلمة رومانية أو لاتينية Nigrum و Nigra و Niger وتعني أسود. وكان سيمون، بطبيعة الحال، أستاذًا مصريًّا التحق بكنيسة روما.

وذرة العلم، هي في واقع الأمر اسم الإله الشمس المصري، وقد انحدر إلى عصرنا الحديث عبر ما سُمِّي بالفلسفة اليونانية، ويحمل هذا الاسم نفس صفات الإله الشمس (انظر [۷]، ۱، ۲۹؛ [٢٤]، ج۲، ص٥–٢٥).

ملحوظة

يجب ألا ننسى أن ما نسميه — خطأ — الفلسفة اليونانية كان بداية العلم أو بداية بحث الطبيعة، ومن ثَم ليس لنا أن نفصل العلم الحديث عن الفلسفة اليونانية.

(٣) فقه إلهيات ممفيس يتيح إمكانات كبيرة للبحث العلمي الحديث

  • (أ)

    خطأ المفهوم الإغريقي لمعنى ذرة.

    اشتق اليونانيون — قديمًا — معنى الذرة من:
    • (١)
      ألفا Alpha أي من بادئة سالبة للكلمات تعني لا أو ليس.
    • (٢)
      من «تمنين Temnein» أي مصدر الفعل الحاضر من تمنو Tomno، وتعني يقطع. والاشتقاقان — معًا — في كلمة واحدة يعنيان ذلك الذي لا يمكن فصمه أو قطعه.

      وظل العالم — قرونًا طويلة — مضللًا بهذا الفهم الخاطئ للإغريق، وهذه حقيقة أعاقت — دون ريب — تقدم البحث الذري على أيدي الباحثين الغربيين الذين صدقوا المنشأ اليوناني للفلسفة أو العلم البدائي.

      ولكن المفهوم الإغريقي للذرة لم يعد مقبولًا اليوم، بعد أن نجح العلم في تحطيم الذرة.

  • (ب)

    أسرار علمية كبرى في فقه إلهيات ممفيس بحاجة إلى اكتشاف.

أعتقد أنه قد حان الوقت الذي يتسنى فيه للإنسان أن يكشف أغلب أسرار الطبيعة الخافية عنه حتى الآن، وقد أوضحت أن الفرض السديمي في العصر الحديث يتطابق مع تعاليم فقه إلهيات ممفيس، الذي يقول إن أتوم الإله الشمس خلق ثمانية آلهة آخرين، وألَّفوا — معًا، في وحدتهم مع الإله الأكبر — التاسوع المصري، الأمر الذي يتطابق مع الكواكب التسعة الكبرى في تعاليم العلم الحديث .

ونحن نعرف كذلك أنه ظهر زوج من الآلهة من بين العماء الكوني الأزلي ومحيط الماء الأزلي، وهذان الإلهان هما التل الأبدي وأتوم الإله الشمس. ونعرف أنه، من خلال اتصال أتوم بالتل، تلقى — سبحانه — قوةً خلق بها الكواكب الثمانية الرئيسية الأخرى، وهذا يشير في ظاهره إلى:

  • (١)

    الطاقة الذرية تولَّدت — أصلًا — من الماء والأرض، حيث إن أ يد ٢ واليورانيوم يمثِّلان مقومًا أساسيًّا لا غنى عنه في الطاقة الذرية، ونجده في باطن الأرض. ونلاحظ أن كلًّا من أتوم والتل صدرا عن محيط الماء الأزلي.

  • (٢)

    أربعة أزواج من الأرباب يمثلون مبدأي السالب والموجب لا يزالان في الماء في صورة ذكور وإناث الضفادع والثعابين، ويؤلفون أربعة أخماس أسرار الخلق التي يتعين على الإنسان سبر أغوارها.

  • (٣)

    البحث العلمي الناجح في مبادئ وأسرار الطبيعة يكمن في دراسة فقه إلهيات ممفيس، والذي يستلزم تأويل طلاسمه ورموزه الاستعانة بمفتاح مبادئ السحر.

    ويستطيع رجال العلم، بفضل هذا النهج، أن يفتحوا الأبواب المغلقة دون أسرار الطبيعة؛ وبذا يغدون أمناء على معارف لا حدود لها.

ههذا هو تراث القارة الأفريقية إلى أمم العالم. لقد أرست هذه القارة الأسس الثقافية للتقدم الحديث، ومن ثَم، فإنها — هي وأهلها — جديرون بالتكريم والثناء اللذين أُسبِغا — زيفًا — على اليونانيين القدماء، قرونًا طويلة. كذلك فإن الهدف من هذا الكتاب أن يجعل من هذا الكشف المفاجأة بداية لحركة إصلاح عالمية فيما يخص العلاقات بين الأعراق.

وإني على ثقة من أن هذا الإصلاح سيكون بداية لحل مشكلة القلاقل العالمية.

١  فرض يفسر نشأة الكون، ويقضي بأن النظام الشمسي (أو الأجرام السماوية بعامة) تطورت عن سديم مخلخل البنية. والمصطلح تعبير عن فرضية لابلاس، الذي قال إن الكواكب تكوَّنت من سديم غازي متقد أو ملتهب. وإن كان الفيلسوف الألماني كانط قد افترض أن الكواكب نشأت من سديم غبار كوني، ولا تزال هذه الفرضية قائمة في تفسير النشأة الطبيعية للأجرام السماوية وغيرها من مواد كونية مثل الغبار والغاز. (المترجم)
٢  لم نشأ مناقشة هذا الرأي على الرغم مما فيه من مفارقة تاريخية، وإغفال صارخ لأسباب وظروف وتاريخية نشأة وتطور الفروض والنظريات العلمية الحديثة. ولكن تركنا حديث المؤلف على علَّاته دون نقد، خاصة وأن هذا ليس هو بيت القصيد من الكتاب، وإن كان المؤلف لا يعني أن المصريين القدماء تحدثوا بلسان علوم عصرنا الحديث. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤