أين الصندوق؟

ركب الأصدقاء مع البارونة «شيليا» القارب البخاري الفخم الذي كان في انتظارها … وأخذ القارب يشق طريقه وسط شوارع «فينسيا»، المدينة الوحيدة في العالم التي تتكوَّن شوارعها من قنوات مائية … المدينة التي عرفها العرب باسم «البندقية» … ويُسمِّيها الإيطاليون «ملكة البحار»؛ حيث ينتقل الناس من مكانٍ إلى آخر بواسطة القوارب البخارية أو «الجندول» ذي المجاديف.

قالت البارونة «شيليا»: هذه أول مرة تزورون فيها «فينسيا» على ما أعتقد؟

ردَّ «تختخ»: إنها أول مرة فعلًا … بل هي أول مرة نخرج فيها من مصر إلى العالم الخارجي.

شيليا: إن «فينسيا» مدينة ساحرة خاصةً في الصيف … حيث تحفل المدينة بالسيَّاح من كل مكان، وتُقام المهرجانات، ولحسن حظكم في هذا العام يُقام «بينالي فينسيا»، وهو أكبر معرض دولي للرسم … ويقع في الطرف الجنوبي للمدينة، حيث يوجد جناح لكل دولة في العالم، تعرض فيه رسومها وتماثيلها.

تختخ: ولكننا لن نبقى طويلًا في «فينسيا»؛ فنحن مرتبطون بالذهاب إلى «ميلانو» لمقابلة عمي هناك.

شيليا: لا بد أن تبقَوا حتى تحضروا مهرجان «رد سنتور»، وهو أكبر مهرجان يُقام في «فينسيا»، وموعده الأحد الثالث من شهر يوليو كل عام … ولم يبقَ عليه سوى يومَين فقط.

تختخ: وموعدنا مع عمي في ميلانو؟

شيليا: سنتصل به تليفونيًّا، ونُخطره أنكم ستبقون هنا بعض الوقت.

كان بقية الأصدقاء يُتابعون حديث البارونة «شيليا» و«تختخ» وهما يتحدَّثان الإنجليزية، وفهموا بعضًا من الحديث، فالتفت «تختخ» إليهم وأوضح لهم بسرعة اقتراح «شيليا».

تحمَّس الأصدقاء للبقاء … فقد كان المنظر حولهم رائعًا … والقارب يمضي عبر «الجراند كانال»، وهو الطريق الرئيسي وسط المدينة، وكانت المنازل القديمة تفتح أبوابها مباشرةً على الماء وتقف أمامها القوارب … والكباري الصغيرة المنحنية تربط الشاطئ … وموسيقى المقاهي والكازينوهات تتردَّد … وأبراج الكنائس والمتاحف والقصور ترتفع في الجو.

قالت «نوسة» مبهورة: إني لم أرَ في حياتي مشهدًا أروع من هذا!

وقال «تختخ»: إنني أتمنَّى أن أبقى هنا شهورًا طويلة.

ثم أضاف «تختخ» موجِّهًا حديثه للبارونة: إن الأصدقاء سعداء جدًّا بوجودهم في «فينسيا»، ويبدو أنهم موافقون على تلبية دعوتك للبقاء بضعة أيام في «فينسيا».

ابتسمت البارونة قائلة: إن هذا يسرني جدًّا؛ فإنني أسكن في قصر كبير وحدي، وسوف تملئون القصر بهجةً وحركة.

وأخذ «تختخ» يتذكَّر كيف التقى بالبارونة بالمصادفة على ظهر الباخرة «سوريا»، وتذكَّر «كلب البحر»، المهرِّب الدولي الخطير الذي دوَّخ رجال الشرطة وحيَّرهم في العالم، ثم وقع في يد المغامرين الخمسة … ودقَّ قلبه سريعًا عندما تذكَّر تحذير المفتش «باولو» له قائلًا: سوف تنتقم عصابة «كلب البحر» منكم، فكونوا على حذر.

نعم … يجب أن يكون على حذرٍ تمامًا … لقد استطاع أن يوقع ﺑ «كلب البحر» ويُسلِّمه للبوليس الإيطالي أو «الكستورة» كما يُسمُّونه في اللغة الإيطالية … ولا بد أن ﻟ «كلب البحر» عصابةً كبيرة … ولا بد أن هذه العصابة ستُحاول الانتقام منهم، فلْيكن على حذر … فهو المسئول عن الأصدقاء جميعًا في هذه الرحلة.

اقترب القارب من جسرٍ قديم ضخم، فقالت البارونة «شيليا»: هذا هو جسر «الريالتو» أقدم جسر في «فينسيا»، ويربط بين الضفة اليمنى والضفة اليسرى ﻟ «الجراند كانال»، وهو كما ترون أكبر شوارع «فينسيا» … لقد بُني هذا الجسر من ٤٠٠ سنة تقريبًا، وما زال قائمًا كما ترون حتى الآن.

وأخذ الأصدقاء يتأمَّلون الجسر العجيب، كان أقرب إلى المنزل منه إلى الجسر … فهو مسقوف … وله ٥ نوافذ على الجانبَين، وعليه آلاف النقوش والورود.

قالت «لوزة»: إنه أغرب جسر شاهدته.

عاطف: إن كل شيء هنا غريب ومثير.

وانحرف القارب من الطريق الرئيسي إلى طريق جانبي صغير … ودار في الماء دورةً واسعة، ثم وقف أمام مرسًى للقوارب، وقالت «شيليا» مشيرةً إلى قصر كبير: هذا هو قصر «لونجي» حيث أسكن … إنه قصر قديم تملكه هذه الأسرة العريقة، وقد استأجرته منها منذ سنوات.

وحمل الأصدقاء حقائبهم وصعدوا في المرسى إلى أعتاب القصر التي كانت تصل إلى الماء … كان القصر محاطًا بحديقة كبيرة، وسمع الأصدقاء نباح كلاب قادمة … ثم ظهرت ثلاثة كلاب ضخمة، أسرعت تُلقي بنفسها على البارونة العجوز التي بدت سعيدةً بهذا الاستقبال الحماسي للكلاب، برغم أن الكلاب كادت تُسقطها أرضًا.

•••

وقف الأصدقاء مذهولين أمام ضخامة الكلاب ووحشيتها الواضحة، فقالت البارونة: تعالَوا أُعرِّفكم بها. وتردَّد الأصدقاء، ثم تقدَّم «عاطف» قائلًا بسخريته المعهودة: لو كان «زنجر» معنا لسرَّه كثيرًا أن يتعرَّف بها.

قالت «شيليا»: إنها كلاب من نوع «الماستيف» الضخم، وهي أحسن كلاب حراسة في العالم.

وتذكَّر «تختخ» عصابة «كلب البحر»، وأدرك أن هذه الكلاب الثلاثة قد تلعب دورًا هامًّا إذا تعرَّضت لهم العصابة، وهكذا تقدَّم وأخذ يربت على رءوس الكلاب بيده … وأخذت الكلاب تزوم في وحشية برغم أن البارونة كانت تقوم بتهدئتها … وشيئًا فشيئًا بدأت الكلاب الثلاثة تهدأ، وصعد الأصدقاء درجات القصر إلى داخله.

كان قصرًا قديمًا يعود تاريخه إلى القرون الوسطى … أي إن عمره يصل إلى ٥٠٠ سنة أو أكثر … وقد أُدخلت فيه التعديلات والتحسينات … فأضيء بالكهرباء … ودخلته مواسير المياه النقية … ولكن كل شيء عدا ذلك بقي على حاله، ورفع الأصدقاء رءوسهم إلى فوق يُشاهدون سقفه الذي غطَّته اللوحات الزيتية الفخمة الثمينة … وفي الصالة الواسعة حيث كانوا يقفون … كانت التماثيل الضخمة تقف وكأنها صفوف من الفرسان في ميدان قتال … وقالت البارونة: إنني أُحب هذا القصر جدًّا … ولعلكم تلاحظون رأس «كلب البحر» المنحوت على الجدران، إنه شعار أسرة «لونجي» التي استأجرت منها القصر.

وما كادت «شيليا» تذكر «كلب البحر» حتى عاد الأصدقاء جميعًا بذاكرتهم إلى الأيام الخمسة الماضية التي قضوها على ظهر السفينة «سوريا» في صراع مع المهرِّب الذي يحمل هذا الاسم … «كلب البحر»، وقال «تختخ» في نفسه: هل هناك علاقة بين «كلب البحر» وهذه الأسرة؟ وهل هناك علاقة بين «شيليا» وبين «كلب البحر»؟!

قالت البارونة: ستنزلون في جناح يطل على الماء … لتستمتعوا بمشاهدة «الجندول» والسيَّاح ومشاهد الليل الجميلة.

وقبل أن يصعد الأصدقاء إلى جناحهم عرَّفتهم البارونة بالخدم الذين يعملون في القصر … «فيتوريو» كبير الخدم … و«جينا» … مديرة القصر … وثلاثة خدم آخرين.

وصعدت معهم «جينا» إلى فوق حيث اختاروا أماكن مبيتهم، وقالت لهم «جينا» وهي تبتسم كلامًا باللغة الإيطالية لم يفهمه الأصدقاء، ولكن «تختخ» فهم كلمتَين منه هما «مانجاري» و«جاردينو»، فقال للأصدقاء: «مانجاري» يعني طعام، و«جاردينو» يعني حديقة، فهي تقصد أن طعام الغداء سيكون بالحديقة.

نوسة: لقد استفدتَ من وقتك حقًّا … كنتُ أظن أنك لم تتعلَّم شيئًا.

تختخ: لقد تعلَّمت نحو مائة كلمة في الأيام الخمسة الماضية؛ فإني أحب تعلُّم اللغات.

لوزة: أُريد أن أشرب.

قال «تختخ» ﻟ «جينا»: أكوا … بير فافوري.

أحنت «جينا» رأسها دلالة الفهم وانصرفت، فقال «تختخ»: «أكوا» يعني ماء … «بير فافوري» يعني من فضلك.

صاحت «لوزة» في مرح: أكوا … أكوا … بير فافوري … بير فافوري. سأذكر هذا جيدًا حتى لا أموت من العطش.

أسرع الأصدقاء إلى دورات المياه، فاغتسلوا وأبدلوا ثيابهم، وعادت «جينا» ومعها الماء، وبعد أن شربت «لوزة» سألت «تختخ»: كيف أقول لها شكرًا؟

تختخ: جراتسي.

التفتت «لوزة» إلى «جينا» قائلة: جراتسي.

أحنت «جينا» رأسها وقالت: بريجو.

وانصرفت «جينا» فقالت «نوسة»: إنها سيدة طيبة حقًّا … وشكلها يوحي بالثقة والاطمئنان.

انتهى الأصدقاء من الاستعداد للنزول، وبعد لحظات صعدت «جينا» تستدعيهم، فقالت لها «لوزة»: مانجاري؟

أحنت «جينا» رأسها قائلة: مانجاري جاردينو.

ونزل الأصدقاء إلى الحديقة ولم تكن البارونة «شيليا» قد نزلت بعد … فأخذوا يُشاهدون الحديقة الواسعة … وسبقهم «تختخ» إلى سور الحديقة الذي كان قريبًا من الماء، ووقف يتأمَّل قوارب «الجندول» السوداء وهي تحمل رُكَّابها بين مكانٍ وآخر …

وفجأةً وجد يدًا تمتد من السور إليه بورقة … وبحركة ميكانيكية مدَّ يده فأخذها دون أن يُحاول معرفة من يحملها.

وفتح الورقة وكانت مفاجأة عندما قرأ فيها هذه الكلمات: «الصندوق الذي أعطاه لك «كلب البحر»، احتفظ به حتى نطلبه منك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤