حدث في منتصف الليل

بعد ساعة من العشاء أوى الأصدقاء كلٌّ إلى فراشه … واستلقى «تختخ» في الظلام متظاهرًا بالنوم … ولكنه لم يكن نائمًا … وكذلك «محب» لم يكن نائمًا … كانت الرسالة التي سقطت من «تختخ» وقرأها تشغل باله … وكان أكثر ما شغل باله أن يتعرَّض «تختخ» للخطر بدون أن يعرفوا … وأن يحدث له شيءٌ بدون أن يتمكَّنوا من إنقاذه.

ومضت الساعات … وأشرفت الساعة على منتصف الليل … وجلس «تختخ» في فراشه لحظات، ثم قام ففتح الباب وخرج … وكان «محب» مستعدًّا لهذه اللحظة، فانتظر لحظات، ثم قفز هو الآخر من فراشه، وأسرع خلف «تختخ» … وعندما فتح الباب رآه يسير في نهاية الدهليز المُضاء … فأسرع خلفه، وهو يمشي على أطراف أصابعه.

وصعد «تختخ» إلى السطح، فصعد خلفه، ثم سار إلى مقدمة السفينة و«محب» يتبعه عن بُعد.

كانت مقدمة السفينة غارقةً في الظلام، وتقدَّم «تختخ» إلى حيث وقف في الليلة الماضية … وكان «محب» يقترب هو الآخر، وهو يزحف على يدَيه وركبتَيه حتى لا يراه أحد … ووقف على مقربة يستمع. وكانت الريح تهبُّ من مقدمة السفينة إلى مؤخِّرتها، فاستطاع أن يستمع إلى أكثر الحوار الدائر.

سمع «تختخ» صوت «باولو» في الظلام يتحدَّث إليه … قال «باولو»: هل اشتبهتَ في أحدٍ من ركَّاب السفينة؟

تختخ: لستُ متأكِّدًا … ولكن يبدو لي أنني أمسكتُ بطرف الخيط.

باولو: ماذا تقصد بالضبط؟

تختخ: لقد اشتبهتُ في شخص مشلول.

ساد الصمت لحظات، ثم قال «باولو»: مشلول؟!

تختخ: نعم … إنه رجل مشلول يجلس على كرسي متحرِّك … كان يتفرَّج اليوم على مباراة كرة الماء التي كنتُ ألعب فيها … وقد لاحظتُ في أثناء المباراة أن أصابع قدمَيه تتحرَّك، وهو شيءٌ مستحيل بالنسبة لرجل نِصفه الأسفل مشلول!

باولو: هذه ملاحظةٌ ذكية … وأنا أُراقب هذا الرجل أيضًا … ولكنه ليس «كلب البحر» بالتأكيد … فكلب البحر كما تعرف ضخم الجسم … وهذا الرجل قصير القامة.

تختخ: لعله أحد أفراد العصابة.

باولو: هذا ممكن … على كل حالٍ سوف أهتمُّ أنا بهذا الرجل … وعليك مراقبة راكب القُمرة رقم «٣» في الدرجة الأولى، واسمه «مارسيل» … إنه يُشبه «كلب البحر» إلى حدٍّ بعيد … وتصرُّفاته مريبة جدًّا.

تختخ: سأُحاول.

باولو: وسأتصل بكَ الليلة القادمة بطريقةٍ ما.

تختخ: هل لكَ أعوان على ظهر السفينة؟

باولو: لا داعي للأسئلة الآن … سوف تعرف كل شيء عندما تصل إلى «فينسيا»؛ فإن الموقف خطير، وإذا عرف «كلب البحر» شخصيتي أو شخصيتكَ أو أننا نتبعه؛ فسوف يقضي علينا بلا تردُّد.

كان «محب» يستمع إلى الحوار بقلب مرتجف … ولم يكد يسمع الكلمات الأخيرة حتى أدرك أن الحديث قد انتهى، وأن «تختخ» سوف يتحرَّك ويتحرَّك الرجل الذي يتحدَّث معه، وقد يلتقيان به … فأسرع بالانصراف … ولكنه أحسَّ بخطواتٍ واسعةٍ تقترب منه … فانتهز فرصة الظلام، وانحرف واختفى خلف لفةٍ من الحبال … وشاهد رجلًا طويل القامة يعبر أمامه … ثم ينزل السلَّم مسرعًا، واستطاع أن يلمح على ضوء السلَّم قمة رأسه، فرأى شعره الذي انتثرت فيه بعض شُعيرات بيضاء.

ظلَّ «محب» في مكانه لحظاتٍ حتى تأكَّد من غياب الرجل في جوف السفينة … ثم نزل السلَّم بهدوء حتى وصل إلى القُمرة وفتح الباب … ووجد نفسه وجهًا لوجهٍ مع «تختخ».

نظر «تختخ» إلى «محب» في اندهاشٍ شديد، ثم سأله: أين كنت؟ … فكَّر «محب» لحظات، ثم لم يجد فائدةً من الإنكار، فقال: كنتُ في مقدمة السفينة أستمع إلى الحوار بينكَ وبين الرجل.

تختخ: «باولو»؟!

محب: لا أعرف «باولو» ولا غيره … لقد سمعتُك تتحدَّث مع رجل ما … ثم انصرفت قبل أن تفرغا من حديثكما تمامًا … واضطُررت إلى الاختفاء حتى عبر الرجل؛ ولهذا تأخَّرت.

تختخ: وهل رأيتَه؟

محب: لا، لم أرَ سوى شبحه، وهو طويل القامة، ثم رأيت قمة رأسه في ضوء السلَّم.

تختخ: وهل سمعتَ كل الحوار؟

محب: أكثره كما قلتُ لك … وأنا آسف إذ تلصَّصت عليكما.

تختخ: لكن كيف وصلت إلى هناك؟

محب: لقد قرأتُ الرسالة التي كانت في يدك اليوم عصرًا؛ فقد سقطت من يدك عندما نمت … ولم أستطِع مقاومة إغراء قراءتها.

تختخ: وماذا استنتجت؟

محب: لا شيء تقريبًا … سوى أنك متصل بشخص ما … أو بمغامرة ما، وأنك تُخفي عن الأصدقاء هذه الحقيقة.

تختخ: اعذرني يا «محب» … إنني خائف عليكم جدًّا.

محب: وهل تخاف أنتَ علينا، ولا نخاف نحن عليك؟! لقد تعاهدنا منذ أول مغامرة ألَّا يُخفي أحدٌ منَّا شيئًا عن الآخرين … ولكن ها أنت ذا تتصرَّف وحدك … وإذا وقع لكَ حادثٌ فلن نعرف عنك شيئًا.

أطرق «تختخ» بوجهه إلى الأرض، وقد أحسَّ بالخجل والاضطراب … ومضت لحظات صمت بين الصديقَين، ثم قال «تختخ»: في الحقيقة إنني لا أكاد أفهم شيئًا من هذه المغامرة كلها.

محب: ولماذا لا تُخبرني بما تعرف؟

تختخ: عندما جاء المفتش «سامي» لوداعنا على ظَهر السفينة، قال لي إن مفتشًا من البوليس السري الإيطالي على ظهر السفينة يُدعى «باولو»، وإن «باولو» سوف يتصل بي، ويطلب مساعدتي في مطاردة مهرِّب خطير ليس له اسم محدَّد؛ لهذا يُطلقون عليه اسم «كلب البحر» … وهي كلمة السر التي ستكون وسيلة التعارف بيني وبين «باولو» … وقد التقيتُ به أمس ليلًا وهذه الليلة.

محب: ولماذا يُقابلك في الظلام ولا تراه؟

تختخ: إنها إجراءات للتخفِّي كما يرى «باولو»، وليس لي حق مناقشته؛ فعليَّ أن أستمع إلى تعليماته فقط … ولعله يخشى إن أنا عرفته أن أكشف شخصيته لكم أو لأي إنسان آخر، وهذا يُمثِّل خطورةً عليه، وعلى العملية كلها.

محب: ومن الواضح أنكما لم تعرفا شخصية «كلب البحر» بعد.

تختخ: لا، ولكني — كما سمعتَ من حديثي مع «باولو» — قد اشتبهتُ في الرجل «المشلول»، غير أن شكله لا يُشبه «كلب البحر»؛ لهذا طلب منِّي «باولو» … أن أُراقب الراكب «مارسيل» الذي ينزل في القُمرة رقم «٣» في الدرجة الأولى.

محب: وهل تُخبر بقية الأصدقاء؟

تختخ: كنتُ أُريد ألَّا أُخبركم كما قلتُ لك؛ حتى لا تتعرَّضوا لمخاطر … وفي الوقت نفسه حتى لا أُفسد عليكم الرحلة.

محب: إن الأصدقاء قد تمرَّنوا بما فيه الكفاية على حلِّ الألغاز والدخول في المغامرات والمخاطرات.

تختخ: هل ترى أن نُخبرهم؟

محب: طبعًا.

وفي هذه اللحظة سمع الأصدقاء حركةً أمام الباب، فقفز «محب» وفتح الباب، فلم يجد أحدًا، لكنه استطاع أن يرى إنسانًا ينحرف في نهاية الدهليز، فأسرع خلفه … وقفز «تختخ» خلف الاثنَين … استطاع «محب» أن يصل إلى نهاية الدهليز، ووقف يستمع … واستطاع بالرغم من هدير الماكينات أن يسمع صوت خطوات تنزل السلَّم إلى قلب السفينة، فنزل سريعًا … وفي هذه الأثناء كان «تختخ» قد وصل هو الآخر إلى نهاية الدهليز … ولمَّا لم يجِد «محب»، استنتج أنه نزل السلَّم، فنزل هو الآخر، ولكنه لم يجِده، وأخذ يسير هنا وهناك حتى وجد نفسه يقترب من صوت الماكينات … وأدرك أنه عند قاع السفينة … وخشي أن يُقابله أحد في هذا المكان الممنوع التجوُّل فيه، فعاود صعود السلالم من جديد.

وخطر له في تلك اللحظة اسم «مارسيل»، والقُمرة رقم «٣» في الدرجة الأولى، فأسرع يصعد السلالم حتى وصل إلى صف قُمرات الدرجة الأولى … كان باب الدهليز الذي تقع القُمرات على جانبَيه مغلقًا … ولكنه لم يتردَّد، فدفعه بيده، ونظر أمامه فلم يجِد أحدًا، وتسلَّل على أطراف أصابعه، وكانت الأرض مغطاةً بالسجاد الأحمر السميك؛ فلم يكن يصدر أي صوت.

أخذ ينظر إلى الأرقام النحاسية المثبتة على أبواب القُمرات، حتى وصل إلى القمرة رقم «٣»، التي كان الضوء يتسلَّل من تحت عقب بابها، موضحًا أن ساكنها لم يكن قد نام بعد.

اقترب «تختخ» من القُمرة، وألصق أذنه بالباب يستمع … واستطاع أن يسمع حوارًا غاضبًا بين رجلَين … كانا يتحدَّثان بالإيطالية … فقد كان يعرف بعض كلماتها … ولكنه لم يستطِع أن يفهم شيئًا … وأخذ يُفكِّر … هل «محب» هنا؟ … هل حدث له شيء؟

وبينما هو مستغرقٌ في الإنصات سمع بابَ الدهليز يُفتح، وسمع صوتًا يصيح: ماذا تفعل؟!

لم يتردَّد «تختخ» لحظةً واحدة، بل أطلق ساقَيه في اتجاه الباب الآخر للدهليز، وفتح الباب بعنف، في حين كان صاحب الصوت يجري خلفه … ثم قفز إلى الخارج ووقف، وعندما أدرك أن مطارده وصل إلى الباب … فتح الباب، ثم دفعه بعنف فأصاب المطارد … وسمع صوت لعنات، ثم صوت جسم يقع على الأرض!

أخذ «تختخ» يجري ونزل السلالم مسرعًا إلى الدور الثاني حيث تقع قُمرات الدرجة السياحية، وبعد لحظات كان يدخل قُمرته متسارع الأنفاس … وبعد لحظات سمع صوت أقدام فوقف مستعدًّا … وفُتح الباب بحذر، ثم أطل وجه «محب».

قال «محب» في ضيق: لقد فقدتُ أثر الرجل.

ردَّ «تختخ»: لقد كدتُ أقع في مأزق … لولا أنني فررتُ في الوقت المناسب.

وروى «تختخ» ﻟ «محب» ما جرى له في دهليز الدرجة الأولى، فقال «محب»: هل رأى الرجل وجهك؟

تختخ: لم أُعطِه هذه الفرصة … فما كدتُ أسمع صوته حتى جريت.

وخلع الصديقان ملابسهما ولبسا ملابس النوم … وأغلقا الباب جيِّدًا، واستسلما للنوم سريعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤