ليس حلمًا

لم تكن «لوزة» تُصدِّق نفسها … كانت تقول هامسة: إنني أحلم … ليس كل هذا حقيقة … إنه مجرَّد وهم!

ثم مالت «لوزة» على «نوسة» قائلة: «نوسة» … اقرصيني من فضلك!

قالت «نوسة» مندهشة، وهي تنظر إلى البحر أمامها: أقرصك؟! لماذا؟!

لوزة: حتى أتأكَّد أنني في علم … ولست في حلم!

ابتسمت «نوسة» قائلة: أنتِ غير مُصدِّقةٍ أننا مسافرون في رحلة إلى خارج مصر العزيزة … أليس كذلك؟

لوزة: بالضبط.

نوسة: ولكننا مسافرون فعلًا … هذا هو البحر … هذه هي السفينة «سوريا» التي سنركبها … هذا هو «تختخ» و«محب» و«عاطف»، والمفتش «سامي» يتحدَّث إليهم … هذا هو أبي … ووالدك ووالد «تختخ»، وأمهاتنا أيضًا في وداعنا … هل كل هذا حلم؟

لوزة: إن ما يجعله أشبه بالحلم أن هؤلاء الذين يُودِّعوننا قد عارضوا في سفرنا طويلًا … حتى المفتش «سامي» عارض.

«نوسة» مبتسمة: ولكننا انتصرنا … وها نحن أولاء في المحطة البحرية بالإسكندرية، وقد انتهت إجراءات السفر كلها … وبعد دقائق ستتحرَّك السفينة، وتُفارق الرصيف، وتنطلق إلى عرض البحر … وبعد يومَين نكون في ميناء «بيريه» في اليونان … وبعدها بثلاثة أيام نكون في «فينسيا» بإيطاليا.

لوزة: حلم … حلم … كل هذا حلم!

وبدأ صفُّ رُكَّاب السفينة «سوريا» يتحرَّك إلى داخلها … كان على مدخل السفينة عند نهاية السلم عددٌ من الضبَّاط يقومون بتسلُّم جوازات السفر … والركَّاب الذين صعدوا إلى سطح السفينة يقفون، وهم يُلوِّحون بمناديلهم للمودِّعين.

ووجدت «لوزة» نفسها بين ذراعَي والدها يُقبِّلها … ثم بين ذراعَي أمها …

ثم وجدت نفسها تسير مع طابور الركَّاب، صاعدةً إلى سطح السفينة «سوريا» … وبعد لحظاتٍ كانت على السفينة مع بقية المسافرين …

وأخذت سلسلة «الهلْب» الضخمة ترتفع من الماء مزمجرة، ثم أطلقت السفينة صُفَّارتها الطويلة الحزينة … وبدأت تستدير، ويتجه مقدَّمها إلى البحر. وأخذت «لوزة» ترقب صفوف المودِّعين وهم يتضاءلون تدريجيًّا … ويبتعدون حتى اختفوا تمامًا، إلا الفستان الأزرق الذي كانت ترتديه والدتها … كان يبدو من بعيدٍ وكأنه زهرة زرقاء على رصيف الميناء.

ورأت «لوزة» ميناء الإسكندرية لأول مرة من البحر … الشاطئ الطويل الذي يُشبه القوس … العمارات الشاهقة … صواري السفن الواقفة بالميناء … وأحسَّت كم هي جميلةٌ ونظيفةٌ ورائعة مدينة الإسكندرية … المدينة التي أحبَّتها دائمًا من كل قلبها.

والتفتت «لوزة» إلى الأصدقاء … ووجدتهم جميعًا ينظرون إليها … لقد كانت أصغرهم … ولكنها شجاعةٌ حتى تتحمَّس لهذه المغامرة … مغامرة السفر إلى خارج مصر.

وتبادل الأصدقاء الخمسة النظرات … ثم مدُّوا أيديهم وأخذوا يتصافحون … لقد انتصروا … واستطاعوا إقناع آبائهم وأمهاتهم بتلبية الدعوة التي وجَّهها لهم عم «تختخ» الذي يُقيم في مدينة «ميلانو» بإيطاليا.

أخذت السفينة تزيد من سرعتها تدريجيًّا … وبدأت الإسكندرية تختفي شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت كخط أسود على صفحة المياه الزرقاء.

وتحدَّث «تختخ» لأول مرة قائلًا: تعالَوا نبحث عن «القمرة» التي سننزل فيها.

محب: إنهما قُمرتان … واحدة ﻟ «عاطف» و«نوسة» و«لوزة»، وواحدة لكِ ولي.

تختخ: تمامًا.

لوزة: وما معنى قُمرة يا «تختخ»؟

تختخ: إنها غرفةٌ في السفينة … ويقولون عنها بالإنجليزية «كابين».

وسأل الأصدقاء عن مكان القمرتَين … ووجدوهما في الدور الثاني في الدرجة السياحية، وكانتا رقمَي «٤» و«٦» … وأخذ الأصدقاء يفتحون حقائبهم، ويُرتِّبون ملابسهم، وقالت «نوسة»: إن هذه القُمرات ضيِّقة … ولكنها مريحة.

عاطف: سأترك لكما الفراشَين، وسأنام على الأرض.

وكانت كل قُمرة بها سريران … أحدهما يعلو الآخر … وحوض ومائدة صغيرة وكرسي واحد … ونافذة مستديرة كانت تُطلُّ على المياه مباشرة، حتى ظنَّت «لوزة» أنها لو مدَّت يدها لتحسَّست المياه فورًا.

وانتهَوا جميعًا من ترتيب أشيائهم، وقال «تختخ» وهو ينظر في ساعته: الساعة الآن السادسة والنصف … وبعد قليلٍ ستغرب الشمس … تعالَوا نشاهد غروبها فهو مشهدٌ طبيعيٌّ أخَّاذ …

وأسرعوا يصعدون السلَّم الحلزوني المزدحم، وكان بعض الركَّاب يجلسون في طرقات السفينة على السطح، فسألت «لوزة»: لماذا يجلسون هكذا يا «تختخ»؟

فردَّ «تختخ» قائلًا: هؤلاء هم رُكَّاب السطح … فالسفينة تنقسم إلى ثلاث درجات؛ درجة أولى … ودرجة ثانية أو سياحية، وركَّاب السطح، وهم الذين ينامون على السطح، وليس لهم قُمرات … وهم يدفعون بالطبع مبلغًا أقلَّ من رُكَّاب الدرجة الأولى والسياحية. وقد فكَّرتُ أن نكون من بين رُكَّاب السطح، لولا أن خفت عليكم من البرد ليلًا.

لوزة: هل ينامون على السطح أيضًا؟

تختخ: طبعًا … وكلٌّ منهم يأتي معه عادةً ببطانية … وأحيانًا يستطيع الحصول على كرسي طويل (شيزلونج) يتمدَّد عليه.

وصعد الأصدقاء إلى فوق … وكان هناك عددٌ كبير من الركَّاب قد وقفوا على جانب السفينة، ينظرون إلى الأفق البعيد … وقد بدت الشمس في جانب السماء تهوي مسرعةً ككرة كبيرة من النار … تنطفئ في البحر.

كانت الإسكندرية قد غابت تمامًا خلف الأفق … وأمست السفينة تشقُّ طريقها في مياه تُحيط بها من كل جانب … وبدا ﻟ «نوسة» التي تُحب التأمُّل والتفكير أنهم في عالمٍ خياليٍّ مصبوغ باللون الأزرق.

قال «عاطف» وهو يرتكز بذراعه على حاجز السفينة، مُحدِّقًا في البحر: هذه أول إجازة صيف نقضيها بلا مغامراتٍ ولا ألغاز … إننا نرتاح فقط … ونرجو أن نقضي وقتًا طيِّبًا في «فينسيا» و«ميلانو».

محب: إن إجازتنا خمسة عشر يومًا … وكم أتمنَّى أن نستطيع إطالتها فترةً أخرى!

قالت «لوزة»: ولكن كيف تهتدي السفينة إلى طريقها، وليس هناك بر ولا شيء يدلها؟

محب: هناك أولًا البوصْلَة، وهي تُحدِّد الجهات الأصلية الأربعة … الشمال والجنوب والشرق والغرب … وهناك خرائط ملاحية عند رُبَّان السفينة تُحدِّد مسار السفينة كما تُحدِّد القضبان للقطار طريقه.

لوزة: ولكن هذه اختراعات حديثة، فكيف كان الملَّاحون قديمًا يعرفون طريقهم؟

محب: بواسطة النجوم …

كان «تختخ» يقف وحده سارحًا يتأمَّل البحر … وينظر إلى الركَّاب في تأمُّل، وفي ذهنه ما قاله له المفتش «سامي» … لقد أخطره المفتش قبل أن يُغادر الميناء بقصةٍ عجيبة … مثيرة … وترك له حرية إخطار الأصدقاء بها أو إخفائها عنهم، حتى لا تتبدَّد إجازتهم … والتفتَ «تختخ» إلى الأصدقاء … كانوا جميعًا ينظرون إلى البحر في ابتهاج … إنها أول مرة يُغادرون فيها الوطن … وهو باعتباره أكبرهم كان يُحسُّ بالمسئولية … يجب أن يعودوا سالمين إلى الوطن بعد انتهاء الرحلة.

وأخذ «تختخ» ينظر إلى الركَّاب … كانوا يُكوِّنون حلقات يتحدَّثون … إنهم خليطٌ عجيبٌ من مختلِف الأجناس والجنسيات … إنجليز … وأمريكان … وإيطاليون ويونانيون وأفريقيون وغيرهم … وكان بينهم عددٌ كبيرٌ من المصريين أيضًا …

وحول حوض السباحة في السطح الخلفي للسفينة كان عدد من الركَّاب يلبسون ثيابًا خفيفة … ويتحدَّثون بمرح … وفي الطابق الأول حيث ركَّاب الدرجة الأولى، كان هناك «كازينو» مكشوف تصدح فيه الموسيقى … وكان «تختخ» يفحص وجوه الركَّاب جميعًا، وفي ذهنه سؤال هام … هام جدًّا … من هو بين كل هؤلاء؟

هو؟

هو الذي تحدَّث عنه المفتش «سامي» … وطلب منه أن يأخذ باله منه جيدًا … فهذا الآخر سوف يتصل به في وقت ما … ليلًا أو نهارًا … وسيقول له كلمة السر … كلمة السر التي يجب أن يُخفيها عن كل الناس … وعندما يقول له كلمة السر فعليه أن يتعاون معه … فهناك مغامرةٌ كبرى على ظهر السفينة! وقطَع على «تختخ» حبل تفكيره صوت «نوسة» وهي تسأله: ما لك تبدو مشغولًا يا «تختخ»؟ إنك لم تنطق بكلمةٍ واحدةٍ منذ ركبنا السفينة!

ردَّ «تختخ» مسرعًا وهو يُحاول إخفاء ارتباكه: إنني … إنني أتأمَّل الغروب … إنه لوحةٌ من عمل الفنَّان الأعظم … الله … لوحة لا تستطيع يد إنسان أن تُقلِّدها.

قال «عاطف» مبتسمًا: الله! … ما هذا الشعر؟ … إنك شاعر، وإن كنت «أتخن» الشعراء.

قالت «لوزة»: إنه منظرٌ طبيعيٌّ رائعٌ فعلًا … فليس هناك إلا الأفق … والشمس الغاربة … والبحر …

محب: دعونا من هذا كله … وتعالَوا نعرف مواعيد الطعام … فإنني جائع حقًّا.

تختخ: سوف يمر أحد عُمَّال السفينة يدق صينيةً من النحاس، معلنًا موعد الطعام قبله بدقائق … وعلى كل حالٍ فإن الإفطار كما علمتُ في الثامنة … والغداء في الثانية، والعشاء في السابعة.

محب: ومن السابعة حتى موعد النوم … أليس هناك طعام؟

تختخ: لا طبعًا … هذه هي الوجبات الثلاث التي تُقدِّمها السفينة مجانًا مقابل التذكرة … فإذا أردتَ طعامًا آخر فعندك «البوفيه»، وعليك أن تدفع الثمن.

وفي هذه اللحظة مرَّ بهما شخصٌ ضخم، اضطرته حركة السفينة أن يميل، فيدوس على قدم «تختخ»، فصاح هذا متوجِّعًا، فأخذ الرجل يربت على كتفه معتذرًا قائلًا في لغةٍ عربيةٍ ركيكة: آسف … إنني آسف … لم أكصد!

ونظر إلى «تختخ» طويلًا … ونظر إليه «تختخ»، وتذكَّر الرجلَ الذي وصفه له المفتش … إنه ضخمٌ أيضًا … ويتحدَّث العربية بلكنة أجنبية … فهل هذا هو؟ وهل يقول له كلمة السر؟ … ولكن الرجل مضى دون أن يقول شيئًا سوى الاعتذار … وأخذ «تختخ» يدلك قدمه الوَجعة، ثم سمعوا الدق على الصينية النحاسية … لقد جاء وقت العشاء … وانطلقوا جميعًا مع بقية الركَّاب إلى قاعة الطعام الواسعة … وسرعان ما كانوا يتناولون أول وجبة لهم على ظهر السفينة … وقد ارتفعت أصوات الملاعق والسكاكين والأطباق، وكثرت حركة الطبَّاخين والسفرجية …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤