خدعة في الظلام

قضى الأصدقاء سهرةً هادئةً في القصر الكبير مع «شيليا»، وكان أكثر حديثهم يدور حول الليلة التالية حين يُقام مهرجان «رد سنتور» الكبير، الذي يشترك فيه كل سُكَّان «فينسيا»، وحيث تُصبح المدينة العائمة شعلةً من النور … وشوارعها مواكب مضيئة من القوارب والجندول … واشتاق الأصدقاء إلى المشاركة في هذا المهرجان الكبير … فهو أول مهرجان يُشاهدونه في أوروبا المشهورة بأنواع مهرجاناتها التقليدية.

ونام الأصدقاء واستيقظوا على صباحٍ مشرق … أكَّد أن ليلةً صيفيةً جميلةً ستهبط على «فينسيا» وتُساعد في إبراز جمال المهرجان … وقالت «شيليا» إنها قد أعدَّت لهم صباحًا رحلةً في القارب يزورون فيها المعالم الأثرية الهامة في «فينسيا» التي اشتُهرت بكثرة الكنائس القديمة فيها … ولكن «تختخ» اعتذر عن مصاحبتهم في جولتهم … وطلب من «محب» أن يصحبه في جولة أخرى في المدينة. وهكذا ركب «عاطف» و«نوسة» و«لوزة» مع البارونة العجوز قاربها السريع، واتجه «تختخ» و«محب» مشيًا على الأقدام عبر الشوارع الضيِّقة المرصوفة الموصلة بين القصر وبين ميدان «سان ماركو»، حيث اتفق الجميع على التقابل هناك ظهرًا لتناول الغداء.

كانت المدينة قد لبست زينتها استعدادًا للمهرجان … وعلَّقت المحالُّ على أبوابها الشرائط والبالونات واللافتات الملوَّنة، ومضى «تختخ» و«محب» يسيران ويُشاهدان ويتحدَّثان.

قال «محب»: بالطبع نحن لم نخرج للنزهة … لا بد أن في ذهنك شيئًا ما تُريد تحقيقه.

ردَّ «تختخ» وهو يتلفَّت حوله: إنني أُحس بأفراد العصابتَين حولنا في كل ساعة … إنهم يتصوَّرون أننا أخفينا الصندوق في مكانٍ ما؛ فعندما عدنا أمس ليلًا اكتشفتُ أنهم فتَّشوا غرفتي بمهارةٍ في أثناء غيابنا … ولا شك أنهم فتَّشوا غرفكم أيضًا، ولكنكم لم تُحسوا بذلك … فقد أعادوا كل شيء إلى مكانه تمامًا … ولكني استطعتُ أن أعرف.

محب: معنى ذلك أنهم يعتقدون الآن أن الصندوق في مكانٍ آخر!

تختخ: بالضبط … وهذا ما يجعلني أعتقد أنهم يتبعوننا في كل مكان، وقد فكَّرت أن ننقسم إلى فرقتَين لعلنا نستطيع تضليلهم … وفي نفس الوقت أُريد مشاهدة محل «جراتسي» قرب جسر «الريالتو»، وهو المحل الذي كان من المفروض أنني سأُسلِّم الصندوق ﻟ «ماريو» فيه.

محب: وماذا تتوقَّع أن تجد هناك؟

تختخ: لا أدري بالضبط … ولكن من المهم أن نعرف المكان … فقد تحدث تطوُّرات غير متوقَّعة.

وسار الصديقان عبر الشوارع و«تختخ» ينظر حوله أحيانًا، وأحيانًا أخرى يقف عند واجهات المحلَّات وكأنه يبحث عن شيءٍ ما.

قال «محب»: هل تُفكِّر في شراء شيء؟

تختخ: أبحث عن صندوقٍ فارغٍ في حجم صندوق الأحذية.

محب: لماذا؟

تختخ: كما قلتُ لكم أمس إنني أُفكِّر في خداع العصابتَين حتى نُغادر «فينسيا» ونصل «ميلانو»!

محب: ولكن إذا اشتريت الصندوق الآن ورأوه معك؛ فقد يستنتجون الحقيقة ونُصبح معرَّضين لخطرٍ أكبر … فلا شك أنهم لم يفتكوا بنا حتى الآن لأن عندهم الأمل في الحصول على الصندوق.

تختخ: هذا تحليل بارع يا «محب»، وبالطبع فإنني لن أشتري الصندوق وأسير به في الطريق، إن في رأسي فكرةً أخرى … فقط أُريد أولًا مشاهدة محل «جراتسي» هذا.

وظلَّ الصديقان سائرَين حتى وصلا إلى جسر «الريالتو»، وسرعان ما عثرا على محل «جراتسي». كان محلًّا صغيرًا له واجهة زجاجية صُفَّت فيها أنواع من مختلِف الأسلحة وأدوات الصيد، وقال «محب» وهو يتأمَّلها: إن في هذه الواجهة ترسانة أسلحة تكفي جيشًا صغيرًا.

قال «تختخ»: تمامًا.

وأخذ «تختخ» يتلفَّت حوله، ثم دخل المحل ومعه «محب» وقد أدهشته جرأة «تختخ» … وعندما دخلا المحل نصف المظلم تقدَّم منهما رجل عجوز يلبس نظارةً طبيةً قائلًا: بونجورنو.

ردَّ «تختخ» بثبات: بونجورنو سينوري … كوم استاي؟

ردَّ الرجل: بيني.

والتفت «تختخ» إلى «محب» قائلًا: قال لي صباح الخير، فقلتُ له صباح الخير … كيف الحال؟ ورد الحال عال.

ثم عاد «تختخ» للحديث مع الرجل قائلًا: «ماريو».

ردَّ الرجل: «ماريو» … أوشيتا!

أخرج «تختخ» ورقةً من جيبه وقلمًا، ثم كتب رسالةً سريعةً إلى «ماريو»: «إذا … استطعتَ حمايتي من «ستافرو» ورجاله، فسوف أُخبرك أين تجد الصندوق …»

ثم ناول الورقة إلى الرجل قائلًا: «ماريو».

أحنى الرجل رأسه وتناول الورقة سريعًا ووضعها في جيبه، وخرج الصديقان.

قال «محب»: ما معنى «أوشيتا»؟

تختخ: معناها خرج.

محب: بيرفافوري؟

تختخ: معناها من فضلك.

محب: إذن أنت سألتَه عن «ماريو» … فقال لكَ إن «ماريو» خرج، فأعطيتَه الورقة لتوصيلها إلى «ماريو».

تختخ: بالضبط.

محب: وما هي خطتك؟

تختخ: خطتنا … بل أملنا الوحيد أن نوقع بين العصابتَين بحيث تحمينا كل عصابةٍ من الأخرى حتى نترك المدينة.

وعادا للسير وقال «تختخ»: إنني أُريد شراء صندوقٍ فارغ وكمية من ملح الطعام وحقيبة.

محب: أفهم حكاية شراء الصندوق … والملح … ولكن ما فائدة الحقيبة؟

تختخ: لأضع فيها الصندوق فلا يراه أحد.

ودخل الصديقان أحد محلَّات بيع الحقائب والأحذية، فاشتريا الحقيبة، وطلبا صندوقًا فارغًا من صناديق الأحذية ووضعاه داخل الحقيبة وانصرفا. وكانت ساعة الغداء تقترب، فأخذا طريقهما إلى ميدان «سان ماركو» واتجها إلى مقهى «فلوريان»، حيث اعتادت البارونة أن تجلس.

كانت البارونة متحمِّسةً جدًّا لسهرة الليلة الكبرى بمناسبة مهرجان «رد سنتور»، فأخذت تُحدِّثهم عن ذكرياتها عن «فينسيا»، وانتهزت «لوزة» و«نوسة» هذه الفرصة وذهبتا إلى حيث تقف أُلوفٌ من أسراب الحمام في الميدان، فاشترتا كميةً من الذرة، وأخذتا تُطعمان الحمَام الذي كان يهبط على أيديهما وأكتافهما. وبعد أن تناولوا طعام الغداء، قاموا جميعًا عائدين إلى القصر، حيث قضَوا فترة راحة طويلة استعدادًا للسهرة.

أمَّا «تختخ» فقد ذهب إلى المطبخ وطلب كميةً كبيرةً من ملح الطعام … وكانت «جينا» مندهشةً لطلبه، ولكنها أعطته ما طلب، ووضع «تختخ» كمية الملح الكبيرة في الصندوق، ثم غلَّفه بورقةٍ بيضاء، وكتب عليه العنوان الذي تذكَّره: «جسر «الريالتو»، محل «جراتسي»، «ماريو».» ولكن «تختخ» أدرك أن العصابة ستعرف أن الكتابة ليست بخط «كلب البحر»، وأخذ يُفكِّر في طريقة يُموِّه بها على العصابة … وفي تلك اللحظة دخل «عاطف» وشاهد الصندوق وسأل «تختخ» عنه، فروى له «تختخ» خطته، فقال «عاطف»: المسألة بسيطة … ألقِ بعض الماء فوق الكتابة وكأنها مياه من البحر وقعت على الكتابة، بحيث لا تُصبح واضحةً ولا يعرف أحدٌ خط من هذا.

ابتسم «تختخ» وقال: أُحيِّيك يا «عاطف».

قال «عاطف»: إنني أُلاحظ أنك تعمل وحدك هذه الأيام، ومن المفروض أن يشترك المغامرون كلهم في المغامرة.

تختخ: إنني أخاف عليكم.

عاطف: ونحن نخاف عليكَ أيضًا.

تختخ: على كل حال … سوف ندخل صراعًا قويًّا في الساعات القادمة، وسنحتاج إلى المغامرين جميعًا.

عاطف: وما هي خطواتك التالية؟

تختخ: أُريد أن أُخفي هذا الصندوق في مكانٍ لا تستطيع العصابة الوصول إليه إلا في الوقت الذي أُحدِّده.

عاطف: ضَعه في الحديقة في حفرة … وسوف لا يستطيع أحدٌ الاقتراب منه؛ فسيكون في حماية كلاب «الماستيف» الثلاثة.

تختخ: فكرة ممتازة! … سننتظر حتى يهبط الظلام وندفن الصندوق.

لبس الجميع أفخر ثيابهم، وعندما جاء المساء كانوا قد استعدُّوا تمامًا للخروج … ولكن «تختخ» الذي كان يُريد الانتظار حتى يدفن الصندوق طلب منهم أن يسبقوه.

وخرج الجميع، وانتظر «تختخ» حتى أظلمت الدنيا تمامًا، ثم أسرع إلى الحديقة، وتحت شجرة ضخمة، وبفأس أخذها من كشك الجنايني، حفر الأرض، ثم أخفى الصندوق.

وقف «تختخ» بجوار القصر في انتظار جندول يركبه إلى جسر «الريالتو»، حيث اتفقوا على اللقاء هناك، وكانت مئات من قوارب الجندول السوداء تنطلق منها الموسيقى والأنوار، تحمل السيَّاح إلى قلب المدينة حيث يصل المهرجان إلى قمته عند منتصف الليل.

وأخيرًا وجد «تختخ» جندولًا فارغًا قفز فيه، وصاح بالرجل: «ريالتو» بريجو!

وأطلق الرجل مجدافَيه في الظلام، وأخذ القارب يشق طريقه بين بقية القوارب. كان «تختخ» يجلس في نهاية القارب ينظر حوله إلى شواطئ «فينسيا» وقد تحوَّلت إلى مهرجانٍ من الأضواء، وفجأةً وجد شخصًا يقفز من قارب آخر إلى قاربه … في هدوء وخفة كأنه قط … دون أن يحس البحَّار الذي كان منشغلًا بعمله، وقال الرجل في هدوء: هل أحضرتَ الصندوق؟

أذهلت المفاجأةُ «تختخ» لحظات، ثم سأل: من أنت؟

قال الرجل في صوتٍ خافت: إنني من طرف «ماريو».

تختخ: لقد أرسلتُ له هذا الصباح رسالةً أطلب حمايتي من عصابة «ستافرو» مقابل الصندوق.

ضحك الرجل في الظلام ضحكةً ارتعد لها «تختخ» وقال: أنتَ إذن تتعاون مع عصابة «ماريو» … إنني من طرف «ستافرو»، وكنا نُريد أن نعرف هل أنتَ معنا أم معه.

وقبل أن يرد «تختخ» … الذي أحسَّ بقلبه يكاد يسقط بين قدمَيه … قفز الرجل مرةً أخرى إلى قاربه، ثم اختفى في الظلام كما ظهر، وترك «تختخ» والدنيا تدور به … لقد اكتشف «ستافرو» أنه يتعاون مع «ماريو»، وسيُنزل به وبأصدقائه أشد العقاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤