نهاية جاسون

وصل جاسون إلى وطنه يحمل الجِزَّة الذهبية بعد أن لاقى ما رأينا، ولكنه لم يتمكن من اعتلاء عرش أيولكوس، الذي من أجله قام هو وأشهر أبطال الإغريق بهذه الرحلة الشاقة المليئة بالمغامرات الخطيرة، ولما كان قد أخذ ميديا من أبيها، وقتل أخاها أبسورتوس بالخداع … فقد اضطر إلى ترك العرش لأكاستوس Acastus بن بیلیاس، والفرار مع زوجته الشابة الفاتنة إلى كورنثة، حيث عاشا في سعادةٍ ما بعدها سعادةٌ عشرَ سنوات، أنجبا خلالها ثلاثة أبناء أكبرهم توءمان سمیاهما ثيسالوس Thessalus وألكيمينيس Alcimenes، والثالث تیساندر Tisander، ويصغُر أخويه بكثير.

طوال هذه السنوات العشر تمتع الزوجان بكئوس الحب مُتْرَعةً، وخلعا عذارهما، وأرسلا للهو عِنانهما، فكانت میدیا تسيطر على جَنان جاسون، وتتحكم في قلبه وفؤاده، فأنزلها من نفسه أحسن منزلة، ليس لجمالها الفتان فحسب، بل لسرعة بديهتها وعقلها الراجح.

بعد هذه المدة عصف الدهر بسعادتهما وألقى بحبهما في مهب الريح، فقد وقع جاسون في حبائل غرام فتاة جميلة صغيرة تُدعى جلاوكي بنة كريون ملك كورنثة؛ إذ كانت خارقة الأنوثة، سامقة القوام، بارعة الجمال، وفوق ذلك كانت فتاة لَعوبًا، رنَتْ إليه بلحظها فسقط في الشَّرَك، وصار يتردد عليها خلسةً دون علم زوجه، يسترق ساعات الحب الحلوة ومیدیا لا تعرف، وسَرعان ما علم والدُ الفتاة بأمرهما، فوافق على زواجهما وحدد يومًا للزفاف، عند ذلك فقط أخبر جاسون زوجته وطلب إليها أن توافق على زواجه بمن خلبت لُبَّه وملكت شِغاف قلبه، قائلًا إن هذا الزواج ليس لأنه قد سئم زوجته التي سيكون لها حبُّه الأول، وإنما لما في هذا الزواج من فائدة لأبنائه عندما يغدو نسيبًا للبيت المالك.

استقبلت میدیا رغبة جاسون بحقد ثائر، وبغضب هائج، فنادت الآلهة لتشهد على حِنْثه بالوعود التي أقسم لها بها عندما كان في حاجة إلى معاونتها، ولكن جاسون تجاهل ثورتها وصمَّم على المُضي فيما هو مقدِم عليه.

هامت میديا في رحاب قصر زوجها بعد أن يئست من أن تُثنيه عن عزمه، وكانت تصيح قائلة: «ویحي! ويحي! ما أشقاني! لیت صاعقةً تهبط من السماء فتصرعني وتقضي عليَّ! ما فائدة الحياة بعد ذلك؟ أوَّاه! لو أن الموت يرحمني! أيْ أبي الذي خالفتُه! أي وطني الذي تركتُه وأنا ملطخة بالعار! أي أخي الذي قتلته من أجل ذلك الذي خانني! إن دمه المسفوك ظلمًا لَيهاجمني الآن، لیس لزوجي جاسون أن يكون هو من يعاقبني على ما اقترفت من آثام وخطایا، إنني من أجله أجرمت، أي ربةَ العدالة، الآن يحق لي أن أناديك وأطلب منك أن تحطميه هو وعروسه الشابة.»

ذهب الملك كريون إلى میدیا وهي ثائرة تحوم في حجرات القصر وساحاته، وقال لها: «أنت يا ذات العيون الخابية، يا من تصبِّين جام غضبك على زوجك، إنني آمُرك أن تأخذي أولادك وتغادري بلادي فورًا، في هذه اللحظة، فلن أعود إلى قصري إلا بعد أن أكون قد أقصيتك خارج حدود بلادي.»

كظمت میدیا غيظها وأجابت بجأش رابط قائلة: «لِمَ تخشى الآن مني الأذى ولم يسبق لك أن أسأتَ إليَّ قط ولستَ مدینًا لي بشيء؟! لقد أعطيت رجلًا حاز إعجابك ابنتك، فكيف أصبح شاغلك الشاغل؟ إنني أمقت الآن زوجي الذي يدين لي بكل شيء، ولكن ما حدث قد حدث، ولا بد مما ليس منه بُدٌّ، دعهما يعيشان الآن معًا، زوجًا وزوجة، ودعني أقيم في وطنك؛ لأنه برغم ما لحقني من أذًى بالغ، فسوف ألزم الصمت وأخضع لمن هم أقوى مني.»

أبصر كریون علامات الحقد تتجلى واضحةً في عينيها، فلم يثق بها، حتى عندما أمسكت بركبتيه وتوسلت إليه باسم ابنته جلاوكي غريمتِها، فقال لها: «اذهبي بعيدًا عن مملكتي وخلِّصیني من القلق.» بيد أنه عندما طلبت منه أن يؤجل رحيلها يومًا واحدًا فقط حتى تبحث عن مأوًى لأبنائها، أجاب: «لست فظًّا غليظ القلب، وكثيرًا ما استسلمت في حُمْق مخدوعًا بشفقةٍ ليست في وضعها وتصرفت تصرفًا ضارًّا، والآن كذلك أُحس بأنني لا أتصرف بحكمة، ومع ذلك، فلك ما تشائين.»

ما إن أُجيبت میدیا إلى طلبها، حتى جُنَّ جنونها، وأعدت العُدة للقيام بعمل وضعت خطته سرًّا، ولم تكن قد فكرت في ذلك العمل من قبل، ومن ثَم، قبل أن تُقدم على فَعلتها، حاولت محاولة أخيرة أن تقنع زوجها بالعدول عن عدم وفائه وظلمه قائلة: «لقد خدعتني، وستتخذ زوجة أخرى دون أن تهتم بالحقيقة الواقعة من أنني قد أنجبت لك أبناء، كان يحق لك ذلك لو كنت بغير أطفال، وكنت عندئذٍ أستطيع أن أصفح عنك، وكان من الممكن أن يكون لك بعضُ العذر، وحيث إن لك أبناء، فلا عذر لك على الإطلاق، هل تعتقد أن الآلهة التي تحكم العالم والتي شهدت على قَسَمك لي بالوفاء والإخلاص، لم تعد موجودة؟ أو أن الناس أصبحوا يعيشون وَفقَ قوانین جديدة، حتى تحنَث في وعدك، وتحطم بيت الزوجية بيديك؟ خبِّرني، كما لو كنتُ صديقًا لك، إلى أين تنصحني أن أذهب؟ هل أعود إلى أبي الذي خدعتُه وقتلت ابنَه من أجل حبي لك؟ أو إلى أي ملجأ آخر تقترحه عليَّ؟ حقًّا إن تشرُّد الزوجة الأولى وأولادك منها خلال العالم كشحاذين سيضيف مجدًا إلى الزوجين الجديدين!»

بيد أن جاسون تركها كمن تَهذي، فندمت على كلماتها الأخيرة هذه، لا لأن هدفها قد تغير، بل لأنها خافت أن يضع عينًا عليها ويراقبها، فيحول بينها وبين تنفيذ خطتها الآثمة … فأرسلت تستدعيه من جديد، وتظاهرت بشيء من الرقة واللطف والدَّعَة بمعسول الألفاظ قائلة: «أيْ جاسون، أرجو أن تصفح عما بدر مني، لقد أعماني الحقد والغضب، أما الآن فإنني أرى جيدًا أن كل ما فعلته يهدف إلى خير النتائج، لقد قَدِمنا إلى هذه البلاد لاجئين معدِمين، وبزواجك الجديد هذا، تتوقع أن تسد حاجة نفسك وحاجة أولادك، وحتى حاجتي أنا … وعندما نبتعد عنك فترة وجيزة، ستتذكر أبناءك، وتُرسل تستدعيهم ليشاركوك الثروة المنتظرة؛ تعالوا يا أبنائي، وتناسوا شكواكم من أبيكم كما فعلت أنا.»

انطلى البهتان على جاسون، وصدَّق أنها خلعت من فؤادها كل ضغينة وحقد، فسُرَّ سرورًا عظيمًا وبالغ في الوعود لها ولأطفالها، ثم رحلت ميديا لتزيد في إقناعه بولائها وإخلاصها له، ولكي تحظى بحب جلاوكي وأبيها، ولتبرهن على نقاء ضميرها، أخرجت ثيابًا ثمينة موشَّاة بالذهب، كانت تحتفظ بها، وقدمتها لجاسون كي يأخذها هدية لعروسه، فتردَّد جاسون بادئَ ذي بدء، ولكنه قَبِل أخيرًا، فأمر خادمًا بحمل الهدايا لزوجته الجديدة.

كانت هذه الثياب الجميلة مصنوعة من منسوج نُقِع في السم، وعندما ودعت میدیا زوجها وداعًا حارًّا ظلت تنتظر قلقةً عودةَ الرسول الذي حمل الملابس؛ ليخبرها كيف استقبلت هداياها … وأخيرًا أقبل وناداها قائلًا: «أسرعي يا میدیا، واركبي سفينتك وانجي بحياتك وحياة أولادك، فقد ماتت غريمتك هي وأبوها … وقد حدث عندما دخل أبناؤك القصر إلى جانب أبيهم؛ أن هللنا نحن الخدم بانتهاء الصراع، وتلقت الأميرة الصغيرة زوجك بشفاه باسمة، ويد مرحبة، ووجه يتهلل بِشرًا وبهجة وسرورًا؛ بيد أنها ما إن شاهدت الأبناء حتى غطت عينيها بخمارها وأشاحت بوجهها عنه؛ كما لو كانت تستنكر وجودهم، ولقد حاول جاسون تهدئتها وأثنى على خلق أبنائه، ثم قدم إليها الهدايا، فملأ منظر الثياب الخلابة قلبَها غبطة وسرورًا، فرقَّت شمائلها، ووعدت زوجها بأن توافق على جميع رغباته، فلما تركها زوجك وأبناؤك، هرعت في شوق جارف إلى الثوب الجميل الأنيق، ووضعت الوشاح الذهبي على كتفيها، وتوَّجت رأسها بإكليل الذهب، وراحت تنظر في سرور إلى الطيف المشرق نحوها من مرآتها الصافية، ثم جعلت تمشي بعد ذلك في ساحات القصر؛ فخورًا بتلك الثياب كما يفخر الطفل بردائه الجديد … غير أنه سرعان ما تغيرت ملامحها وامتُقع لونها، وارتعشت أطرافها، وترنحت أقدامها، وقبل أن تستطيع الوصول إلى مقعد، سقطت على الأرض بلا حراك، وذَوى اللونُ من وجهها، وغارت عيناها وانقلبتا فلم يعد يُرى منهما غير بياضهما، كما تراكم الزَّبَد حول شفتيها، ودوَّى القصر بالصراخ والعويل، فأسرع بعض الخدم إلى الملك ينبئونه بالخطر المحدِق بها، كما هرع البعض الآخر إلى زوجها يطيِّرون إليه الخبر … وفي نفس الوقت اشتعل إكليل النار السحري حول رأسها، وتراقصت منه ألسنة اللهب عاليةً في الفضاء، وراح السم والنيران يتصارعان على لحمها، وكان أبوها قد حضر فارتمى عليها ليخلصها مما هي فيه، وهو يصرخ صراخًا عاليًا، ولكنه لم يجد غير جثة مشوهة، وفي نوبة من اليأس ألقى بنفسه فوقها، فأعمل فيه السمُّ مفعوله، فتردَّى حيث هو … أما جاسون فلست أعلم عنه شيئًا.»

كان يجب أن تخفَّ حدة حقد میدیا عند سماع تلك الأنباء، ولكنها على العكس زادتها حقدًا، وأشعلت نيران البغضاء في قلبها، وكَرَبَّة من ربات الانتقام، خرجت لتصوب الضربة القاضية إلى زوجها وإلى نفسها.

كان الليل قد أقبل، فأسرعت إلى حجرتها حيث كان أولادها نائمين، وتمتمت قائلة: «تجلَّدْ یا قلبي، لِمَ ترتجف من فعل الشر الذي لابد منه؟ امحُ من مخيِّلتك أن هؤلاء أولادُك الذين حملتهم، انسَ ذلك لمدة ساعة فقط، وبعد ذلك لتبكِ عليهم أبد الدهر … إنك تقدم لهم خدمة جليلة، فبيدي لا بيد أعدائي.»

أسرع جاسون إلى بيته يطلب قاتلة عروسه لينتقم منها، فسمع صيحات أبنائه، فجرى مسرعًا إلى حجرتهم ليجدهم مضرَّجين بدمائهم وقد ذُبحوا كما تُذبح التَّقْدِمات على المذبح، ولم يرَ میدیا في أي مكان .. غير أنه عندما ترك بيته، سمع صوتًا مقبلًا من فوق، فرفع بصره، فإذا هو يراها في عربة يجرُّها تنين ضخم، استطاع فنها السحري أن يحصل عليها، فركبت الريح بعيدًا عن مسرح انتقامها.

لقد نجت میدیا من انتقام زوجها، الذي امتلأ قلبه باليأس وتذكر كيف قتل أبسورتوس، فاستل سيفه البتار، وقتل نفسه على عتبة داره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤