برج الأجراس

بعد أن قضى الأصدقاء مع البارونة «شيليا» وقتًا جميلًا، وتمتَّعوا بعشاءٍ فاخرٍ في فندق «سان سبستيانو»، قرَّروا العودة إلى القصر … فقد كانوا جميعًا في حاجةٍ إلى الراحة. وعندما اقتربوا من «الجراند كانال» — وهي القناة الكبرى التي تشق «فينسيا» من وسطها — وجدوا المدينة ما تزال ساهرة … والموسيقى ترتفع من كل مكان … ولكنهم لم يكونوا على استعدادٍ للمشاركة في السهرة … لقد كانوا حقًّا في حاجةٍ إلى الراحة.

وانحرفوا يمينًا بعد ميدان «سان ماركو» بحوالي ثماني محطات «أوتوبيس»، ثم انحرفوا يمينًا مرةً أخرى فوجدوا أنفسهم أمام القصر، وكانت الكلاب «الماستيف» الضخمة تجري في الحديقة تحرس القصر، فأحسَّ «تختخ» بالاطمئنان، ومال على «محب» قائلًا: في حراسة هذه الكلاب الشرسة يمكن أن نقضي الليلة في سلام، ولكنني سوف أخرج قبلكم؛ فعندي موعد مع أحد أعضاء العصابة في برج الأجراس في «سان ماركو» في التاسعة صباحًا … فإذا لم أعد بعد ذلك بساعتَين … أو إذا لم ألتقِ بكم في ميدان «سان ماركو»، فعليك بإخطار البوليس الإيطالي واسمه «الكستورة» … وعندك كل المعلومات.

محب: ولماذا لا نُخطر البوليس من الآن يا «تختخ»؟

تختخ: لقد حذَّرَتني العصابة من الاتصال بالبوليس … والعصابات هنا قوية ويمكن أن تنتقم منا … وعندي أملٌ أن أُقنعهم أن الصندوق الذي سلَّمه لنا «كلب البحر» ليس معنا … ولا نعرف مصيره؛ فقد يتركوننا في سلام.

وبعد أن تبادل الأصدقاء تحية المساء، ذهب كلٌّ منهم إلى غرفته للنوم، وكانت «لوزة» … و«نوسة» تُقيمان معًا، و«عاطف» و«محب» … معًا … أمَّا «تختخ» فكان ينزل في غرفةٍ وحده.

عندما دخل «تختخ» غرفته وأضاء النور، أخذ يبحث في كل ركن منها؛ فقد كان يخشى أن يكون أحد أفراد العصابة مختبئًا فيها، أو يكونوا تركوا له رسالةً في غيبته.

كانت غرفةً واسعةً مرتفعة السقف — كما هي العادة في القصور القديمة — والفراش ضخم وقديم … وكان للغرفة نافذةٌ واسعة تُطل على القناة الفرعية التي يقع عليها القصر. ولاحظ «تختخ» لأول مرة وهو ينظر من النافذة أن القصر يتصل عند طرفه البعيد بقصرٍ آخر بواسطة جسرٍ مُعلَّق … وأحسَّ بالضيق؛ فلو أن شخصًا أراد دخول القصر لاستطاع دخوله عن طريق هذا الجسر دون أن تُحس به الكلاب.

وأخذ «تختخ» ينظر إلى المياه السوداء تحته، واستطاع بعد أن أدار رأسه أن يرى القناة الرئيسية حيث كانت قوارب الجندول الرشيقة السوداء بمجاديفها الطويلة تحمل السيَّاح، وترتفع منها الموسيقى تحت ضوء القمر المكتمل … كان مشهدًا رائعًا وشاعريًّا … وقرَّر «تختخ» أن يستأجر مع الأصدقاء جندولًا في اليوم التالي إذا استطاع أن يتخلَّص من العصابة.

خلع «تختخ» ثيابه واستلقى على فراشه محاولًا النوم، ولكن برغم تعبه الشديد لم يستطِع أن ينام … كان يُحاول تذكُّر ماذا جرى للصندوق الصغير الذي أحضره «كلب البحر» له … لقد سلَّمه له على ظهر السفينة في الليلة الأخيرة، ثم دار الصراع بينه وبينهم حتى تغلَّبوا عليه، ونسوا أمر الصندوق تمامًا … لقد كانت عليه ورقة ملصق عليها العنوان، فهل عثر عليه أحد الركَّاب أو أحد البحَّارة، وكان أمينًا فسلَّمه إلى العنوان الذي كان مكتوبًا عليه؟ … أو بقي في السفينة حيث لا يعلم أحدٌ أين ذهب؟

لقد نسي أن يسأل «محب» عن العنوان الذي حاول «كلب البحر» أن يجعله يحفظه … إنه يذكر منه فقط كلمة «الريالتو»، وهو لا شك الجسر القديم على «الجراند كانال» الذي شاهدوه هذا الصباح … ومضى الوقت وهو يسمع بين آونةٍ وأخرى صوت الكلاب وهي تنبح، وصوت الجندول وهو يمر، والموسيقى والسيَّاح … ولا يدري «تختخ» كم من الوقت مضى وهو يقظ، ولكنه في النهاية استسلم للنوم وهو يحلم بالموعد الذي سيذهب إليه غدًا صباحًا في برج الأجراس.

استيقظ «تختخ» في صباح اليوم التالي مبكِّرًا برغم نومته المتأخِّرة، ونظر في الساعة وكانت السابعة، وسرعان ما لبس ثيابه، ثم غادر القصر بعد أن سأل عن المحطة التي سيركب منها، وبالمصادفة الحسنة كانت المحطة رقم «٧» وهي محطة «الريالتو» فأسرع إليها … ووجد الجسر العتيق، وتذكَّر أن «كلب البحر» قال له على اسم محل لبيع أدوات الصيد بجوار الجسر، ونظر حوله، وسرعان ما وجد المحل وتذكَّر الاسم «جراتسي»، ومعناها بالإيطالية «شكرًا».

هذا هو العنوان … كلمة «جراتسي» بجوار جسر «الريالتو»، بقي أن يتذكَّر اسم الشخص الذي كان سيذهب إليه … إنه اسم إيطالي مشهور … ولكنه لا يستطيع تذكُّره الآن … ولم يُضيِّع وقتًا طويلًا … فقد كان عليه أن يلحق بموعده ليرى ماذا تُريد العصابة من هذا الموعد.

ووقف في صفِّ المنتظرين على المحطة … وكانت المحطة القائمة عبارةً عن صندوق ضخمٍ عليه كشك بيع التذاكر، وهناك سلسلتان من الحديد للاستناد عليهما عند اهتزاز المحطة وللمحافظة على النظام. وأخذ يتذكَّر كلمة تذكرة بالإيطالية حتى لا ينسى، وعندما جاء الدور عليه قال: البليتو … «سان ماركو» … ومعناها تذكرة إلى «سان ماركو» … وأخذ التذكرة، وبعد لحظات وصل القارب البخاري فقفز إليه، وانطلق القارب يحمل الركَّاب … واختار مكانًا بجوار النافذة، وأخذ يستمتع بالصباح الجميل في «فينسيا»، وأخذ يقول لنفسه سأحضر يومًا إلى «فينسيا» دون مغامرة … إن هذه المدينة العائمة ليست للمغامرات، ولكن للراحة.

أخذ القارب يقف في المحطات … حتى وصل إلى «سان ماركو»، فصعد «تختخ» إلى المحطة العائمة، ثم أخذ طريقه إلى الميدان … واستخدم الكلمات الإيطالية القليلة التي يحفظها حتى استطاع أن يصل إلى برج الأجراس المرتفع، وتجاوز المدخل المظلم ووقف قليلًا … كان هناك مصعد بطيء يحمل الذين يرغبون في الصعود إلى فوق للمشاهدة، ولم يكن هناك أحدٌ في هذا الصباح الباكر في المدينة التي اعتادت أن تسهر … وأدرك «تختخ» لماذا اختارت العصابة هذا الوقت المبكِّر … في هذا المكان المظلم … وتوتَّرت أعصابه وهو يركب المصعد وحيدًا إلى فوق … ولم يكن الدليل الذي يصحب السيَّاح في هذا المكان قد وصل بعد … إن العصابة رتَّبت الموعد ترتيبًا جيدًا!

وتركه عامل المصعد وحيدًا، ثم نزل … كانت الأجراس تتوسَّط البرج، وكان الضوء القليل الذي يُضيء المكان يأتي من النوافذ الأربعة العتيقة … وبجوار الجدران كانت تمتد شرفات من الطوب يقف عليها الزائرون، واختار «تختخ» مكانًا قرب إحدى النوافذ ووقف … وبعد لحظات نظر في ساعته، كانت التاسعة تمامًا … وسمع صوت المصعد الهادئ يأتي من جوف البرج، فأدرك أن عضو العصابة قد وصل.

ركَّز «تختخ» عينَيه على باب المصعد وهو يُفتح … وعندما فُتح الباب أصابته الدهشة … كان القادم هو «ستافرو»! … وتظاهر «ستافرو» أنه لم يعرف «تختخ»، وانتظر حتى أغلق المصعد بابه وهبط … ثم تقدَّم من «تختخ» مبتسمًا وكأنه صديق عزيز.

وكانت المفاجأة الثانية أن قال «ستافرو» بلغةٍ عربيةٍ أقرب إلى لغة أهل الإسكندرية: صباح الخير أيها المغامر!

صمت «تختخ» لحظاتٍ لوَقْع المفاجأة، ثم رد: صباح الخير.

ستافرو: إنك مندهش طبعًا لأنني أتحدَّث العربية.

تختخ: فعلًا!

ستافرو: إن من شروط عصابة «كلب البحر» ألَّا ينضم إليها إلا من يعرف عدة لغاتٍ من بينها العربية … ولا تنسَ أننا نعمل في البحر المتوسِّط ونذهب إلى بلادكم كثيرًا، وأنا شخصيًّا قضيت فترةً من حياتي في الإسكندرية.

تختخ: مدهش جدًّا!

ستافرو: هناك أشياء كثيرة مدهشة في انتظارك … هل وصلتك رسالتي؟

تختخ: وصلتني رسالتاك.

ستافرو: رسالتاي؟! مدهش! … إنني لم أُرسل لك سوى رسالة واحدة!

تختخ: وصلتني رسالة في القصر بمجرَّد وصولنا إلى هناك، ثم وصلتني رسالة في ميدان «سان ماركو»، وقد لاحظت أن خط الرسالتَين مختلف أحدهما عن الآخر.

ستافرو: وماذا كان في الرسالة الأولى؟

تختخ: لقد طلبوا مني أن أحتفظ بالصندوق الذي سلَّمه لي «كلب البحر».

ستافرو: وهل الصندوق عندك؟

تختخ: أبدًا.

ظهرت بوادر الغضب على وجه «ستافرو» فجأةً وقال: أنصحك أن تقول الحق. إن من السهل القضاء عليكم جميعًا، ولن يحميك البوليس منا.

تختخ: إنني أقول الحق … كل الحق … ولا شيء غير الحق.

ستافرو: أين ذهب الصندوق إذن؟!

تختخ: لا أدري، لقد نسيناه في أثناء المعركة بيننا على ظهر السفينة مع «كلب البحر» … نسيناه ولا نعرف عنه شيئًا!

ستافرو: إنني لا أُصدِّقك، ولعلك سلَّمته إلى «ماريو».

وتذكَّر «تختخ» فجأةً هذا الاسم … إنه اسم الشخص الذي طلب منه «كلب البحر» أن يُسلِّمه الصندوق في محل «جراتسي» عند كوبري «الريالتو»!

تختخ: إنني لم أُسلِّمه إلى «ماريو» … ولا غيره، وكيف أُسلِّم شيئًا لا أملكه وليس معي على الإطلاق؟!

ستافرو: إن «ماريو» هو الذي أرسل لك الرسالة الأولى.

تختخ: ولم تكن تعلم؟!

ستافرو: أبدًا!

تختخ: شيء مدهش ألَّا يعلم أفراد العصابة بتعليمات الزعيم!

ستافرو: إذا أخبرتني أين الصندوق الآن، سوف لا أتعرَّض لك بعد ذلك … فلا بد أن أحصل على الصندوق … وما هو عنوان «ماريو»؟

تختخ: إنني لا أعرف أين «ماريو».

ستافرو: ألم يقل لك «كلب البحر» على مكانه؟ ألم يكتبه لك؟

أدرك «تختخ» أن معه ورقةً رابحةً هي عنوان «ماريو»؛ فإن «ستافرو» لا يعرفه، فقال: لقد قاله لي ولكني نسيته، وكان العنوان موجودًا على الصندوق ولكنه فُقد!

ستافرو: حاوِل أن تتذكَّره.

تختخ: سأحاول … ولكن كيف لا تعرف أنت مكانه؟

ستافرو: لقد كان «كلب البحر» يُخفي عن عصابته أسراره … بل إن بعضنا لا يعرف الآخر … وبعد القبض عليه ظن «ماريو» أن الصندوق معي … وظننتُ أن الصندوق معه، فاختلفنا اختلافًا شديدًا، وانقسمت العصابة على نفسها … بعض أفرادها انضمَّ لي، وبعضها انضمَّ إلى «ماريو»، وكل مجموعة تُحاول الحصول على الصندوق … وأنت وحدك الذي يعلم مكانه.

تختخ: إنني لا أعرف شيئًا.

ستافرو: سأمنحك فرصةً حتى الغد لتتذكَّر مكان الصندوق، وإلا فسوف أنتقم منك … فإذا قلتَ لي مكانه حميتك من مجموعة «ماريو» … هذ آخر كلام لي معك.

وطلب «ستافرو» المصعد ونزل … وبعد دقائق كان «تختخ» ينزل هو الآخر وقد تضاربت في رأسه الخواطر والأفكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤