بين نارَين

عندما نزل «تختخ» من برج الأجراس لم يكن ميدان «سان ماركو» قد ازدحم بعد؛ فلم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة والنصف، وهكذا استطاع العثور على الأصدقاء بسرعة حيث كانوا يجلسون على مقهى «فلوريان»، ولم تكن البارونة معهم؛ فقد ذهبت في زيارةٍ عند بعض الأصدقاء.

انضمَّ «تختخ» للأصدقاء الذين لاحظوا فورًا أنه متغيِّر الوجه، فقالت «لوزة»: يبدو أن خلفك أخبارًا غير سارَّة.

ردَّ «تختخ» وهو يتنهَّد: بين نارَين … نار «ستافرو» وعصابته، ونار «ماريو» وعصابته.

نوسة: ما معنى هذا؟

تختخ: عندما قُبض على «كلب البحر» انقسمت عصابته الكبيرة، فانضم بعض الأفراد إلى «ستافرو»، ذلك المشلول الذي التقينا به على ظهر السفينة، والذي طاردته في أثينا، وبين «ماريو» الذي كنت سأُسلِّمه الصندوق على حسب تعليمات «كلب البحر».

عاطف: وما دخلنا نحن في صراع العصابتَين؟!

تختخ: إن كل عصابة منهما تُريد الصندوق الذي سلَّمه لي «كلب البحر»؛ فقد وصلتني رسالة من «ماريو» أولًا يطلب مني الصندوق، ثم قابلت «ستافرو» وطلبه مني … وكلٌّ منهما يظن أنني سأُعطي الصندوق للآخر!

لوزة: وأين الصندوق؟

تختخ: هذا هو السؤال الصعب … فإنني كنت قد نسيت الصندوق تمامًا عندما اشتبكنا مع «كلب البحر» على ظهر السفينة، نسيته هناك … ولا أدري أين ذهب، ويبدو أن بالصندوق كميةً غاليةً من المهرَّبات … وكلٌّ منهما يُريد الحصول عليها.

محب: إن الصندوق إمَّا أن أحد بحارة السفينة عثر عليه، أو عثر عليه أحد الركَّاب … وما دام العنوان مكتوبًا عليه؛ فلا بد أنه سلَّمه إلى العنوان.

تختخ: لقد تذكرتُ العنوان، وأنت يا «محب» كنت معي عندما حاول «كلب البحر» أن يجعلني أحفظه، فهل كان محل «جراتسي» بجوار جسر «الريالتو» … واسم من يتسلَّم الصندوق «ماريو»؟

محب: تمامًا … هذا ما أتذكَّره بالضبط.

عاطف: ولكن هذا العنوان لم يعُد يُهمُّنا في شيء … فالصندوق ليس معنا.

تختخ: فعلًا … ولكن يبقى أننا نعرف مكان عصابة «ماريو» … وأن نعرف شيئًا خير من ألَّا نعرف شيئًا على الإطلاق … ونستطيع أن نُبلِّغ رجال البوليس الإيطالي — وبالإيطالية «الكستورة» — يمكن أن نُبلِّغهم بمكان عصابة «ماريو» إذا احتاج الأمر.

نوسة: ولكن لن يجدوا شيئًا هناك.

تختخ: معكِ حق، ولكن يمكن مراقبة المكان، وعن طريق المراقبة يمكن الوصول إلى العصابة.

محب: وحتى إذا استطعنا ذلك، فماذا نقول لرجال «الكستورة»؟

وفي هذه اللحظة وصلت البارونة «شيليا» وصاحت بالأولاد: سنشترك غدًا في المهرجان الكبير الذي يُقام كل عام ونُسمِّيه «الرد سنتور»، وهو مهرجان يشترك فيه جميع سكان «فينسيا». أمَّا الآن فنحن مدعوون إلى شاطئ «الليدو» حيث نقضي طول اليوم.

صاحت «لوزة» في ابتهاجٍ عظيم وقد نسيت كل شيء: … ولكن ليس معنا ملابس بحر!

البارونة: ستجدون هناك كل ما تحتاجون إليه من ملابس وألعاب … هيا بنا.

وتحرَّك الجميع إلى القارب السريع الذي كان يقف في انتظارهم، وسرعان ما انزلق بهم فوق المياه في طريقه إلى شاطئ «الليدو» الشهير.

كان الشاطئ بعيدًا إلى حدٍّ ما … فظل القارب يشق المياه مسرعًا نحو ساعة في البحر الواسع حتى وصل إلى شاطئ «الليدو»، ونزل الأصدقاء إلى الرمال عند الكازينو الكبير، حيث كان في انتظارهم بعض أصدقاء البارونة، وسرعان ما اندمجوا معًا … ووجدوا كل ما يحتاجون إليه من ملابس وأدوات لعبٍ للبحر … وقوارب مطاط … وانتهز «تختخ» الفرصة وأخذ أحدَ القوارب المطاطية وأخذ يُجدِّف مبتعدًا عن الشاطئ، حتى وجد نفسه بعيدًا عن الأصدقاء جميعًا، فاستلقى على ظهره فوق القارب الصغير وأخذ يستمتع بالوحدة والسماء الزرقاء … ومضى بعض الوقت، ثم أحس «تختخ» بالقارب يهتز بشدة، فجلس مسرعًا وشاهد وجهًا بجوار القارب وعليه ملابس الغوص، ورأى يدَي الغواص تهز القارب بشدة.

صاح «تختخ»: ماذا تفعل؟!

لم يكن واضحًا من الوجه سوى العينَين خلف زجاج قناع الغوص الأسود، ثم مدَّ الرجل يده ونزع القناع وقال بلغة عربية: أنا «ماريو».

وأخذ كلٌّ منهما يُحدِّق في الآخر … ثم أضاف «ماريو»: لقد أرسلتُ لك خطابًا أمس عن الصندوق … إنني أُريد الصندوق؛ فقد كان مرسلًا لي.

ردَّ «تختخ»: إنني لا أعرف أين ذهب هذا الصندوق، لقد نسيت أمره تمامًا.

ضاقت عينا «ماريو» وأرسل إلى «تختخ» نظرةً متوعدةً وقال: إنك بعيد الآن عن الشاطئ … وأستطيع أن أُغرقك.

نظر «تختخ» فوجد نفسه بعيدًا فعلًا … حتى لو صاح يطلب النجدة لما سمعه أحد. وكان في إمكان «ماريو» — لو أراد — أن يُغرقه فعلًا دون أن يتمكَّن أحدٌ من إنقاذه. وأدرك «تختخ» أن «ماريو» لا يُصدِّق أن الصندوق ليس معه … ولم تكن هناك فائدة من الحوار معه.

أخذ «ماريو» يهز القارب بشدة وكأنه يُنذر «تختخ»، ثم قال: إننا نُراقبك طول الوقت، وقد شاهدناك عندما ذهبتَ إلى برج الأجراس هذا الصباح وقابلت «ستافرو»، وأؤكد لك أنك إذا أعطيتَ الصندوق ﻟ «ستافرو» فسوف ننتقم منك … وليس أنت وحدك، ولكن أصدقاءك جميعًا.

وأعاد «ماريو» وضع القناع على وجهه، ثم غاص في البحر وابتلعته المياه الزرقاء.

أدار «تختخ» القارب الصغير وأخذ يُجدِّف على مهل في طريقه إلى الشاطئ. كانت الخواطر تكاد تُمزِّق رأسه وهو يُفكِّر فيما يجب أن يفعله … لقد وقع في عشرات المآزق … وخاض أكثرَ من صراع … واشترك مع الأصدقاء في حل عشرات الألغاز، ولكن هذا الموقف لم يحدث من قبل … إنهم بين نارَين؛ نار عصابة «ماريو»، ونار عصابة «ستافرو» … وهذا الصندوق ذهب لا يدري أين … وحتى لو كان معه … هل كان من الممكن أن يُسلِّمه لهم؟! إنه محشو بالمخدرات، فكيف يشترك في التهريب؟! وأخذ القارب يقترب من الشاطئ، وبدأت خواطر «تختخ» تهدأ تدريجيًّا. إن أمامه ثلاث خطط سيعرضها على الأصدقاء …

الأولى: أن يركبوا أول طائرة أو سفينة ويعودوا إلى أرض الوطن … الثانية: أن يطلب حماية البوليس الإيطالي حتى يصل إلى عمه في «ميلانو» … الثالثة: أن يقبل التحدي ويخوض صراعًا مع العصابتَين.

وعندما نزل إلى الشاطئ وجد الأصدقاء الأربعة قد انهمكوا تمامًا في اللعب مع بقية المجموعة … فصعد إلى شرفة الكازينو وطلب مشروبًا باردًا، ثم جلس يُفكِّر وهو ينظر إلى البحر بعيدًا … كان نداء المغامرة يستدعيه، ولو كان وحيدًا لما تردَّد لحظةً واحدةً في خوض المعركة … ولكن كان يشغل باله الأصدقاء، خاصةً «لوزة» الصغيرة. إن عصابة «ستافرو» أو عصابة «ماريو» لن تتردَّد في عمل أي شيء لتحصل على الصندوق، ولكن أين الصندوق؟! هذا هو اللغز.

وشيئًا فشيئًا بدأت فكرة تغزو رأسه … فكرة ممتازة تحتاج فقط إلى قدرٍ كبيرٍ من المهارة للتنفيذ … إن العصابتَين تُفكِّران أن الصندوق معه، فلماذا لا يكون الصندوق معه؟!

وظهرت «لوزة» في الشرفة تلبس «مايوه» أزرق جميلًا … ووجهها قد لوحته شمس «فينسيا» الدافئة، وأقبلت مسرعةً وصاحت: لماذا تجلس هنا وحيدًا؟ … إن المياه ممتعة … والأصدقاء الإيطاليون في غاية الظرف، فلماذا لا تُشاركنا اللعب؟!

ابتسم «تختخ» ﻟ «لوزة» ودعاها للجلوس معه، وطلب لها زجاجة كوكاكولا مثلجة، ثم قال لها: إننا الآن في مأزق يا «لوزة» … وأنا أشعر بالمسئولية؛ لأني كنت صاحب فكرة الرحلة إلى «فينسيا» … ثم إلى ميلانو، وكما تعلمين إن هناك صراعًا حول صندوق «كلب البحر» من عصابة «ماريو» وعصابة «ستافرو»، وإنني لا أخاف على نفسي ولكن أخاف عليكم.

قالت «لوزة»: لا تخف يا «تختخ» علينا، لقد استطعنا أن نمر بمغامرات رهيبة دون أن نفقد شيئًا … وسوف ننفذ هذه المرة أيضًا.

ابتسم «تختخ» وهو يقول: كيف؟ هل عندك خطة معيَّنة؟

قالت «لوزة»: خطتي الوحيدة الآن أن أستمتع بهذا الشاطئ الممتع وبعدها نُفكِّر في مواجهة العصابتَين.

ضحك «تختخ» طويلًا، ولم يستطِع مقاومة «لوزة» وهي تسحبه من يده، وتجره إلى البلاج حيث شارك الأصدقاء لعبهم ومرحهم، على حين كانت البارونة «شيليا» تُراقبهم وهي تجلس على الشاطئ سعيدة.

وانتهى اليوم الجميل في المساء، وركبوا القارب السريع عائدين إلى قصر «لونجي» حيث ينزلون … وأخذ كلٌّ منهم دشًّا دافئًا، ثم ارتاحوا قليلًا، ودعاهم «تختخ» قبل العشاء إلى اجتماعٍ في غرفته.

قال «تختخ»: أيها الأصدقاء … لقد مررنا حتى الآن خلال مغامرات كثيرة، وواجهنا معًا أعقد المواقف وأشدها خطورة … ولكن الموقف الذي نحن فيه الآن أخطرها جميعًا …

سكت «تختخ» لحظات، ثم عاد يقول: إننا لا نُواجه لصًّا واحدًا … ولا حتى عصابةً واحدة … ولكن نواجه عصابتَين في وقتٍ واحد … وليس هذا في مصر بين أهلنا أو قريبًا من المفتش «سامي»، حيث نطلب مساعدته في الوقت المناسب. إننا بعيدون عن الوطن بآلاف الأميال، وعلينا أن نُواجه المعركة وحدنا.

قال «عاطف»: خطبة بليغة حقًّا … إنك تستطيع أن تكون …

ولكن قبل أن يتم جملته صاح فيه بقية الأصدقاء: دعك من هذا الهراء الآن! … إننا نُريد أن نستمع إلى «تختخ»!

مضى «تختخ» يقول: إن العصابتَين تتصوَّران أن عندنا الصندوق الذي سلَّمه لي «كلب البحر»، ولن يُصدِّق رجال العصابتَين أنه ليس معنا؛ ولهذا قرَّرت أن يكون عندنا هذا الصندوق.

قال الأصدقاء في نفَسٍ واحد: كيف؟

قال «تختخ»: سنجد صندوقًا نضع فيه كميةً من الملح الأبيض ونربطه جيدًا، ونكتب عليه العنوان كما أتذكَّره.

وقبل أن يسأل الأصدقاء أسئلةً أخرى، جاءت «جينا» تدعوهم للعشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤