رسالة في الليل

صعد الأصدقاء إلى السطح بعد الانتهاء من العشاء. كان البحر ساكنًا، والسفينة تمضي، وصوت آلاتها يهدر في الصمت … والهواء رقيقٌ بارد … وموسيقى خفيفة تأتي من السطح العلوي … وقمرٌ صغير يُضيء المياه، وتمتدُّ أشعته إلى السفينة على سطح البحر، وكأنه مربوط إليها بخيوطٍ من الفضة.

قال «تختخ»: إنه شيء يُشبه الحلم فعلًا … قمر وبحر ونجوم … ورحلة في الليل إلى أوروبا …

نوسة: شيء رائع حقًّا … سنرتاح تمامًا … نستريح من الألغاز أيضًا.

تختخ: وما يُدريك؟

نوسة: أتقصد أننا قد نعثر على لغز؟

تختخ: ممكن طبعًا … ممكن جدًّا.

لوزة: إن ذلك لَيكون في منتهى الإثارة … رحلة ولغز معًا!

عاطف: ألَا تكفيك الألغاز الماضية؟! ألَا تشبعين؟!

لوزة: إنه لَشيءٌ مثير أن تعثر على سرٍّ … ثم تُحاول حلَّه، وتستطيع أن تصل إلى الحقيقة.

محب: إن الوصول إلى الحقيقة هو هدف كل الناس.

وصمتوا واستسلموا إلى الموسيقى … وعاد «تختخ» يُفكِّر في حديث المفتش «سامي»، وهو يقول له: سيتصل بك إنسانٌ ما … لا أعرف شكلَه بالضبط، ولكنه شابٌّ إيطاليٌّ يتحدَّث العربية … طويل القامة … سيقول لكَ كلمةَ السِّر … فساعِده؛ فهو في مُهمَّةٍ خطيرة …

وأخذ «تختخ» يقول لنفسه: أأقول للأصدقاء الآن … أم أنتظر حتى يتصل بي الرجل؟ … وهل يتصل؟ ومتى؟

وفضَّل الانتظار حتى لا يشغلهم بشيء قد لا يحدث … وقالت «نوسة»: تعالَوا نجلس فقد تعبت من الوقوف.

وبحثوا عن مكان قريب … وكان هناك عدد من الشبَّان يرقصون على الموسيقى، وقد ارتفع ضجيجهم … وسيدة عجوز تجلس وحدها، وقد وضعتْ على ركبتَيها بطانيةً تتَّقي بها برد الليل … كانت تنظر إلى حلقة الرقص في ضيق.

قال «تختخ» في نفسه: لعل الرجل لا يُريد أن يتحدَّث إليَّ في وجود الأصدقاء … ولعله يُراقبني الآن، وينتظر أن أكون وحيدًا فيكلمني …

والتفت إلى الأصدقاء قائلًا: سأذهب في جولةٍ في أرجاء السفينة، وسأعود إليكم بعد قليل.

وانطلق وحيدًا على السطح، حتى وصل إلى مقدمة السفينة حيث رُصَّت كميات ضخمة من البضائع. أخذ يسير بينها محاذرًا، حتى وصل إلى آخر السفينة، ووقف قليلًا، ثم استدار، ومضى على الجانب الأيسر … ووجد سُلَّمًا ينزل إلى قلب السفينة فنزل، وأحسَّ بالحر في داخل السفينة، وشمَّ رائحة الطعام، وقابل سُلَّمًا آخر فنزل دون أن يدري إلى أين … ووجد نفسه قرب قاع السفينة حيث ينام البحَّارة والمهندسون وغيرهم من العاملين في تسيير السفينة … وارتفع دويُّ الآلات … وتذكَّر جزءًا آخَر من حديث المفتش «سامي»: لقد أرسلتُ إلى الرجل الإيطالي — وهو مُفتِّش بالشرطة الإيطالية — ورقةً بها أوصافك … وقلتُ له إنه يمكن أن يعتمد عليك … إن الإيطالي اسمه «باولو» … لا تنسَ هذا الاسم، «باولو» … وكلمة السر هي «كلب البحر»!

«كلب البحر» … هذه هي كلمة السر … وهي في الوقت نفسه اسم أطلقه رجال الشرطة في العالم كله على مُهرِّبٍ خطير … مهرِّب عجيب لا يعمل إلا في البحر … وله عصابةٌ قوية تُساعده … لا أحد يعرف شكله ولا اسمه الحقيقي … ولهذا أطلقوا عليه اسم «كلب البحر» … ربما لأن كلب البحر سريعٌ في السباحة … وهذا المُهرِّب سريعٌ في الهرب … وقد وصل إلى البوليس الإيطالي خبرٌ يقول إن «كلب البحر» سيركب السفينة «سوريا» من الإسكندرية، وأُرسل المفتش «باولو» لمراقبته، ولكنهم لا يعرفون اسمه ولا شكله … إنه واحد من ٢٠٠ راكب تحملهم السفينة … فمن هو؟ إن مُهمَّة «باولو» معرفة شخصية «كلب البحر» … ولهذا فإن «باولو» متخفٍّ هو الآخر … و«تختخ» لا يعرف «باولو»، ولا يعرف «كلب البحر» … كل ما عليه أن ينتظر حتى يتصل به «باولو» ويقول له كلمة السر … ثم يبدآن في العمل معًا.

قال له المفتش «سامي» أيضًا: إن «كلب البحر» مهرِّبٌ خطير … وعصابته قوية … وأنت حرٌّ في أن تتدخَّل أو لا تتدخَّل … وأنت حرٌّ أيضًا في إشراك بقية المغامرين في هذه المغامرة الخطرة … إنني أثق فيك وفي حسن تقديرك …

وقطع حبلَ أفكاره ظهورُ أحد مهندسي الباخرة وهو يمسح يدَيه في قطعةٍ من القطن، ونظر الرجل إلى «تختخ» وبادره بالسؤال: ماذا تفعل هنا أيها الأخ؟!

تختخ: إنني أتجوَّل …

المهندس: هذا ممنوع تمامًا … ممنوع أن ينزل الركَّاب إلى عنابر البحَّارة أو قريبًا من الآلات.

تختخ: آسف … الحقيقة أنني ضللت طريقي … ووجدت سُلَّمًا فنزلت.

المهندس: تعالَ معي.

ومشى المهندس أمامه … وصعد سُلَّمًا، ثم آخر … ووجد «تختخ» نفسه مرةً أخرى على ظهر الباخرة … ومضى ينظر في وجه كل من يُقابله … لا بد أن أحدهم هو «باولو» … والآخر «كلب البحر» … ولكن من فيهم؟ هذه هي المشكلة!

ووصل إلى حيث كان الأصدقاء … وكان «عاطف» المرِح قد اشترك في حلقة الرقص … كان يرقص برشاقةٍ مع فتاةٍ في مثل سنه … وبقية الأصدقاء يقفون حول الراقصين يبتسمون.

وقال «تختخ» في نفسه: إنهم سعداء … فلا داعي لأن أشغلهم ﺑ «باولو» أو «كلب البحر» … فإذا وجدتُ أنني أستطيع أن أتصرَّف وحدي فلن أقول لهم شيئًا.

واقتربت الساعة من التاسعة والنصف … وانتهى «عاطف» من رقصته، وأخذوا جميعًا يتبادلون النكات والضحكات، ثم نزلوا إلى الدور الأول حيث توجد قُمرات النوم … وكانت الممرَّات حافلةً بالركَّاب … كلهم متجهون إلى أماكنهم … ودخل «تختخ» و«محب» قُمرتهما … ودخلت «نوسة» و«لوزة» و«عاطف» القُمرة الثانية، وتمنَّوا جميعًا بعضهم لبعضٍ نومًا هادئًا، ثم أُغلقت الأبواب.

قال «محب»: هل تنام في السرير العلوي؟

تختخ: أُفضِّل أن أنام في السرير الأسفل … فقد أحتاج إلى الخروج مرةً أخرى، فلا داعي لإزعاجك.

محب: لماذا تخرج؟

تختخ: إنني أُحب التجوُّل ليلًا كما تعرف.

محب: لقد لاحظتُ أنكَ مشغول البال قليلًا … أليس كذلك؟

تختخ: فعلًا …

محب: لماذا؟

تختخ: لا داعي لأن أقول لكَ الآن … فقد يتَّضح في النهاية أني مشغول البال بلا شيء.

وخلع الصديقان ملابسهما، ولبس كلٌّ منهما ثياب النوم … وصعد «محب» إلى السرير العلوي، واستلقى «تختخ» على فراشه، وأضاء «الأباجورة» الصغيرة المثبتة بجوار الفراش … وأمسك بكتاب يُعلِّم اللغة الإيطالية. ومضت دقائق، ثم سمع صوت تنفُّس «محب» المنتظم، وأدرك أنه استغرق في النوم.

شيئًا فشيئًا بدأت الأصوات في السفينة تتلاشى، ولم يعُد هناك سوى صوت المحرِّكات الضخمة … وصوت ارتطام المياه بالسفينة، وهي تشق طريقها. ولا يدري «تختخ» كم مضى من الوقت وهو يقرأ … ثم سمع صوت أقدامٍ حذرةٍ تسير أمام قُمرته، ثم تتوقَّف أمامها بالضبط … وتنبَّهت أعصاب «تختخ» فورًا … وسمع صوت نقرات خفيفة على الباب، فأسرع يقوم من مكانه … ثم فتح الباب، ولكنه لم يجِد أحدًا … ونظر في الممر الطويل، ولكنه كان خاليًا … ولم يكن هناك سوى المصابيح المضاءة تتأرجح بخفةٍ مع حركات السفينة …

ماذا جرى؟ ولماذا هذه الطرقات؟

هكذا حدَّث «تختخ» نفسه … ثم استنتج فورًا أنها رسالةٌ إليه … ونظر تحت قدمَيه، فإذا على الأرض ورقة صغيرة مطبقة بعناية، فانحنى والتقطها، ثم أغلق الباب، وعلى ضوء «الأباجورة» فتحها ونظر فيها … كانت مكتوبةً باللغة العربية بخطٍّ رديء … ولكنه استطاع أن يقرأ ما بها:

سأنتظرك بعد ١٥ دقيقةً عند مقدمة السفينة.

باولو

ودقَّ قلب «تختخ» دقًّا سريعًا … لقد تمَّ الاتصال بسرعة … وفي أول ليلة! ولكن المفتش حذَّره … المهم هو كلمة السر … فلماذا لم يكتبها «باولو»؟ لعله خشي ألَّا يتسلَّم «تختخ» الرسالة …

كان هذا هو الاستنتاج الوحيد … وأسرع «تختخ» ينظر إلى الساعة … كانت الحادية عشرة … وارتدى ثيابه في هدوء، حتى لا يُزعج «محب»، وانتظر حتى مضت عشر دقائق، ثم فتح الباب بهدوء، وانسلَّ خارجًا. وأخذ طريقه عبر الممرَّات المضاءة متجهًا إلى مقدمة السفينة … وصعد السلم المؤدي إلى السطح، وأحسَّ بهواء البحر البارد يتسلَّل إليه فارتعد … ولكنه مضى على ممر السفينة الأيمن متجهًا إلى مقدمة السفينة التي كانت غارقةً في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤