على الأرض

بعد الفطور في اليوم التالي، كانت السفينة «سوريا» تقترب من ميناء «بيريه» اليوناني، ووقف أكثر الركَّاب يشهدون اقتراب السفينة من البر … في حين جلس المغامرون الخمسة معًا على ظهر السفينة، وأخذ «تختخ» يروي لهم قصة «كلب البحر» كلها … ولماذا أخفى عنهم المعلومات.

وأخذ «عاطف» و«نوسة» و«لوزة» ينظرون إليه في انبهارٍ شديد … فلم يتصوَّروا قط أن كل هذا حدث بدون أن يدروا به … وأنهم كانوا في نوم عميق، والمطاردات تجري حولهم.

وأنهى «تختخ» حديثه قائلًا: وأنا الآن مُكلَّف من «باولو» بمراقبة «مارسيل» ساكن القُمرة رقم «٣»، وقد استيقظت مبكِّرًا جدًّا وذهبت لأراه قبل أن يخرج … فلم تكن عندي أي فكرةٍ عن شكله … وقد رأيته صباح اليوم وعرفت شكله.

نوسة: وهل تستمر في المراقبة؟ … أو تنزل إلى البر في «بيريه»؟! إن السفينة سوف تبقى في الميناء من التاسعة صباحًا حتى السادسة بعد الظهر.

بدا التردُّد على وجه «تختخ»، فقالت «لوزة»: إنها فرصةٌ أن نتفرَّج على مدينة لم نرَها من قبل … وبخاصة أنك لن تستطيع أن تفعل شيئًا في النهار.

وأيَّد «عاطف» و«نوسة» و«محب» كلام «لوزة»، فلم يجد «تختخ» بُدًّا من الرضوخ لرغبتهم … وهكذا أسرعوا جميعًا يرتدون ملابس مناسبة … ويحملون معهم بعض النقود لإنفاقها في الميناء.

ودخلت السفينة ميناء «بيريوس»، الذي يسمَّى بالعربية «بيريه»، ونسي الأصدقاء «كلب البحر» … و«باولو»، وكل شيء … وانتبهوا جميعًا إلى اللحظات القادمة حيث ينزلون إلى البر لأول مرة، بعد مغادرتهم الإسكندرية.

ووقفت السفينة على أحد الأرصفة، وتدافع الركَّاب للحصول على تصريحٍ بزيارة المدينة … ووقف الأصدقاء الخمسة في الصف حتى حصل كلٌّ منهم على التصريح الخاص به، ثم نزلوا السلَّم إلى الأرض … وقال «محب»: علينا أن نشتري دليلًا صغيرًا للمدينة.

وكان هناك كشك صغير يبيع الحلوى والتذكارات وغيرها، فأسرعوا إليه، واشترى كلٌّ منهم «كارتًا» عليه صورة «بيريه»؛ ليرسلوه إلى أُسَرهم في المعادي. وعرفوا أن «بيريه» هي أكبر ميناء في اليونان، وتعدُّ مدخلًا من البحر لعاصمة اليونان «أثينا».

وسأل «تختخ» أحد رجال الشرطة عن المسافة بين «بيريه» و«أثينا»، فقال إنها نحو عشرين كيلومترًا، يقطعها «الأوتوبيس» في نحو عشرين دقيقة، فقالت «نوسة»: لماذا لا نذهب إلى «أثينا»؟ … إنها فرصة لمشاهدة عاصمة اليونان، وإحدى أقدم المدن في العالم.

ووافق الأصدقاء على اقتراحها بحماسة … وأسرعوا إلى موقف «الأوتوبيس»، وسرعان ما كان يسير بهم مسرعًا إلى «أثينا» … كان الطريق يمر بين تلال عالية … نمَت عليها أشجار العنب والزيتون … وسرعان ما وجدوا أنفسهم قد وصلوا إلى «أثينا»، حيث اتجهوا إلى ميدان «سندغما» أكبر ميادين العاصمة اليونانية … وكان الميدان منخفضًا يتم الوصول إليه بسلالم حجرية … وتُطل عليه من مختلِف النواحي تلال «أثينا»، حيث تقف المعابد القديمة التي بناها الإغريق القدماء.

وسار الأصدقاء يتفرَّجون، وقد نسوا كل شيءٍ عن اللغز والمغامرة، واستمتعوا بمباهج المدينة التي سمعوا كثيرين من أهلها يتحدَّثون اللغة العربية … وقال «محب» معلِّقًا على هذه الحقيقة بقوله: لقد عاش عددٌ كبيرٌ من اليونانيين في مصر … وما زال بعضهم يعيش هناك، وبخاصة في الإسكندرية.

وقبل أن يتم «محب» حديثه، التفت «تختخ» إلى رجل يسير وهو يحمل حقيبةً وقال: لقد رأيتُ هذا الرجل من قبل … ولكني لا أتذكر أين. وأخذ الأصدقاء ينظرون إلى حيث أشار، وفجأةً قال «تختخ» بصوت مرتفع: غير معقول!

قال «محب»: ما هو غير المعقول يا «تختخ»؟

تختخ: هذا هو الرجل المشلول!

نوسة: لكن هذا يسير على قدمَيه!

تختخ: وهذا ما جعلني أقول إنه غير معقول … تعالَوا ننظر أين يذهب.

وأسرع الأصدقاء خلف الرجل الذي لم يكن قد رآهم، وانحرف إلى شارع جانبي، فانحرف الأصدقاء خلفه … ووجدوه ينحرف مرةً أخرى، ووجدوا أمامهم «كازينو» صغيرًا اسمه «الإيليت»، دفع الرجل بابه الزجاجي ودخل، فلم يتردَّد الأصدقاء، ودخلوا أيضًا … واتجه إلى مكانٍ منعزل، وجلس وحيدًا، وقد وضع الحقيبة بجواره … واختار «تختخ» ركنًا مظلمًا من «الكازينو»، وجلس مع الأصدقاء حتى يتمكَّن من مراقبة الرجل بدون أن يلفت إليهم الأنظار.

وأخذ «المشلول» ينظر في ساعته بين لحظة وأخرى … ثم دقَّ جرس التليفون في «الكازينو» … وتحدَّث «الجرسون»، ثم أخذ يُنادي على من يدعى «سبيرو»، فقام «المشلول» وتحدَّث في التليفون … ثم دفع حسابه واتجه مسرعًا إلى الباب في اللحظة نفسها التي كان فيها «الجرسون» قد أحضر ما طلبه الأصدقاء، فقال «تختخ»: سأخرج خلفه … موعدنا في ميدان «سندغما» قرب السلالم التي على اليمين.

وأسرع «تختخ» بالخروج … واستطاع أن يلحق بالرجل عند رأس الشارع، فتبعه … وسار الرجل طويلًا … من شارع إلى شارع … و«تختخ» خلفه وليس في ذهنه خطةٌ معيَّنة … ووجد الرجلَ يدخل إلى محلٍّ لبيع الآثار، وتردَّد قليلًا، ثم فتح الباب الزجاجي ودخل … كان المكان مظلمًا تقريبًا، فوقف قليلًا ليرى ما حوله … ووجد نفسه في قاعة واسعة تكدَّست فيها كل أنواع الآثار … وقد تشبَّعت برائحة الرطوبة والقِدَم … ولم يكن هناك أثر للرجل ولا لأي إنسان آخر … فأخذ يُجيل البصر حوله وهو يتساءل: أين ذهب «سبيرو» المشلول؟! وفجأةً سمع صوت باب يُغلق خلفه … وعندما التفت وجد بابًا من الحديد ينزل على الباب الزجاجي من الخارج … وساد صمتٌ رهيبٌ وظلامٌ ثقيل.

أحسَّ «تختخ» كأنه في بئر بلا قرارٍ … مظلمة … ولا أثر للحياة فيها … ولم يكن معه مصباحه الكهربائي الذي كثيرًا ما استعان به في مثل هذه الحالات.

أخذ «تختخ» يُنصت ويتلفَّت وهو واقفٌ في مكانه … لكن شيئًا حوله لم يتحرَّك، ولم يسمع أي صوت. وأدرك أن الباب يُغلَق بالتيار الكهربائي بمجرَّد الضغط على زر صغير … فمن الذي أغلقه؟ وأين ذهب «سبيرو»؟ وماذا يفعل؟

أسئلة كلها بلا إجابة.

وأخذ يُفكِّر في الأصدقاء وهم يقفون في ميدان «سندغما» وهم لا يعرفون أحدًا … وموعد السفينة بعد ساعات قليلة.

وبدأ يتحرَّك وقلبه يدق … لكنه لم يكد يتقدَّم خطوةً واحدةً حتى اصطدم بتمثالٍ ضخمٍ من الحجر في رأسه … فعاود الوقوف مكانه … وشيئًا فشيئًا بدأت عيناه تعتادان الظلام … ويرى ما حوله في غير وضوح …

ماذا يفعل؟

كان هذا السؤال يُلحُّ عليه بشدة حتى أحسَّ كأن رأسه ينفجر … وأحسَّ بالتعب من طول الوقوف … فحاول البحث عن مكانٍ يستطيع أن يجلس فيه … وتحرَّك ببطءٍ حتى لا يصطدم بشيءٍ آخر … ونفذت إلى أنفه رائحة تبغ قوية … إنه قريب من منفضة سجائر … ولعل بجوارها علبة كبريت إذا كان حسن الحظ … وأخذ يتشمَّم الهواء حوله وهو يتقدَّم أكثر فأكثر من مصدر الرائحة، حتى استطاعت يداه — وهو يتحسَّس طريقه — أن تعثر على مكتب … ومدَّ أصابعه تتحسَّس المكتب ووجد ما توقَّعه … علبة كبريت، وأمسكها بأصابع مرتعشة وهو لا يُصدِّق نفسه، ثم أشعل عودًا أضاء دائرةً حوله … وأحسَّ أنه سيقع من طوله؛ فعندما أضاء عود الكبريت وجد التماثيل التي حوله كأنها تتحرَّك … وجوه سُود … وأفاعٍ … وفرسان … كلها من العصر القديم … وأخذ ينظر حوله للبحث عن منفذ … ثم أحسَّ بعود الكبريت يكاد يحرق أطراف أصابعه فألقاه، ثم أشعل عودًا آخر، وبدأ يتجوَّل داخل المخزن الكبير … لقد دخل … «سبيرو» هنا ولم يخرج من باب المدخل … لا بد أن هناك منفذًا آخر.

وسار يبحث قرب الجدران التي تكدَّست حولها التماثيل والموائد والملابس التاريخية … ومرةً أخرى يُصادفه الحظ الحسن … لقد وجد شمعةً كبيرةً مثبتةً في شمعدان جميل من الفضة … فأشعلها … واستطاع على ضوئها أن يرى المخزن جيِّدًا.

سار يتأمَّل ما حوله … ثم خُيِّل إليه أنه يسمع صوت أقدام قريبة … قريبة جدًّا … وجمد الدم في عروقه … من هناك؟! وفجأةً سمع نفخةً قويةً من خلفه أطفأت الشمعة، وسمع صوتًا عميقًا يقول في الظلام: ماذا تفعل هنا؟!

«باولو»؟! … هكذا صاح «تختخ» عندما سمع الصوت وقد أحسَّ بسعادة طاغية …

عاد «باولو» يقول: ما الذي جاء بك إلى هنا؟!

تختخ: ما دمتَ قد عرفتَ مكاني، فلا بد أنك تعرف كيف أتيتُ إلى هنا.

باولو: ألم أُنبِّه عليك أن تترك «المشلول» في حاله … ألم أطلب منك أن تُراقب «مارسيل»؟

تختخ: ولكن «المشلول» يسير على قدمَيه!

باولو: إنني أعرف هذا وأكثر … ومن المهم أن تسمع تعليماتي جيدًا وإلا أفسدت خطتي في القبض على «كلب البحر».

قال «تختخ» باعتذار: آسف جدًّا … لم أكن أعرف أنك على هذا القدر الكبير من البراعة … ولكن كيف عرفت مكاني؟

باولو: لقد كان رجالي يتبعونك طول الوقت … إننا نخاف عليك من «كلب البحر»؛ فهو رجلٌ داهيةٌ وجبَّارٌ لا يرحم.

تختخ: آسف مرةً أخرى ولكن …

باولو: ولكن ماذا؟

تختخ: لماذا لا تظهر إلا في الظلام؟

قهقه «باولو» ضاحكًا، ورنَّ صدى ضحكته في الظلام، فأحسَّ «تختخ» بنوعٍ من الرعب، ولكن صوت «باولو» أعاد إليه شجاعته وهو يقول: ستعرف كل شيءٍ في النهاية … وأنصحك ألَّا تُكثر من الأسئلة وأن تسمع التعليمات جيدًا.

ساد الصمت لحظات، ثم قال «باولو»: سأفتح لك الباب، فأسرع إلى السفينة قبل أن تُغادر «بيريه».

وسمع «تختخ» صوت الباب يُفتح … والتفت خلفه فوجد الباب الحديدي ينسحب تدريجيًّا إلى أعلى، ثم انفتح الباب الزجاجي أيضًا، ودخل ضوء النهار إلى المخزن فبدَّد قليلًا من ظُلمته … وأسرع «تختخ» فنفذ من الباب إلى الشارع … وملأ رئتَيه من الهواء النقي … وألقى نفسه في أقرب تاكسي، وقال للسائق كلمةً واحدة: «سندغما».

وتحرَّك التاكسي منطلقًا إلى الميدان الكبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤