المأمون وأبو عيسى وقرة العين

بينما كان المأمون عازمًا على الركوب ومبارحة القصر اعترضه علي بن هشام قائلًا: يا أمير المؤمنين، عندي جارية اشتريتها بعشرة آلاف دينار وقد أخذت بمجامع قلبي وأريد أن أعرضها على أمير المؤمنين، فإن أعجبته ورضيها فهي له وإلا فيسمع منها شيئًا من الغناء، فقال الخليفة: عليَّ بها، فخرجت جارية كأنها قضيب بان، لها عينان فتانتان وحاجبان كأنهما قوسان، وعلى رأسها تاج من الذهب تحتهُ عصابة مكتوب عليها:

جنية ولها جن تعلمها
رمى القلوب بقوس ما لهُ وترُ

فلما رآها المأمون تعجَّب من حسنها وجمالها، وكان إلى جانبه فتًي يُدعى أبو موسى فلما شاهد تلك الجارية وما هي عليه من الحسن والجمال وقع حبها في قلبه وبدت عليه علائم الاصفرار، فقال له المأمون: ما لك يا أبا عيسى قد تغيَّر حالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين بسبب علة تعتريني في بعض الأوقات، فقال له الخليفة: أتعرف هذه الجارية قبل الآن؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، وهل يخفى القمر، ثم قال لها المأمون: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي قرة العين يا أمير المؤمنين، قال لها: غنِّي لنا يا قرة العين، فأنشدت تقول:

إذا كنت ترضيهِ ويرضيك صاحبٌ
جهارًا فكن في الغيب أحفظ للودِّ
والغِ أحاديثَ الوشاة فقلما
يحاول واشٍ غير هجران ذي ودٍّ
وقد زعموا أن المحبَّ إذا دنا
يمل وأن البعد يشفي من الوجد
بكلٍّ تداوينا فلم يشفَ ما بنا
على أن قرب الدار خيرٌ من البعدِ
على أن قرب الدار ليس بنافعٍ
إذا كان من تهواه ليس بذي ود

فلما فرغت من شعرها قال أبو عيسى: يا أمير المؤمنين، إذا افتضحنا استرحنا، أتأذن لي في جوابها؟ فقال له الخليفة: نعم، قل لها ما شئت، فكفكف دمع العين وأنشد هذين البيتين:

سكت ولم أقل: إني محبٌّ
وأخفيت المحبة في ضميري
فإن ظهر الهوى في العين مني
فدانية من القمر المنير

فأخذت العود قرة العين وأطربت بالنغمات وأنشدت تقول:

لو كان ما تدعيه حقًّا
لما تعلقت بالأماني
ولا تصبرت عن فتاةٍ
بديعة الحسن والمعاني
لكن دعواك ليس منها
شيءٌ سوى القول باللسان

فلما فرغت من شعرها جعل أبو عيسى يبكي وينتحب ويتوجع ويضطرب، ثم رفع رأسه وأنشد يقول:

تحت ثيابي جسدٌ ناحلُ
وفي فؤادي شغل شاغلُ
ولي فؤاد داؤه دائمٌ
ومقلة مدمعها هاطلُ
وكلما سالمني عاقل
قام لحيني في الهوى عاذلُ
يارب لا أقوى على كل ذا
موت وإلا فرجٌ عاجلُ

فلما فرغ أبو عيسى من شعره وثب علي بن هشام فقبَّله وقال له: يا سيدي قد استجاب الله دعاك وسمع نجواك وأجابك إلى أخذها إن لم يكن لأمير المؤمنين غرض فيها. فقال المأمون: ولو كان لنا غرض فيها لآثرنا أبا عيسى على أنفسنا وساعدناه على قصده، ثم إنه دفعها إليه فعاش معها على ما يُرام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤