موت الفتاة بموت حبيبها

قال الأصمعي: بينما كنت نائمًا بقرب مقابر البصرة رأيت فتاة على قبرٍ تندب وتقول:

بروحي فتى أوفى البرية كلها
وأقواهم في الحب صبرًا على الحب

فقلت: أيتها الفتاة، بمَ كان أوفي البرية وبمَ كان أقواها؟ فقالت: يا هذا، إنه ابن عمي هويني فهويته، فكان إن باح عنَّفوه وإن كتم لاموه، فأنشد بيتين شعر وما زال يكررهما إلى أن مات، فوالله لأندبنه إلى أن أصير مثله في قبر إلى جانبه. فقلت لها: أيتها الفتاة، فما البيتان؟ فقالت:

يقولون لي إن بحت قد غرك الهوى
وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا
فما لامرئ يهوى ويكتم أمره
من الحب إلا أن يموت فيعذرا

ثم إنها شهقت شهقة فارقت روحها الدنيا، فأسفتُ عليها ودفنتها قرب حبيبها.

الحارث وعفراء بنت الأحمر

نشأ الحارث بن الفرند مع ابنة عمه عفراء بنت الأحمر الخزاعية ممتزجين بالألفة والوداد إلى أن بلغا سن الرشد، فتزوج بها وأقام معها مدة ينمو الهوى في قلبيهما، فعزمت يومًا على زيادة أبيها فجهزها إليه، فأقامت مدة وكل من أبويهما يأبى أن يجيء بنفسه خشية أن تزري به العرب، فمرض الحارث وكتب إليها:

صبرت على كتمان حبك برهة
ولي منك في الأحشاء أصدق شاهد
هو الموت إن لم تأتني منك رفعة
تقوم بقلبي في مقام العوائد

فأجابته تقول:

كفيت الذي تخشى وصرت إلى المنى
ونلت الذي تهوى برغم الحواسد
ووالله لولا أن يقال تظننا
بي السوء ما جنبت فعل العوائد

فلما قرأ ما في الرقعة وتنشق عاطر شذاها غشي عليه فجاؤوه، فإذا هو ميت، فقالوا لها ما كان عليك لواجبته زورة. قالت: خشيت أن يقال صبت إليه، ولكني قاتلة نفسي ولاحقة به قريبًا. فلم يشعروا بها إلا وهي ميتة إلى جانبه.

عبد الله بن عجلان وهند

خرج عبد الله بن عجلان إلى شعب من نجد ينشد ضالة فشارف ماء يقال له: نهر غسان. وكانت بنات العرب تقصده فتخلع ثيابها وتغتسل فيه. فلما علا ربوة تشرف على النهر المذكور رآهن على تلك الحالة فمكث يسترق النظر إليهن، فصعدن وبقيت هند وكانت طويلة الشعر. فأخذت تمشطه وتسبله على بدنها، وهو يتأمل شفوف بياض جسمها في خلال سواد الشعر، ونهض ليركب الناقة فلم يقدر وقعد ساعة. وكان قبل تلك النظرة تصفُّ له العرب ثلاثة رواحل قائمة فيحلقها ويركب الرابعة، فعند ذلك داخله من الحب ما أعجزه وأوهن قواه، فأنشد:

لقد كنت ذا بأس شديد وهمة
إذا شئت لمسًا للثريا لمستها
أتتني سهام من لحاظ فأرشقت
بقلبي ولو أستطيع ردًّا رددتها

ثم عاد وقد تمكَّن الهوى منه فأخبر صديقًا له، فقال: اكتم ما بك واخطبها إلى أبيها فإنه يزوجك بها، وإن أشهرت عشقها حرمتها. ففعل وخطبها، فأُجيب، فتزوج بها وأقاما على أحسن حال وأنعم بال لا يزداد فيها إلا غرامًا، فمضى عليهما ثمان سنين ولم تحمل، وكان أبوه ذا ثروة وليس له غيره، فأقسم عليه أن يتزوج غيرها ليولد له ولد يحفظ له النسب والمال، فعرض عليها ذلك فأبت أن تكون مع أخرى. فعاود أباه، فأمره بطلاقها فأبى، فألح عليه، فلم يجب وأصر على البقاء معها، فبلغ أباه يومًا أنه في حالة السكر فعدها فرصة وأرسل إليه يدعوه، فمنعته هند وقالت: والله لا يدعوك لخير وما أظنه إلا عرف أنك سكران فأراد أن يعرض عليك الطلاق، فأبى عبد الله إلا الخروج، فجاذبته، فلم يذعن لها، ثم سار إلى أبيه وعنده أكابر العرب فجعلوا يعنفونه ويتناشدونه من كل مكان حتى استحيا فطلقها، فلما سمعت بذلك احتجبت عنه، فوجد بها وجدًا قاتلًا وأنشد يقول:

طلقت هندًا طائعًا
فندمت بعد فراقها
فالعين تذرف دمعها
كالدرّ من آماقها
متحلبًا فوق الردى
فتجول في رقراقها
خودٌ رداحٌ طفلةٌ
ما الفحش من أخلاقها
ولقد ألذَّ حديثهَا
فأسرّ عند عناقها

ولم يزل عبد الله دنفًا سقيمًا يقول فيها الشعر ويبكيها إلى أن بلغه أنها تزوجت برجل من بني نمير، فزاد حزنه ومات أسفًا عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤