خطة جديدة

وقف التاكسي بعد رحلةٍ طويلةٍ إلى ميدان «سندغما» … ونزل «تختخ» مسرعًا يعدُّ «الدراخمات»، وهي عملة اليونان التي معه، وهو يخشى ألَّا تكفي أُجرة التاكسي … ولكن ما معه كان كافيًا؛ فقد بلغ الحساب ١٥ «دراخمة». وأسرع «تختخ» إلى حيث اتفق مع الأصدقاء على اللقاء، فوجدهم في انتظاره، وقد انتابهم قلقٌ فظيعٌ عليه، وانطلقوا جميعًا في نفَس واحدٍ يسألونه عن سبب غيابه … لكن «تختخ» لم يُجِب، بل صاح فيهم: اجمعوا كل ما معكم من «دراخمات». لا تُبقوا إلا ما يكفي «للأوتوبيس» وبعض الطعام.

ومدَّ الأصدقاء جميعًا أيديهم في جيوبهم وهم مندهشون، ثم قال «محب»: لماذا؟!

تختخ: أُريد أن أُرسل برقيةً إلى القاهرة.

نوسة: القاهرة؟!

تختخ: نعم …

عاطف: لتُطمئن والدتك مثلًا.

تختخ: ليس هذا وقت الضحك يا «عاطف»، سأُرسل البرقية إلى المفتش «سامي» …

لوزة: المفتش «سامي»! … هل تُرسل له البرقية ليحضر؟

تختخ: بالضبط.

عاطف: إنك تضحك الآن! … أين يحضر؟ إلى «أثينا»؟!

تختخ: لا يا حضرة الذكي الخفيف الدم … ولكن لينتظرنا في «فينسيا».

محب: بالطائرة طبعًا …

تختخ: طبعًا بالطائرة إلى مطار «الليدو» في «فينسيا»!

لوزة: ولكن لماذا؟! إذا كنَّا محتاجين إلى مساعدة فعندنا المفتش «باولو».

تختخ: فعلًا … ولكني أُريد المفتش «سامي»، هناك أشياء في غاية الخطورة … ونحن لن نستطيع التفاهم مع رجال الشرطة في إيطاليا … من المهم أن يحضر المفتش «سامي».

كان الحديث يدور بينهم وهم سائرون يبحثون عن أقرب مكتب تلغراف، وبواسطة أحد رجال الشرطة وجدوا مكتبًا … واستطاع «تختخ» ببعض الكلمات الإنجليزية والإيطالية أن يتفاهم مع الموظَّف، وأرسل برقيةً إلى المفتش «سامي» باللغة الإنجليزية، نصُّها:

نصل «فينسيا» بعد ثلاثة أيام. انتظرنا في الميناء للأهمية.

تختخ

وبعد أن أرسل «تختخ» البرقية قال للأصدقاء: بقيتْ أربع ساعات على موعد إبحار السفينة … فهل نذهب إلى هناك أو نُكمل جولتنا؟

نوسة: نحن لم نسمع ماذا حدث لك … تعالَوا نشتري بعض الساندويتشات ثم نجلس للغداء، فقد جعتُ جدًّا.

وافق الأصدقاء جميعًا بحماسةٍ على اقتراح «نوسة»، وقال «محب»: إن اليونان تُشتهر بالفاكهة، وبخاصة العنب والخوخ … وبالجبن والسردين … تعالَوا لنشتري من هذا المحل القريب.

وأشار «محب» إلى محلٍّ انتشرت أمامه صناديق الفاكهة، فأسرعوا جميعًا إلى هناك، وأخذوا يُشيرون إلى ما يطلبون، حتى حصلوا على كل ما اشتهَوه، وساروا حتى وجدوا كنيسةً صغيرةً تُحيط بها حديقة هادئة، يقف على أرضها الحمَام، فجلسوا على الكراسي الخشبية، وتناولوا أشهى غداء، وحرصوا على جمع ما تخلَّف منهم من أوراقٍ وبقايا؛ ليُلقوا بها في صندوق المهملات. وروى «تختخ» لهم ما حدث له، وتجوَّلوا قليلًا، ثم ركبوا «الأوتوبيس» عائدين إلى الميناء.

وعندما أصبحوا جميعًا على السطح مرةً أخرى قال «تختخ»: أُريدكم جميعًا أن تنتشروا على السفينة، وتبحثوا عن الرجل المشلول … ومن السهل طبعًا العثور عليه إذا كان موجودًا.

أمَّا «تختخ» فقد وقف بجوار سلَّم السفينة، يشهد عودة بقية المسافرين الذين نزلوا مثلهم إلى البر؛ لزيارة «بيريه» أو «أثينا» … كان يأمل أن يُشاهد عودة المشلول، أو التعرُّف على «باولو» … وأخذ الركَّاب يتزايد عددهم كلما اقترب موعد إقلاع السفينة … حتى إذا أشرفت الساعة على السادسة رُفع السلَّم، ودارت آلات الباخرة، واستدارت لتخرج من الميناء الضخم، بدون أن يرى «تختخ» الرجل المشلول … أو يتعرَّف على «باولو»!

وعندما اجتمع الأصدقاء على السطح، يشهدون خروج السفينة إلى عرض البحر، أكَّدوا جميعًا أنهم لم يجدوا أثرًا للرجل المشلول على ظهر السفينة، ولكن «محب» قال: لعله في قُمرته.

تختخ: نستطيع أن نتأكَّد بطريقةٍ سهلة … انتظروني هنا …

وذهب «تختخ» إلى الضابط المسئول عن جوازات المسافرين، وبعد أن حيَّاه قال: لقد تعرَّفنا على رجل مشلول كان يتفرَّج على مباريات الكرة … فهل تعرفه؟

الضابط: نعم … إنه إيطالي وقد نزل في «بيريه»!

تختخ: ولم يعُد؟

الضابط: لا، لم يعُد برغم أن تذكرته كانت إلى «فينسيا»، ولكن كل مسافرٍ حرٌّ أن يتصرَّف كما يشاء … لقد طلب جواز سفره ونزل ولم يعُد.

قال «تختخ»: شكرًا.

وانصرف وقد ارتسمت على وجهه ملامح التفكير العميق، وعندما انضمَّ إلى الأصدقاء قال لهم: لقد حدث ما توقعتُه … نزل المشلول إلى «بيريه» ولم يعُد … برغم أنه قطع التذكرة إلى «فينسيا»!

نوسة: مدهش جدًّا!

تختخ: طبعًا … شيءٌ غريب … ولكن هذا ما توقَّعتُه.

لوزة: ماذا تعني يا «تختخ»؟

تختخ: إنني أُفكِّر في أشياء كثيرة … تعالَوا نقِف في مكانٍ بعيد عن بقية الركَّاب.

واختاروا ركنًا بعيدًا على ظهر السفينة. وقف «تختخ» يتحدَّث إليهم بصوتٍ هامسٍ قائلًا: أرجو أن تظلوا مستيقظين هذه الليلة، وبملابسكم الكاملة؛ فإنني أتوقَّع أن أُقابل «باولو» الليلة.

وسكت «تختخ» قليلًا، ثم عاد إلى الحديث قائلًا: إنه — كما لاحظ «محب» — ينزل من على السلَّم الأيسر إلى قلب السفينة. أُريدكم أن تقفوا في أماكن متقاربةٍ على طول الجانب الأيسر، بحيث ترونه ولا يراكم … فإنني أُريد أن أعرف أين يذهب بعد مقابلتي … المهم ألَّا يراكم.

محب: ولكن لماذا يا «تختخ»؟

تختخ: دعك الآن من الأسئلة يا «محب»، وهيَّا لنرى السلَّم الأيسر، ونختار لكلٍّ منكم مكانه من الآن؛ حتى لا ترتبكوا.

وذهب الأصدقاء إلى الجانب الأيسر للسفينة … ثم نزلوا السلَّم، واختاروا لكل واحدٍ منهم مكانًا يستطيع أن يقف فيه، بدون أن يراه «باولو» وهو عائد، ثم صعدوا إلى السطح مرةً أخرى انتظارًا لموعد العشاء، أمَّا «تختخ» فقد اتجه إلى قُمرات الدرجة الأولى؛ ليراقب القمرة رقم «٣»، حيث ينزل «مارسيل»، كما طلب منه «باولو».

اقترب «تختخ» من القُمرة في هدوء … ثم نظر حوله … لم يكن هناك أحد؛ فقد خرج كل المسافرين للعشاء … وخطر في رأسه خاطر سرعان ما نفَّذه … مدَّ يده واختبر الباب فوجده مفتوحًا … ودفع الباب بهدوء، وخطا خطوةً إلى الداخل … كان الظلام يسود القُمرة … وكاد «تختخ» يُغلق الباب ويدخل، لولا أن أحسَّ فجأةً بخطرٍ قريب … وخُيِّل إليه أنه يسمع صوت أنفاس تتردَّد في القُمرة المظلمة … ثم خطر بباله سؤال: كيف يترك «مارسيل» باب قُمرته مفتوحًا؟ إن ذلك شيءٌ غير عادي من مُهرِّب أو رجلٍ يعمل مع عصابةٍ خطيرة كعصابة «كلب البحر» … وهكذا تراجع خطوة، وأغلق الباب وانطلق إلى العشاء.

كان الأصدقاء مرةً أخرى قد سبقوه، وجلسوا في ركنٍ بعيد، لم يكن يستطيع الوصول إليه بعد أن احتلَّ بقية الركَّاب أماكنهم … وارتاح «تختخ» لجلوسه وحيدًا؛ فلا بد أن «باولو» سيُحاول الاتصال به الليلة، وهذه فرصة ليُرسل له رسالة … وفرصة ﻟ «تختخ» ليأخذ باله جيدًا؛ فقد يستطيع التعرُّف على «باولو» … إذا كان هو الذي سيضع الرسالة … أو يتعرَّف على أحد أعوانه.

ورفع «تختخ» الطبق الأول لعله يجد الرسالة، كما وجدها في المرة الأولى، ولكنه لم يجِد شيئًا … وجاء الطعام فتناوله في بطء … فقد كان ذهنه يعمل في سرعة، وهو يُفكِّر في الرجل المشلول … ومغامرته في مخزن الآثار العجيب، وإنقاذ «باولو» له في الوقت المناسب، وإلا ضاعت فرصة وصوله إلى السفينة.

كان هناك سؤال يُلحُّ عليه: كيف عرف «باولو» مكانه؟ إنه قطعًا ضابط ممتاز … ولا بد أنه لا يعمل وحده … وقبل أن يستمرَّ في أفكاره وجد الأصدقاء يُحيطون به … فأسرع في الانتهاء من طعامه، وقام معهم، واتجهوا جميعًا إلى سطح السفينة، وازدحم السطح بالركَّاب بعد العشاء يستروِحون النسيم … ويتناولون المرطبات … وكانت الموسيقى الراقصة تصدح على السطح، والأنوار الملوَّنة تنعكس على البحر الهادئ، فقالت «نوسة»: إننا في حلمٍ جميل!

ردَّ «عاطف»: ولكن «تختخ» لا يُحب الأحلام؛ فقد زجَّ بنا في مغامرة مخيفة.

قال «تختخ»: لقد كنتُ أُحاول إبعادكم عنها فعلًا؛ فليس هذا وقت المغامرات … وفي إمكانكم أن تنسحبوا.

قالت «لوزة» في عتاب: كيف ننسحب ونتركك وحدك أمام هذه العصابة الخطيرة؟ … إن ما يُصيب أي واحدٍ فينا كأنه أصابنا جميعًا.

عاطف: لم أكن أقصد أن تغضب يا «تختخ» … إنني طبعًا معكم في كل شيء.

تختخ: إذن لا تنسَوا أماكنكم … إن جزءًا كبيرًا من خطتي متوقِّف على مقابلتي ﻟ «باولو» … وقدرتكم على متابعته.

ومضت ساعة … وبدأ الجو يبرد … فقرَّر الأصدقاء النزول إلى قُمراتهم واستكمال السهرة هناك.

عندما دخل «تختخ» قُمرته، وأضاء النور … لاحظ وجود ورقةٍ على الفراش مطبقة بعناية، ففتحها … وكانت كما توقَّع من «باولو»:

سأراك الليلة في المكان نفسه … موعدنا منتصف الليل.

قال «تختخ» ﻟ «محب»: كونوا على حذرٍ تمامًا يا «محب» … سوف أُقابل «باولو» الليلة … وأُريد أن أعرف منه تفاصيل أكثر عن العصابة … إنني لا أُريد أن أقف متفرِّجًا فقط … فإذا كان يُريدنا أن نُساعده فلا بد أن يُشركنا في خططه … فإذا استطعتم معرفة مكانه؛ فسوف نُثبت له أننا قادرون على مساعدته فعلًا … ولسنا مجرَّد أولاد يُوجِّههم كما يشاء.

واستلقى «تختخ» على فراشه مستيقظًا … وكذلك فعل بقية الأصدقاء. وعندما أشرفت الساعة على منتصف الليل، أسرع «محب» و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة» إلى أماكنهم للمراقبة … وبعدهم اتجه «تختخ» إلى السطح، ومنه إلى مقدمة السفينة لمقابلة «باولو».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤