الفصل التاسع عشر

طقس العبور

فجأة أجهشت جينيفيف بالبكاء. وكانت تقول: «أوه، أماه. أحبك كثيرًا، وهذا أمر مريع للغاية.»

تحركت الفتاة المراهقة في عجالة بعيدًا عن الكاميرا، وحل محلها والد نيكول. نظر بيير خارج إطار الكاميرا إلى يمينه لبضع ثوانٍ ليتأكد إن كانت حفيدته بعيدة عن مرمى السمع، وعندئذٍ حول بصره نحو الشاشة. وقال: «إن الساعات الأربعة والعشرين المنصرمة كانت قاسية للغاية عليها. أنت تعرفين كم تهيم بك حبًّا. وقد ذكرت بعض الصحف الأجنبية أنك أنت التي أفسدت العملية الجراحية. بل أورد مراسل إحدى القنوات التلفزيونية الأمريكية هذا المساء أنك كنت ثملةً أثناء إجراء الجراحة.»

توقف والد نيكول عن الحديث. وقد كانت ترتسم على وجهه أمارات التوتر أيضًا. ثم أكمل حديثه قائلًا: «نعلم أنا وجينيفيف يقينًا عدم صحة كل تلك الادعاءات. نحن نحبك بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، ونحن معكِ.»

في تلك الأثناء أظلمت الشاشة. وبدأت نيكول في تلقي مكالمتها المرئية، وقد ابتهجت في بادئ الأمر أنها تتحدث إلى عائلتها. لكن بعد البث الثاني عندما عاود والدها وابنتها الظهور على الشاشة بعد مرور عشرين دقيقة، كان من الواضح أن الأحداث التي تجري على متن نيوتن قد عكرت صفو الحياة في بوفوا أيضًا. كانت جينيفيف نفسها مضطربة بشدة لما حدث. وقد بكت مرات عديدة أثناء حديثها عن الجنرال بورزوف (فقد التقت به مرات عدة، ولطالما كان الرجل الروسي الذي كانت تعتبره بمنزلة خال لها رقيقًا للغاية معها)، وكانت تحاول أن تتمالك بشق الأنفس حتى لا تنفجر باكيةً مرة أخرى قبل نهاية المكالمة.

وكانت نيكول تحدث نفسها وهي مستلقية على فراشها: «ها قد خذلتك أنتِ أيضًا.» وفركت نيكول عينيها من فرط التعب. ورويدًا رويدًا، دون أن تشعر بمدى حالة الاكتئاب التي أصبحت عليها، نزعت عنها ملابسها كي تنام. وبدأت تزعجها مجموعة من الصور لابنتها في المدرسة في لوين. وأخذت نيكول تنكمش رعبًا، عندما تخيلت إحدى صديقات جينيفيف تسألها عن العملية الجراحية وموت بورزوف. وبدأت نيكول تحدث نفسها: «ابنتي الغالية، يجب أن تعرفي كم أحبك. ليتني كان بمقدوري أن أجنبك هذا الألم.» لقد كانت نيكول تروم أن تمد يدها وتريح جينيفيف، وتأخذها بالقرب منها ليتشاركا حضن الأم وابنتها الذي يزيل كل كرب. لكن هذا مستحيل. فجينيفيف تبعد عنها مائة مليون كيلومتر.

استلقت نيكول على ظهرها في فراشها وأغمضت عينيها لكنها لم تستطِع أن تنام. لقد تملكها شعور عميق وشديد بالوحدة، شعور مروع حتى إنها لم تشعر بمثله قط في حياتها كلها. كانت نيكول تعي أنها تتوق إلى من يتعاطف معها، إلى كائن بشري يخبرها بأن شعورها بعدم الكفاءة ينطوي على نوع من المغالاة، وأنه لا يتفق مع الواقع. لكن هذا الكائن البشري لم يكن موجودًا على الإطلاق. فوالدها وابنتها هناك على الأرض. ومن بين كل أفراد طاقم نيوتن لم تكن تعرف أحدًا معرفة وثيقة إلا شخصين؛ أحدهما ميت الآن، والآخر يتصرف بريبة.

وكانت نيكول تحدِّث نفسها وهي مستلقية في فراشها: «لقد فشلت فشلًا شديدًا. لقد فشلت في تأدية أهم واجب في حياتي.» وعندئذٍ تذكرت نيكول مشاعرَ فشل أخرى اجتاحتها عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها فحسب. في ذلك الحين كانت نيكول تناضل من أجل الحصول على دور جان دارك في إحدى المسابقات المحلية الضخمة بمناسبة الذكرى السبعمائة والخمسين على موت الفتاة العذراء جان دارك. ولو كانت نيكول قد نجحت في هذه المنافسة لَتَمكنت من أداء دور جان دارك في سلسلة من المهرجانات تمتد عامين. وانهمكت نيكول بكل ما أُوتيت من قوة في المنافسة، تقرأ كل ما تطوله يداها من كتب عن جان دارك، وتشاهد عشرات من عروض الفيديو التي تدور حولها. وقد وصلت نيكول فعليًّا إلى القمة في كل أنواع الاختبارات التي اجتازتها خلا اختبار «الملاءمة لأداء الدور». وكان ينبغي أن تفوز، لكنها لم تفز. وقد كان والدها يواسيها بقوله إن فرنسا لن تتخذ لها أبطالًا ذوي بشرة سمراء.

قالت الطبيبة المسئولة عن بعثة نيوتن في نفسها: «لكن ذلك لا يعد فشلًا تامًّا. على أي حال، كان والدي بجانبي يواسيني.» بعد ذلك قفز إلى مخيلة نيكول مشهد جنازة والدتها. كانت في العاشرة من عمرها في ذلك الوقت، وكانت والدتها قد ذهبت إلى ساحل العاج بمفردها في زيارة لأقاربها الأفارقة. وكانت أناوي في قرية نيدوجو عندما اجتاحها وباء خبيث يُعرف باسم «حمى هوجان». وعلى الفور لقيت والدتها حتفها.

وبعد مرور خمسة أيام أُحرق جسد أناوي باعتبارها ملكة قبائل سينوفو، وكانت نيكول تبكي أمها بينما كان أوميه ينشد أغنية حول رحلة روح أمها إلى العالم السفلي ثم إلى أرض الاستعداد، حيث ترقد المخلوقات منتظرين حتى يجري اختيارهم لحياة أخرى على الأرض. وبينما كانت ألسنة اللهب تعلو المحرقة وبدأ الثوب الملكي الذي تتسربل به والدتها يحترق، بدأ يستبد بنيكول إحساسٌ عارم بالضياع. والوحدة. لكن نيكول بدأت تذكِّر نفسها قائلة: «لكن والدي كان بجانبي في تلك الأثناء أيضًا. لقد أمسك بيدي ونحن نشاهد اختفاء أمي. لقد هوَّن علينا الأمرَ كونُنا معًا. لقد شعرت بالوحدة أكثر أثناء «احتفال البورو». كما شعرت بالخوف أكثر.»

•••

كانت نيكول لا تزال تتذكر مزيج الهلع وقلة الحيلة اللذين غمرا جسدها الذي كان عمره آنذاك سبعة أعوام، في مطار باريس في صباح أحد أيام الربيع. عانقها والدها بمنتهى الحنان. وقال: «حبيبتي، حبيبتي نيكول. سأفتقدك كثيرًا. أتمنى أن تعودي إليَّ سالمة.»

سألته نيكول: «لكن لماذا عليَّ أن أذهب يا والدي؟ ولمَ لا تأتي معنا؟»

فمال نحوها. وقال: «أنت ذاهبة كي تصبحي جزءًا من عشيرة أمك. فكل أطفال السينوفو يذهبون إلى احتفال البورو في سن السابعة.»

عندئذٍ أجهشت نيكول بالبكاء. وقالت: «لكني لا أريد أن أذهب يا والدي. أنا فرنسية ولست أفريقية. أنا أمقت كل أولئك الناس الغريبي الأطوار ودرجة الحرارة المرتفعة والبق …»

فوضع يديه بقوة على وجنتَيها. وقال: «عليك أن تذهبي يا نيكول. لقد اتفقتُ أنا ووالدتك على الأمر.» وبالفعل ناقشت أناوي وبيير الأمر مرارًا وتكرارًا. لقد قضيت نيكول طيلة عمرها في فرنسا. وكل ما تعرفه عن تقاليدها الأفريقية هو ما قد علمته إياها والدتها وما تعلمته من زياراتها لساحل العاج مع عائلتها التي امتدت شهرين.

ولم يكن الأمر هينًا على بيير أن يوافق على إرسال ابنته المحبوبة إلى البورو. لقد كان يعرف أنه مجرد احتفال بدائي. كما كان يعلم أيضًا أنه حجر الزاوية الذي تقوم عليه تقاليد دين السينوفو، وعليه فقد وعد أوميه في وقت زواجه من أناوي أن كل أطفالهما سوف يعودون إلى قرية نيدوجو لحضور الطور الأول على الأقل من البورو.

وكانت أكثر النواحي صعوبة على بيير بقاءه في فرنسا. لكن أناوي كانت محقة. فهو أجنبي. ولن يكون بمقدوره أن يشارك في البورو. أو أن يتفهمه. من ثَم فوجوده سوف يشتت انتباه الفتاة الصغيرة. وكان بيير يشعر بالألم يعصر قلبه وهو يقبل زوجته وفتاته الصغيرة مُقلًّا إياهما حتى متن الطائرة المتجهة إلى أبيدجان.

وكانت أناوي أيضًا متوجسةً خيفة بشأن طقس العبور الذي سوف تجتازه ابنتها الوحيدة، فتاتها الصغيرة التي توشك أن تبلغ السابعة من العمر. لقد أعدت أناوي نيكول لمثل هذا الأمر بقدر استطاعتها. وقد كانت الفتاة موهوبة لغويًّا، وقد تمكنت من أن تلمَّ بمبادئ اللغة السينوفية بمنتهى السهولة واليسر. لكن، بلا ريب، ثَمة مَخاطر بالغة تحيق بها مقارنةً بسائر الأطفال. فسائر الأطفال عاشوا وقضوا كل حياتهم في القرى وحولها. وكانوا يألفون المنطقة. ولتخفف أناوي من حدة مشكلة التأقلم مع المكان وصلت هي ونيكول إلى نيدوجو قبل الموعد المحدد بأسبوع.

وكانت الفكرة الرئيسية التي يدور حولها احتفال البورو هي أن الحياة ما هي إلا تعاقب للأطوار أو الدورات، ويجب أن تُوسم كل مرحلة انتقالية بعلامة مميزة. ويدوم كل طور لمدة سبع سنوات. وقد كان هناك ثلاثة احتفالات بالبورو في حياة كل فرد من أفراد القبائل السينوفية؛ إذ تحدث ثلاث عمليات تحول ضرورية قبل أن يصبح الطفل راشدًا في القبيلة. ومع أن كثيرًا من العادات القبلية قد تلاشت مع وصول وسائل الاتصال الحديثة والمعقدة إلى ساحل العاج في القرن الحادي والعشرين، فإن احتفال البورو ظل جزءًا لا يتجزأ من المجتمع السينوفي. وفي القرن الثاني والعشرين شهدت الممارسات القبلية انتعاشة نوعًا ما، ولا سيما بعد مرحلة «الفوضى العارمة»، التي بينت لمعظم الزعماء الأفارقة مدى خطورة التعويل الشديد على العالم الخارجي.

وكانت تداعب شفتَي أناوي ابتسامةٌ مصطنَعة عصر ذلك اليوم عندما أتى كهنة القبيلة لأخذ نيكول معهم بعيدًا إلى البورو. إذ لم ترد أن تنقل خوفها وقلقها إلى ابنتها. لكن نيكول كانت تدرك أن والدتها منزعجة. همست نيكول في أذن والدتها بالفرنسية وهي تحتضنها قبل الرحيل. فقالت: «إن يدك باردة وتتصبب عرقًا يا أمي. لا تقلقي. سأكون على ما يرام.» في الواقع، كانت نيكول — الفتاة الوحيدة ذات الوجه القمحي اللون بين عشرات الوجوه القاتمة السواد للصبايا اللاتي يتسلقن العربات — تبدو مبتهجة ومترقبة كما لو كانت متجهة في رحلة ترفيهية إلى متنزه عام أو حديقة حيوان.

وكان هناك أربع عربات، اثنتان منها تحملان الصبايا الصغيرات واثنتان مغطيتان ومبهمتان. وقد أخبرت لوتاوا، التي التقت بها منذ أربع سنوات ابنة عم نيكول وصديقتها، بقية الفتيات أن العربتين المغطيتان تحتويان على الكهنة و«أدوات التعذيب». وساد صمت رهيب بين الفتيات قبل أن تتجرأ إحداهن وتسأل لوتاوا عما تتحدث.

استرسلت لوتاوا في نبرة جدية: «لقد رأيت كل هذا في حلم منذ ليلتين. سوف يقومون بحرق حلمات الثدي، وسوف يغرزون أشياء حادَّة في كل فتحة من أجسادنا. وإذا احتفظنا بهدوئنا ولم نبكِ، فلن نشعر بأي آلام.» وعلى مدار الساعة التالية لم تنبس أي فتاة من الفتيات الخمسة اللاتي كن يركبن العربة مع نيكول ببنت شفة إلا بشق الأنفس، بما فيهن لوتاوا.

وعند مغيب الشمس كن قد انتقلن لمسافة طويلة شرقًا، بعد محطة موجات الميكروويف النائية، إلى منطقة خاصة لا يعرفها سوى الزعماء الدينيين للقبيلة. ألقى الكهنة الستة الذين كانوا معهن بالخيام المتنقلة، وأخذوا يضرمون النيران. وبحلول الظلام قُدم المأكل والمشرب للصغيرات اللاتي كن يجلسن القرفصاء في دائرة كبيرة حول النيران. وبعد تناول العشاء بدأ الرقص الذي يرتدي فيه الراقصون زيًّا خاصًّا. كان أوميه هو الراوي للرقصات الأربعة التي كانت تمثل كل واحدة منها حيوانًا من الحيوانات التي تنتمي لهذا المكان. وكانت تُؤدى هذه الرقصات على أنغام الدف والإكسيليفون البسيط الصنع، بدأ الإيقاع يأخذ شكل القرع الرتيب دوم، دوم، دوم. وبين الفينة والفينة، كان يجري النفخ في نفير الصيد العاجي الشهير كإتمام لجزء مهم وذي مغزًى في القصة.

قبل وقت النوم مباشرة، سلم أوميه — الذي لم يزَل يرتدي القناع العظيم وغطاءً للرأس يميزه بوصفه شيخ القبيلة — كل فتاة عبوة كبيرة مصنوعة من جلد الظباء، وأخبرهن أن يمعن النظر في محتوياتها إمعانًا شديدًا. كان بداخل العبوة قارورة ماء، وبعض الفاكهة المجففة والمكسرات، وكسرتان من الخبز الذي يُخبز هناك، وأداة قطع حادَّة، وبعض الحبال، ونوعان مختلفان من الدهان، ودرنة ونبات مجهول.

قال أوميه: «كل طفلة سوف تؤخذ من هذا المخيم صباح غد. وتُترك في موضع معين لا يبعد عن هنا كثيرًا. ولن تحصل كل طفلة على أي مؤن فيما عدا تلك الموجودة في الحقيبة المصنوعة من جلد الظباء. ومن المفترض أن كل طفلة تنجو بنفسها دون الاتكال على أحد، وتعود أدراجها إلى نفس البقعة عندما تكون الشمس في كبد السماء بعد غد.

وتشتمل الحافظة على كل شيء تحتاجون إليه خلا الحكمة والشجاعة وحب الاستطلاع. وإن هذه الدرنة لشيءٌ مميز للغاية. فتناوُل جذر منتفخ سوف يخيف الطفلة، لكنه قد يعطي أيضًا قوًى خارقة وبصيرة نافذة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤