أبو دهبل الشاعر وعائلته

كانت عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان الأموي فتاة ناعسة الطرف جميلة القد تحسن الغناء وتبدع في ضروبه، فاستأذنت يومًا من أبيها في الذهاب إلى الحج، فسمح لها، فتجهزت وسارت مع رفيقاتها على ظهور المطايا، فلما وصلت إلى مكة بذي طوى، مر بها وهب الجمحي المعروف بأبي دهبل، وكان شاعرًا جميلًا، فجعل يسارقها النظر وجمرات الوجد تتأجج بفؤاده قاذفة بالشرر، وكان الوقت هجيرًا والجواري رافعات عنها الأستار ففطنت له فذعرت وشتمته كثيرًا، ثم أمرت بالسجوف فحجبت بظلامها شمس النهار، فقال:

إني دعاني الحين فاقتادني
حتى رأيت الظبي بالباب
يا حسنَه إذ سبني مدبرًا
مستترًا عني بجلباب
سبحان من وقَّفها حسرة
صبت على القلب بأوصاب
يذود عنها إن تطلبتها
أب لها ليس بوهاب
أحلها قصرًا منيع الذرى
يُحمى بأبواب وحجاب

فشاعت أبياته في مكة واشتهرت وغُنِّي بها حتى سمعتها عاتكة إنشادًا وغناءً فطربت لها وسرت وبعثت إليه تهديه فتراسلا وتحابا، ولما عادت من مكة خرج في ركبها إلى الشام فكانت تتعاهده باللطف والإحسان حتى إذا وردت دمشق ورد معها، فانقطعت عن لقائه فمرض حتى عز شفاء دائه، فقال:

طال ليلي وبت كالمجنون
ومللت الثواء في جيرون
وأطلت المقام بالشام حتى
ظنَّ أهلي مرجحات الظنون
فبكت خشية التفرق جُمْلٌ
كبكاء القرين إثر القرين
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص
نيرت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء
تمشي في مرمر مسنون
ليت شعري أمن هوى طال ليلي
أم براني الباري قصير الجفون

ففشا هذا الشعر حتى بلغ معاوية أباها، فصبر حتى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه الناس يسلمون وينصرفون وكان فيهم وهب، فلما أزمع الرجوع ناداه معاوية حتى إذا خلا لهما الجو قال: ما كنت أحسب أن في قريش أشعر منك حيث تقول:

ليت شعري أمن هوى طار نومي
أم براني الباري قصير الجفون

غير أنك قلت:

وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون

والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت وأي شيء زدت في قدرها، ولقد أسأت بقولك: «ثم خاصرتها … إلخ»، فقال: والله لم أقل هذا وإنما قيل عن لساني، فقال معاوية: أما مني فليهدأ روعك لأني عليم بعفاف ابنتي وأنه مغتفر لفتيان الشعراء التشبب بمن أرادوا، ولكني أكره لك جوار أخيها يزيد فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك، فحذر وهب ورحل إلى مكة، فبينما معاوية في مجلسه يومًا إذا بخصي يقول له: لقد ورد يا أمير المؤمنين إلى عاتكة اليوم كتاب أبكتها تلاوته بما أصارها حتى الساعة حزينة، فقال: عليَّ به بألطف حيلة، فلما أوتيه قرأ فيه:

أعاتك هلا إذ بخلت فلا ترى
لذي صبوة زلفى لديك ولا حقًّا
رددت فؤادًا قد تولى به الهوى
وسكنت عينًا لا تمل ولا ترقى
ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى
ولم أرَ يومًا منك جودًا ولا صدقا
أتنسين أيامي بربعك مدنفًا
صريعًا بأرض الشام ذا سقم ملقى
وليس صديق يرتضي لوصية
وأدعو لدائي بالشراب فما أسقى
وأكبر همي أن أرى لك مرسلًا
فطول نهاري جالسًا أرقب الطرقا
فواكبدي إذ ليس لي منك مجلس
فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى
رأيتك تزدادين للصب غلظة
ويزداد قلبي كل يوم بكم عشقا

فبعث إلى يزيد: فلما جاء وجده مطرقًا كئيبًا، فاستجلاه الأمر، فقال: هو نبأ يقلق فيمرض، إن هذا الوغد القرشي كاتب أختك بهذه الأبيات فلم تزل باكية حتى الساعة، قال يزيد: الخطب دون ما تتوهم، عبدٌ لنا يرصده ويقتله، فقال معاوية: يا يزيد، والله إن تقتل قرشيًّا هذا حاله صدَّق الناس مقاله، قال: يا أمير المؤمنين إنه نظم أبياتًا غير هذه تناشدها المكيون فسارت حتى بلغتني فأوجعتني وحملتني على ما أشرت، فقال: وما هي؟ فأنشد:

ألا لا تقل مهلًا فقد ذهب المهلُ
وما كان من يَلْحَى محبًّا له عقلُ
حمى الملك الجبار عني لقاءها
فمن دونها تُخشى المتالف والقتل
فلا خير في حب يُخاف وباله
ولا في حبيب لا يكون له وصل
فواكبدي إني شُهِّرت بحبها
ولم يك فيما بيننا ساعة بذل
ويا عجبًا إني أكاتم حبها
وقد شاع حتى قطعت دونه السبل

فقال معاوية: والله قد فهمت المعنى لأني أراه يشكو الحرمان فالخطب فيه يسير، ثم حج عامئذٍ للسبب عينه، ولما انقضت المناسك دعا بأشراف قريش وشعرائهم وأجزل لهم الصلات، فلما أزمع وهب الانصراف قال: إيه يا وهب ما لي أرى يزيدًا ساخطًا عليك في أبيات تأتيه عنك وشعر تنطق به، فاعتذر أبو دهبل وأنكر ما أُشيع عنه، فقال معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك، فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة، قال: قد زوَّجتك بها وأمهرتك بألفي دينار ووهبتك ألف دينار، فلما استوفاها قال: إن أرى أمير المؤمنين أن يعفو عما مضى، وأما ابنة عمي فهي طالق وحسبي ذكر عاتكة والتمتع منها بالنظر، فوفى بوعده وبقيت عاتكة مغرمة به إلى أن مات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤