الفصل الخامس عشر

المواجهة

قامت المركبة الفضائية الخاصة بطاقم نيوتن بمناورة حتى أصبحت المركبة راما تملأ منفذ العرض الممتد داخل مركز التحكم. لقد كانت سفينة الفضاء الدخيلة ضخمة. وسطحها ذو لون رمادي شاحب، وهيكلها الطويل على شكل أسطوانة كاملة من الناحية الهندسية. وقفت نيكول صامتة بجانب فاليري بورزوف. فقد كانت رؤية المركبة راما كاملة للمرة الأولى في ضوء الشمس لكلٍّ منهما لحظة لها مذاق خاص.

وأخيرًا، قالت نيكول: «هل اكتشفت أي اختلافات؟»

فأجابها القائد بورزوف: «ليس بعد. يبدو أن كلتيهما خرجت من خط التجميع ذاته.» وساد الصمت من جديد.

فسألته نيكول: «ألا تود رؤية خط التجميع ذلك؟»

فأومأ بورزوف رأسه بالإيجاب. اندفعت طائرة صغيرة، تشبه الوطواط أو طائر الطنان، عبر منفذ العرض نحو راما. وأردف قائلًا: «ستؤكد طائرات الاستطلاع الخارجية أوجه الشبه. فكلٌّ منها مزود بمجموعة مخزنة من صور المركبة راما ١. وسوف تُدون أي اختلافات ويبلغ عنها خلال ثلاث ساعات.»

سألته نيكول: «ماذا سيكون الوضع لو أنه ليس هناك اختلافات غير مفسَّرة؟»

أجاب الجنرال بورزوف بابتسامة: «سنسير وفق الخطة. سنهبط بمركبتنا، ونفتح المركبة راما، ثم نطلق طائرات الاستطلاع الداخلية.» ألقى الجنرال نظرة خاطفة على ساعته. ثم قال: «ينبغي أن يحدث كل ذلك بعد اثنتين وعشرين ساعة من الآن، في حالة أكدت الطبيبة المسئولة استعداد الطاقم.»

فأبلغته نيكول: «الطاقم بحالة جيدة. وقد انتهيت لتوي من الاطلاع على ملخص البيانات الصحية للرحلة للمرة الثانية. وكانت منتظمة بصورة مذهلة. ولم نجد أي خلل خطير خلال أربعين يومًا، إلا من خلل في هرمونات السيدات الثلاثة، وهو أمر كان متوقعًا.»

قال القائد باهتمام شديد: «إذن، نحن مستعدون من الناحية البدنية للانطلاق. لكن ماذا عن استعدادنا النفسي؟ هل تزعجك سلسلة الخلافات التي اندلعت منذ قليل؟ أم يمكنك أن ترجعيها إلى الشعور بالتوتر والإثارة؟»

سكتت نيكول لحظة. ثم قالت: «أقر بأن هذه الأيام الأربعة منذ أن هبطنا كانت قاسية بقدر ما. بالطبع، كنا نعلم بالمشكلة الموجودة بين ويلسون وبراون قبل الانطلاق. وقمنا بحلها جزئيًّا عن طريق إبقاء ريجي في سفينتك خلال معظم الرحلة، لكن نظرًا لدمجنا للمركبتين الفضائيتين الآن وجمع الفريق كاملًا مرة أخرى، يبدو أن الاثنين يتصادمان كلما سنحت الفرصة. ولا سيما في وجود فرانشيسكا.»

قال بورزوف بنبرة يائسة: «لقد حاولت التحدث مع ويلسون مرتين عندما كانت السفينتان منفصلتين. لكنه رفض مناقشة الأمر. لكن من الواضح أنه غاضب جدًّا من شيء ما.»

سار الجنرال بورزوف إلى لوحة التحكم وأخذ يحرك أصابعه على لوحة المفاتيح. فظهرت معلومات متسلسلة على إحدى الشاشات. فأكمل حديثه: «لا بد أن للأمر علاقة بفرانشيسكا. فويلسون لم يقم بكثير من العمل خلال الرحلة، ويظهر سجله أنه أمضى وقتًا كبيرًا يتحدث إليها في مكالمة فيديو. وقد كان دائمًا في حالة مزاجية سيئة. بل وصل الأمر إلى أنه أهان أوتول.» استدار بورزوف ونظر إلى نيكول بانتباه. وقال: «بصفتك الطبيبة المسئولة، أود أن أعرف هل لديك أي توصيات رسمية بشأن الطاقم، وبخاصة فيما يتعلق بتعامل أفراد الفريق بعضه مع بعض.»

لم تكن نيكول تتوقع هذا الحديث. فعندما حدد الجنرال بورزوف هذا الاجتماع الأخير معها بشأن «تقييم صحة الطاقم»، لم تفكر في أن الاجتماع سيتطرق إلى الصحة النفسية لطاقم نيوتن. فسألته: «هل تطلب مني أيضًا تقييمًا مهنيًّا للحالة النفسية للطاقم؟»

فقال بورزوف مؤكدًا على كلامه السابق: «بكل تأكيد. أريد أن تعدي لي تقريرًا يؤكد الاستعداد البدني والنفسي لكلٍّ من أفراد الطاقم. فالإجراء المتبَع هو أنه على القائد المسئول أن يطلب تقريرًا من الطبيب المسئول يوضح حالة الطاقم قبل كل رحلة.»

«لكنك لم تطلب خلال تدريبات المحاكاة إلا بيانات عن الصحة البدنية.»

ابتسم بورزوف. وقال: «يمكنني الانتظار يا سيدة نيكول إذا كنتِ في حاجة لبعض الوقت لإعداد التقرير.»

قالت نيكول بعد تفكير: «لا، لا. يمكنني أن أعطيك رأيي الآن، ثم أضعها في تقرير رسمي الليلة.» ثم ترددت ثواني معدودة قبل أن تكمل. فقالت: «لا أوصي بوضع ويلسون وبراون معًا في فريق فرعي واحد، على الأقل في الرحلة الأولى. ولديَّ مخاوف، لكن بالطبع ليست بالقوة نفسها، بشأن وضع فرانشيسكا في أي مجموعة مع أيهما. وبخلاف ذلك، ليس لديَّ أي قيود على الطاقم.»

«حسنًا. حسنًا.» وابتسم القائد ابتسامة واسعة قائلًا: «أقدر ما ذكرتِه في تقريرك، وهذا ليس فقط لأنه يؤكد وجهة نظري. وكما تعلمين يمكن أن تكون تلك المسائل حساسة للغاية.» انتقل بورزوف فجأة للحديث عن موضوع آخر. فقال: «والآن أود أن أطرح عليك سؤالًا مختلفًا تمامًا.»

سألته: «وما هو؟»

«لقد جاءتني فرانشيسكا في الصباح واقترحت أن نقيم حفلةً مساء غد. وتزعم أن الطاقم متوتر وفي حاجة إلى التهدئة قبل الرحلة الأولى داخل راما. هل تتفقين معها؟»

فكرت نيكول للحظة. ثم أجابت: «ليست بفكرة سيئة. فقد ظهر الإجهاد بلا شك … لكن ما نوع الحفلة التي تفكر فيها؟»

«سنتناول العشاء معًا، هنا في غرفة التحكم، مع احتساء بعض النبيذ والفودكا، ويمكن أيضًا أن ندرج برنامجًا ترفيهيًّا.» ابتسم بورزوف ووضع ذراعه على كتف نيكول. وقال: «إنني أسألك عن رأيك المهني باعتبارك الطبيبة المسئولة.»

فضحكت نيكول وهي تقول: «بالطبع.» ثم أردفت: «يا جنرال، إذا كنت ترى أن هذا وقت مناسب لإقامة حفلة للطاقم، فيسعدني أن أساندك …»

•••

أنهت نيكول تقريرها ونقلت الملف عن طريق خط بيانات إلى الكمبيوتر الخاص ببورزوف في السفينة العسكرية. وقد كانت دقيقة جدًّا في اختيار كلماتها لتعريف المشكلة بأنها «صراع شخصيات» أكثر منه أمراضًا سلوكية. لقد كانت المشكلة بين ويلسون وبراون واضحةً أمام نيكول: الغيرة، بوضوح وبساطة، نفس الوحش القديم.

وكانت نيكول متأكدة من أن الحكمة تقتضي منع ويلسون وبراون من العمل معًا عن قربٍ خلال الرحلة داخل راما. وبَّخت نيكول نفسها لعدم طرحها للمسألة على بورزوف من نفسها. وأدركت أن مهمتها تشتمل على التعرض للصحة العقلية أيضًا، لكنها وجدت صعوبة في تصور نفسها طبيبة نفسية للطاقم. فأخذت تحدث نفسها: «أنا أتجنب ذلك العمل لأنها عملية غير موضوعية، فنحن لا نملك بعدُ أجهزة لقياس الصحة العقلية.»

سارت نيكول عبر ردهة منطقة المعيشة. وكانت تحرص على إبقاء إحدى قدميها على الأرض في جميع الأوقات، فقد تعودت العيش في البيئة التي ينعدم فيها الوزن، كأنها طبيعة ثانية لديها. وكانت سعيدة لأن مهندسي التصميم العاملين في مشروع نيوتن قد عملوا بجد لتقليص الاختلافات بين العيش في الفضاء والعيش على الأرض. وجعلوا العمل كرائد فضاء أسهلَ بكثير من خلال السماح للطاقم بالتركيز على العناصر الأكثر أهمية في عملهم.

كانت غرفة نيكول تقع في نهاية الرواق. ومع أن كل رائد فضاء كان لديه مسكن خاص به (نتيجة للخلافات المحتدمة بين الطاقم ومهندسي النظام، الذين أصروا على أن النوم في غرف مزدوجة أفضل لتوفير المساحة)، كانت الغرف صغيرة جدًّا ومحدودة. وكان هناك ثماني غُرف نوم في هذه المركبة الكبرى، التي كان أفراد الطاقم يطلقون عليها اسم السفينة العلمية. أما السفينة العسكرية، فكانت تحتوي على أربع غرف نوم صغيرة إضافية. وكانت كلتا السفينتين تحوي أيضًا غرفًا للتدريب و«ردهات»، وهي غرف عامة حيث يوجد أثاث أكثر راحة وبعض الاختيارات الترفيهية غير المتاحة في غرف النوم.

وبينما كانت نيكول تمر أمام غرفة جانوس تابوري في طريقها إلى منطقة التدريب، سمعت ضحكة تعرفها جيدًا. كان باب غرفته مفتوحًا كالعادة. وكان جانسون يقول: «هل حقًّا كنت تتوقع أن أتخلى عن الأفيال وأدع فرسانك يسيطرون على لوحة الشطرنج؟ قد لا أكون لاعبًا محترفًا يا شيج، ولكنني أتعلم من أخطائي، أنسيت أنني خسرت في مباراة سابقة بسبب هذا الخطأ.»

كان تابوري وتاكاجيشي منهمكين في مباراة الشطرنج التي يخوضانها عادةً بعد تناول الطعام. فكل «ليلة» تقريبًا (كان الطاقم قد قضى يومًا مدته أربع وعشرين ساعة بتوقيت جرينتش)، كان الرجلان يلعبان مدة ساعة تقريبًا قبل أن يخلدا للنوم. كان تاكاجيشي أستاذًا مصنفًا في لعبة الشطرنج، لكنه في الوقت نفسه كان رقيق القلب ويريد تشجيع تابوري. ولذا، في كل لعبة تقريبًا وبعد أن يضع تاكاجيشي نفسه في موضع قوي يجعل حيله تنهار عن عمد.

ألصقت نيكول رأسها بالباب، وأخذت تستمع. قال جانوس ضاحكًا: «تعالَي يا عزيزتي، وشاهديني وأنا أقضي على صديقنا الآسيوي في محاولته الفاشلة هذه.» فأخذت نيكول تشرح له أنها كانت في طريقها إلى غرفة التدريب عندما هرول مخلوق غريب، بحجم فأر كبير، بين ساقيها صوب غرفة تابوري. فقفزت إلى الخلف بطريقة عفوية عندما توجهت الدمية، أو أيًّا كان ذلك المخلوق، نحو الرجلين:

شحرور الغابة ذو اللون الفاحم،
والذيل الأصفر في لون الحناء؛
والبلبل غنى بالصوت الناعم،
والسمان ذو الأنغام الرعناء …

كان المخلوق الآلي ينشد تلك الكلمات وهو يقفز نحو جانوس. فجثت نيكول على ركبتيها وتفحصت الوافد الفضولي الجديد. لقد كان جسده السفلي يشبه جسد الإنسان، ورأسه رأس حمار. واستمر في الغناء. توقف تابوري وتاكاجيشي عن اللعب وأخذا يضحكان على ملامح الذهول التي ارتسمت على وجه نيكول.

قال جانوس: «هيا، أخبريه بأنك تحبينه. فهذا ما كانت الملكة الجنية تيتانيا ستفعله.»

هزَّت نيكول كتفيها. وظل المخلوق الآلي الصغير هادئًا لفترة مؤقتة. ونظرًا لإلحاح جانوس، تمتمت نيكول قائلة للمخلوق الآلي الذي يبلغ عشرين سنتيمترًا ورأسه رأس بغل: «أحبك.»

استدار بوتوم الصغير إلى نيكول. وقال لها: «أعتقد يا سيدتي أن هناك سببًا يدفعك لقول هذا. ومع ذلك، وإحقاقًا للحق، فالحب والعقل لا يجتمعان معًا هذه الأيام.»

شعرت نيكول بالذهول. تقدَّمت نيكول لالتقاط الكائن الضئيل، لكنها توقفت عندما سمعت صوتًا آخر.

«إلهي، ما بال هؤلاء البشر الأغبياء! أين ذلك الأخرق الذي حولته إلى حمار؟ أين أنت يا بوتوم؟»

وثب مخلوق آلي آخر صغير إلى الغرفة، كان يبدو كالجنِّي الصغير. وعندما رأى نيكول قفز من الأرض وحلق على مستوى النظر لثوانٍ معدودة، وجناحاه الخلفيان الصغيران يُرفرفان بسرعة جنونية. فقال: «أنا باكٍ، أيتها الفتاة الجميلة. ولم أرَك من قبل.» سقط المخلوق الآلي على الأرض ولزم الصمت. فصُعقت نيكول مما حدث.

فبدأت تقول: «ما هذا …»

فقال جانوس، وهو يشير إليها لتصمت: «صهِ …» فأشار إلى بوك. كان بوتوم نائمًا في الركن بالقرب من حافة فراش جانوس. والآن وجد بوك بوتوم وبدأ ينثر عليه بعض الغبار الخفيف الناعم من كيس صغير الحجم. وبينما كان البشر الثلاثة يراقبون ما يحدث، بدأ رأس بوتوم في التغير. كانت نيكول ترى قطعًا صغيرة من البلاستيك والمعدن التي تشكل رأس الحمار تعيد تنظيم نفسها بكل بساطة، لكنها أيضًا كانت مندهشة من عظم عملية التحول. وما إن استيقظ بوتوم برأسه البشري الجديد وبدأ يتكلم حتى ولَّى بوك مدبرًا.

فقال بوتوم: «لقد شاهدت رؤيا غريبة جدًّا، شاهدت حلمًا يعجز إدراك الإنسان عن تصوره. ولن يكون الإنسان إلا حمارًا إذا حاول تفسير ذلك الحلم.»

هتف جانوس بينما لاذ المخلوق بالصمت: «مرحى، مرحى!»

أردف تاكاجيشي: «تهانيَّ.»

جلست نيكول على الكرسي الوحيد الشاغر ونظرت إلى رفيقَيها. وقالت وهي تهز رأسها: «لم يكن لي أن أخبر القائد أنكما بحالة نفسية سليمة.» توقفت عن الحديث ثانيتين أو ثلاثًا، ثم أردفت: «هل يخبرني أحدكما ماذا يحدث هنا؟»

قال جانوس: «إنه ويكفيلد. فالرجل عبقري حقًّا، بل إنه بارع على عكس بعض العباقرة. علاوة على ذلك، يتميز الرجل بكونه أحد المولعين بشكسبير. إنه يمتلك عائلة كاملة من تلك المخلوقات الصغيرة، لكنني أعتقد أن بوك هو الوحيد الذي يمكنه الطيران، وبوتوم هو الوحيد الذي يمكنه أن يغير شكله.»

قال ريتشارد ويكفيلد، وهو يخطو داخل الغرفة: «بوك لا يطير، بل يمكنه التحليق بشق الأنفس ولمدة قصيرة.» بدا على ملامح ويكفيلد الإحراج. وقال لنيكول: «لم أكن أعلم بوجودك. فأحيانًا ما أقوم بتسلية هذين الزميلين أثناء لعبهما الشطرنج.»

أردف جانوس بينما لزمت نيكول الصمت: «ذات ليلة، بعد أن سلمت بالهزيمة إلى شيج، سمعنا صوتًا بدا لنا كمشاجرة في الردهة. وبعد لحظات، دخل كل من تيبالت ومركوتيو الغرفة وهما يتشاتمان ويتبارزان بالسيف.»

سألت نيكول بعد مرور ثوانٍ معدودة، وهي تشير إلى المخلوقات الآلية: «هل هذه هوايتك؟»

قاطعها جانوس قبل أن يجيب عنها ويكفيلد: «مطلقًا يا سيدتي، لا تخلطي بين الشغف والهواية. فعالمنا الياباني المبجل لا يلعب الشطرنج على سبيل الهواية. وكذلك لا يصنع هذا الشاب القادم من مدينة الشاعر العظيم شكسبير، ستراتفورد أبون أفون، المخلوقات الآلية على سبيل الهواية.»

ألقت نيكول نظرة سريعة على ريتشارد. وكانت تحاول تخيل حجم الجهد والعمل اللازمَين لصنع مثل هذه المخلوقات الآلية المعقدة. ذلك بالإضافة إلى الموهبة، والشغف بالطبع. فقالت لريتشارد: «شيء مثير للإعجاب.»

ابتسم معبرًا عن امتنانه لمجاملتها. استأذنت نيكول، وهمَّت بمغادرة الغرفة. لكن بوك دار حولها بسرعة واعترض طريقها.

إن كنا نحن ظلال الكون أسأنا أو أخطأنا،
فسيكفي أن يتخيل كلٌّ منكم
أن النوم طواه هنا،
ورأى ما شاهد في الأحلام.

كانت نيكول تضحك وهي تخطي فوق الجني الصغير وتمنَّت لهم ليلة سعيدة.

مكثت نيكول في غرفة التدريب أكثر مما توقعت. فعادةً يكون قضاء ثلاثين دقيقة في ممارسة تمرين ركوب الدرَّاجة أو الجري في المكان كافيًا لتحريرها من التوتر ومساعدة جسدها على الاسترخاء تمهيدًا للنوم. لكن في ذلك المساء، كان عليها ممارسة التمارين لوقت أطول لتهدئة جهازها العصبي المفرط النشاط؛ نظرًا لاقترابهم من الوصول للهدف من المهمة. وكان جزء من مشكلتها يتمثل في قلقها الزائد بشأن التقرير الذي قدمته وأوصت فيه بالفصل بين ويلسون وبراون في جميع الأنشطة الهامة للمهمة.

سألت نفسها: «هل تسرعت في قراري؟ هل تركت الجنرال بورزوف يؤثر على رأيي؟» كانت نيكول فخورة جدًّا بسمعتها المهنية، وكانت كثيرًا ما تعيد التفكير في قراراتها المهمة مرة أخرى بطريقة بنَّاءة. وباقتراب انتهاء فترة تمرينها الرياضي، أقنعت نفسها مرة أخرى بأنها رفعت التقرير الصحيح. وشعرت أن جسدها المنهَك مستعد للنوم.

وعندما عادت نيكول إلى منطقة المعيشة في مركبة الفضاء، كان الظلام يخيم على المكان إلا في الرواق. وبينما بدأت تتجه يسارًا إلى الممر المؤدي إلى غرفتها، ألقت نظرةً سريعة إلى ما وراء الردهة، في اتجاه غرفة صغيرة حيث تحتفظ بجميع التجهيزات الطبية. تعجَّبت في سرها وهي تحاول النظر خلال الضوء الخافت. وحدَّثت نفسها: «يا للعجب! يبدو أنني تركت باب غرفة التجهيزات مفتوحًا.»

سارت نيكول عبر الردهة. وكان باب غرفة التجهيزات مواربًا بالفعل. وما إن نشطت القفل الآلي وشرعت في إغلاق الباب، حتى سمعت صوتًا ما داخل الغرفة المظلمة. فدخلت نيكول إلى الغرفة وأضاءتها، ففوجئت بفرانشيسكا التي كانت تجلس في الركن أمام جهاز كمبيوتر. كان أمامها شاشة تظهر عليها مجموعة من المعلومات، وكانت تمسك بإحدى يديها زجاجة رفيعة.

قالت فرانشيسكا بلا مبالاة: «أوه، مرحبًا نيكول.» كأنه من الطبيعي أن تكون جالسة في الظلام على جهاز كمبيوتر في غرفة التجهيزات الطبية.

سارت نيكول ببطء إلى جهاز الكمبيوتر. وسألتها وعينها تتفحص المعلومات الظاهرة على الشاشة: «ماذا تفعلين؟» اتضح لنيكول أن فرانشيسكا طلبت من البرنامج الفرعي للمخزون أن يعطيها قائمة بوسائل تحديد النسل الموجودة على متن المركبة الفضائية.

سألتها نيكول، وهي تشير للشاشة: «ما هذا؟» وقد بدا على صوتها الغضب. فجميع الرواد يعرفون أنه غير مسموح لأي شخص دخول غرفة التجهيزات الطبية إلا الطبيب المسئول.

استشاطت نيكول غضبًا عندما لم تُجِب فرانشيسكا عليها. فسألتها: «كيف دخلتِ إلى هنا؟» كان لا يفصل بين المرأتين إلا بعض السنتيمترات في الفجوة الصغيرة الموجودة قرب المكتب. مدَّت نيكول يدها فجأة وسحبت الزجاجة من يد فرانشيسكا. وبينما كانت نيكول تقرأ الملصق، إذ بفرانشيسكا تدفعها بعيدًا عنها في هذا المكان الضيق وتتجه نحو الباب. اكتشفت نيكول أن الزجاجة التي في يدها تحوي مادةً سائلة للإجهاض، فهُرعت خلف فرانشيسكا إلى الردهة.

سألتها نيكول: «هلا شرحتِ لي ما يحدث؟»

تكلمت فرانشيسكا أخيرًا قائلة: «أرجوكِ، أعطيني الزجاجة.»

أجابت نيكول وهي تهز رأسها: «لن أفعل. فهذا الدواء قوي للغاية وله آثار جانبية خطيرة. ماذا كنت تظنين أنك فاعلة؟ هل ظننتِ أنكِ ستسرقين الزجاجة دون أن يلحظ أحد؟ فسرعان ما كنت سأكتشف اختفاءها عندما أجرد المخزون.»

أخذت السيدتان تحدقان إحداهما في الأخرى ثواني معدودة. قالت فرانشيسكا أخيرًا، مصطنِعةً ابتسامة: «اسمعيني يا نيكول، إن هذه المسألة بسيطة للغاية. لقد اكتشفت حديثًا، وهو ما كدَّرني، أنني في المراحل الأولى من الحمل. وأرغب في التخلص من الجنين. إنها مسألة شخصية ولم أرغب في إزعاجك أنتِ أو أيًّا من أفراد الطاقم بالأمر.»

أجابت نيكول بسرعة: «لا يمكن أن تكوني حاملًا.» ثم أردفت: «ففي تلك الحالة، كنت سأكتشف الأمر عن طريق بيانات الإحصاء البيولوجي الخاصة بكِ.»

قالت فرانشيسكا: «لم يمر على الأمر إلا أربعة أيام أو خمسة. لكنني على يقين من حدوث الحمل. فأنا أشعر بالفعل بالتغيرات في جسدي. وهذا هو الوقت المناسب من الشهر.»

قالت نيكول بعد أن ترددت قليلًا: «إنكِ تعرفين الإجراءات المناسبة عند وقوع أي مشكلة طبية.» ثم تابعت قولها: «وكانت المسألة ستكون بسيطة للغاية، كما قلتِ، لو أنك لجأتِ لي من البداية. وكنت على الأرجح سأحترم رغبتك في الحفاظ على سرية الأمر. لكنك الآن وضعتِني في مأزق …»

قاطعتها فرانشيسكا بحدة: «هلا انتهيتِ من تلك المحاضرة المملة؟» وأردفت: «فأنا لا أكترث باللوائح اللعينة. لقد حملت من شخص ما وأرغب في التخلص من الجنين. هلا أعطيتني الزجاجة الآن أو أذهب لأجد طريقة أخرى؟»

استشاطت نيكول غضبًا. فردَّت على فرانشيسكا: «إنكِ مذهلة. هل تتوقعين أن أسلمك الزجاجة وأتركك؟ دون حتى أن أطرح أي أسئلة؟ قد تكونين كما قلتِ لا تكترثين بحياتك أو صحتك، لكنني يجب أن أكترث بها. يجب أن أفحصك أولًا، وأطلع على سجلك الطبي، وأحدد عمر الجنين، ووقتها فقط يمكن أن أفكر في وصف هذا الدواء لكِ. وإضافةً إلى ذلك، سيكون من واجبي أن أخبرك بأن هناك عواقب معنوية ونفسية …»

أطلقت فرانشيسكا ضحكةً مُدوية. وقاطعتها قائلة: «جَنِّبيني تلك العواقب يا نيكول. فأنا في غنًى عن إصدارك للحكم على حياتي وفقًا لأخلاقيات الطبقة العليا بمدينة بوفوا. وأود أن أهنئك لأنك ربيتِ طفلتك بمفردك. أما في حالتي فالموقف مختلف كثيرًا. فقد توقَّف والد الطفل الذي أحمله عن تناول حبوب الدواء الخاصة به عن عمد؛ لأنه تصوَّر أن حملي سيُعيد إشعال شرارة الحب في قلبي. لكنه كان مخطئًا. فأنا لا أرغب في إنجاب هذا الطفل. والآن، هل عليَّ أن أعبر أكثر …»

قاطعتها نيكول، وهي تزم شفتَيها في اشمئزاز: «هذا يكفي.» وأردفت: «إن تفاصيل حياتك الشخصية لا تعنيني حقًّا. يجب أن أقرر ما في مصلحتك ومصلحة المهمة.» فسكتت لحظات، ثم تابعت: «على أي حال، يجب إجراء فحص دقيق لكِ، بما في ذلك مجموعة صور طبيعية داخلية للحوض. وفي حالة رفضك الخضوع للفحص، لن أوافق على إجراء الإجهاض. وبالطبع، سأكون ملزَمة برفع تقرير كامل …»

ضحكت فرانشيسكا. وقالت: «لا حاجة لتهديدي. فأنا لست بهذا الغباء. فأنا لا أمانع إذا كان وضع أجهزتك الغريبة بين ساقيَّ سيجعلك تشعرين بحالٍ أفضل. كل ما يهمني هو أن ننتهي من الأمر. فأنا أريد التخلص من ذلك الجنين قبل الرحلة على راما.»

وفي الساعة التالية، نادرًا ما تبادلت نيكول وفرانشيسكا أي حوار فيما بينهما سوى كلمات مقتضَبة. ذهبت السيدتان معًا إلى حجرة صغيرة للعناية الصحية حيث استخدمت نيكول أدواتها الدقيقة للتحقق من وجود الجنين، وتحديد حجمه. كما فحصت قدرة فرانشيسكا على تحمُّل دواء الإجهاض. كان الجنين ينمو داخل أحشاء فرانشيسكا منذ خمسة أيام. أخذت نيكول تفكر وهي تنظر إلى الصورة الميكروسكوبية للكيس الصغير الملتصق بجدار الرحم: «من يمكن أن تكون؟» وحتى باستخدام الميكروسكوب الموجود في المسبار، لم تكن هناك أي وسيلة للتأكد من أن مجموعة الخلايا تلك كانت كائنًا حيًّا. «لكنك حي بالفعل. وقد حددت الجينات كثيرًا من مستقبلك بالفعل.»

طبعت نيكول لفرانشيسكا قائمة بما يمكن أن تتوقعه من الآثار على المستوى البدني بمجرد أن تبتلع الدواء. فسوف ينجرف الجنين ويخرج من جسدها خلال أربع وعشرين ساعة. ويمكن أن تعاني آلامًا خفيفة بسبب الحيض الطبيعي الذي سيعقب تلك العملية.

تناولت فرانشيسكا الدواء دون تردد. وبينما كانت فرانشيسكا ترتدي ثيابها عادت نيكول بذاكرتها إلى الوقت الذي شكَّت فيه لأول مرة في أنها حامل. وحدَّثت نفسها: «لم أفكر قط في … وليس ذلك بسبب أن والدها كان أميرًا. لا، لقد كانت المسألة مسألة تحمُّل للمسئولية. والحب.»

قالت فرانشيسكا عندما كانت مستعدة للرحيل: «أعرف ما يدور في خلدك.» وكانت تقف بجانب باب حجرة الرعاية الصحية. وأردفت: «لكن لا تضيعي وقتك، فلديك ما يكفي من المشكلات.»

لم تُجِبها نيكول. فقالت فرانشيسكا ببرود، وكان يبدو على عينيها الإرهاق والغضب: «إذَن فسأتخلص من ذلك الجنين غير الشرعي غدًا. هذا أمر جيد. فالعالم ليس في حاجة إلى طفلٍ آخر أبوه أسود.» ولم تنتظر فرانشيسكا الرد من نيكول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤