«سان ماركو»

وضع «تختخ» الورقة في جيبه دون أن يُحاول اللحاق بمن أعطاها؛ فقد كان متأكِّدًا أنه لن يستطيع إذا حاول الخروج من باب الحديقة والدوران حولها الوصول إليه. وسمع صوت مجاديف تبتعد … ورجَّح أن يكون في هذا القارب الرجل الذي كان يحمل الرسالة.

دار «تختخ» على عقبَيه متجهًا إلى حيث وُضعت مائدة الغداء … وكانت البارونة «شيليا» قد وصلت، وجلس الجميع بين الأشجار والورود، وتناولوا غداءً شهيًّا من سمك «فينسيا» الشهير … كان كل شيء جميلًا، والأصدقاء في غاية المرح إلا «تختخ» … فقد كان مشغولًا بالورقة التي وضعها في جيبه واستولت على تفكيره؛ فلم تترك مكانًا في رأسه للتفكير في غيرها …

وأخذ يتذكَّر الصندوق الصغير الذي أعطاه إياه «كلب البحر»، لقد نسيه تمامًا بعد أن أخذه … لا يذكر أين وضعه! هل يتذكَّر أحدٌ من الأصدقاء؟ سوف يسألهم.

وإذا لم يجِد الصندوق فماذا يفعل؟ إنها مشكلة خطيرة، وقد تحرَّكت العصابة سريعًا … وعليه من الآن أن يكون حذرًا.

انتهى الغداء فقالت البارونة: سأصعد إلى غرفتي لأرتاح قليلًا، وفي المساء سوف نذهب جميعًا إلى ميدان «سان ماركو» أكبر وأشهر ميادين «فينسيا»، حيث يتجمَّع السيَّاح من جميع أنحاء العالم لمشاهدة كنيسة القديس «ماركو». إن هذا الميدان هو قلب «فينسيا».

قال «تختخ»: سنبقى في الحديقة وسنكون مستعدين في المساء. وصعدت «شيليا» إلى القصر … وبقي الأصدقاء … وكان رئيس الخدم «فيتوريو» يقف على مبعدة منهم في انتظار أن يُلبِّي طلباتهم.

قال «تختخ» وعلى وجهه سيماء الجد والخطورة: لقد تحرَّكت عصابة «كلب البحر» أسرع ممَّا توقعتُ بكثير!

نظر إليه الأصدقاء في دهشة، فعاد للحديث قائلًا: لقد وصلتني رسالة من العصابة منذ ساعة تقريبًا … امتدَّت يدٌ بها من خلال السور.

سأل «محب»: وماذا تُريد العصابة منا؟!

تختخ: تُريد الصندوق الذي سلَّمه لنا «كلب البحر»!

محب: وكيف عرفت العصابة أن «كلب البحر» سلَّم لنا هذا الصندوق؟

تختخ: لا بد أنه أبلغهم بطريقةٍ ما، ولعل أحدهم كان على ظهر السفينة دون أن ندري!

عاطف: وأين هذا الصندوق الآن؟

تختخ: لا أدري … لقد نسيته تمامًا في فترة الصراع التي كانت بيننا وبين «كلب البحر».

نوسة: وهل تعتقد أن العصابة ستتركنا في سلامٍ إذا عثرتْ على هذا الصندوق؟

تختخ: وكيف أعرف؟ إن لهذا المهرِّب الخطير عصابةً قوية، ولا بد أنها ستنتقم كما قال لنا المفتش «باولو».

لوزة: إنني أشعر بالخوف؛ فنحن في بلد بعيد … وليس لنا أصدقاء سوى البارونة «شيليا»!

تختخ: للأسف، حتى البارونة لا نستطيع أن نثق بها تمامًا … لقد اكتشفتُ أن شعار أسرة «لونجي» صاحبة القصر هو رأس حيوان «كلب البحر» … وستجدونه محفورًا في كل مكان، حتى على القارب الذي جئنا به … ولعل ﻟ «كلب البحر» علاقةً بالبارونة … أو القصر … أو أحد الخدم الذين فيه … يجب ألَّا نثق إلا في أنفسنا!

نوسة: في هذه الحالة أقترح أن نُسافر فورًا إلى «ميلانو»! …

تختخ: لقد عرفت العصابة مكاننا … وسواء كنا هنا أو في الطريق إلى «ميلانو» أو في «ميلانو» نفسها … فنحن لسنا في مأمنٍ من العصابة!

محب: ولكن لعل البوليس الإيطالي أخذ الصندوق!

تختخ: لو أن البوليس أخذه لعلمت العصابة، ولم تُطالبنا به. وعلى كل حال … لننتظر ولنرَ … ولا بد أن العصابة ستتصل بنا بطريقةٍ ما، وسوف أُخبرهم أن الصندوق ليس معنا.

وقضى الأصدقاء بعض الوقت في مشاهدة القصر القديم الذي تُحيط به المياه، كما تُحيط بكل بيوت «فينسيا»، وقالت لهم «شيليا» عندما نزلت تصحبهم في الرحلة إلى «سان ماركو»: إن لهذا القصر مداخل وسراديب تحت الماء لا يعرفها أحد.

وعندما اقتربت الساعة من الخامسة ركب الجميع القارب واتجه بهم إلى ميدان «سان ماركو».

قالت «لوزة» وهم يقفون على سلالم الميدان الكبيرة: هل يملك كل السكَّان قوارب؟

قالت «شيليا»: لا … إن هناك «أوتوبيسات» لها محطات في كل مكان؛ مثل «الأوتوبيسات» في المدن الأخرى … الفارق أن «الأوتوبيسات» هنا زوارق كبيرة، وأن محطاتها موانئ صغيرة … ولها تذاكر بين مسافة وأخرى كالمعتاد.

وصعد الجميع السلالم إلى الميدان الكبير … الذي كان مزدحمًا بالألوف من الزوَّار، تُحيط به المباني القديمة من ثلاث جهات، وفي صدره كنيسة «سان ماركو» الشهيرة وبرجها المرتفع. وكان اللون الأحمر يغلب على المكان كله، وأُلوف من الحمَام تطير وتنزل على الأرض، حيث تتناول الطعام من أيدي الناس دون خوف … فهناك قانون يمنع صيدها … وكان باعة الصور والمأكولات والمثلَّجات يقفون بجوار الجدران … والرسَّامون يجلسون على مقاعدهم الواطئة يرسمون الآثار أو يرسمون السيَّاح مقابل نقود قليلة … وكانت هناك فرقة من الموسيقى تعزف … وبعض الناس يرقصون، وقالت «نوسة» للأصدقاء وهي مبهورة: إنه منظر لا يُنسى! … شيء لا يُصدِّقه العقل!

وترجم «تختخ» كلماتها إلى «شيليا» التي قالت: إنه يصبح أجمل ليلًا عندما تُضاء الأنوار ويرقص الجميع على أنغام الموسيقى.

وظلَّ الأصدقاء يستمتعون بما حولهم، وفجأةً شاهد «تختخ» وجهًا يعرفه … إنه وجه «ستافرو»! … الرجل المشلول الذي كان معهم على السفينة ونزل في «بيريه» … ثم تبعه «تختخ» إلى مخزن الآثار في «أثينا».

التقت عينا «تختخ» بعينَي «ستافرو»، وكان مدهشًا أن «ستافرو» ابتسم له … كانت ابتسامةً خاطفة، اختفى على أثرها «ستافرو» في الزحام دون أن يُلاحظه بقية الأصدقاء.

مال «تختخ» على «محب» قائلًا: هل تذكر الرجل المشلول الذي كان على ظهر السفينة وطاردتُه في «أثينا»؟

محب: نعم … أظن اسمه كان «ستافرو».

تختخ: تمامًا … إنه هو. لقد تبادلنا النظرات، ثم اختفى في الزحام.

محب: إنها ليست مصادفةً طبعًا!

تختخ: طبعًا ليست صدفة … إنه يتبعنا!

محب: ولعل له صلةً بالرسالة التي وصلتك في حديقة القصر.

تختخ: أعتقد هذا.

واستمرَّ الأصدقاء في السير حتى قالت «شيليا»: تعبتُ من المشي وسأجلس على مقهى «فلوريان» … وفي إمكانكم أن تستمروا في التجوُّل على أن تعودوا بعد ساعة مثلًا.

قالت «لوزة»: لقد تعبتُ أنا أيضًا وسأجلس معك.

نوسة: وأنا أيضًا.

أمَّا «تختخ» و«محب» … و«عاطف» … فقد قرَّروا الاستمرار في التجوُّل إلى أن يهبط الظلام، واتجهوا إلى قلب الميدان، ووقفوا بجوار أحد الفنَّانين الذي كان يرسم صورةً لأحد السيَّاح … كان يرسم بسرعة، وشيئًا فشيئًا كانت ملامح الصورة تتضح … وقد وقف عددٌ كبير من الناس يُشاهدون … وبينما «تختخ» مستمتع وقد وضع يدَيه خلفه، أحسَّ بشيء يُدَس في يده … كانت ورقة … وعندما الْتفت ليرى صاحبها لم يجد إلا الوجوه التي تتطلَّع إلى الرسَّام في انتباه.

أدرك «تختخ» فورًا أنها رسالة أخرى من العصابة … وأحسَّ بقلبه يدق سريعًا. إن العصابة لن تتركهم دقيقةً واحدة … وانفرد بنفسه وفتح الورقة … وكانت مكتوبةً باللغة العربية كالرسالة الأولى، ولكن بخط مختلف، وكانت بها هذه الكلمات: «سأنتظرك غدًا في «سان ماركو» … برج الأجراس، الساعة التاسعة صباحًا … من الأفضل لكم عدم إبلاغ البوليس.»

وطوى «تختخ» الرسالة ووضعها في جيبه، ثم انضمَّ إلى «محب» و«عاطف» وأكملوا جولتهم، و«تختخ» مستغرق في التفكير، ثم انضموا إلى البارونة و«نوسة» و«لوزة» في مقهى «فلوريان»، وجلسوا يتناولون عصير الأناناس المثلَّج ويتفرَّجون على القادمين والرائحين.

قالت البارونة «شيليا» بالإنجليزية موجِّهةً كلامها إلى «تختخ» كالمعتاد: أقترح أن نتناول العشاء في أحد مطاعم المدينة، ثم نعود إلى القصر.

واستطاع الأصدقاء أن يفهموا ما تقصده البارونة، كما قال لهم «تختخ» أيضًا اقتراحها.

وافق الأصدقاء على الاقتراح، فدفعت البارونة الحساب، ثم وقفت ومشَوا جميعًا عبر الميدان الكبير إلى موقف القارب … وكان الظلام قد هبط وأُضيئت الأنوار في كل مكان، ودارت حلقات الرقص في الميدان … ووصلوا إلى القارب ونزلوا. قالت البارونة لقائده: هيا إلى قناة «جيوديكا»، سنتعشَّى في مطعم «سان سبستيانو».

ثم وجَّهت حديثها إلى «تختخ» قائلة: إن قناة «جيوديكا» تفصل بين «فينسيا» وجزيرة «جيوديكا»، والهواء هناك طلق وجميل، وسوف تستمتعون به.

ودار القارب أمام ميدان «سان ماركو»، ثم أخذ طريقه إلى قناة «جيوديكا» الواسعة … وكانت الأمواج مرتفعةً قليلًا، ولكن الهواء كان ناعمًا، واستمتع الأصدقاء برؤية «فينسيا» كلها مضاءةً بالليل … وأصداء الموسيقى تتردَّد حول الشواطئ … والناس يستمتعون بحياتهم.

أخذ القارب يشق المياه مسرعًا … وجلس الجميع صامتين يتأمَّلون ما حولهم، على حين كان «تختخ» يُفكِّر في الرسالتَين … الرسالة التي يطلب كاتبها الاحتفاظ بالصندوق … والرسالة التي يطلب صاحبها مقابلته في برج الأجراس في «سان ماركو» … لماذا كُتبت الرسالتان بخطَّين مختلفَين؟ وكيف سيتصرَّف؟! وقفزت إلى ذهنه كلمات «كلب البحر» وهو يُحاول أن يُوضِّح له العنوان الذي سيذهب إليه بالصندوق … إنه يتذكَّر كلمة «الريالتو» … نعم «الريالتو» … هل كان «كلب البحر» يقصد كوبري «الريالتو» القديم؟ لا شك أنه يقصده … وأخذ «تختخ» … يقدح ذهنه محاولًا تذكُّر بقية العنوان، ولكن عبثًا حاول … ولكن … ولكن … «محب» كان معه … وقد يتذكَّر بقية العنوان … فلْيسأله عندما يعودون إلى القصر.

ووصل الزورق إلى المطعم الكبير، وصعدوا جميعًا لتناول العشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤