في المهرجان

وصل «تختخ» إلى جسر «الريالتو» وقد احتشد أُلوف الناس في ملابسهم الملوَّنة يرقصون ويُغنون على أنغام الموسيقى المرتفعة، والضحكات والصيحات ترتفع من هنا وهناك … وقفز «تختخ» إلى الرصيف، وأعطى البحَّار أجره، ثم أخذ يبحث عن الأصدقاء … وأدرك بعد فترة من الوقت أنه كان مخطئًا عندما تركهم يسبقونه … فلم يكن من السهل العثور عليهم وسط الألوف الصاخبة وحركة الناس القادمين والرائحين.

انتهز «تختخ» الفرصة، وقرَّر أن يزور محل «جراتسي» مرةً أخرى.

كان يُريد مقابلة «ماريو» وإخطاره بما حدث … وبعد صعوبات كثيرة وصل إلى المحل … ولكن وجده مغلق الأبواب … فوقف يتأمَّل الواجهة الزجاجية وما بها من بنادق ومسدَّسات وأدوات صيد … وفجأةً وفي وسط الضجة والزحام، فُتح باب المحل، وامتدَّت يدٌ قوية جذبت «تختخ» إلى الداخل، وأُغلق الباب.

وجد «تختخ» نفسه قد انتقل من الضوء الباهر إلى الظلام الدامس، فوقف مرتبكًا دون أن يرى أي شيء … ثم سمع في الظلام صوت «ماريو» يقول: مرحبًا بك في محلنا المتواضع.

وأحسَّ «تختخ» باليد التي أمسكته تجرُّه إلى الداخل، وبدأت عيناه تألفان الظلام، وأحسَّ أنه يمر في ممرٍّ ضيق، ثم ينزل سلَّمًا صغيرًا ينتهي بباب فُتح فجأةً ووجد نفسه مرةً أخرى في الضوء الباهر.

نظر «تختخ» حوله … كان في غرفةٍ صغيرةٍ ليس بها من منافذ إلا الباب الذي دخل منه … ونافذة مغلقة بالسلك السميك … وكان في وسط الغرفة مائدة مستديرة جلس حولها عدد من الرجال بينهم الرجل العجوز الذي قابله في المحل صباحًا.

كانت العيون كلها مركزةً عليه وهو يقف في ثباتٍ ينظر إليهم ويتأمَّلهم واحدًا واحدًا …

وكان «ماريو» قد تركه ومشى، ثم جلس إلى المائدة وأشار إلى كرسي ليس عليه أحدٌ قائلًا: اجلس.

تقدَّم «تختخ» في هدوءٍ وجلس … وكان عدد الحاضرين خمسة، وقد وضع أحدهم أمامه على المائدة مسدَّسًا ضخمًا يُشبه المدفع الصغير … وقال «ماريو» بالإيطالية كلمات سريعةً فهم منها «تختخ» أنه يقول لهم إن هذا الولد هو الذي أوقع «كلب البحر».

ارتفعت الكلمات من الأفواه كلها مرةً واحدة … وتذكَّر «تختخ» ما يُقال عن حب الإيطاليين للكلام … ولم يكن في إمكانه أن يُتابع كل ما يقال … أو يفهم منه شيئًا كثيرًا … ولكنه أدرك أن بعض أفراد العصابة يرون الانتقام منه لِما فعل، والبعض الآخر يرى أن الأهم هو الحصول على الصندوق.

وطال الكلام … وفجأةً ضرب «ماريو» المنضدة بكفِّه ضربةً قوية، ثم صاح مطالبًا الجميع بالسكوت … وعادت الغرفة إلى هدوئها، والتفت «ماريو» إلى «تختخ» قائلًا بلغةٍ عربية ركيكة: أرجو أن تكون قد فهمت ما يقولونه … إن بعضهم يُريد الانتقام منك ومن بقية زملائك؛ لأنك ألقيتَ بالزعيم في السجن … والبعض الآخر يرى أن المهم الآن أن تُسلِّمنا الصندوق … فماذا ترى؟

كان ذهن «تختخ» يعمل بسرعة … فهو في مأزق … وحتى لو سلَّم الصندوق إلى «ماريو» فسوف يكتشف سريعًا أن ما به ليس سوى كميةٍ من الملح لا تُساوي بضعة قروش …

قال «ماريو» بنفاد صبر: الأفضل لكَ ألَّا تُفكِّر كثيرًا … قل لنا أين الصندوق فنطلق سراحك ولا نتعرَّض لكَ بعد ذلك.

كان «تختخ» يُريد كسب بعض الوقت ليتمكَّن من التفكير فقال: ومن الذي يضمن لي أنكم ستكتفون بأخذ الصندوق؟! إنني أخشى أن تأخذوه ثم تفتكوا بي.

أشار «ماريو» بيده إلى «تختخ» قائلًا: يكفي أن أقول لكَ كلمةً لتُدرك أنني سأُنفِّذها … إنها كلمة شرف.

تختخ: وهل هناك كلمة شرف في العصابات وبين القتلة؟

وقف «ماريو» وقد احمرَّ وجهه حتى كاد ينفجر وصاح: إننا لن نسمح لطفلٍ مثلك أن يلعب بنا! … ويكفي أننا لم نقتلك حتى الآن … ونُلقي بجثتك إلى الأسماك!

قال «تختخ»: سوف أدلكم على مكان الصندوق بعد أن أُغادر «فينسيا».

وفي هذه اللحظة وقف أحد الرجال … كان ضخمًا كالثور، وقد غطَّى الشعر جسده كالقرد، واقترب من «تختخ» وقد تطاير من عينَيه شرار الغضب، وأخذ يصيح بالإيطالية مهدِّدًا … أدرك «تختخ» أن الرجل يُريد أن يضربه، فقفز سريعًا إلى الخلف وأمسك بالمقعد في يده … ولكن الرجل هجم عليه كالوحش وكاد يمسك به، لولا أن وقف «ماريو» ووجَّه حديثًا سريعًا إلى الرجل، ثم قفز إليه وأمسكه وجذبه إلى الخلف …

تكهرب الجو في الغرفة … وبدا واضحًا ﻟ «تختخ» أنه وقع في مصيدة لا فكاك منها.

وفجأةً ومن أحد جوانب الغرفة ارتفع صوت جرسٍ خفيف، فأنصت الجميع … وقال «ماريو» لأحد الرجال كلامًا، فقام الرجل وفتح الباب وصعد السلَّم … وعاد بعد لحظات ومعه رجل آخر دخل مسرعًا وأنفاسه تتلاحق، ثم تحدَّث بسرعة … وعندما أتمَّ كلامه الذي لم يفهم منه «تختخ» شيئًا، التفت «ماريو» إلى «تختخ» قائلًا: لقد خطف «ستافرو» البنت الصغيرة!

قفز «تختخ» مرتاعًا وصاح: «لوزة»؟! كيف؟!

ماريو: انتهز فرصة الزحام في المهرجان، واستطاع أن يأخذ الفتاة بعيدًا عن زملائها، ثم أركبها قاربًا وذهب بها بعيدًا.

والتفت «ماريو» إلى القادم الجديد وسأله سؤالًا، فردَّ الرجل بكلمةٍ واحدةٍ أدرك «تختخ» أنها المكان الذي نُقلت إليه «لوزة»، وكانت الكلمة «كابيللو نيرو».

أحسَّ «تختخ» بالدنيا تدور به … والغرفة تضيق وتتسع … والوجوه تتضخَّم وتتضاءل … لقد اختطفوا «لوزة» الصغيرة الرقيقة في مدينةٍ غريبةٍ بعيدًا عن الوطن بأُلوف الأميال، حيث لا يَعرِف أحدًا، وحيث لا يستطيع أن يتصرَّف …

سمع «تختخ» صوت «ماريو» … وهو يتحدَّث عن الصندوق وكأن صوته يأتي من بئر عميقة … ومضت لحظات، ثم بدأ «تختخ» يستعيد توازنه، وأخذ يُفكِّر بسرعة … وكانت أحاديث الرجال تصل إلى أذنَيه فلا يفهم شيئًا منها؛ فقد كان كلُّ ما يُفكِّر فيه «لوزة» وكيف يُنقذها.

عاد «ماريو» يقول: هل ستُسلِّمنا الصندوق أو لا؟

ردَّ «تختخ»: هل أُسلِّمك الصندوق فيقضي «ستافرو» على «لوزة»؟! إنك تُفكِّر بطريقة مضحكة.

تحدَّث «ماريو» مع بقية أفراد العصابة، ثم عاد يتحدَّث إلى «تختخ»: وهل إذا أعدنا إليك الفتاة تُسلِّم لنا الصندوق؟

تختخ: بالتأكيد … سوف أُسلِّم الصندوق لمن يُعيد لي الفتاة أولًا … سواء أنت أم «ستافرو» …

أخذ «ماريو» يتحدَّث مع رجاله … وارتفع حديثهم، وفهم منه «تختخ» أن بعض أفراد العصابة يُريدون تعذيبه حتى يُقر بمكان الصندوق.

فوقف ووجَّه حديثه إلى «ماريو» قائلًا: قل لهم إنني لا أخاف التهديد … ولن أُقر بمكان الصندوق إلا بعد أن تعود «لوزة» وأغادر «فينسيا»، وقبل ذلك بثانيةٍ واحدةٍ لن أقول كلمةً واحدة.

وبعد أن انتهى من كلامه قام واقفًا واتجه بكل ثباتٍ إلى الباب … فلم يقف أحدٌ في طريقه، ثم قفز أحد الرجال خلفه، ففتح له الباب، ثم صعد السلَّم وفتح له الباب الخارجي، وخرج «تختخ» من المحل الصغير إلى المهرجان الذي كان في قمته … كان في ذهنه كلمةٌ واحدة يُردِّدها باستمرار … «كابيللو نيرو»، ما معناها؟ هل هي مكان، أم شخص، أم ماذا؟

وهل يستطيع أن يسأل واحدًا من الناس حوله … ولكن كيف؟! إنهم جميعًا مشغولون بالمهرجان … كلهم سعداء يرقصون ويُغنُّون ويشربون ويأكلون، وليس فيهم أحدٌ يُضيِّع وقته في الحديث معه.

كان كل شيء حول «تختخ» صاخبًا، ولكن رأسه كان أكثر صخبًا من كل هذا، كان يغلي بالأفكار والتصوُّرات السوداء … وأخذ يسير على غير هدًى يصطدم بالناس ويبحث عن الأصدقاء … لقد اتفقوا على أن يلتقوا به فوق جسر «الريالتو» … فلْيذهب إلى هناك.

وصل إلى الجسر وكان الزحام على أشده … وتأكَّد أنه لن يستطيع العثور على الأصدقاء … وقرَّر أن يعود إلى القصر مشيًا على الأقدام، ولم يكن يعرف الطرق جيدًا، ولكنه تذكَّر أن القصر لا يبعد من الجسر كثيرًا، واستطاع برغم الزحام أن يصل إلى هناك. كان القصر مظلمًا ولا أحد عند السور … لم يكن هناك سوى الكلاب الثلاثة التي استقبلته بنباحٍ قوي … وأحسَّ «تختخ» أن ثمَّة شيئًا غير عادي يدور في الحديقة، وأن الكلاب تنبح لهذا السبب … وتذكَّر الصندوق المدفون، لا بد أن أحدًا يُحاول الحصول عليه! ولكن من؟

إن عصابة «ستافرو» خطفت «لوزة» لتعرف مكان الصندوق … وقد كان مع عصابة «ماريو» الآن، ومن الواضح أنهم لا يعرفون المكان … فمن الذي هنا؟!

وقبل أن يخطو خطوةً أخرى سمع صوتًا في الظلام بجوار سور القصر يقول له: لقد جئتُ أتسلَّم الصندوق لنطلق سراح «لوزة»! لا تُحاول عمَل شيء … أين الصندوق؟

التفت «تختخ» إلى مصدر الصوت ولكنه لم يرَ أحدًا … وأخذ يُفكِّر بسرعة … بماذا يُجيب؟ … لو أعطاهم الصندوق المزيَّف فسوف يكتشفون الحقيقة في دقائق قليلة، وتكون نهاية «لوزة»!

كان لا بد أن يقول شيئًا، فردَّ في ثبات: الصندوق ليس هنا … لقد وضعتُه في مكانٍ بعيد … أطلقوا سراح «لوزة» أولًا!

ردَّ صاحب الصوت في الظلام: لن نستمع إلى أية شروط … الصندوق أولًا.

في تلك اللحظة سمع «تختخ» صوت قارب يقترب … ثم هدَّأ من سرعته، فتأكَّد أنه قارب البارونة «شيليا»، فقال: اتصل بي تليفونيًّا وسنتفاهم.

وبعد لحظات كانت البارونة والأصدقاء يصعدون سلالم القصر … وأُضيئت الأنوار … كانوا جميعًا في حالةٍ يُرثى لها من الحزن والفزع … وقالت البارونة في جزع: ألم ترَ «لوزة»؟ … لقد تاهت منا في الزحام!

ردَّ «تختخ»: لا لم أرَها.

البارونة: لقد أبلغتُ البوليس … وسيجدونها حتمًا.

تختخ: إنهم لن يجدوها مطلقًا … لقد خُطفت «لوزة»!

البارونة: خُطفت؟! ولماذا؟ ومن الذي خطفها؟!

تختخ: إن لهذا قصةً طويلة … المهم الآن هل تعرفين مكانًا أو شخصًا يُدعى … «كابيللو نيرو»؟

فتحت البارونة عينَيها في خوفٍ وقالت: «كابيللو نيرو»؟!

تختخ: نعم … «كابيللو نيرو».

البارونة: إنه قصر عتيق يقع في نهاية القناة الكبرى … قصر رهيب يخشى أيُّ إنسان أن يدخله … ولا يسكنه إلا اللصوص والمجرمون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤