وداع جميل لبثينة قبل سفره

لما ضاقت بجميل الحيل وأراد الخروج إلى الشام هجم ليلًا على بثينة وقد وجد غفلة في الحي، فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك، ويحك! أما تخاف؟! فقال لها: هذا وجهي إلى الشام وإنما جئتك مودعُا، فحادثها طويلًا ثم ودَّعها، وقال: يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا، وبكى بكاءً طويلًا وبكت ثم قال وهو يبكي:

ألا لا أُبالي جفوة الناس إن بدا
لنا منك رأي يا بثين جميل
وإني وتكراري الزيارة نحوكم
بثين بذي هجر بثين يطول
وإن صباباتي بكم لكثيرة
بثين ونسيانكم لقليل

وخرج إلى الشام وطال غيابه فيها، ثم قدم من الشام وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تشكو شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه ووعدته لموضع يلتقيان فيه، فسار إليها وحدثها وبثَّ إليها أشواقه وأخبرها خبره بعدها، وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل وانتصل سيفه وشد عليهما، فاتقياه بالهرب، وناشدته بثينة الله أن ينصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحي أن يلحقوا بك، فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا بي ما أحبوا، فلم تزل تنشده حتى انصرف وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما، فلقي ابن عمه روقًا ومسعدة فشكا إليهما ما به وأنشد:

زورا بثينة فالحبيب مزورُ
إن الزيارة للمحب يسيرُ
إن الترحل إن تلبَّس أمرنا
وأعتاقنا قدرٌ أُحِمَّ بكورُ
إني عشية رحت وهي حزينة
تشكو إليَّ صبابة لصبورُ
وتقول بت عندي فديتك ليلة
أشكو إليك فإن ذاك يسيرُ
غراءُ مبسام كأن حديثها
درٌّ تحدَّر نظمهُ منثورُ
لا حسنها حسنٌ ولا كدلالها
دلٌّ ولا كوقارها توقيرُ
إن اللسان بذكرها لموكل
والقلب صادٍ والخواطر صُور
ولئن جزيت الودَّ مني مثلهُ
إني بذلك يا بثين جديرُ

فقال له روق: إنك لعاجزٌ ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وذلك الاستبداد بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها، وإنك منها بين فجور أرفعك عنهُ وذل لاأحبه لك وكمد يؤديك إلى التلف ومخاطرة بنفسك لقومها، إن تعرضت لهم بعد إعذارهم إليك، وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارًة الحزم وصبرت نفسك عليها طائعة أو كارهة ألفت ذلك وسلوت. فبكى جميل وقال: يا أخي لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابًا، ولكني لا أملك لي اختيارًا وما أنا إلا أسير لا يملك لنفسه نفعًا، وقد جئتك لأمر أسألك أن لا تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم وأن تحمل على نفسك في مساعدتي، قال: فإن كنت لا بد مهلكًا نفسك فاعمل على زيارتها ليلًا فإنها تخرج مع بنات عم لها إلى ملعب لهنَّ فأجيء معك حينئذ سرًّا، ولي أخ من رهط بثينة من بني الأحب تأوي عنده نهارًا فأسأله مساعدتك على هذا فتقيم عنده نهارًا وتجتمع معها ليلًا إلى أن تقضي إربك، فشكره، ومضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة فأخبره الخبر واستعهده كتمانهُ وسأله مساعدته فيه، فقال له: لقد جئتني بإحدى العظائم، ويحك إن في هذا معاداتي الحي جميعًا إن فطن به، فقال: أتحرز في أمره من أن يظهر، فواعده في ذلك ومضى إلى جميل فأخبره بالقصد، فأتيا الرجل ليلًا فأقاما عنده وأرسل إلى بثينة بوليدة له بخاتم جميل، فدفعته إليها، فلما رأته عرفت الأمر فتبعتها وجاءته، فتحدثا ليلتهما وأقام بموضعه ثلاثة أيام، ثم ودَّعها وقال لها: عن غير قلى والله ولا ملل يا بثينة كان وداعي لك، ولكني قد تذممت من هذا الرجل الكريم وتعريضه نفسه لقومه، وقد أقمت عنده ثلاثة أيام، ثم انصرف وقد تذكر عذل روق له فأنشد:

لقد لامني فيها أبٌ ذو قرابة
حبيب إليه في ملامتهِ رشدي
وقال أَفِقْ حتى متى أنت هائم
ببثنة فيها قد تعيد وقد تبدي
فقلت له فيها قضى الله ما ترى
عليَّ وهل فيما قضى الله من بدِّ
فإن يك رشدًا حبها أو غواية
فقد جئتهُ ما كان مني عن عمد
قد لج ميثاقٌ من الله بيننا
وليس لمن لم يوفِ لله من عهد
فلا وأبيها الخير ما خنت عهدها
ولا لي علم بالذي فعلت بعدي
وما زادها الواشون إلا كرامة
عليَّ وما زالت مودتها عندي
أفي الناس أمثالي أحبَّ فحالهم
كحالي أم أحببت من بينهم وحدي
وهل هكذا يلقى المحبون مثل ما
لقيت بها أم لم يجد أحد وجدي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤