كلمة السر

كانت الريح تهبُّ من مقدمة السفينة باردة … ورذاذ الماء يصل إلى السطح، يتناثر على وجه «تختخ» الذي وقف يُحدِّق في الظلام، بين صناديق البضائع الضخمة، باحثًا عن «باولو» … لكنه لم يرَ أثرًا لأحد، فتقدَّم خطوات … وفجأةً سمع من بين الصناديق صوتًا عميقًا يقول: «توفيق»؟

التفت «تختخ» إلى مصدر الصوت الذي كان يأتي من بين صندوقَين كبيرَين، وبدأ يتحرَّك في اتجاهه.

ولكن صاحب الصوت عاد يقول: لا تتقدَّم أكثر من هذا.

قال «تختخ»: من أنت؟

ردَّ الصوت: أنا «باولو» …

وتذكَّر «تختخ» تعليمات المفتش «سامي» … المهم هو كلمة السر، فقال: إنني لا أعرف أحدًا بهذا الاسم.

قال صاحب الصوت: إنني مفتش البوليس «باولو».

تختخ: وماذا تُريد منِّي؟

صاحب الصوت: أُريد أن أقول لكَ كلمة السر … «كلب البحر». وابتسم «تختخ» … إنه «باولو» فعلًا؛ فلا أحد يعرف كلمة السر إلا هو والمفتش «سامي» و«باولو».

قال «تختخ»: لقد أخبرني المفتش «سامي» أنكَ تُريد معاونتي.

باولو: هذا صحيح.

تختخ: إننا، أنا وأصدقائي، على استعدادٍ لمعاونتك في القبض على «كلب البحر».

باولو: هل عندكَ معلومات عنه؟

تختخ: معلومات قليلة جدًّا … أعرف أنه إيطالي الأصل … وأنه يستخدم أسماءً كثيرة … وعصابته قوية … وأنه ضخم طويل القامة.

باولو: فقط؟!

تختخ: نعم.

باولو: سوف أُعطيك بعض الأوصاف الأخرى له حتى تتمكَّن من البحث عنه.

تختخ: ألم تتعرَّف عليه بعد؟

باولو: لا … إنني ما زلتُ أبحث؛ فهو رجلٌ شديد الدهاء، لا أحد يعرف شكله إلا عدد قليل من أعوانه.

تختخ: لماذا تتحدَّث معي في الظلام؟ … لماذا لا تظهر؟

باولو: لا تسأل عن هذا الآن … فليس هذا مهمًّا لك.

تختخ: وكيف أتصل بك؟

باولو: سأجد الطريقة المناسبة للاتصال بكَ عندما أُريد.

تختخ: ومتى تصلني المعلومات؟

باولو: في الوقت المناسب.

وساد الصمت إلا من صوت الريح … وسمع «تختخ» حركة أقدامٍ في الظلام، فقال: «باولو» …

ولكن أحدًا لم يرد.

وعاد يقول: «باولو» … هل أنتَ موجود؟

ولكنه لم يسمع شيئًا سوى صوت الريح … وكان واضحًا أن «باولو» قد انصرف … فتلمَّس «تختخ» طريقه في الظلام عائدًا إلى سطح السفينة، ثم نزل السلَّم إلى قُمرته، وقد استغرق في التفكير … وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وهو ما زال ساهرًا في فراشه يُفكِّر في هذه المغامرة العجيبة … ويتساءل: أيقول للأصدقاء، أم يُخفي عنهم هذه القصة المثيرة؟! وظلَّت الأفكار والخواطر تدور برأسه حتى استسلم للنوم.

•••

في صباح اليوم التالي اجتمع الأصدقاء بعد الفطور على ظهر الباخرة … كان الجو حارًّا والريح ساكنة … فلم يتردَّد «محب» و«عاطف» في ارتداء المايوهات، والقفز إلى حمَّام السباحة مع عددٍ كبير من الركَّاب … وجلس «تختخ» و«نوسة» على كرسيَّين بجوار الحمَّام يشربان الكوكاكولا … كان «تختخ» يلبس نظارة شمس سوداء … ومن خلفها كان ينظر إلى كل راكب نظراتٍ متأنية … محاولًا أن يبحث عن «كلب البحر»، وعن «باولو» أيضًا … وفي طرف السفينة كان رجلان يجلسان معًا يتحدَّثان ويُدخِّنان … دون أن يلتفتا إلى بقية الركَّاب … وقام «تختخ» واتجه ناحيتهما متظاهرًا أنه يتمشَّى … وأخذ يقترب أكثر فأكثر محاولًا التسمُّع إليهما … وفي تلك اللحظة أقبل «محب» و«عاطف» في ملابس البحر، وهما يُقطِّران ماءً، وأخذا يجذبان «تختخ» ناحية الحمَّام … وصاح «محب»: تعالَ انزل معنا.

تختخ: اتركني يا «محب» … ليست لي رغبة.

محب: إن الماء ممتع … وسنلعب كرة ماء مع أربعة آخرين من الركَّاب.

ولم يتركه الصديقان حتى غيَّر ملابسه، وقفز إلى حمَّام السباحة … وبدأت المباراة … أربعة من الأولاد ضد «تختخ» و«عاطف» و«محب» و«لوزة» … وسرعان ما تجمَّع الركَّاب حول الحمَّام يُشجِّعون الفريقَين بحماسة … وبخاصة «لوزة» التي كانت تُجيد السباحة … وكانت تقف في مركز حارس المرمى … وأخذت الأهداف تتوالى … هنا هدف … وهناك هدف … والصياح يرتفع بكل اللغات لتشجيع اللعب … وشاهد الحاضرون وسط هذه الحماسة كلها عربة رجلٍ مشلول تتقدَّم … وأوسع له المتفرِّجون مكانًا ليتفرَّج … وكان واضحًا أن نصفه الأسفل مشلول تمامًا، وإن كانت يداه تتحرَّكان في حماسة وهو يُتابع اللعب.

وحمي وطيس اللعب أكثر … وأخذ «تختخ» يرمق الرجل «المشلول» بعطف، وكان قد علم من قبلُ أن نصفه الأسفل مشلول تمامًا، وفجأةً شاهد ما لم يرَه أحدٌ غيره … لقد كانت أصابع قدمَي الرجل تتحرَّك … ودُهش «تختخ» تمامًا … فليس من الممكن أن تتحرَّك أصابع رجل مشلول!

وأنساه هذا الخاطر اللعب لحظة؛ فاستطاع الفريق الآخر أن يُسجِّل هدفًا … لكن «تختخ» استطاع تعويض الهدف سريعًا، وإن ظلَّ مشغول البال بما شاهده.

وانتهت المباراة بفوز الأصدقاء بفارق أربعة أهداف … وصفَّق لهم المتفرِّجون طويلًا، وهم يخرجون من الماء … وأسرع الأصدقاء إلى قُمراتهم حيث استحمُّوا وغيَّروا ملابسهم، ثم عادوا إلى السطح … ووقف «تختخ» يُراقب الرجل «المشلول» باهتمام … كان الرجل يجلس على كرسيه المتحرِّك موليًا ظهره إلى الركَّاب، ناظرًا إلى البحر، وقد وقف بجواره رجل آخر يتحدَّث إليه.

وظلَّ «تختخ» يُفكِّر … شيءٌ مدهش أن يتمكَّن مشلول من تحريك أصابع قدمَيه … فالشلل معناه توقُّف الأعصاب عن العمل … وعدم القدرة على تحريك العضو المصاب … فكيف استطاع «المشلول» أن يُحرِّك أصابعه؟! وتمنَّى «تختخ» أن يعرف أين «باولو» ليقول له هذه الملاحظة الهامة. وبينما «تختخ» مستغرق في خواطره حان موعد الغداء … وأسرع الأصدقاء الذين اشتدَّ بهم الجوع إلى قاعة الطعام … وكذلك أسرع بقية الركَّاب، وأصبح السطح خاليًا إلا من «المشلول» والرجل الذي معه … ثم بدأ الكرسي يتحرَّك حاملًا صاحبه. ولم يجد «تختخ» فائدةً من متابعته، وبخاصة أنه كان في غاية الجوع بعد المباراة الحامية.

ذهب «تختخ» إلى قاعة الطعام المزدحمة … ولم يستطِع الانضمام إلى الأصدقاء الذين جلسوا في الصف كالمعتاد، كلٌّ بحسب وقت دخوله، وهكذا جلس قرب الباب وحده.

وجاء السفرجي فوضع الأطباق الفارغة … ثم جاء آخر يحمل الطعام … ورفع «تختخ» أحد الطبقَين، وكم كانت دهشته عندما وجد ورقةً صغيرةً مطبقة! فرفعها مسرعًا قبل أن يراها أحد، ووضعها في جيب قميصه، وقد أدرك أنها من «باولو».

لكن كيف وضع «باولو» الورقة في مكانها بين الطبقَين؟ هل يعمل في المطعم؟ أو أن له أعوانًا فيه؟ لقد أخبره المفتش «سامي» أن «باولو» يعمل وحده على ظهر السفينة … فهل كانت معلوماته غير دقيقة؟!

وظلَّ «تختخ» يُراقب السفرجية، محاولًا تذكُّر الرجل الذي وضع له الأطباق حتى يُقارنه بالأوصاف القليلة التي يعرفها عن «باولو»، ولكنه لم يتمكَّن.

والتهم طعامه مسرعًا؛ فقد كان يُريد أن يعرف ماذا في الورقة … وغادر قاعة المطعم إلى قُمرته، وبعد أن أغلق الباب على نفسه، فتح الورقة وقرأ ما بها … كانت بضع كلمات قليلة بالخط الرديء نفسه:

منتصف الليل في المكان نفسه.

باولو

واستلقى «تختخ» على فراشه يُفكِّر … ودخل «محب» قائلًا: إننا لم نرَك في قاعة الطعام … ماذا حدث؟!

ردَّ «تختخ» شاردًا: لا شيء … لقد تأخَّرتُ في الدخول … ثم جلستُ بجوار الباب، وتناولتُ طعامي مسرعًا، وعدتُ إلى هنا لأنني أُحسُّ برغبةٍ قوية في النوم … فإني متعب.

وأغمض «تختخ» عينَيه، وسرعان ما استغرق في النوم فعلًا … وقد نسي الورقة التي كان ممسكًا بها … فوقعت منه … ولاحظ «محب» — الذي كان يجلس بجوار الفراش يقرأ — لاحظ الورقة وهي تقع من يد «تختخ»، فالتقطها وقرأ ما فيها:

منتصف الليل في المكان نفسه.

باولو

دُهش «محب» لِما في الورقة، وأخذ يُفكِّر في معناها … وفي اسم «باولو»، وقال «محب» في نفسه: إن المكان نفسه تعني أن «تختخ» سبق أن ذهب إلى هذا المكان من قبل … فأين هذا المكان؟ ولماذا منتصف الليل؟ ومن «باولو»؟ ولماذا يُخفي «تختخ» أي شيء يفعله عن الأصدقاء؟ وهل يقول له إنه وجد الورقة أو يسكت؟ وهل يقول لبقية الأصدقاء؟

وتذكَّر «محب» أن «تختخ» كان مشغولَ البال منذ ركبوا السفينة … فلماذا؟ وما السر الذي يُخفيه؟

أسئلة كثيرة كانت تدور بذهن «محب»، وهو جالس ينظر إلى صديقه النائم … ثم قرَّر في النهاية أن يترك الورقة مكانها وينتظر ما يحدث.

وغادر «محب» القُمرة، وأغلق بابها وراءه، ثم صعد إلى السطح حيث كان «عاطف» و«نوسة» و«لوزة» يقفون مع بعض الأصدقاء الذين لعبوا معهم المباراة يتحدَّثون.

وعندما استيقظ «تختخ» نظر إلى ساعته … كانت قد أشرفت على الرابعة بعد الظهر، وأحسَّ بنشاط كبير، ثم تذكَّر الورقة، فبحث عنها، ووجدها قد وقعت منه بجوار الفِراش … فحمد الله أنه وجدها قبل أن تقع في يد أحد … وطبَّقها بعناية، ثم وضعها في جيبه وخرج حيث لحق بالأصدقاء على السطح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤